مقدمة(*):
تعتبر مرحلة التفاوض على العقد من أهم المراحل التي تكون بين أطراف التعاقد، وذلك بسبب ما تمثله من إمكانية إبرام العقد من عدمه، فهي تمكن كلا الطرفين المتفاوضين من الإطلاع على كافة التفاصيل الدقيقة المتعلقة بالعقد والشروط والالتزامات المترتبة على كلا الطرفين، ومن أهم الالتزامات التي تترتب خلال مرحلة التفاوض على العقد، ضرورة التفاوض بين أطراف التعاقد بحسن نية، وذلك من أجل إقامة نوع من التوازن المعقول بين مبدأ الحرية التعاقدية الذي لا يلزم الأطراف بالتوصل فيها إلى إبرام العقد النهائي وبين تقرير الحد الأدنى من الثقة والاستقرار والجدية في مرحلة التفاوض.
ومن هنا يمكن القول بأن إخلال أحد أطراف المفاوضة بالتزامه بالتفاوض بحسن نية، يترتب عنه قيام المسؤولية المدنية.
تكمن أهمية موضوعنا هذا في كونه سيمكننا من تحديد أهمية المفاوضات في إنشاء عقود يكون أطرافها على علم مسبق بالالتزامات الملقاة على عاتقهم وبشروط تنفيذ العقد، وبطبيعة المسؤولية التي يمكن أن تترتب عند إخلال أحد أطراف التفاوض بالتزاماته، غير أنه وبالرغم من أهمية موضوعنا هذا فإنه يطرح معه إشكالات أهم هي كالآتي:
- 1- ما هي التزامات أطراف التفاوض؟
- 2- ما هي طبيعة المسؤولية خلال مرحلة المفاوضات؟
- 3- وما هي طبيعة الجزاء المترتب عن إخلال أحد أطراف التفاوض بالتزاماته؟
هذه الإشكالات هي التي سنحاول الإجابة عنها ما أمكن من خلال هذا العرض، الذي سنتناوله من خلال مبحثين:
- المبحث الأول: القوة الملزمة للتصرفات ما قبل التعاقد
- المبحث الثاني: طبيعة المسؤولية والجزاء المترتب عن الإخلال بضوابط التفاوض
المبحث الأول: القوة الملزمة للتصرفات ما قبل التعاقد
إن للمرحلة “السابقة” على العقد النهائي أهمية كبيرة بصفة عامة، وللمفوضات باعتبارها وسيلة للنقاش والتباحث حول شروط وتفاصيل العقد أهمية خاصة وبالغة في تحديد الإطار العام للعقد من حيث تحديد التزامات أطراف العلاقة التعاقدية.
وعليه سنتناول ماهية التفاوض في (المطلب الأولى) على أن نخصص (المطلب الثاني) للحديث على التزامات أطراف المفاوضات في المرحلة السابقة على التعاقد.
المطلب الأول: ماهية المفاوضات
سنحاول من خلال هذا المطلب التعرف على مفهوم المفاوضات وأهميتها (الفقرة الأولى)، على أن نتطرق في (الفقرة الثانية) لدراسة الطبيعة القانونية للمفاوضات.
الفقرة الأولى: تعريف المفاوضات وأهميتها.
إن المشرع المغربي لم ينظم المفاوضات السابقة على التعاقد بنصوص قانونية شأنه في ذلك شأن القوانين المقارنة.
لقد اختلفت التعريفات الفقهية التي أعطيت لمفهوم المفاوضات فقد عرفها الفقيه كاربوبي “تلك المرحلة التمهيدية التي تتم فيها دراسة ومناقشة شروط العقد، وفي هذه المرحلة لا يكون العقد قد تم لأنه ليس هناك إيجاب بالعقد يمكن قبوله وإنما فقط عروض وعروض مضادة[1].
أما الفقيه العربي أبو العلا فقد عرف المفاوضات أنها: ” نوع من الحوار وتبادل الاقتراحات والمساومات والتقارير والدراسات، والهدف الوصول إلى اتفاق مقبول بين الطرفين[2].
ومن هنا يمكننا تعريف المفاوضة على أنها الحوار والمناقشة وتبادل الأفكار بين الأطراف من أجل الوصول إلى اتفاق مشترك لإبرام عقد في المستقبل.
وبخصوص أهمية هذه المرحلة (المفاوضات) فإنها لا تقل عن أهمية المرحلة اللاحقة للتعاقد، أي مرحلة تنفيذ العقد كما أن أهميتها لا تنمحي بانعقاد العقد، ففي مرحلة ما قبل التعاقد تنشأ عيوب الإرادة – وبالأخص الغلط والتدليس – التي يمكن تلاقيها خلالها[3].
ولمرحلة ما قبل التعاقد أهمية أخرى لأنها تعتبر من أهم مراحل العقد حيث من خلالها يمكن تحديد الالتزامات وحقوق الطرفين المتعاقدين والتي تتمثل في ثمن البضاعة، مواصفات المبيع، طرق الوفاء، بالإضافة إلى الالتزام بعدم قطع المفاوضات في وقت غير مناسب، الالتزام بعدم إفشاء المتفاوض للأسرار التي عملها الطرف الآخر بمناسبة التفاوض[4].
كما تتجلى أهمية التعاقد في أن ما يقع عند القيام بالتفاوض وتبادل وجهات النظر يعد واحدا، من وسائل تفسير العقد عند التفاوض[5].
الفقرة الثانية: الطبيعة القانونية للمفاوضات
إن الالتزامات الناشئة من المفاوضات تقتضي ضرورة معرفة طبيعة المفاوضات وبالتالي فقد ظهر في هذا المجال اتجاهان الأول يرى أن المفاوضات عبارة عن وقائع مادية لا تترتب عليها التزامات إدارية والثاني يرى أن المفاوضات يمكن أن تكون تصرفات قانونية إذا انصرفت إرادة المفاوضين إلى إبرام العقد النهائي.
1- المفاوضات وقائع مادية:
تقوم فكرة الطبيعة المادية للتفاوض على أساس أنه يمثل مجرد واقعة مادية ليس إلا ومن ثم فهو ملزم ومفرغ من أية قيمة قانونية[6].
فحسب الفقه التقليدي أنه مجرد عمل مادي يقوم به كل من الطرفين، إذ إن المفاوضات باعتبارها وقائع مادية تستند إلى مبدأ حرية التعاقد وتقتضي هذه الحرية عدم إجبار المتفاوض على إبرام التعاقد حيث يحق لكل من الطرفين أن يعدل عن المفاوضات وغير ملزم بتقديم مبرر للعدول[7].
ولاشك أن المسؤولية هنا مسؤولية تقصيرية ما دام العقد لم يبرم بعد ولذلك يجب على الطرف الذي يدعي تضرر من قطع المفاوضات إثبات الخطأ للطرف الآخر الذي عدل المفاوضات ويثبت وجود الضرر كي يحصل على التعويض بالإضافة إلى أنه الخطأ غير العمدي يرتب المسؤولية[8].
مثال الخطأ الذي يقترن بالعدول عن المفاوضات أن أحد الطرفين لم تكن له نية حقيقية بل مجرد مفاوضات لمعرفة أسرار المتفاوض معه.
2- المفاوضات ذات طبيعة العقدية:
ذهب بعض الفقه إلى أن المفاوضات تكون ذات طبيعة عقدية نظرا لوجود التزامات المتمثلة في الالتزام بحسن نية، استمرار في المفاوضات وعدم قطعها بشكل غير مشروع، التزام بالإدلاء بالبيانات، التزام الحفاظ على السرية حيث يرى الفقيه الألماني (أيهرنج) أنه يوجد عقد ضمين بين المتفاوضين يلتزم بمقتضاه كل واحد من المتفاوضين اتجاه الآخر بأن يكون في وضع يسمح له بإبرام العقد موضوع التفاوض، وبالتالي ففي حالة قطع التفاوض يكون قد أخل بالعقد الضمني ويسأل عنه المسؤولية العقدية عن تعويض عن الضرر، كذلك يرى اتجاه آخر أن الطبيعة العقدية لتفاوض أنه بمجرد توجيه دعوى إلى الطرف الآخر ويتم قبولها فهو المصدر المباشر للضمان المتبادل في مرحلة المفاوضات حيث أنه بمثابة شرط ضمني يتعهد بمقتضاه كل واحد باستمرار العلاقة التعاقدية[9].
بالإضافة هناك اتجاه آخر يرى أنه لا تكون المفاوضات ذات طبيعة عقدية إلا إذا انصرفت إرادة المتفاوضين بشكل واضح وصريح على إبرام عقد سير المفاوضات وذلك قبل انتقالهم إلى إبرام العقد النهائي محل التفاوض[10].
كما يرى التوفيق فهمي على أن المفاوضات يمكن أن تبرم في عقود قبل إبرام العقد النهائي منها عقد التفاوض حيث عرفه: على أنه “عقد يتعهد بمقتضاه الطرفان على متابعة العقد من أجل التوصل إلى إبرام عقد معين لم يتحدد موضوعه إلا بشكل جزئي لا يكفي في جميع الأحول لانعقاده”[11].
مفهوم هذا العقد قد يشع ليشمل كل اتفاق بين طرفين وينصب على تنظيم عملية التفاوض ومتابعتها في مراحلها المختلفة بحيث يترتب على إخلال أي من طرفين بما اتفق عليه تحمل تبعه المسؤولية العقدية[12].
ومن أهم الخصائص التي يتميز بها عقد التفاوض:
- عقد رضائي: يتم بتوافق إرادتين أو أكثر على إحداث آثر قانوني ويتضمن الأركان اللازمة لصحة العقد وهي الرضا والمحل والسبب.
- عقد غير مسمى: يعتبر عقد التفاوض من عقود الحديثة غير المسماة حيث أغلب النظم القانونية لم يتم وضع قواعد قانونية منظمة له.
- عقد تمهيدي أو عقد تحضيري: يسبق العقد وتؤدي إليه حين يتم تنظيم العلاقة التفاوضية على نحو يحقق معالم الأطراف في التوصل إلى إتمام العقد النهائي.
- عقد مؤقت: أن العقد لم يوجد إلا مدة محدودة وهي المدة التي تستغرقها المفاوضات بين الطرفين[13].
المطلب الثاني: التزامات أطراف المفاوضات في المرحلة السابقة على التعاقد
للمرحلة السابقة على التعاقد، التزاماتها المستقلة عن التزامات العقد ذاته، ذلك أن طبيعة المهمة التي يقوم بها الطرفان في هذه المرحلة تفرض على كل واحد منهما التزامات معينة تنتج عن الثقة التي وضعها في الطرف الآخر، وهذه الالتزامات هي على شقين شق يتعلق بالالتزامات العامة (الفقرة الأولى) وشق يتعلق بالتزامات خاصة (الفقرة الثانية) وهي التي سنقوم بتبيانها على الشكل التالي:
الفقرة الأولى: الالتزامات العامة
الالتزامات العامة هي تلك الالتزامات التي تفرض نفسها بنفسها، أي بدون اتفاق الأطراف على الالتزام بها، ومن بين أبرز هذه الالتزامات نجد الالتزام بالتفاوض بحسن نية (أولا) وهذا الالتزام يعد التزاما أساسيا تتفرع عنه عدة التزامات أخرى (ثانيا).
أولا: الالتزام بالتفاوض بحسن النية
إن مبدأ حسن النية لم يتم التنصيص عليه من قبل أغلب التشريعات الوضعية إلا ضمن مرحلة تنفيذ العقد. غير أن تطور العقود فرض ضرورة لجوء أطراف التعاقد إلى إجراء مفاوضات سابقة على التعاقد فجل العقود اليوم أصبحت تتطلب إجراء مفاوضات قد تطول أو قد تقصر بحسب أهمية العقد المراد إبرامه. والمعلوم في هذا الإطار أنه عند لحظة المفاوضة تفرض على أطراف التفاوض بعض الالتزامات من أهمها الالتزام بالتفاوض بحسن نية[14].
ويقصد بحسن النية تلك النية الصادقة الخالية من الغدر والخداع. فالنية الحسنة تصد سوء النية والرغبة في الإضرار بالمتفاوض الآخر. وحسن النية إما أن يكون إيجابيا أو سلبيا. فالأولى تقوم إذا أتى الشخص أفعالا من شأنها أن تعبر عن نقائه وصدقه[15] ففي عقد التأمين مثلا: يعمل المؤمن لهعلى تقديم كافة المعطيات التي من شأنها أن تساهم في حدوث الأخطار[16] أثناء التفاوض على عقد التأمين.
أما حسن النية السلبي فيتحقق عندما يكف الشخص عن مباشرة أي عمل يتنافى مع المقصد السوي[17]، وذلك كامتناع المؤمن له عن تقديم معلومات خاطئة أو السكوت عن بعضها.
وبما أننا بصدد دراسة الفترة السابقة على التعاقد، فمبدأ حسن النية يتجسد خلالها بأن يتسم سلوك المتفاوض بالنزاهة والشرف والأمانة والثقة وأن يمتنع عن كل ما من شأنه إعاقة المفاوضات أو فشلها أو اتباع أسلوب الحيلة والمراوغة بغية الإضرار بالطرف الآخر[18] ويقتضي تنفيذ هذا الالتزام الأساسي وجوب احترام الطرفين التزامات أخرى ثانوية تتفرع عنه حتى يتم التفاوض على أكمل وجه.
ثانيا: الالتزامات المتفرعة عن مبدأ حسن النية
يتفرع عن مبدأ حسن النية كما سبق الذكر مجموعة من الالتزامات تتمثل في:
1- الالتزام بالإعلام:
لم يكن هذا الالتزام محل اهتمام الفقه في القرون الماضية وذلك بالنظر إلى بساطة التعاملات المدينة والتجارية وعدم تعقيدها. ولكن في عالم اليوم، ونتيجة التطورات الفنية والتكنولوجية المعاصرة التي أدت إلى تزايد التفاوت في درجة المعرفة بشكل ملحوظ بين الأطراف المتعاقدة، نجد أن هذا الأمر انعكس سلبا على التعاملات التجارية[19].
كل هذه الأمور تجعل على عاتق كل متفاوض، التزام بأن يحيط المتفاوض الآخر علما بكل ما يعلم من ظروف العقد التي تهم الطرف الآخر، حتى يقوم العقد على أساس من التكافؤ في المعلومات، وذلك كوسيلة لحماية فئة من المتعاقدين الأضعف شأنا بسبب نقص المعرفة[20].
فبعد أن كان الإعلام اختياريا يهدف إلى إبراز محاسن وايجابيات الأشياء أو الخدمات أو الترويج إليها. أصبح حاليا أمرا إلزاميا يفرضه القانون، وهو ما يعبر عنه بالالتزام بالإعلام حيث يلتزم المتعاقد بتقديم المعلومات والبيانات المتعلقة بالسلعة أو الخدمة، حيث يتعاقد الطرف الآخر بإرادة سليمة حرة ومستقلة بما يتناسب وحاجته للمنتوج. إن هذا الالتزام يجد أرضه في مجال عقود الإذعان. وخير مثال على ذلك قانون 31.08 القاضي بتحديد تدابير لحماية المستهلك[21].
وذلك على اعتبار أن المستهلك في الفترة السابقة لعملية التعاقد يحتاج للكثير من المعلومات العامة والخاصة التي تساعده على فهم موضوع التعاقد، فالإعلام المناسب والواضح للمستهلك حول المنتجات والخدمات يعتبر من الحقوق الأساسية لهذا الأخير وفقا للمادة الثالثة من قانون حماية المستهلك المغربي وذلك بذكر مواصفات السلعة أو البضاعة أو الخدمة ونوعيتها ودرجة جودتها وتاريخ صلاحيتها[22].
2- الالتزام بالتعاون:
يتمثل هذا الالتزام، في التعاون الوطيد والمستمر بين الأطراف المتفاوضة، بما يكفل الوصول بالمفاوضات إلى نهاية منطقية، إما بانعقاد العقد المتفاوض بشأنه، وإما بفشل المفاوضات، وبالتالي عدم انعقاد العقد المتفاوض عليه[23].
وللالتزام بالتعاون أثناء إجراء المفاوضات صور عديدة من أهمها الالتزام بإجراء الدراسات حول محل العقد المزمع إبرامه إضافة إلى تقيد كل طرف بمدة المفاوضات والتزامه بالاستمرار فيها، مع عدم إجراء مفاوضات موازية مع الغير[24].
3- الالتزام بالاعتدال والجدية.
يعني الالتزام بالجدية والاعتدال، التزام كل متفاوض بالاعتدال والجدية في مقترحاته، فلا يطرح ما هو مؤكد الرفض حالا أو مآلا، حيث لن تكون نتيجة ذلك إلا تأخير إتمام عملية التعاقد، أو دفع الآخر إلى غض الطرف عنها كلية، فلا مجال للتأمل وللدراسة، فإذا كانت المقترحات غير مفيدة أو غير معتدلة فلا مجال لقبولها.
ويقتضي الاعتدال في التفاوض أيضا الجدية من الطرفين في التفاوض، فلا يكفي أن يعرض أحدهما المعتدل الجاد من المقترحات، بل يتعين ألا يرفض الآخر ما عرض عليه ما دام عرضا معتدلا وجادا ومنطقيا[25].
الفقرة الثانية: الالتزامات الخاصة
الالتزامات الخاصة هي تلك الالتزامات التي لا تنشأ إلا بموجب اتفاق ينص على التزام الأطراف بها، أو بموجب طبيعة العقد المتفاوض بشأنه. ومن بين أهم هذه الالتزامات نجد الالتزام بالسرية (أولا) و الالتزام بعدم إجراء مفاوضات موازية (ثانيا).
أولا: الالتزام بالسرية
تعتبر السرية في المفاوضات من أهم الالتزامات التي يتوجب على الأطراف المتفاوضة احترامها سواء تم التعاقد أم لا، والمقصود بالسرية في المعلومات الفنية أو الهندسية، أو غيرها. وتقتضي كذلك من المتفاوض ألا يستغل ما يحصل عليه من معلومات لحسابه الخاص[26].
ويجد الالتزام بالسرية أساسه أكثر في العقود المعاصرة[27] وخاصة عقود التكنولوجيا وذلك بالنظر إلى طبيعة المحل في هذه العقود، إذ أن السير في المفاوضات المتعلقة بمثل هذه العقود يستلزم الكشف عن العديد من الأسرار من جهة الطرف المورد إلى الطرف المتلقي، سواء بشأن المسائل الفنية أو التكنولوجية أو القانونية وسائر الأسرار الأخرى ذات الصلة بالكيان المادي والمعنوي للمحل موضوع التفاوض، وفي مثل هذه العقود يسعى المورد جاهدا للمحافظة على الأسرار الفنية التي يمتلكها، ويكون المتلقي في المقابل حريصا على الحصول على أكبر قدر من المعلومات والأسرار عن التكنولوجية ليتمكن من تقدير قيمتها[28] وجدواها بالنسبة له.
لكن التساؤل هنا، يبرز حول مدى التزام المتفاوض بالمحافظة على سرية هذه المعلومات خلال فترة المفاوضات السابقة على التعاقد؟.
وفقا للقواعد العامة لا يلتزم الشخص بالمحافظة على ما تلقاه، من معلومات إلا إذا كان هناك نص في القانون، أو في العقد يلزمه بالمحافظة على سريتها ما دام صاحب هذه المعلومة لا يرغب في الكشف عنها للغير[29]
غير أنه نظرا لضعف القواعد العامة في حماية المعلومات السرية أثناء المفاوضات، فإنه غالبا ما يلجأ الأطراف أثناء التفاوض إلى الاتفاق على شرط الالتزام بالسرية في فترة المفاوضات هذه[30].
ثانيا: الالتزام بعدم إجراء مفاوضات موازية
غالبا ما يسعى المتعاملون في ميدان الأعمال للوصول إلى أحسن الصفقات التي تحقق طموحات مشروعاتهم وتوسيع أنشطتهم، لذلك قد يسعى أحد الطرفين إلى إجراء مفاوضات مع الطرف الثالث حتى يحقق مراده. والقاعدة العامة أن المفاوضات الموازية جائزة ومشروعة عملا بمبدأ الحرية التعاقدية، فللشخص أن يوازن بين الفرص المتاحة ويفضل الصفقة التي تحقق مصلحته أكثر من غيرها.
ومن ثم فلا يمكن حصر إجراء مفاوضات موازية إلا بموجب شرط خاص تتفق عليه الأطراف صراحة ويسمى شرط الحصر[31].
وتبعا لذلك، فإنه لا يصح الاستناد إلى المبدأ العام الذي يحكم المفاوضات، وهو مبدأ حسن النية، للإقرار بأن مبدأ حسن النية، يقتضي منع إجراء مفاوضات موازية من جانب الطرفين، أحدهما، أو كلامها، مع طرف ثالث، للانتهاء إلى القول، بأن وجود تلك المفاوضات يشكل سوء النية الذي يعد خطأ يستوجب المسؤولية[32].
فالالتزام بعدم إجراء مفاوضات موازية لا يلتزم أطراف التفاوض به، إلا عند وجود اتفاق صريح مبرم بين الطرفين ينص على حصرية المفاوضات الموازية، كما يجب تحديد مدة سريان هذا الاتفاق والموضوع الذي يمنع فيه إجراء المفاوضات بدقة، إذ أن المنع من إجراء مفاوضات موازية لا يجب أن يكون عاما ولمدة غير محددة الالتزام بعدم إجراء مفاوضات موازية هو التزام بتحقيق نتيجة وبالتالي فإن المسؤولية تتحقق بمجرد عدم تحقق هذه النتيجة[33].
المبحث الثاني:طبيعة المسؤولية والجزاء المترتب خلال مرحلة التفاوض
أثارت المسؤولية عن الأخطاء المرتكبة خلال فترة المفاوضات السابقة على التعاقد اختلافات عديدة، انعكست على تحديد طبيعة المسؤولية المطبقة على هذه الأخطاء.
فالبعض يقول بأن المسؤولية السابقة على التعاقد هي مسؤولية عقدية أساسها الخطأ في تكوين العقد، في حين يرى البعض الآخر بأنها مسؤولية تقصيرية قوامها الإخلال بمبدأ حسن النية.
ومما لاشك فيه أن كلا المسؤوليتين (عقدية أو تقصيرية) يترتب عنهما جزاء غير أن هذا الجزاء يختلف حسب ما إذا تم تكييف هذه المسؤولية على أساس المسؤولية العقدية أم التقصيرية ومن هنا ارتأينا تقسيم هذا المبحث إلى مطلبين:
- المطلب الأول: طبيعة المسؤولية المترتبة خلال فترة المفاوضات
- المطلب الثاني: الجزاء المترتب عن هذه المسؤولية
المطلب الأول: طبيعة المسؤولية المترتبة خلال فترة المفاوضات
إن البحث في موضوع تحديد طبيعة المسؤولية المترتبة خلال فترة المفاوضات السابقة على التعاقد، يفرز لنا اتجاهين رئيسيين الاتجاه الأول يرى بأنها مسؤولية عقدية (الفقرة الأولى) والاتجاه الثاني يرى بأنها مسؤولية تقصيرية (الفقرة الثانية).
الفقرة الأولى: نظرية المسؤولية العقدية
يرجع الفضل في صياغة نظرية المسؤولية العقدية عن الأخطاء المرتكبة خلال المرحلة السابقة على التعاقد، إلى الفقيه “ايرنج” وقد أطلق عليها نظرية الخطأ في تكوين العقد، ووفقا لهذه النظرية يعتبر الخطأ الذي يقع بمناسبة إبرام العقد سواء حال دون انعقاده أم أدى إلى بطلانه خطأ عقديا، ومن تم يقع على عاتق المسؤول عن هذا الخطأ مسؤولية عقدية[34].
والأساس الذي يرتب هذه المسؤولية خلال مرحلة التفاوض حسب ” ايرنج” هو وجود عقد ضمني بين المتفاوضين. وهذا العقد ينعقد حسب بعض الفقه بمجرد قبول التفاوض حيث يتعين على الطرف الذي قبل التفاوض السير بالتفاوض إلى نهايته دون تعسف وإلا ترتبت مسؤوليته، ذلك أن قبول التفاوض هو نوع من السلوك الإنساني يتعين احترامه دون نص عليه. وإلا فإن خرقه أو انتهاكه أو القعود بالتفاوض عن بلوغ مراميه يترتب عنه الجزاء[35].
بالنسبة للكيفية التي ينشأ بها هذا العقد الضمني المشار إليه أعلاه هو كون الإيجاب الصادر من أحد المتفاوضين يتحلل إلى ايجابين، الأول موضوعه العقد الذي يجري بشأنه التفاوض، أما الإيجاب الثاني فمحله عدم إعاقة إبرام هذا العقد.[36]
ومن هنا يمكن القول بأن تخلف أحد الأطراف عن تنفيذ التزاماته وانسحابه من المفاوضات دون سبب مشروع، وأحدث ضررا للطرف الآخر، فإنه في هذه الحالة يعتبر مخلا بالالتزامات المترتبة عليه، وتتم مساءلته على أساس قواعد المسؤولية العقدية وعليه سنحاول إبراز الشروط التي تقوم عليها هذه المسؤولية وهي الخطأ العقدي والضرر والعلاقة السببية.
أولا: الخطأ العقدي في مرحلة التفاوض
يتمثل الخطأ العقدي في مرحلة التفاوض في عدم تنفيذ المتفاوض لالتزامه الناشئ عن اتفاق التفاوض، ولا يستطيع المتفاوض المخل بأن يدفع المسؤولية عن نفسه إلا إذا اثبت أن عدم التنفيذ يرجع إلى سبب أجنبي لا يدله فيه[37].
ومن صور الخطأ العقدي في مرحلة التفاوض، قطع المفاوضات بدون سبب مشروع، الإخلال بشرط عدم القيام بمفاوضات موازية.
ثانيا: الضرر في مرحلة التفاوض
يتحقق الضرر في مرحلة المفاوضات العقدية من خلال الضرر المادي، ويكون من خلال النفقات التي دفعها الطرف المتضرر للدراسات والمصروفات على المشروع المتعاقد عليه، وفي الوقت الذي أضاعه في المفاوضات بدون جدوى، كما قد يتحقق الضرر معنويا، ويتمثل في الإساءة لسمعته التجارية، ويقع عبء الإثبات على المتضرر”[38]
ويتعين أن يكون الضرر سواء كان ماديا أو معنويا ليرتب آثاره، مباشر ومحققا ومتوقعا وقت الاتفاق[39].
ويعني هذا أن الضرر إذا لم يكن ناتجا مباشرة عن تنفيذ الالتزام فلا يلتزم المتفاوض المدين بالتعويض عنه، ولتوضيح هذا المسألة سندرج المثال التالي: “أن يترتب عن فشل التفاوض ضياع الصفقة من التاجر المتفاوض وتسوء حالته المالية ويعجز عن سداد ديونه التجارية، فيتم شهر إفلاسه وتصفية أمواله قضائيا”.
فهذه الأضرار التي لحقت بالتاجر بعد قطع التفاوض معه هي أضرار غير مباشرة فلا يعوض عنها، لأنه كان يستطيع أن يتفاداها ببذل جهد معقول كأن يحاول البحث عن صفقة أخرى”[40].
ثالثا: الرابطة السببية:
من أجل قيام المسؤولية العقدية، فإنه يجب توافر رابطة سببية تربط بين الخطأ والضرر، فيجب أن يكون سبب الضرر هو الخطأ العقدي الذي قام به الطرف المخل بالتزاماته.
الفقرة الثانية: نظرية المسؤولية التقصيرية
يرى جانب من الفقه أن المسؤولية التقصيرية هي التي تحكم العلاقات السابقة على التعاقد، بعلة أنها أسهل الوسائل وأيسرها تطبيقا على هذه المرحلة، وقد ظهرت هذه النظرية نتيجة الانتقادات التي وجهت لنظرية الخطأ عند تكوين العقد[41].
وقد اعتبر هذا الجانب من الفقه أن المسؤولية الناتجة عن مرحلة المفاوضات لا يمكن اعتبارها مسؤولية عقدية، لأن المسؤولية العقدية لا تنشأ إلا عن العقد، والعقد لا يتم إلا بالتطابق التام للإيجاب بالقبول، وبالتالي فإن المسؤولية الناتجة عن إخلال أحد أطراف المفاوضات بالتزاماته تكون خاضعة للمسؤولية التقصيرية[42].
أما الأساس الذي تقوم عليه هذه النظرية حسب أنصار هذا الاتجاه فهو نظرية التعسف في استعمال الحق، ويعني هذا أنه في الحالة التي يتخلف فيها أحد أطراف التفاوض عن تنفيذ التزامه دون سبب مشروع، ويترتب عن هذا الإخلال ضرر للطرف الآخر، فإن من حق هذا الأخير أن يطالب المتفاوض المخل بالتزامه، بتعويض عن الضرر الذي لحق به، إذا اثبت أن الضرر الذي لحقه كان نتيجة الخطأ المرتكب من الطرف المخل في إطار المسؤولية التقصيرية، وهذا الاتجاه هو الذي كرسه العمل القضائي في فرنسا، حيث جاء في أحد القرارات الصادرة عن الغرفة التجارية بتاريخ 20 ماي 1972 التي قضت بأن المسؤولية عن قطع المفاوضات هي مسؤولية تقصيرية لعدم وجود اتفاق تفاوض، وذلك لأن المفاوضات قد قطعت بدون مبرر مشروع وفجأة ومن جانب واحد.[43]
وتتلخص وقائع هذا القرار، في قيام شركتين (A) و (B) بالدخول في مفاوضات من أجل إبرام عقد بيع آلة تستخدم في صناعة الإسمنت، تنتجها شركة أمريكية وتعتبر الشركة (B) المستفيد من الامتياز المعتمد لتوزيع هذا المنتوج في فرنسا، وأثناء المفاوضات قامت الشركة (A) الراغبة في شراء هذه الآلة بإرسال ممثل إلى الولايات المتحدة الأمريكية، على نفقتها من أجل معاينة تشغيل الآلة على طبيعتها، ثم طلبت الشركة (B) المستفيد من الامتيازات بيانات إضافية لتختار النوع المناسب من الآلة ولكن الشركة (B) بدلا من تسليم هذه البيانات المطلوبة التي وصلتها من الشركة الأمريكية إلى الشركة الفرنسية الراغبة في الشراء، قامت ببيع هذه الآلة إلى شركة أخرى منافسة، مع التزامها ببند في العقد بالامتناع مدة 42 شهر عن بيع أي آلة أخرى، بعد ذلك، وحتى لا تتحمل الشركة (B) المسؤولية قامت بإخبار الشركة المتضررة عن طريق الهاتف بقطع المفاوضات.
ولما عرض الأمر على الغرفة التجارية بمحكمة النقض الفرنسية قضت بتحميل الشركة (B) المسؤولية التقصيرية عن قطع المفاوضات فجأة ودون مبرر بعد أن وصلت المفاوضات إلى مرحلة متقدمة.
المطلب الثاني: الجزاء المترتب عن هذه المسؤولية
إن إخلال أحد أطراف المفاوضات بالتزامه، يترتب عنه جزاء غير أن هذا الجزاء يختلف من حيث تكييف هذه المسؤولية فيما إذا كانت عقدية أم تقصيرية، وهذا ما سنحاول توضيحه في (الفقرة الأولى) الجزاء في نظرية المسؤولية العقدية على أن نتطرق في (الفقرة الثانية) الجزاء في نظرية المسؤولية التقصيرية.
الفقرة الأولى: الجزاء في إطار نظرية المسؤولية العقدية
الأصل أن يتم تنفيذ الالتزام متى توافرت شروطه، حيث يلتزم المدين بأداء عين ما التزم به، وهذه الشروط هي أن يكون التنفيذ العيني ممكنا وألا يكون في التنفيذ العيني إرهاق للمدين وان يطلب الدائن التنفيذ.[44]
وفي هذا الإطار يطرح التساؤل التالي: هل يمكن إعمال التنفيذ العيني بالنسبة للالتزام بالتفاوض؟
ذهب جمهور من الفقهاء إلى القول بعدم إمكانية التنفيذ العيني بالنسبة للالتزام بالتفاوض، ويستند في ذلك لمجموعة من الاعتبارات نذكر منها:
- أن محل الالتزام الذي لم ينفذ هو “اتفاق التفاوض” وليس “العقد” لذلك فليس من المقبول القول بانعقاد العقد لأن المتفاوض يرفض تماما الدخول في التفاوض والاستمرار فيه، فإذا اجبر على ذلك، كان هذا مساسا بحريته الشخصية، كما أنه ليس من المعقول أن تعين المحكمة من يمثل المدين في عملية التفاوض ولو كانت المرحلة التي توقفت عندها المفاوضات مقبولة ويمكن معها إبرام العقد[45].
- إن الإجبار سوف يكون غير مجدي في مجال التفاوض وذلك لأن التفاوض يحتاج إلى التعاون بين الأطراف ولا يتصور أي تعاون من شخص تم إكراهه، وبالتالي فإن التفاوض سيكون مصيره الفشل[46].
غير أنه أحيانا ينظم المتفاوضون بعض الالتزامات الخاصة كالالتزام بالسرية، ففي مثل هذه الحالة يمكن للطرف المتضرر، اللجوء إلى القضاء لمنع الطرف الآخر من استغلاله هذه المعلومات المتحصل عليها من عملية التفاوض[47].
ومن هنا يمكن القول بأن قيام المسؤولية العقدية خلال مرحلة التفاوض لا يمكن أن يتم عن طريق التنفيذ العيني كمبدأ عام وإنما يحق فقط للطرف المتضرر المطالبة بتعويض عن الضرر الذي لحق به.
الفقرة الثانية: الجزاء في إطار نظرية المسؤولية التقصيرية
إن قيام المسؤولية التقصيرية من طرف أحد المتفاوضين جراء إخلاله بالتزامه، يخول الحق للطرف المتضرر الحق في تعويض عن الضرر الذي لحقه، طبقا للقواعد العامة.
في هذه الحالة يتعين تعويض المتفاوض عن الأضرار التي اصابته ويقدر الضرر في هذه الحالة بالنظر إلى النفقات التي تحملها الطرف المضرور من لحظة بداية المفاوضات مع التعويض عن الفرص الضائعة والمتمثلة في إمكانية إبرام عقد آخر في هذا الوقت مع شخص آخر، ولكن التعويض لا يغطى الكسب الفائت والذي كان من الممكن تحقيقه حال إبرام العقد النهائي[48].
وتجدر الإشارة إلى أنه يترتب عن إخلال المتفاوض بالتزاماته في إطار المسؤولية التقصيرية التعويض عن الضرر المباشر سواء كان متوقعا أم غير متوقع على خلاف المسؤولية العقدية التي تتطلب أن يكون الضرر متوقعا.
خاتمة:
يتبين لنا مما سبق أن المفاوضات السابقة عن التعاقد لها دور مهم في اتفاق الأطراف على إحداث أثر قانوني الأمر الذي يفرض على أطرافها الالتزام بمجموعة من الضوابط أهمها التفاوض بحسن نية وما يترتب عنها من التزام بإعلام الطرف الآخر في المفاوضات.
منقوول