إستقلال القضاء المغربي
الاستقلال المالي والإداري للمحاكم أصبح مطلبا دوليا ومن آليات الحكامة الجيدة
لا شك أن الحديث عن استقلال السلطة القضائية يقتضي البحث عن الآليات التي تخول لنا الوصول إلى «التركيبة الثلاثية» المنصوص عليها في الدستور، وهي فصل السلط وتوازنها وتعاونها، لأن الفصل يتضمن الاستقلال والتوازن، يستتبع وضع الحدود ويجنب الانحراف والتعاون يقصي المواجهة، وهذه ليست مهمة يسيرة لأنها تتجاوز النصوص القانونية وتتحكم فيها قواعد اللعبة السياسية وأدوات الرقابة المجتمعية ومدى قوتها التأثيرية.
لا يمكن ونحن نتحدث عن التأويل الديموقراطي للدستور أن نغفل مضامين الخطاب الملكي السامي الذي وجهه جلالة الملك في يوم تاريخي مشهود ( 10 مارس 2011) لأعضاء اللجنة الاستشارية المكلفة بإعداد مشروع الدستور حين دعاهم إلى «الاجتهاد الخلاق لاقتراح نسق مؤسسي مضبوط يقوم على التحديد الواضح لسلطات المؤسسات الدستورية بما يجعل كلا منها يتحمل مسؤولية كاملة في مناخ سليم».
إن المغرب وهو يؤسس لمرحلة جديدة مبنية على القطيعة مع التردد والانتظارية والأوضاع الملتبسة، فإن المنهج والخيار الملائم لهذه المرحلة هو العمل على وضع ميكانيزمات واضحة لا لبس فيها تدعم استقلال السلطة القضائية في مواجهة كافة المؤثرات والشوائب، مهما كانت صغيرة أو غير ذات بال قصد استرجاع ثقة المتقاضين.
فبقدر الحرص على شفافية عمل هذه السلطة، يجب الحرص في المقام الأول في المرحلة القادمة من تاريخ المؤسسات بالمغرب على إبقاء هذه السلطة بعيدة بشكل قاطع عن أي وضع يحتمل معه المساس باستقلال مكوناتها وقراراتها، وهو ما أكده تقرير لجنة Venise سنة 2010 حول استقلال القضاء، الذي ميز بين نوعين من الدول، الدول الحديثة العهد بالديمقراطية والتي لم تطور تقاليد قانونية وثقافية تضمن استقلال السلطة القضائية، فإنها تنحو إلى اعتماد نصوص واضحة خالية من اللبس حاسمة وغير مترددة في مسألة الفصل بين السلط حماية للسلطة القضائية من أي محاولات للتأثير على منهجية عملها. أما في الدول ذات التقاليد الديموقراطية القديمة فإنها لا تتعامل بالطريقة نفسها لأن مختلف السلط تحدها هذه التقاليد والموروثات الثقافية والقانونية المتراكمة عبر السنين.
ويمكننا أن نسجل بوضوح أن حتى هذه الدول لم تسلم فيها السلطة القضائية من محاولات الإقحام في المجالات السياسية.
ولا شك أن المتتبع للمناظرة التي تمت بين ساركوزي وهولاند بفرنسا سيصدم بالكيفية التي أقحم بها القضاء الفرنسي واتهم في استقلاله ثلاث مرات في لقاء يفترض فيه أنه لعرض برامج المرشحين وتصوراتهم.
كما أن جيراننا بإسبانيا لم يسلموا من هذا النقاش أيضا، إذ أكد 64 في المائة من الإسبان المستجوبون في استطلاع للرأي منجز من قبل مؤسسة «ميتروسكوبيا» (المنشور يوم 7/3/2010) بجريدة «البايس» أن المجلس العام للسلطة القضائية (CGPJ) هو رمز لـ»فقدان الاستقلالية « بعدما أصبح تدريجيا مقرا للبرلمان. وهو ما دفع 1400 قاض اسباني إلى توقيع عريضة تحت عنوان «ضد تسييس القضاء».وهو أيضا ما سبق أن خلص إليه المؤتمر الأبيري للسلطة القضائية في 25/1/2008.
إذن لا بد لنا في بلادنا من البحث عن النموذج المغربي للإصلاح، يضمن مبدئيا حظا كبيرا من الاستقلال للسلطة القضائية، ويجعلها في منأى عن التسييس والتأثير وفواصل واضحة بين السلط، ودون أن نغفل ارتباطها الديني والروحي والدستوري والقانوني والتاريخي برئيسها جلالة الملك ضامن استقلالها.
لهذا فإنه وبغض النظر عن بعض الإيجابيات التي تتضمنها التفاصيل الجزئية لمشاريع القوانين المطروحة الآن للنقاش مع الفاعلين، فإن هذه المشاريع في توجهاتها الكلية ورؤيتها المنهجية اختزلت السلطة القضائية بشكل كبير، وحجمت الأدوار المنوطة بها وتركت منافذ قد تمس باستقلالها.
فنحن أولا أمام تنظيم للمجلس الأعلى للسلطة القضائية وليس تنظيم للسلطة القضائية، ولا أتصور من الناحية المنهجية والمنطقية، كيف يمكن وضع ملامح مجلس يترأس سلطة، لم تتم حتى الإشارة إليها من خلال مقتضى ولو مقتضب كما فعلت عدة قوانين تنظيمية ببلدان نتقاسم معها الظروف والإمكانات نفسها.
ثم ثانيا هناك الكثير من المناطق الرمادية، خاصة في العلاقة بين السلطتين القضائيتين تطرحها آلية التنسيق والإدارة القضائية المشتركة المنصوص عليها في الفصل 48 من مشروع قانون المجلس الأعلى للسلطة القضائية.
إننا مقتنعون أن القول إن القضاء سلطة مستقلة، يفترض أن هذه السلطة لها القدرة على إدارة نفسها وتسيير عنصرها البشري والمالي.
إن البعد المؤسسي لمفهوم الاستقلال المادي للقضاء يقتضي توفير الموارد المادية الكافية، لكي تؤدي السلطة القضائية والمحاكم والقضاة المهام المنوطة بها بكفاءة وفعالية لكسب ثقة المتقاضين، فالكثير من البرامج والخطط الإصلاحية والمساطر والإجراءات القانونية أو ذات الطبيعة الإدارية المتعلقة بمصالح المواطن، مرتبطة وجودا وعدما بتوافر الإمكانيات المادية واللوجيستيكية للمحاكم وليس فقط بكفاءة القاضي أو رغبته في خدمة المواطن.
لكن يبدو أن هناك انتقادات لهذا المبدأ وآراء مخالفة له تستند على مبررات، من قبيل أن القضاة ليست لهم المؤهلات الإدارية والتسييرية، وليس لديهم الوقت الكافي لذلك، هذا الوقت يجب استثماره للبت في الملفات والقضايا، وأن هناك مفارقة تتمثل في أن القضاة مسؤولون عن إنتاج العدالة دون أن يتحملوا أية مسؤولية بخصوص تمويل هذا الهدف، والجهاز التنفيذي مسؤول عن التمويل دون أن تكون له أية كلمة بخصوص المنتوج «العدالة».
وإن للحكومة شرعية ديمقراطية (منتخبة) وملزمة بإعطاء حساب ومسؤولة عن برنامجها وعن تسييرها، في حين وجود جهاز للتسيير أغلبه قضاة ليست له هاته الشرعية (الديمقراطية) وغير ملزم بإعطاء هذا الحساب سواء سياسيا أو ماليا.
لكن الممارسة في أوربا أفرزت نماذج وتطبيقات مختلفة يمكن توزيعها مبدئيا، (رغم وجود اختلاف في التفاصيل والآليات حتى بالنسبة للنموذج الواحد) إلى ثلاثة أصناف:
دول تكون وزارة العدل هي المكلفة والمسؤولة عن تسيير وإدارة المحاكم (ألمانيا، النمسا، كندا، مالطا، لكسمبورغ، تشيك، بريطانيا، فرنسا…).
دول تتوفر على إدارة خاصة بتسيير المحاكم (الدنمارك، ارلندا، النرويج، السويد).
دول تتوفر على مجلس للقضاء أو مؤسسة تحت إشراف القضاء تقوم بتسيير المحاكم من خلال جهاز إداري محترف وهو ما نرى بصوابيته وملائمته للنموذج المغربي استنادا على: توصيات المجلس الاستشاري للقضاة الأوربيين وكذا توصيات إعلان بيروت 1999.
إن المقاربة المطروحة الآن في هذه المشاريع حصرت اختصاصات المجلس الأعلى للسلطة القضائية في تحقيق الضمانات أي أن له دور الضمانة أكثر من دور التسيير والإدارة القضائية، كما أنه مازال لوزارة العدل دور في تسيير الشأن القضائي.
إن الاستقلال المالي والإداري للمحاكم أصبح الآن مطلبا دوليا ومن آليات الحكامة الجيدة. لقد أصبح من اللازم الآن التعامل مع القضاء والقضاة كسلطة برسالة جديدة وأهداف وتحديات كبيرة، القضاء اليوم مطالب برفع منسوب الثقة ومواجهة الثقافات السلبية من خلال آليات الرقابة المتاحة له.
والمواطن اليوم سيسائل المجلس الأعلى للسلطة القضائية عن منتوج العدالة وعن البطء في معالجة القضايا وعن مشاكل التنفيذ ومعيقات الجودة وتحسين الخدمات.
لا يجب أن ننسى أيضا بأن من توصيات ميثاق الإصلاح، أن المسؤولين القضائيين سيخضعون للتكوين في مجال الإدارة القضائية، كما أن مناهج المعهد العالي للقضاء ستعرف توجهات أخرى بما يتلائم والاحتياجات المستقبلية من أجل إعداد قضاء كفء ومؤهل، مما يدحض فكرة أن القضاة يجب أن يشتغلوا فقط في العمل القضائي، كما لا يجب أن ننسى الآن بأن من خيرة القضاة هم من يتحملون مسؤولية التسيير في الإدارة المركزية لوزارة العدل .
إن بحثنا عن الاستقلال المالي والإداري للسلطة القضائية كان أحد المطالب التي نادت بها الجمعيات الحقوقية وله مرجعيات عالمية وأسس عملية، وإن غاياتنا جميعا هي أن نرى سلطة قضائية مستقلة فاعلة تشتغل وفق إستراتيجية محددة وإمكانيات متاحة وبرنامج عمل واضح يكرس الأمن القضائي ويحقق الضمانات ويؤسس فعلا لعدالة قريبة من المواطن وفي خدمته.
إعداد:ذ/محمد الخضراوي