أسباب تبرير الجريمة والإعفاء من العقوبة


              أسباب تبرير الجريمة والإعفاء من العقوبة

 

تعد الجريمة والعقوبة الموضوعين الرئيسيين للقانون الجنائي، حيث لا جريمة بدون نص (الفصل 3 منه)، ولا عقوبة بدون جريمة (الفصل 1) لتلازمهما. لكن، ومع قيام بعض الجرائم، فإن هناك أسبابا تبررها وتزيل عنها الصفة الجرمية، وتجعلها أفعالا مباحة، ويطلق عليها “أسبابُ التبرير، أو أسباب الإباحة”. كما أن هناك أسبابا أخرى تؤثر في العقوبة، وتحول دون قضائها (كليا أو جزئيا)، بعد ثبوتها، والحكم بها، وتسمى أسباب الإعفاء من العقوبة، أو الأعذار القانونية”.

سنقسم هذا البحث إلى قسمين تبعا لطبيعة موضوعه، ولوجود قاسم مشترك بين طرفيه، وهو التأثير في كل منهما، ونخصص القسم الأول لأسباب التبرير، والقسم الثاني لأسباب الإعفاء من العقوبة.

القســــم الأول: أســــباب التبرير
ينص الفصل 124 من القانون الجنائي الوارد في الباب الرابع من الجزء الأول من الكتاب الثاني، تحت عنوان: “في الأسباب المبررة التي تمحو الجريمة” على أنه “لا جناية ولا جنحة ولا مخالفة في الأحوال التالية:
1 – إذا كان الفصل قد أوجبه القانون وأمرت به السلطة الشرعية.
2 – إذا اضطر الفاعل ماديا إلى ارتكاب الجريمة، أو كان في حالة استحال عليه معها، استحالة مادية اجتنابها، و ذلك لسبب خارجي لم يستطع مقاومته.
3 – إذا كانت الجريمة قد استلزمتها ضرورة حالة للدفاع الشرعي عن الفاعل نفسه أو غيره، أو ماله أو مال غيره، بشرط أن يكون الدفاع متناسبا مع خطورة الاعتداء”.

وسنناقش الفقرتين رقم (1) ورقم (3) لتعلقهما بالركن الشرعي للجريمة المباحة الذي يعتبر أهم أركانها، صارفين النظر عن الفقرة (2) لتعلقها بالركن المعنوي، أي بالقصد الجنائي في أحد عنصريه، وهو الإرادة.
وسنبدأ الحديث عن الفقرتين 1 و3 في مبحثين نخصص أولهما لمناقشة الفقرة (1)، وثانيهما للفقرة (3).

المبحث الأول: مناقشة الفقرة رقم (1)
يقصد بهذه الفقرة ما يسميه البعض “أمر القانون” أو “أمر السلطة”، لأنها عبرت بكلمتي “أوجبه القانون”، وتهدف إلى إباحة الفعل المجرم الذي يرتكبه الموظف العمومي، تنفيذا لأمر صادر له من رئيسه المختص، بصفته ممثلا للسلطة الشرعية، إذا كان الفعل المأمور به قد أمر به القانون.
واعتبار وصف الفاعل بالموظف العمومي، ووصف رئيسه بالمختص وبالممثل للسلطة الشرعية، يخرج تنفيذ الولد لأمر والده، وتنفيذ الزوج لأمر زوجه، عن نطاق الإباحة. ثم إن عطف جملة “أمرت به السلطة الشرعية” على جملة “أوجبه القانون” بالواو، يقتضي الجمع بينهما، كشرطين للإباحة، بحيث لا يكفي أحدهما، عملا بقاعدة “المعلق على شرطين لا يتم بأقلهما”.

بيد أنه يلاحظ أن هذه الفقرة جاءت قاصرة، ولا تتلاءم مع العنوان الفضفاض الذي وردت في ظله، والذي يبدو من صيغته، أنه يشكل المرجع الأساسي لكل أسباب التبرير أو الإباحة. لأنها لا تستوعب كل حالاتها المتناثرة في نصوص خاصة، ولا تجمع شتاتها تحت مبدأ عام.
وفي إطار جولتنا في بعض التشريعات الأجنبية، وخصوصا العربية منها، بحثا عن بعض الصيغ التي تتلاءم مع عنوان الباب الرابع (في الأسباب المبررة التي تمحو الجريمة)، ويكون من شأنها أن تشمل جميع الحالات التي لا يرجع فيها إلى الفصل 124، وإنما يرجع فيها مباشرة إلى المقتضيات القانونية التي تقررها –وقفنا على صيغة استعملها قانون العقوبات اللبناني في مادته 185، ونص المراد منها: “لا يعد جريمة الفعلُ المرتكب إنفاذا لنص قانوني أو لأمر شرعي صادر عن السلطة…”. ويبدو أن هذه الصيغة جديرة بأن يتبناها مشرعنا الجنائي في القانون الجنائي المرتقب، لتكون بحق لبنة قوية في صرح إصلاح منظومة العدالة، لكن بعد مغربتها وتحليتها بألفاظ متداولة ومألوفة، وتعديلها، لتصير على الشكل التالي “1 – إذا كان الفعل قد ارتكب تنفيذا للقانون، أو لأمر صادر عن السلطة” وتصبح –عندئذ– شاملة لكل ما يوجبه القانون، أو يرخص به، أو يحميه كحق من الحقوق، وتصبح بالتالي مرجعا لكل أسباب التبرير المقررة في القانون، ويكون المراد بالقانون جميع القواعد الملزِمة (بما فيها العرف).

وبيان ذلك أن الجريمة المبررة قد يكون ارتكابها تنفيذا لأمر صادر عن رئيس الفاعل (وهو موضوع الفقرة رقم 1)، وقد تكون تنفيذا لأمر القانون، كالتبليغ (بصدق) عن بعض الجرائم المنصوص عليه في الفصلين 209 و8-218 من (ق.ج)، إذ لولا هذان الفصلان لتعرض المبلغ، للعقوبة المنصوص في الفصل 264 بصفته مرتكبا لجريمة إهانة موظف عمومي أثناء قيامه بعمله، أو إلى العقوبة المنصوص عليها في الفصل 445 بصفته مرتكبا لجريمة الوشاية الكاذبة بوصفها الأشد (الفصل 118 ق.ج). وقد تكون مرخصا بها قانونا، كما هو الشأن بالنسبة لممثلي النيابة العامة، ولقضاة التحقيق، وللمحكمة نفسها، عندما يأمرون بإيداع المتهمين بالسجن في الأحوال المنصوص عليها في المواد 47 و49 و132 و392 من قانون المسطرة الجنائية، أو مرخصا بها عرفا، كالعنف الذي يرتكب في بعض الألعاب الرياضية مثل الملاكمة، والمصارعة، والكيك بوكسينغ، وكرة القدم التي ترصد لها أموال باهظة من ميزانية الدولة على الصعيد الوطني، والتي أصبحت مسعى دوليا لاحتضانها، وكظهور النساء بالشواطئ البحرية للسباحة والاستمتاع بأشعة الشمس، بتلك الملابس المعروفة، إذ لولا العرف الذي جرى بإباحة ذلك (هناك) لطُبق عليهن الفصل 483 من (ق.ج).

وأخيرا، قد تكون الجريمة ممارسةً لحق من الحقوق، كحق الوالدين في تأديب أولادهما القاصرين الساكنين معهما، بصفتهما مسؤولين مدنيا عنهم، طبقا للفصل 85 من قانون الالتزامات والعقود، إذ لا مسؤولية بدون سلطة تكون قادرة على تفادي عواقب هذه المسؤولية، وكحق الخصوم ونوابهم في إبداء آرائهم شفويا أو كتابيا أثناء المرافعات من عبارات تتضمن قذفا أو سبا، مما يطلق عليه فقهاً “القذف أو السب المباح” شريطة أن لا يخرج ذلك عن صميم القضية، طبقا للفصل 86 من القانون رقم 13 – 88 المتعلق بالصحافة والنشر، شأنهم شأن الشهود الذين يؤدون شهاداتهم أمام المحكمة، بعد أداء اليمين القانونية على قول الحقيقة، وقول الحقيقة قد يتضمن أيضا قذفا أو سبا.

المبحث الثاني: مناقشة الفقرة (3) والفصل 125 (حالة الدفاع الشرعي)
نصت على هذه الحالة الفقرة 3 من الفصل 124 من القانون الجنائي بقولها: “إذا كانت الجريمة قد استلزمتها ضرورة حالة للدفاع الشرعي عن الفاعل نفسه أو غيره، أو عن ماله أو مال غيره، بشرط أن يكون الدفاع متناسبا مع خطورة الاعتداء”. كما نص عليها الفصل 125 من القانون نفسه، حيث قال “تعتبر الجريمة نتيجة الضرورة الحالة للدفاع الشرعي في الحالتين الآتيتين:
1 – القتل أو الجرح أو الضرب الذي يرتكب ليلا لدفع تسلق أو كسر حاجز أو حائط أو مدخل دار أو منزل، وملحقاتها.
2 – الجريمة التي ترتكب من الفاعل نفسه أو غيره، ضد مرتكب السرقة أو النهب بالقوة”.                                                  https://assabah.ma


اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

x

‎قد يُعجبك أيضاً

الدفاع الشرعى ومفهومه فى القانون الدولى والشريعة الاسلامية

                 الدفاع الشرعى ومفهومه فى القانون الدولى والشريعة الاسلامية ...