مقدمــــــــــــــــــــــة:
كلما وجد أناس في مجتمع وهم لابد أن يجتمعوا كانت الجريمة واقعة اجتماعية لابد من وقوعها في المجتمع البشري. فلكون الفرد كائن اجتماعي لايمكنه أن يعيش بمعزل عن الجماعة، وذلك من أجل تعاونهم على تحصيل ضروراتهم وقواتهم، وإذا اجتمعوا دعت الضرورة إلى المعاملة ومنه لابد من تنازع المفضي إلى المقاتلة. وعليه فالجريمة ظاهرة اجتماعية ظهرت بظهور الإنسان، ولازالت مستمرة إلى يومنا هذا. والجريمة لها أضرار جسيمة وتكاليف باهظة ونتائج تنعكس على برامج التنمية الاجتماعية والاقتصادية ورفاهية الإنسان. فالجريمة تسبب خسائر في الأرواح و الممتلكات و الأموال، مما يؤدي إلى إعاقة حركة الإنسان و الحد من حرياته. لذا كان لابد من وجود قوانين تحدد الأفعال المجرمة و الجزاء المقرر لها لكل من ثبتت في حقه المسؤولية الجنائية.
المسؤولية الجنائية تترتب عن العمل أو الامتناع الذي جرمه القانون و عاقب عليه في نص من النصوص الجنائية، على اعتبار أن الإمساك عن العمل أو إتيانه يلحق الضرر بالمجتمع بكامله. لقد أدلى العديد من الفقهاء بدلوهم في ما يخص مفهوم المسؤولية الجنائية، وقامو بوضع ما يرونه تعريفا جامعا مانعا للمسؤولية، إلا إن معظم التعريفات كانت شديدة التقارب من بعضها البعض. و المسؤولية الجنائية هي التزام شخص بتحمل نتائج أفعاله المجرمة.
ولقد تطورت المسؤولية الجنائية على مر العصور، شأنها في ذلك شأن التطور الذي واكب جميع القوانين. فالمسؤولية الجنائية في العصور القديمة تقوم على المادية و التلقائية فتعتمد بشكل أساسي على الفعل المرتكب دون أي اعتبار لمرتكبيه أكان مسؤولا جنائيا عن أفعاله أم لا، أو إن كان الفعل ارتكب عن إرادة أو بغيرها. فقد كان يعاقب على جرائم الخطأ لو أنها جرائم عمدية بل أن عقوبتها قد تزيد أحيانا، ولذلك فإن التركيز كان ينصب على الفعل وحده.
وعلى هذا الأساس سوف نتناول في هذا البحث أساس المسؤولية الجنائينة في كل من التشريعات الوضعية و هذا هو موضوع المبحث الأول في حين سنتناول في المبحث الثاني أساس المسؤولية الجنائية في الشريعة الإسلامية و موفق المشرع المغربي.
المبحث الأول: أساس المسؤولية الجنائية في التشريعات الوضعية
بالرجوع إلى التاريخ، فقد عاشت أروبا فترة حرجة من الظلم و الاستبداد/ حيث كان أساس المسؤولية الجنائية يخضع لسلطة الحاكم مما دفع كثير من الفقهاء آنذاك إلى المطالبة بالحد من سلطة القاضي في ميدان التجريم، و المطالبة بسن معايير وضوابط تنبني عليها المسؤولية الجنائية[1].
المطلب الأول: المدرسة الكلاسيكية L’école classique
ترجع نشأة هذه المدرسة إلى وقت كان يسود فيه نوع من الخلل في النظام الجنائي ككل، فالعقوبات كانت تتسم بالشدة والقسوة وعدم التناسب مع قدر الضرر والخلل الاجتماعي الذي أحدثته الجريمة ، كما أن القضاء قد أصابه التحكم والهوى والرغبة فقط في إرضاء الحاكم ، و بعيداً عن تحقيق المساواة بين المواطنين. ويظل الفضل في الثورة على هذا الاستبداد الجنائي إلى الفيلسوف والمفكر الإيطالي سيزار بونزانا دي بيكاريا (1735 – 1794) وذلك من خلال مؤلفة الشهير “عن الجرائم والعقوبات الذي يعد بحق نقطة تحول في تاريخ القانون الجنائي عامة.
إن أساس المسؤولية الجنائية في المدرسة التقليدية يقوم على الإرادة حرية الاختيار المطلقة لما كانت وظيفة العقوبة وهدفها لدى أنصار المدرسة الكلاسيكية هي الردع بشقية العام والخاص، وأن هذا الردع يقوم على أساس خلقي ، يتمثل في تقويم وتهذيب إرادة المجرم ، فكان لابد من تحديد المسئولية الجنائية وحصرها في كل شخص أهل لتحملها من واقع ثبوت الإرادة وحرية الاختيار لديه ، الأمر الذي لا يتوافر لدى عديمو الإرادة ولدى من يثبت جنونه أو صغر سنه، فالمجرم لدى أنصار المدرسة التقليدية ليس إنساناً وحشياً أو مريضاً أو كافراً، بل هو فرد خالف عن وعي وإرادة العقد الاجتماعي، فهو إنسان حر الإرادة والاختيار لكنه أساء باختياره وإرادته استعمال حريته .وحرية الاختيار تلك أي حرية الموازنة والخيرة بين طريق الخير وطريق الشر لدى أنصار المدرسة الكلاسيكية متساوية لدى جميع الأفراد، مما يوجب المساواة التامة بين جميع المجرمين الذين يتمتعون بملكتي الإدراك والتمييز. وقد ترتب مع هذه المساواة أن اعتمدت هذه المدرسة مبدأ العقوبة ذات الحد الواحد، بحيث ينحصر دور القاضي في تطبيق العقوبة المقررة قانوناً وعلى هذا النحو فلا يوجد أي صدى لمبدأ تفريد العقوبة. كما انتفى لدى أنصار هذه المدرسة الأخذ بفكرة المسئولية المخففة أو الأخذ بنظام العفو الخاص. فضوابط التجريم والعقاب ضوابط مادية وموضوعية مجردة[2].
ترعرعت هذه المدرسة في عصر سادت فيه فكرة العقد الاجتماعي التي نادى بها الفيلسوف الفرنسي”جان جاك روسو” مفادها: أن الفرد يخضع للمجتمع بإرادته الحرة وينضوي تحت مظلته مقابل دفاع المجتمع عنه وعن ممتلكاته بمسؤولية كل منهما تجاه الآخر، وبالتالي فان الفرد لا يتنازل عن حريته إلا بالقدر اللازم لاستقرار الحياة في المجتمع، وذلك يؤسس بالتالي حق الدولة في العقاب استنادا إلى العقد الاجتماعي، وكل طغيان وتعسف يتجاوز القدر اللازم لحماية الأمن العام في المجتمع يعتبر عقوبة طاغية لا تمت للعدالة بصلة يجب محاربتها[3].
ومبدأ “حرية الاختيار” كأساس للمسؤولية الجنائية، واعتنقه “بيكاريا” ونادى به، ومفاده أن الإنسان يولد حرا ويعيش في كنف هذه الحرية وله حرية الاختيار بين الخير والشر بما له من عقل، وبتلك التصرفات الغائبة[4]. أي التي تحقق غاية معينة يستطيع التمييز بين الأفعال التي تجلب إليه لذة ويتحاشى تلك التي تصيبه بألم، وما دامت حرية الاختيار متساوية عند جميع الأفراد فيجب المساواة التامة في المسؤولية بين جميع المجرمين الذين يتمتعون بملكتي الإدراك والاختيار، ويخرج عن هذا المجنون والصغير اللذان هما غير أهل للمسؤولية الجنائية.
وبسبب اعتناق هذا المذهب الذي يؤسس المسؤولية الجنائية على حرية الاختيار وقيام المسؤولية الجنائية على أساس الضرر المترتب عن الجريمة، وعدم الالتفات إلى شخصية الجاني ومراعاة ظروفه الشخصية والاجتماعية وميوله ومدى خطورته، الأمر الذي يجعل العقوبة ذات حد واحد لكل جريمة ويصبح دور القاضي مجرد أداة في يد العدالة تقتصر مهمته على الفصل في ثبوت البراءة أو الإدانة والنطق بالعقوبة المحددة سلفا طبقا للقانون، وبالتالي ليس هناك محل لمبدأ تقرير العقوبة الذي عن طريقة تختلف المعاملة العقابية من جان إلى أخر حسب ظروفه التي قادته إلى ارتكاب الجريمة، وبالتالي إنزال العقوبة الملائمة عليه، ويعتقد “بيكاريا” أن مثل هذا النظام يحقق اكبر قدر من الضمانات للجاني ضد تعسف وشطط القضاة، والحد من حريتهم الزائدة في تطبيق الأحكام.
– تقييم هذه المدرسة: من حيث قيمتها العلمية يمكن القول بان لها فضل القضاء على مساوئ النظام العقابي السائد في ذلك العصر، حيث كان يقتص من الجاني بأساليب وحشية، فخففت من السلطات التحكيمية التي يتمتع بها القضاة[5]
مما احدث انقلابا في فلسفة النظام الجنائي القديم برمته، ويرجع إليها الفضل في إرساء قواعد التشريع الجنائي الحديث حيث كان ذلك واضحا في إعلان حقوق الإنسان الصادر في فرنسا في 26 اغسطس1789، وظهر أساسها في قانون العقوبات الفرنسي الصادر في عام1791[6]، وابرز هذه القواعد: حرية الاختيار والمسؤولية الشخصية للعقوبة والتخفيف من غلواء العقوبات.
الانتقادات التي وجهت لها
غير أن هذه المدرسة لم تسلم من العيوب وأبرزها: أنها اتجهت نحو التجريد المطلق[7] بإغفالها شخص الجاني وبواعثه والظروف المحيطة به والدوافع التي قادته إلى الجريمة، أي بمعنى التركيز على الجريمة دون فاعلها، وذلك مؤسس على الهدف الأسمى لدعاتها بتحقيق المساواة المطلقة بين المجرمين في العقوبة بسبب رواسب الماضي أثناء فترة تحكم القضاة واستبدادهم، غير أن المساواة المجردة لا تحقق العدالة لارتكازها على جانب واحد من جوانب الجريمة وهو الجانب المادي، إما الجانب النفسي الذي يتمثل في الإرادة الإجرامية التي تهدف إلى تحقيق ماديات الجريمة فقد كان مهملا.
وواقع الأمر أن إخضاع كل من ارتكبوا نفس الجريمة لعقوبة واحدة لاشك انه يعبر عن الإخلال الفاضح بقواعد العدالة التي تتطلب ضرورة ملائمة العقوبة لشخصية مرتكبها في الكم وطريقة التنفيذ.
وأهم نقد وجه للمدرسة التقليدية الأولى أنها ليست سياستها الجنائية على ما للعقوبة من اثر في الردع العام، وبالتالي المغالاة في العقاب من ناحية جسامته وأغفلت شخصية الجاني وظروفه ومحاولة لإصلاحه وتهذيبه وتأهيله لكي تجنبه العودة إلى ارتكاب الجريمة مستقبلا[8]
المطلب الأول: المدرسة التقليدية الجديدة
لقد داعت وانتشرت أفكار جديدة خلال القرن التاسع عشر تبلورت فيما يعرف بالمدرسة التقليدية الجديدة التي قامت على أنقاض المدرسة التقليدية القديمة، وان عدلت منها بعض الشيء وخاصة أفكار الفيلسوف الألماني كانت “kant” (1804-1724)، الذي كان معاصرا لأقطاب المدرسة التقليدية، فقد كان يؤسس حق العقاب على أساس تحقيق”العدالة المطلقة” وليس كما هو في المدرسة التقليدية الأولى، فهو على الأساس النفعي الاجتماعي.
ومن أقطابها أيضا: روسي (Rossi)، واورتولان(Ortolan)، ومولينيه (Molinier) في فرنسا، وكرارا (Carrara) في ايطاليا، وبرويشن، وميترماير (Mitteremaier) في المانيا، وهوس (Haus) في بلجيكا[9].
وانضم عدد من الفقهاء إلى هذه المدرسة في النصف الأول من القرن العشرين وعلى رأسهم غارسون (Garson)، وجاروفالو(Garofalo)، ودونديو دفابر (Donnedieu de vabres) (2).
الأسس الفلسفية التي ارتكزت عليها هذه المدرسة: قامت فلسفة هذه المدرسة على دعامتين أساسيتين هما حرية الإرادة، والتوفيق بين العدالة والمنفعة، ونعرض فيما يأتي لهاتين الدعامتين:
1 ـ حرية الإرادة: كانت نظرة المدرسة التقليدية الأولى نظرة مجردة لحرية الإرادة أو الاختيار باعتبارها القدرة على اختيار طريق التصرف، أما المدرسة التقليدية الجديدة فقد جاءت بمفهوم جديد لتلك الحرية ينطوي على القدرة على مقاومة البواعث الشريرة[10]، وهي تعتبر ميزان المسؤولية الجنائية، فالناس ليسوا سواسية من حيث قدراتهم على مقاومة الدوافع التي تقود إلى الجريمة، فظروف كل شخص وسنه، عند الجماعة، ويتمثل في إنزال العقاب بالجاني كمقابل حتمي لحرية الإرادة التي دفعته لارتكاب الجريمة بغض النظر عن فكرة المنفعة الاجتماعية، وبالتالي فان رجال هذه المدرسة قد جمعوا بين فكرة العدالة وفكرة المنفعة الاجتماعية.
2 ـ التوفيق بين العدالة والمنفعة: لقد تأثرت هذه المدرسة برأي الفلسفة الألمانية بزعامة(( كانت)) الذي يقول : أن العقاب غايته إرضاء شعور العدالة عند الجماعة، ويتمثل في إنزال العقاب بالجاني كمقابل حتمي لحرية الإرادة التي دفعته لارتكاب الجريمة بغض النظر عن فكرة المنفعة الاجتماعية، وبالتالي فان رجال هذه المدرسة قد جمعوا بين فكرة العدالة وفكرة المنفعة الاجتماعية[11].
وعليه فان العقوبة أساسها العدالة وهدفها تحقيقها في حدود المنفعة الاجتماعية فلا يحق للمجتمع أن يعاقب الجاني بما يفوق الحدود التي تتطلبها المصلحة العامة للمجتمع، فالعقوبة لا تكون مشروعة إلا في نطاق اجتماعها بالعدالة والمصلحة العامة[12].
والواقع أن هدف هذه المدرسة عموما التوفيق بين أراء المدرسة التقليدية والأفكار الحديثة المستندة على العدالة.
وعلى الرغم من اتفاق هذه المدرسة مع المدرسة التقليدية القديمة في أن أساس المسؤولية الجنائية يقوم على مبدأ حرية الاختيار الإرادة إلا أن أقطاب هذه المدرسة يخالفون نظراءهم برفضهم لفكرة المساواة بين الإفراد في حرية الاختيار، لان هذه الحرية تختلف من شخص إلى آخر، فمنهم من هو عديمها وغيره ناقصة، ولكن المسؤولية تكون بقدر هذه الحرية، فضابطها إذن هو مقدرة الشخص على مقاومة البواعث الشريرة التي تدفعه إلى سلوك طريق الجريمة، وهي بالطبع تتفاوت من فرد إلى أخر.
ومن جهة أخرى فقد وضعت هذه المدرسة حجز الزاوية لنظام تفردي العقوبة حيث نقلت الاهتمام من الجريمة إلى الاهتمام بالمجرم مع مراعاة ظروفه الشخصية والبواعث التي دفعته إلى الإجرام ومدى خطورته[13].
وأنارت هذه الأفكار الطريق إمام قوانين العقوبات فيما بعد، كقانون العقوبات الفرنسية المعدل سنة 1832 حيث استبعدت منه العقوبات الوحشية كقطع اليد قبل تنفيذ عقوبة الإعدام، ووضع بعض العقوبات بين حدين أدنى و أقصى، والاعتراف بنظرية الظروف القضائية المخففة ولكنها في نطاق ضيق مما يسمح للقاضي بسلطة تقديرية يستطيع استخدامها في حالة توافرها في شخص الجاني، أو الظروف المحيطة بارتكاب الجريمة.[14]
وامتدت هذه الأفكار خارج فرنسا حيث تأثر بها قانون العقوبات الألماني الصادر في عام 1870، وقانون العقوبات الايطالي الصادر في عام 1889(4).
إلا أن بعض أنصار هذه المدرسة دعوا إلى إعادة النظر في نظام التنفيذ العقابي (السجون ) برمته، لما لاحظوه من فساد السجون وعدم الاهتمام بها، بوضع برامج إصلاحية تهذيبية لنزلائها.
الانتقادات التي وجهت لها
وعلى الرغم من هذا كله أن هذه المدرسة لم تسلم من النقد، فقد عيب عليها أنها لم تأخذ بمدلول محدد لحرية الاختيار وفقا لمعيار يمكن به قياس مقدرة الشخص على مقاومة البواعث الشريرة التي تجرفه نحو الجريمة مما يقود – وفق هذه النظرية- إلى نتيجة شاذة مقتضاها تخفيف العقاب على من لا يستحقه كالمجرمين العائدين والمعتادين للإجرام الذين تتناقض لديهم المقدرة على مقاومة البواعث الشريرة، الأمر الذي جعل اختلاطهم بالجناة المبتدئين كارثة عارمة، فيتعلمون منهم دروسا في الجريمة والإجرام حتى إذا ما خرجوا هم أيضا أصبحوا عائدين بسبب ارتكابهم لجرائم أخرى، كذلك ما يؤدي به اختلاطهم من ناحية أخرى لارتكاب جرائم جنسية داخل السجون ذاتها، كذلك تؤدي فكرة حرية الاختيار التي نادت بها هذه المدرسة إلى التوسع في تطبيق عقوبات قصيرة المدة سالبة للحرية مما أدى إلى النتيجة السابقة أيضا، وبالتالي إهدار جانب مهم وخطير في أثناء تنفيذ العقوبة على الجناة وهو غرض الإصلاح والتأهيل الذي يجب أن تضطلع به السجون[15]،
كما عيب عليها أيضا أخذها بنظام المسؤولية المخففة الذي يستفيد منه المجرم الخطير الذي مسحت من ذهنه العوامل المنفرة من الجريمة، دون الجاني المبتدئ مما يؤدي إلى نتيجة غير منطقية وليست عادلة في نفس الوقت[16].
وبسبب هذه الانتقادات وغيرها أصبح الطريق مفتوحا لظهور المدرسة الوضعية التي تعتمد الملاحظة والتجربة أساسا للدراسات العقابية.
المطلب الثالث: المدرسة الوضعية
ونشأت المدرسة الوضعية في ايطاليا في الربع الأخير من القرن التاسع عشر على يد ثلاثة روادهم: لومبروزو (Lombroso )1836-1909، أستاذ الطب الشرعي الذي نشر أفكاره في كتاب اسماه ( الرجل المجرم) عام 1876، فيرى Ferri (1865-1929) أستاذ القانون الجنائي الذي نشر كتابه حول ” نظرية تفنيد ورفض حرية الاختيار” عام 1878، وجاورفالو(Garofalo) 1852-1934، القاضي والفقيه الايطالي الذي صاغ نظريته في كتابه (علم الإجرام) عام 1885.[17]
وقد كان للأفكار التي نادى بها هؤلاء الرواد الأثر الكبير المهم في تطور الفكر الجنائي والعقابي بصورة عامة، ولمحاولة فهم فكر وفلسفة هذه المدرسة لابد من البحث فيما نادى به أقطابها ومنهجهم الذي سلكوه ومنهم:
1 ـ سيزار لمبروزو: اعتقد ” لمبروزو” بوجود ما اسماه بالمجرم بطبيعته أو بالوراثة، بمعنى انه غالبا ما يحمل بعض العلامات الارتدادية التي ترجعه إلى أسلافه.
ومن خلال التجارب والدراسات التي قام بها لمبروزو. قسم المجرمين إلى خمس طوائف[18] وهي:
1- المجرم بالميلاد أو بالغريزة : وهو الشخص الذي يحمل منذ ولادته صفات عضوية وفسيولوجية ونفسية، فلا يستطيع مقاومتها وهي التي تدفعه بقوة نحو الجريمة بسبب تلك الدوافع الإجرامية الموروثة لديه منذ ولادته.
2- المجرم المجنون : وهو من أصيب بمرض عقلي افقده القدرة على إدراك طبيعة أفعاله ونتائجها، فينقاد نحو الجريمة تبعا لذلك، ويدخل تحت هذه المظلة: المصابون بالصرع، وإنصاف المجانين، ومن لا يملكون اتزانا نفسيا وعقليا.
3- المجرم بالعادة : وهو من يرتكب الجريمة بعدما تكونت لديه العادة على ارتكاب الأفعال المخالفة للقانون مرة بعد مرة سبب الظروف الاجتماعية المحيطة به، كالفقر، والبطالة، وإدمانه الخمر، واتصاله بأصحاب السوابق الجنائية فيؤثرون في اتجاه سلوكه نحو الجريمة ويكتسب تكوينا إجراميا حتى تصبح الجريمة مورد رزقه.
المجرم العرضي أو مجرم الصدفة: هذا لا يوجد لديه ميل تكويني نحو الجريمة أي بالميلاد، وإنما يرتكب جريمته بسبب ظروفه يعجز عن مقاومتها كالفقر أو البطالة، أو ظروف عائلية وبيئية، وأحيانا بدافع التقليد وحب الظهور، غيران هذا النوع من المجرمين كثيرا ما يعاوده الندم على فعله .
5- المجرم العاطفي أو الانفعالي : عادة ما يكون طيب القلب، ولكنه في ذات الوقت شديد الحساسية وينفعل بسرعة، ومزاجه عصبي، يرتكب جريمته بدوافع عاطفية كالحب والغيرة والكراهية، غير أنه سريع الندم.
2ـ انريكوفيري: واصل” فيري” بعد ” لمبروزو” الأبحاث متجها بالمدرسة الوضعية اتجاها اجتماعيا، أي لم يقتصر بحثه على دراسة العوامل الداخلية للمجرم كما فعل سلفه” لمبروزو”، بل تعداها إلى دراسة العوامل الخارجية المحيطة به، فالجريمة – وفق راية – خليط من عوامل داخلية ( شخصية) عضوية ونفسية، وأخرى خارجية طبيعية واجتماعية.
وقد جاء بنظرية ( التشبع الإجرامي) أي فكرة حتمية الجريمة[19] التي مفادها: أن الجريمة تسببها ثلاثة عوامل تكون على هيئة مثلث.
أولها: عوامل انثروبولوجية ( شخصية ترتبط بشخص المجرم، عضوية، نفسية، وعوامل أخرى كالسن والجنس والمهنة والحالة الاجتماعية..
ثانيها: عوامل طبيعية كالمناخ والفصول الأربعة.
ثالثها: عوامل اجتماعية، أي البيئة المحيطة بالشخص، كالأسرة والتعليم والصناعة والمستوى الاقتصادي وكثافة السكان.
فإذا اجتمعت هذه العوامل في مجتمع ما، فانه ينتج حتما عددا من الجرائم لا يزيد ولا ينقص، وهو ما يسمى “بدرجة التشبع الإجرامي للمجتمع”، وإذا ما قامت معدل الجريمة يزيد باضطراد، ويرجع إلى ما هو عليه عند زوال ذلك المؤثر.
فالجريمة الطبيعية تتمثل في السلوك غير الأخلاقي وتعافها الأنفس وتزدريها وتعاقب عليها جميع الشرائع باعتبارها منافية لكل مشاعر الخير والعدالة.
أما الجريمة المصطنعة فهي من صنع المشرع، وتختلف من مجتمع إلى آخر حسب النظم السياسية والاقتصادية والاجتماعية لكل جماعة. وعلى ضوء هذه التفرقة فان”جاروفالو” يولي المسؤولية الجنائية بمرتكب الجريمة الطبيعية، الذي يمتاز بالأنانية وبعدم الشعور بالمسؤولية أهمية خاصة، حيث يقترح تمييزا في المعاملة يلائم كل صنف من المجرمين حسب خطورته الاجرامية.
الأسس الفكرية للمدرسة: أحدثت المدرسة الوضعية انقلابا خطيرا على الأفكار التي سبقتها وخاصة المدرستين التقليدية، والمدرسة التقليدية الجديدة بان وجهت الأذهان نحو الملاحظة والتجربة والعمل الميداني بدلا من الآراء والأفكار الفقهية فقط في كشف الحقائق، واعتماد شخصية المجرم في الدراسة بدلا من الجريمة، وعليه نفسر القول فيما يأتي :
1 ـ مفهوم الحتمية: من خصائص هذه المدرسة رفضها لمبدأ ( حرية الاختيار) والمناداة بمفهوم الجبرية أو الحتمية المطلقة بالمجرم – على رأيها- مدفوع على سبيل الحتم نحو الجريمة بقوى طبيعية وبيولوجية واجتماعية لا قبل له بمقاومتها، فإذا كان الجاني مدفوعا نحو الجريمة بتأثير هذه العوامل التي لا دخل لإرادته فيها[20]، فمن العبث إذن تأسيس مسؤوليته الجنائية على أسس أخلاقية اجتماعية قائمة على حرية الاختيار، وبالتالي فان كل شخص مسئول عن الجرائم التي يرتكبها مهما كان مميزا أو غير مميز، عاقلا أو مجنونا.
2 ـ الخطوة الإجرامية: أن المجتمع مضطر للدفاع عن نفسه ضد الجريمة أيا كانت لا عن طريق توقع العقوبة على المجرمين بل عن طريق اتخاذ تدابير وقائية احترازية تطبق على المجرم عند ارتكابه للجريمة، لتمنعه من ارتكاب جرائم أخرى غيرها مستقبلا أو مع غيره من الأفراد، إذن الحل هو إحلال المسؤولية الاجتماعية أو القانونية محل المسؤولية الأخلاقية، فالواجب الاجتماعي يفرض عليه أن يخضع لإجراءات بديلة عن العقوبة يفرضها المجتمع الذي يعيش فيه لكي يبعد شبح الجريمة ويوقف خطرها[21]، ويمثل ذلك رد الفعل الطبيعي للمجتمع الذي يدافع به عن نفسه ضد الجريمة.
3 ـ التدابير الوقائية ( الاحترازية أو الإصلاحية ) : هذه التدابير ليست عقوبات يكون القصد منها الإيلام والتشفي بقدر ما هي وسيلة لقمع الجريمة في المستقبل ومكافحة الظاهرة الإجرامية، فالجريمة حدث تم في الماضي فالقصد ليس العقاب على فعل قد تم وقوعه وانتهى ليتم التفكير عنه ورد اعتبار من وقع ضده، بل المهم والمفيد والأجدر هو فرض تدبير يهدف إلى الحيلولة دون وقوع الجريمة التي تضر بالمجتمع، وفي الوقت ذاته علاج الجاني بوسائل ملائمة لاتقاء خطورته الإجرامية.
ووفقا لهذه النظرية أن المجرمين لا يعاقبون بالعقوبة المعهودة. وإنما تطبق عليهم تدابير الوقاية والإصلاح، فالمجرمون بالطبيعة أو الميلاد الإجرام، تطبق بشأنهم تدابير الاستئصال أو الإبعاد في مستعمرة زراعية لأنهم غير قابلين الإصلاح، والمجرم المجنون أو المصاب بعاهة عقلية يعالج في مصحة عقلية متخصصة، والمجرم العرضي يجب في حقه تنظيم الوسط الاجتماعي الذي يعيش فيه حتى لا تجد العوامل المكونة للجريمة سبيلا إليه، ومن بين الإجراءات التي تتخذ حياله تسليم الحدث إلى عائلة موثوق بها تتكفل برعايته، أو وضعه في مؤسسة صناعية أو زراعية إلى غيرها من الوسائل البديلة، أما المجرم العاطفي أو الانفعالي فيجب اتخاذ تدابير منشؤها التسامح بتوفير المناخ الملائم لعواطفه، ومطالبته بتعويض عادل للمجني عليه وإصلاح الضرر[22].
تقييم هذه المدرسة:
يرجع الفضل للمدرسة الوضعية في توجيه الانتباه إلى دراسة شخصية المجرم دراسة علمية قوامها المنهج التجريبي الذي يعتمد على الملاحظة والتجربة في دراسة الظاهرة الإجرامية والبعد عن التسليم بالافتراضات والآراء السابقة، كما بنت المسؤولية الجنائية على أساس من الخطورة الإجرامية مما قاد إلى تفريد العقوبة التي تلائم كل جان على حده بتدبير احترازي وإحلاله محل العقوبة التي تطبق على جميع المجرمين الذين يرتكبون الفعل نفسه وذلك مما نادت به المدرسة التقليدية الجديدة، كما أن هذه المدرسة أول من نبه إلى أهمية العقوبة غير محددة المدة حتى تنتهي الخطورة الإجرامية.
ولا ينكر احد ما لهذه المدرسة من اثر على التشريعات الجنائية المختلفة في العالم حيث أخذت بنظام وقف تنفيذ العقوبة والإفراج الشرطي، والتدابير الاحترازية سواء أكانت منفصلة أم مع العقوبة، وجعلت أنظمة عقابية تخص الأحداث الجانحين، نشأت السجون المفتوحة وشبه المفتوحة، وإبعاد العائدين، وإعطاء القضاة سلطة تقديرية، وتخصص القاضي الجنائي، ونظام تفريد العقوبة، ومن التشريعات التي تلقفت هذه المبادئ ونص عليها قانون العقوبات الايطالي الصادر عام 1930، والبولوني عام 1932، والسويسري عام 1937 وغيرها من التشريعات الحديثة.
الانتقادات التي وجهت لها:
غير انه يعاب على هذه المدرسة إغفالها للجريمة تماما والآثار المادية أو الاجتماعية الناتجة عنها، واهتمت بشخص المجرم وذلك مما لا يتفق مع الواقع المعاش، فلولا الجريمة لما وجد المجرم.
وإذا كان ما نادت به هذه المدرسة من أن الحالة الخطرة في حالة وجودها في أي شخص فذلك سبب رئيسي لإخضاعه لتدابير الوقاية قبل ارتكابه للجريمة، فذلك مما يعد اعتداءا صارخا على مبدأ صيانة الحرية الفردية التي يجب أن يتمتع بها الفرد من منطلق الفكر الجنائي الكلاسيكي الذي نادى بمبدأ شرعية الجرائم والعقوبات بحيث يفترض أن يتلقى الجاني إنذارا قبل عقابه.
ومما اخذ عليها أيضا إنكارها لحرية الاختيار والأخذ بمبدأ الحتمية، ولاشك أنها بذلك ساوت بين الإنسان الذي يتميز بالعقل وبقية الموجودات منعدمة الإرادة، ويترتب على ذلك انه حتى المجرم بالميلاد – الذي له خصائص عضوية ونفسية تقوده إلى الجريمة- ستطبق عليه التدابير الوقائية حتى قبل ارتكابه لأية جريمة، ناهيك عما لاقته فكرة (( المجرم بالميلاد)) من نقد شديد واتخاذ تدبير حيالها يصل إلى حد الاستئصال، الأمر الذي يعتبر انتهاكا صارخا للحريات الفردية إذا ما اتخذت التدابير الوقائية دون ضوابط، ومدعاة لاستبداد المشرعين والقضاة والإدارات المشرفة على التنفيذ العقابي على حد سواء[23].
ثم أن التفرقة التي نادى بها ” لمبروزو” لتصنيف طوائف المجرمين المعتمدة أساسا على خصائص عضوية ونفسية، فإنها لا تصدق في كل الحالات، فكثير من الأفراد توجد فيهم بعض هذه الصفات ولكنهم غير مجرمين، فمنهم من لم يرتكب جريمة أبدا، ومن جهة أخرى فقد وقعت جرائم خطيرة من أناس لا توجد فيهم هذه الصفات وذلك مما يؤكد أن الأسس التي استند عليها” لمبروزو” غير سليمة.
المطلب الرابع: مدرسة حركة الدفاع الاجتماعي
نشأت هده الحركة سنة 1945 و هي مدرسة للدفاع الاجتماعي تهدف إلى حماية المجتمع و المجرم جميعا من الظاهرة الإجرامية بخلاف المدارس التقليدية التي حصرت معنى الدفاع الاجتماعي في حماية المجتمع من المجرم. و من هذا التاريخ ظهر الدفاع الاجتماعي كحركة جديدة في السياسة الجنائية تهدف إلى الوقاية من الجريمة وعلاج الجانحين, و قد ظهر من خلال المناقشات و المؤتمرات الدولية أن هناك اتجاهين رئيسين في الدفاع الاجتماعي.
الفقرة الأول: اتجاه جرماتيكا :
ويهدف هدا المذهب إلى إبدال نظام قانون المسؤولية الجنائية التقليدي بنظام للدفاع الاجتماعي , بهدف القضاء على فكرة الجريمة والجانح , والمسؤولية و العقوبة
و هذه الأفكار القديمة يراد استبدالها بأفكار أخرى وهي المناهضة للمجتمع، والذاتية، و التدابير العلاجية و الوقائية. و على هذا، فمذهب جرماتيكا يتضمن تغييرا كليا في نظم القانون الجنائي و الإجراءات الجنائية، و النظام العقابي[24]
و على هدا الأساس فجرماتيكا أنكر حق الدولة في العقاب و أكد على واجب الدول في التأهيل الاجتماعي، فإنكار حق الدولة في العقاب يعني في نضره تسلط الدولة على حقوق الفرد و الإنسان الذي انشأ الدولة، وبما أن الإنسان هو حر اجتماعي بطبعه وبذلك لا مجال لاعتراف بالجريمة و المسؤولية الجنائية , وقد ألح على ضرورة إصلاح الشخص المناهض للمجتمع و ذلك من خلال التدابير الإصلاحية عوض معاقبته .
فطالما أن الدولة هي المسؤولية عن السلوك المنحرف و أن صاحب هذا السلوك كان ضحية ظروف اجتماعية غلبت عليه، فإنه لا يحق للدولة معاقبته بل عليها واجب تأهيله عن طريق التدابير الاجتماعية، هذه التدابير يجب أن تراعي مكانة الإنسان فلا يجب أن تكون قاسية و إنما يجب أن يكون هدفها هو الإصلاح والتأهيل، و يجب وضع ملف خاص لشخصية المنحرف اجتماعيا يوضع لدى القاضي حتى يكون على علم كامل عند تحدي التدبير الاجتماعي الذي يقضي به عليه و الذي يتلائم وتلك الشخصية[25].
من خلال هاته الأفكار يتبين أن جرامتيكا قد غالى حين طالب بإلغاء قانون العقوبات، و المسؤولية الجنائية، وبصفة خاصة إهداره لمبدأ شرعية الجرائم و العقوبات. علاوة على أن تجريده للجزاءات الجنائية من أي إيلام معناه إلغاء وظيفة العدالة و الردع العام و الخاص، ونقول أن هذه الانتقادات أدت إلى ظهور حركة الدفاع الاجتماعي الحديث بقيادة مارك انسل.
الفقرة الثانية: اتجاه مارك انسل
أما الاتجاه الثاني فهو حركة الدفاع الاجتماعي الجديد التي يتزعمها مارك انسل و تقوم هده الحركة في جزء منها على بعض الأفكار الاتحاد الدولي لقانون العقوبات، فقد سبق للاتحاد الدولي لقانون العقوبات أن تبني ضرورة صياغة سياسة جنائية وقد كان ” ليست” احد زعماء هذه الحركة يقصد بذلك تكييف الجزاء الجنائي مع شخصية الجانح، وقد التقطت حركة الدفاع الاجتماعي هذه الفكرة، ولكنها تعطي لفكرة السياسة الجنائية مفهوما أكثر اتساعا على ضوء المفهوم الذي قدمه أنصار الدفاع الجديد إلى الصراع ضد الجريمة بطريقة عقلانية و علمية أي بالاستفادة من جهود علوم الإنسان.
و بالنسبة للسياسة التي اعتمدها “مارك انسل” فانه يلتقي مع جراماتيكا في أغراض التدابير الجنائية المتمثلة في تهذيب و إصلاح المجرم وخاصة الحد، وان الطابع الإنساني ومراعاة أدمية المجرم و كرامته هو الطابع المميز لهده التدابير، و رغم ذلك فإن مارك انسل لا يتفق مع جراماتيكا في إلغاء قانون العقوبات و المجرم و العقوبة و المسؤولية الجنائية و غيرها من المصطلحات القانونية المسلم بها في التشريعات الجنائية المعاصرة , فمارك انسل يبقي على قانون العقوبات و المجرم و الجريمة، علاوة على أن أساس المسؤولية لديه هو حرية الاختيار المدعمة بالعناصر الشخصية، و يقول مارك انسل أن المجتمع عليه واجب محاربة الإجرام بوسائل عامة تقلل من فرص الوقوع فيه كمحاربة الكحول و المخدرات ووضع سياسة للرعاية و المساعدة الاجتماعية للأفراد .
و أن اتخاذ التدابير الاحترازية يراعي فيه العوامل العضوية و النفسية و الاجتماعية التي المجرم إلى الجريمة، و يجب أن تخضع هده التدابير لمبدأ الشرعية حماية للحقوق و ضمانا للحريات الفردية، لأن هدف التدابير التأهيل و الإصلاح، و يتم تأهيل المجرم و إصلاحه بإحدى المهن أو تثقيفه أو علاجه إذا اقتضى الأمر ذلك، وهذا معناه إنكار تحقيق العدالة و الردع العام كهدف من أهداف التدابير الاحترازية[26].
المبحث الثاني: أساس المسؤولية الجنائية في الشريعةلإسلاميةو التشريع المغربي
المطلب الأول: أساس المسؤولية الجنائية في الشريعة الإسلامية
إن هدف المشرع من التجريم هو تبيين الفعل الشرير الذي على الفرد اجتنابه. لكن بالاضطلاع على المذاهب الفقهية الإسلامية التي تعرضت لموضوع المسؤولية الجنائية للجاني، نجد أن هناك اتجاه ينفي أي جدوى للتجريم لأنه يعتبر الجاني مجبر فيما يقوم به من أفعال وغير مسئول عنها وهو مذهب الجبرية .
وبالمقابل يرى مذهب المعتزلة أن الجاني مسئول مسؤولية مطلقة على ما اقترفته يداه، وعليه لابد من وجود نصوص شرعية تجريمية تحد من نتائج أفعاله وتصرفاته وتقننها ويتوسط مذهب ثالث وهو مذهب الأشاعرة.
الفقرة الأولى : مذهب الجبرية
تعتبر الجبرية عند البعض بدعة وتنسب إلى اليهود فهي من قبيل الإسرائيليات التي دست على الإسلام وقوامها أن الإنسان لا يخلق أفعاله، وأصلا لا إرادة له ولا اختيار ذلك لأن الله هو خالق الأشياء و الإرادات.
فالفعل لله وحده، وإنما تنسب الأفعال للأفراد على سبيل المجاز ونتيجة لذلك لا يجوز تكليف الإنسان بعمل لا دخل له فيه ولا يصح تواب الإنسان ولا سبق علم الله بأفعال الناس وقد كتب عليهم هذه الأفعال ولا قدرة لهم على تغيرها[27].
الفقرة الثانية : مذهب المعتزلة
نشأ المعتزلة في العراق واشتهروا بالقول أن الله خالق لكل شيء وقد خلق في الإنسان قوة تمكنه من سلوك الطريق الذي يريده ومن ثم فإن أتى بمعصية فهي مسندة إليه أي إلى إرادته، فالله سبحانه وتعالى لا يعاقب الإنسان على أمور ليست من أفعاله، ولا يقبل أن يقدر عليه أمرا ثم يفرض عليه عقوبة لارتكابه، فللإنسان إرادة حرة مطلقة في كل ما يفعله[28] وبذلك فهو مخير في أفعاله وله أن يختار بين الشر والخير والدليل قوله تعالى ” أنا هديناه السبيل” ” وكذاك ” وهديناه النجدين ” وسبق علم الله بأفعال الناس لا يجوز أن يكون مانعا من الإيمان، وأن الله غير خالق لأفعال الناس وأن العامل الداعي أو الموجب لفعل الإنسان ليس من خلق الله بل من خلق الشيطان والنفس الأمارة بالسوء[29]. وهكذا فإن توفر الإنسان على حرية اختيار يفرض توضيح وتحديد الأفعال.
الفقرة الثالثة : مذهب الأشاعرة
عند الجبرية لا قدرة لإنسان ولا إرادة ولا فعل ، وعند المعتزلة للإنسان قدرة مطلقة ، وهذا الرأي الأخير يتعارض مع قوله تعالى ” لمن شاء منكم أن يستقيم وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين”[30]
أما عند الأشاعرة له قدرة ولكن لا تأثير لقدرته بجوار قدرة الله، وله أفعال والله خالقها، وله إرادة أيضا تستند أفعاله إليها، وبذلك يعد مختار في أفعاله ويكفي في تسمية أفعاله أفعال اختيارية لاستناد تلك الأفعال إلى إرادته واختياره، ولكن هذه الإرادة والاختيار عند الأشاعرة ليست من الإنسان، بل خاصة بخلق الله ولذا يقال عندهم أنه مختار في أفعاله مضطر في اختياره . وبالنظر إلى أن فعله وإرادته لفعله مخلوقان لله تعالى لزم أن يكون مضطرا فيهما جميعا .إلا أن استناد فعله إلى اختيار وعدم استناد اختياره إلى اختيار آخر بسبب وصف الأفعال بالاختيارية وهو المعنى بكون الإنسان مختار في أفعاله عند الأشاعرة، أما أفعاله فمستندة إلى اختياره وإن لم يكن هذا الاختيار بيده[31].
المطلب الثاني: أساس المسؤولية الجنائية في التشريع المغربي
لقد ظلت سياسة التجريم المغربية موزعة مند بداية الاستقلال وإلى الآن بين اتجاهين، فهي سياسة وضعية من جهة وسياسة دينية من جهة أخرى.
الفقرة الأولى: سياسة وضعية
تتميز سياسة التجريم المغربية بكونها سياسة وضعية وهذا التوجه يبدوا من خلال أنها مقتبسة في جزء منها من سياسة التجريم الفرنسية ، كما نجد أن المشرع المغربي تأثر بأفكار المدرسة النيوكلاسيكية، فاشرط لقيام المسؤولية الجنائية توافر الأهلية الجنائية القائمة على الإدراك والاختيار ولم يستثني من دلك إلا الحالات التي حددها القانون، وهي التي تناولها الفصل[32] 132 -134[33] في القانون الجنائي المغربي.
كما أخذ لمشرع بالأعذار القانونية وهي إما أن تكون معفية من العقاب وإما أن تكون مخففة[34].
إضافة إلى ما سبق فإن المشرع المغربي تأثر بالمدرسة الوضعية فقسم الجرائم إلى جرائم تقليدية وجرائم اصطناعية[35].
الفقرة الثانية : سياسة دينية.
إن توجه سياسة التجريم المغربية توجه ديني لأنها متأصلة من الدين ومستقاة من الفلسفة الجنائية الإسلامية .
وهكذا نجد أن القانون الجنائي المغربي نص على الجرائم المتعلقة بالإفطار في رمضان[36]. وشرب الخمر[37]والعلاقات الجنسية غير الشرعية[38]، بالإضافة إلى جرائم أخرى.
خاتمــــــــــــــة:
لما كانت المسؤولية الجنائيـــة من أهــم المسائــل التي ينبنــي عليها إنــزال العقــاب بالجاني، فقد احتلــت أهمية كبرى فــي الدراسات و القضايا الجنائية، فهي لا تغيب عن ذهن الشارع عندما يضع القــاعدة الجنائية المعاقب علـى مخالفتها،ة و لا عن ذهن القاضي عند تطبيقه للنص الجنائي على منتهكه، و لاعن أذهان القائمين على الإدارة العقابية وهم بصدد الإشراف على تنفيذ العقوبات السالبة للحرية، كما أن تحديد أساس المسؤولية الجنائية أمر مهم إذ يمكن بناء على ذلك تحديـد الشروط الواجب توافرها في من يسأل جنائيا عن فعله. وفضلا عــن ذلك فإنها تعد محورا لكثير من الأبحاث والدراسات التــي تجرى حول الجريمة و المجرميــــن.