استقلال القضاء وانعكاسه على دور الدفاع
لا يجادل أحد في كون القضاء هو ركن من أركان الدولة إذا انهار انهارت معه هذه الأخيرة بالتبعية: فالقضاء هو الساهر على فرض احترام القانون من طرف الجميع و دون تمييز بين الأشخاص سواء من حيث العنصر أو اللون أو الجنس أو اللغة أو الدين أو الرأي السياسي أو غيره من الآراء أو المنشأ الوطني والاجتماعي أو الأصل العرقي أو الملكية أو المولد أو الحالة الإقتصادية أو أي وضع آخر. والقضاء هو حامي الأفراد والجماعات من التعسف والشطط والظلم وهو الذي يحد من التجاوزات ويوفر ما استقر عليه الجميع أنه عدل وهو الذي يوفر المناخ السليم للنمو الإقتصادي والحافز على تشجيع الإستثمار. وأن المساواة أمام القانون و افتراض البراءة والحق في محاكمة عادلة و علنية أمام محكمة مستقلة و نزيهة، هي من بين المبادىء التي لا مناص منها لتعزيز و احترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية.
ويتبوأ القضاء منزلة كبيرة في الدولة نظرا لما يقوم به من وظيفة من شأنها بت الأمن ومحاربة الفوضى في المجتمع. إلا أن القضاء لا يمكنه أن يحقق المكانة الجديرة به إن هو لم يحض بثقة المواطنين عامة وبثقة المتقاضين خاصة وأن ثقة هؤلاء وأولئك لن تتحقق إلا من خلال برهنة القضاة أنفسهم على تجردهم و نزاهتهم و استقامتهم و استقلالهم عن أي تدخل أو تأثير. ومن تم وجبت دراسة استقلال سلطة القضاء عن باقي السلط واستقلال القضاة كأفراد يمثلون السلطة القضائية عند قيامهم بمهام وظائفهم ومدى تأثير هذا الإستقلال أو انعدامه على دور الدفاع والمحاكمة العادلة. وسأقتصر في هذه الدراسة على قضاء الحكم نظرا لأن الكل يعرف انعدام استقلال القضاء الواقف وقضاء التحقيق الذي سأكتفي بخصوصهما ببعض الاشارات لاغير.
أولا- استقلال القضاء عن السلطتين التشريعية و التنفيذية:
بالرجوع مرة ثانية إلى الفصل 82 من الدستور نجده ينص على أن “القضاء مستقل عن السلطة التشريعية و عن السلطة التنفيذية”. و من هذا المنطلق ومن منطلق دراسات فقهية متعددة يمكن القول بأن المغرب لا يعتبر القضاء سلطة بل وظيفة. إلا أن ديباجة الدستور تنص على أن المملكة المغربية تتعهد بالتزام ما تقتضيه مواثيق المنظمات الدولية من مبادىء وحقوق وواجبات. والمغرب عضو في منظمة الأمم المتحدة الذي اعتمد مؤتمره السابع لمنع الجريمة والمجرمين على توصية تنص على أن “الدولة تكفل استقلال السلطة القضائية و ينص عليه دستورالبلد و قوانينه. ومن واجب جميع المؤسسات الحكومية وغيرها من المؤسسات احترام ومراعاة استقلال السلطة القضائية”.
وباعتبار أن الدستور المغربي لا يتكلم سوى عن السلطة التشريعية و السلطة التنفيذية فسنتناول بالدرس هذه السلط قبل التطرق للسلط الأخرى التي لا تقل خطورة على القضاء.
أ-استقلال القضاء عن السلطة التشريعية: تسهر السلطة التشريعية على وضع القوانين العامة المجردة دون نظر إلى حالة معينة ولا إلى شخص بذاته، والنظام الديموقراطي يقتضي فصل هذه السلطة التي تسن القوانين عن السلطة القضائية التي تطبق القوانين.
استقلال القضاء، كسلطة أو كوظيفة، عن السلطة التشريعية تبرره حماية المتقاضين أنفسهم إذ لا يتصور في العصر الحديث أن يقوم القاضي الذي يفصل في المنازعات على سن قوانين تساير ميوله و نزواته حسب نوع القضايا أو حسب نوع المتقاضين.
كما أن استقلال القضاء يقتضي أن يمنع على السلطة التشريعية أن تفصل في منازعة تدخل في اختصاص القضاء أو أن تنزع عن الجهات القضائية جزء من اختصاصاتها لتمنحها لجهات غير قضائية لتنظر فيها بصورة مستقلة.كما يتعين على السلطة التشريعية تفادي خلق ما يعرف بالقضاء الإستثنائي لتتحرر السلطة التنفيذية من سلطة القضاء واستقلاله. فالقضاء الإستثنائي يرتبط ويتأثر بطريقة مباشرة أو غير مباشرة بالسلطة التنفيذية التي تجد فيه مجالا خصبا لتنفيذ سياستها. وهذا الإرتباط يبدد استقلال القضاء الذي يشكل الدعامة الأساسية لإقرار العدل. ويشكل القضاء الاستثنائي خطرا على مهنة المحاماة، إذ يقتصر دور المحامي على أداء شكلي إذ تأتي الأحكام جاهزة من السلطة التنفيذية، ويقتصر دور القضاة على النطق بها.
ومن جهة أخرى فإنه لا يجوز للسلطة التشريعية عند استعمالها حق ترتيب الجهات القضائية وتحديد اختصاصاتها أن تسلب حق التقاضي على شخص أو أشخاص معينين. كما لا يجوز لها إلغاء الأحكام القضائية أو تعطيل أو وقف تتفيذها.
وإذا كان لا يحق للقضاة التدخل في العمل التشريعي بصفة عامة فإنه بإمكانهم تفسير القوانين بخصوص الحالات المعروضة عليهم إلا فيما يتعلق بدستورية القوانين التي يمنع النظر فيها لمحاكم الموضوع وتبقى من اختصاصات الغرفة الدستورية.
ب-استقلال القضاء عن السلطة التنفيذية: فبعض رجالات هذه السلطة وما لهم من إمكانات ومن قوة النفوذ يميلون إلى الاستئثار والتسلط حتى في المنازعات التي تكون السلطة التنفيذية طرفا فيها. تفيد تعنث السلطة التنفيذية في تنفيذ احكام السلطة القضائية مما يفقد المصداقية في الأحكام، ومن تم في القضاء.
فاستقلال القضاء عن السلطة التنفيذية لا يقتضي من هذه الاخيرة عدم التدخل في أعمال القضاء فحسب ولكن يقتضي منها السهر على توفير جميع الموارد والوسائل المادية الضرورية للجهاز القضائي للقيام بمهامه.
لا مكانة لمجتمع بدون قضاء ولا مكانة لاستقرار بدون قضاء ولا مكانة لاقتصاد بدون قضاء.
أن القضاء لا يجب أن يخضع للضغوط السياسية فإنه يمكن التساؤل عن إمكانية تقليد مهام وزير العدل الذي يشغل في نفس الوقت منصب نائب رئيس المجلس الأعلى للقضاء لرجل منتمي سياسيا ؟.
والملاحظ كذلك هو ما يواجه القاضي يوميا من تراكم الملفات التي يتعين عليه دراستها والبت فيها وتحرير الأحكام بشأنها لا تسمح له بإصدار أحكام في المستوى المطلوب منه. ثم إن العدد المهول من الملفات المعروضة في الجلسات الجنحية أو الجنائية لا تبيح للمحكمة ولا للمحامين القيام بدورهم في ظروف مريحة تسمح للقضاة باستقصاء الحقيقة. ان القضاء رهين بالتريث وعدم التسرع في تجهيز الملفات وإصدار أحكام بشأنها خصوصا تلك التي تتعلق بحرية الأشخاص. ويمكن للمهتم أن يلاحظ عن قرب المهازل التي تقع سواء على مستوى التحقيق أو على مستوى محاكم الجنايات نظرا للضغط الذي تمر فيه المحاكمات وعدم إعطاء الوقت الكافي للمحامين للقيام بمهامهم في ظروف تسودها روح المسؤولية.
نص المشرع المغربي في الفصل 239 من القانون الجنائي على معاقبة “كل عامل أو باشا أو قائد أو أي حاكم إداري آخر فصل في مسألة من اختصاص المحاكم وذلك في غير الحالات التي ينص عليها القانون”. ويجب الإلحاح على ضرورة أن تعمل السلطة التنفيذية على احترام أحكام و قرارات المحاكم والحرص على تنفيذها ولو بالقوة إن اقتضى الأمر ذلك، إذ لا معنى لبناء المحاكم و تجهيزها وتكوين القضاة وتجنيد عدد هائل من الفاعلين في المحيط القضائي إذا كانت الأحكام ستبقى حبرا على ورق بدون تنفيذ. وعلى الإدارة نفسها أن تعطي المثال على تنفيذ الأحكام والقرارات الصادرة ضدها من قبل المحاكم الإدارية أو غيرها إذ لا يعقل أن تبقى الأحكام بدون تنفيذ و ” لا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له ” . وكما يمنع على السلطة التنفيذية التدخل في القضاء، فإنه يمنع على هذا الأخير التدخل في شؤون السلطة التنفيذية أو عرقلة أعمالها أو إلغاء قراراتها. إلا أنه يبقى دائما أن القضاء الإداري يتمتع بحق مراقبة شرعية الأعمال الإدارية و بحق إلغاء القرارات المتسمة بتجاوز السلطة أو بالشطط في استعمال السلطة، و للقضاء الإداري سلطة الحكم على الإدارة بتعويض المصابين بالأضرار التي تسببت لهم فيها حسب القواعد المعمول بها في المجال. .
ثانيا – استقلال القضاء عن الرأي العام وعن سلطة الاعلام:
تعتبر وسائل الإعلام المرآة الحقيقية التي تعكس وضعية المجتمع من النواحي السياسية والاجتماعية والاقتصادية و الثقافية. ولا أحد ينكر الدور الهام الذي يلعبه الإعلام: المرئي أو المسموع أو المكتوب (…)، في تنوير الرأي العام وبث الوعي وتدعيم الثقافة وتكريس الحياة الديمقراطية وفضح التجاوزات وغرس المواطنة و نقل الرأي و الرأي الآخر.
وحيث إنه أمام جسامة مسؤولية الصحفيين في التصدي لخرق الحقوق فقد أدى منهم الكثير الثمن غاليا نظرا لما تعرضوا له من مضايقات و اختطاف واغتيالات واعتقالات ومحاكمات إذ أصبح الإعلام يعتبر سلطة رابعة إلى جانب السلط الثلاثة المتحدث عنها سابقا لما له من تأثير مباشر على الجماهير.
وللإعلام دور خطير كذلك في تشكيل وجدان المواطنين وفي إعطاء الأخبار أهميتها أو تهميشها أو تمييع أهدافها، وإذا كان الكل قد نادى و منذ فجر الاستقلال بحذف الرقابة الرسمية على وسائل الإعلام فإن على رجل الإعلام أن يوظف الرقابة الذاتية لكي لا يزرع البلبلة داخل المجتمع أو يؤثر سلبا على القضاء: فالإعلام بإمكانه أن يكون حاجزا ضد إقبار بعض الملفات وهنا يلعب الإعلام دورا إيجابيا في تعزيز المساءلة والمحاسبة إلا أن الإعلام بإمكانه أن يؤثر ويوجه القضاء بعناوين ومضامين مقالات أو تصريحات أو صور تعبر عن انفعال أو هوى أو شهوة الرأي العام، كما أن وسائل الإعلام تكون أحيانا وسيلة في يد السلطة السياسية أو الاقتصادية تستعملها للتأثيرعلى القضاء لمعاقبة اعدائها و التستر على أصدقائها، ولا يقتصر الأمر هنا على ما يعرف بالإعلام الحر أو الحزبي أو الاقتصادي بل يشمل كذلك وسائل الإعلام الرسمية.
فالإعلام على عكس ما كان عليه بالأمس أصبح اليوم كالغذاء فيه الملوث الذي يسمم الأفكار ويلوث الدماغ يجعل من القاضي بطلا لبضعة أسابيع أو لبضعة شهور وتدفعه إلى ارتكاب الخطأ القضائي. والمعروف أن هم بعض الصحفيين وبغض النظر عن الخلفيات السيئة للغاية إذ يقتصر دائما على السبق في نشر الخبر، ومرارا تنشر أخبار لم يتم تعميق البحث بشأنها و يبقى المواطن فريسة للمولوعين بالفضائح وينسى الجميع بأن البراءة هي الأصل وتستمر الضغوطات من قبل الجميع إلى أن يتم الاعتقال ثم ربما الإدانة؟،
فعلى القاضي إذن أن يكون حذرا من بعض وسائل الإعلام التي تتخصص في إطلاق النار على كل من يتحرك امامها وان يقتصر حين يخلو للمداولة على عناصر الملف وعلى ما راج امامه في الجلسة و ألا يكترث برأي الجمهور وبانتقادات الآخرين ليعبر من تم على أنه فعلا قاض مستقل عن ضغوطات الرأي العام ووسائل الاعلام.
ويمكن القول بأن المشرع واع بخطورة التأثير على القضاة، بحيث أنه نص في الفصل 266 من مجموعة القانون الجنائي على معاقبة الأقوال والأفعال أو الكتابات العلنية التي يقصد منها التأثير على قرارات رجال القضاء قبل صدور الحكم غير القابل للطعن في قضية ما. إلا أن الأبحاث التي أجريناها لم تسمح لنا بالحصول على اجتهادات في هذا المضمار.
ويمكن القول بأن تأثير الرأي العام ووسائل الإعلام يكون له وقع سلبي كذلك على مهنة الدفاع، ودور الدفاع إذ تتم المحاكمة في جو من الضغوط النفسية إذا كان القاضي منحازا إلى ما تورده وسائل الإعلام، ويمكن القول بأن المحامي يفطن منذ أول جلسة لتأثير أو عدم تأثير الرأي العام ووسائل الإعلام على القاضي مما يجعل المحاكمة تمر في جو هادئ، أو في جو من التوثر، الشيء الذي لا يسمح للدفاع بالقيام بمهامه بحرية واستقلال.
واستقلال القاضي عن الرأي العام ووسائل الإعلام واقتصاره على الأدلة و المناقشة التي تمت أمامه من الشروط الضرورية للمحاكمة العادلة، ومن الشروط الضرورية كذلك للدفاع للقيام بمهامه دون ضغط الشارع لأن المحامي المدافع عن الشخص الذي أشارت إليه الأصابع عادة ما ينظر إليه كالشريك، ومن تم تكون مهمته صعبة للغاية، إلا إذا وجد نفسه أمام قضاء مستقل يكفل لموكله جميع حقوق الدفاع.
ثالثا – استقلال القضاء عن سلطة المال وعن سلطة النفس الأمارة بالسوء
قال صلى الله عليه وسلم “كاد الفقر أن يكون كفرا”. وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه “لو كان الفقر رجلا لقتلته “، ومن تم وجبت محاربة العوز المادي داخل الجهاز القضائي برمته وتمكينه من جميع الإمكانات التي تصون كرامة أفراده وكرامة ذويهم،
والرشوة في القضاء هي ما يعطى لمن لا يستحق على حساب من يستحق وذلك بغية كسب قضايا ما كان لها ان تكسب دون مقابل والراشي لا يدفع رشوته إلا لأنه يعلم أن هناك حق لغيره يرغب هو في هدره. والرشوة آفة اجتماعية تنخر الجسد الاجتماعي لأنها إعانة على الظلم والعدوان وهدر لكرامة الإنسان لما يترتب عنها من ضياع للحقوق و فساد للمجتمع. وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم “لعن الله الراشي والمرتشي والرائش” أي الوسيط بينهما . والرشوة داخل الجهاز القضائي دلالة على فساد القضاء وموت الضمير وترك الأخلاق والتنافس على تقديم الرشوة بدل التنافس على تقديم البينة، و الرشوة تربك القانون و تضعف المدافعين عنه بل هي تقتل القانون المتعارف عليه وتبرز قانون المال وتزيل كل وقار على القضاء.
حقيقة أن المشرع واع بمرض المجتمع هذا وقننه بالنسبة للقضاة حيث يمنع على هؤلاء أن يباشروا إلى جانب مهامهم أي نشاط بأجر أو بدونه باستثناء التعليم إذا رخص لهم بذلك وزير العدل، وإذا كان زوج القاضي يمارس نشاطا خاصا يدر عليه نفعا صرح القاضي بذلك لوزير العدل ليتخذ أو يأمر باتخاذ التدابير اللازمة للحفاظ على استقلال القضاء وكرامته ( الفصل 15 من النظام الاساسي لرجال القضاء )، كما يلزم المشرع القاضي بالتصريح كتابة بما يملكه من عقار و قيم منقولة وكذا ما يملكه منها زوجه وأبناؤه القاصرون ويقدم تصريحا إضافيا فورا كلما حدث تغيير في وضعيته المالية (الفصل 16)، ويتتبع وزير العدل ثروة القضاة وأعضاء عائلتهم ويمكنه بعد موافقة المجلس الأعلى للقضاء أن يقدر ثروة القضاة بواسطة التفتيش (الفصل 17). إلا أن الملاحظ هو أن هذه النصوص بقيت منذ أزيد من ثلاثة عقود حبرا على ورق، إذ الكل يعرف الثروات الهائلة لكثير من القضاة لم يكونوا يملكون شيئا عند التحاقهم بمهامهم، وأصبحوا بين عشية وضحاها من أصحاب الفيلات والضيعات والعمارات والسيارات الفخمة، ناهيك عن مستواهم المعيشي اليومي المرتفع جدا، ودون أن تقوم الوزارة المكلفة بالتدقيق في مصدر هذه الثروات.
حقا إن المشرع أدخل تعديلا جوهريا على القانون الجنائي عن طريق تشديد العقوبات الخاصة بجرائم الاختلاس والغدر واستغلال النفوذ والارتشاء، وذلك بالتشديد في العقوبات السالبة للحرية والرفع من العقوبات المالية كما تمت إضافة عقوبة المصادرة لفائدة الدولة كعقوبة إضافية، وتمديدها لتشمل الأموال والقيم المنقولة والممتلكات والعائدات المتحصلة من ارتكاب الجريمة أيا كانت هذه الأموال، وأيا كان المستفيد منها. كما أضيف لمجموعة القانون الجنائي فصل جديد يتمتع بموجبه الراشي المبلغ عن الجريمة للسلطات القضائية بعذر معف من العقاب، وذلك لتشجيع التبليغ عن جريمة الرشوة. إلا أن الإرادة السياسية لا زالت تتردد في هذا المجال وربما أنها تنتظر الضوء الأخضر من جهة معينة لتنطلق في دق الطبول كعادتها.
ومن جهة أخرى، فإن الاستقلال فضيلة لا تمنح فقط بالقوانين بل يجب استحقاقها على أرض الواقع. والقاضي بطبيعة الحال فرد من أفراد المجتمع ينتمي لعائلة معينة وينتمي لمنطقة معينة أو لقبيلة معينة أو لعرق معين، كما يمكن للقاضي أن يكون له تعاطف مع جهة سياسية معينة بالرغم من أن المشرع يمنع عليه كل نشاط سياسي وكل موقف سياسي ( الفصل 13 من النظام الأساسي لرجال القضاء ). فلا يكفي القاضي الابتعاد عن سلطة المال، بل عليه أن يتحدى تنازع المصلحة الشخصية أو العائلية أو العرقية أو القبلية أو السياسية ليبرهن للجميع على أنه فعلا محايدا مستقلا وقورا.
رابعا – استقلال القضاة عند اداء مهامهم
لا أحد يجادل في الدور الذي يقوم به القضاة في المجتمع، وجسامة المسؤولية الملقاة على عاتقهم. وإذا كان القاضي بشر مثلنا فاننا ننتظر منه نحن جميعا أن يكون فوق البشر رغم وضعيته الفردية عند أدائه لمهامه وقلة الإمكانات وتراكم الملفات ورغم عدم استقلاله عن باقي السلط وخصوصا عن السلطة التنفيذية. غير أن الاستقلال الفعلي للقاضي رهين بضميره و بحياده و بنزاهته، ففض النزاعات بكل أمانة وموضوعية دون التحيز لفائدة أحد الخصوم يقتضي من القاضي أن يكون محايدا ونزيها. ومن تم وجبت دراسة الوضعية الفردية للقضاة و حصانتهم قبل دراسة بعض الصفات المطلوبة في القاضي.
أ-الوضعية الفردية للقضاة وحصانتهم : يعين القضاة في المغرب من طرف الملك باقتراح من المجلس الأعلى للقضاء طبقا للفصل 33 والفصل 84 من الدستور
وتجدر الملاحظة هنا إلى أن المعهد العالي للقضاء ورغم أنه مؤسسة عمومية فإن هيمنة الجهاز التنفيذي، أي وزارة العدل، عليه سواء من حيث الولوج أو من حيث التأطير أو من حيث البرامج أو من حيث امتحان نهاية التدريب يحد شيئا ما من استقلاله، كما يمكن القول بأنه لا دخل للمجلس الأعلى للقضاء – الذي يمثل بواسطة وزير العدل وكاتب المجلس – في المعهد العالي للقضاء. ومن تم فإن القاضي يشعر دائما بشعور التبعية لهذه الوزارة ويصعب عليه أن يحس بالتجرد نحوها رغم ان الدستور يضمن استقلال القضاء عن السلطتين التشريعية والتنفيذية.
وإذا كان تعيين قضاة الحكم يتم من قبل الملك بناء على اقتراح من المجلس الأعلى للقضاء فان الأمر على عكس ذلك بخصوص قضاة النيابة العامة وقضاة التحقيق. واذا كان وزير العدل يشرف على السياسة الجنائية طبقا للمادة 51 من قانون المسطرة الجنائية فٍان المادة 38 من قانون المسطرة الجنائية تلخص وضعية قضاة النيابة العامة الذين يخضعون” للتعليمات التي يتلقونها”. اما قضاة التحقيق فٍانهم كذلك لا يتوفرون على أدنى استقلالية من خلال النصوص الحالية. فتعيينهم واعفاؤهم من مهامهم يتم بقرار لوزير العدل بدل المجلس الاعلى للقضاء طبقا للمادة 51 ق.م.ج. بل ان رئيس المحكمة وبناء على طلب النيابة العامة بٍامكانه اصدار قرار نظامي بتعيين قاض للتحقيق من بين قضاة او مستشاري المحكمة في حالة الاستعجال والظروف المنصوص عليها بالمادة 53 ق.م.ج. واكثر من هذا وذاك فٍان النيابة العامة هي التي تعين من يحقق في كل قضية اذا تعدد قضاة التحقيق طبقا للمادة 90 من نفس القانون. وان دل هذا على شىء فانما يدل على عدم استقلال قضاة النيابة العامة وقضاة التحقيق على هيمنة وزير العدل وهو ما يضر بالعدالة ككل.
وبالرجوع الى قضاء الحكم، فإن استقلال القضاة رهين بتحصين القاضي من النقل والعزل دون الكلام عن تحصينه ماديا. ومن تم فإنه لا يجوز إبعاد القاضي من منصبه سواء بطريقة الفصل أو الإحالة على التقاعد أو الوقف عن العمل أو النقل إلى وظيفة أخرى إلا في الأحوال وبالكيفية المنصوص عليها بالقانون. وينص الفصل 83 من الدستور على ما يلي: “لا يعزل قضاة الاحكام ولا ينقلون إلا بمقتضي القانون”. وتأكيدا على الحصانة فإن الفصل 69 من النظام الأساسي لرجال القضاء ينص على عدم إمكانية ترقية القضاة المنتخبين بالمجلس الأعلى للقضاء من درجة لأخرى و لا نقلهم و لا انتدابهم مدة انتخابهم.
وينص الفصل 33 من النظام الأساسي لرجال القضاء على ما يلي: “يمكن لقضاة الأحكام أن يعينوا في مناصب جديدة بطلب منهم أو نتيجة ترقية أو إحداث محكمة أو حذفها” و يمكن القول بأن النقل إذا كان موضوعيا مجردا مبني على الفصل 33 هذا لا يطرح مشاكل كثيرة باعتبار أنه يتم بظهير باقتراح من المجلس الأعلى للقضاء. أما ما يسمى بالانتداب القضائي المنصوص عليه بالفصل 57 من النظام الأساسي لرجال القضاء، فإن المشرع أدخله في اختصاصات وزير العدل تفاديا لتعطيل المرفق العمومي أثناء عدم انعقاد دورات المجلس الأعلى للقضاء، ويتم الانتداب لمدة ثلاثة أشهر في السنة يمكن تجديدها بموافقة القاضي المعني بالامر. إلا أن الانتداب القضائي يستغل أحيانا كإجراء تأديبي لا يمث بصلة للمصلحة العامة الشىء الذي يجعل جل القضاة تحت التهديد و تحت رحمة وزير العدل.
ولا تقتصر حصانة القاضي على النقل، بل تمتد إلى العزل وهو أخطر من النقل لأنه يضع حدا لمهام القاضي، لذا فإن الدستور نص في الفصل 85 على أن قضاة الأحكام لا يعزلون ولا ينقلون إلا بمقتضى القانون. إلا أن لوزير العدل وطبقا للفصل 62 من النظام الأساسي لرجال القضاء الصلاحية في ايقاف القاضي حالا إذا ارتكب خطأ خطيرا. وكان على المشرع أن يحدد طبيعة “الخطأ الخطير” لا أن يتركه عبارة فضفاضة يصعب حصرها. حقيقة أن الأمر لن يطرح صعوبة إذا تعلق بجريمة لا لبس فيها إلا أن ترك تقدير الامر للسلطة التنفيذية يمس باستقلال القضاء لأنه ولو قضى المجلس الأعلى للقضاء ببراءته وأعاده لمنصبه فإن قراره لن يعيد لهذا القاضي كرامته.
وفي نفس السياق، وبخصوص ترقية القضاة، فإن الدستور المغربي نص في الفصل 87 منه على أن المجلس الأعلى للقضاء يسهر على تطبيق الضمانات الممنوحة للقضاة فيما يرجع لترقيتهم وتأديبهم. إلا أنه وباستقراء الفصول 23، 24 و 25 من النظام الأساسي لرجال القضاء وكذا مرسوم 8 أبريل 1975 المحدد لترتيب درجات ورتب الترقي والأرقام الاستدلالية و الفصل 7 من مرسوم 23 ديسمبر 1975 المتعلق بتحديد شروط كيفية تنقيط القضاة وترقيتهم يظهر الدور المحوري مرة ثانية لوزير العدل باعتبار هذا الأخير هو المكلف بإعداد لائحة الأهلية للترقي ولا يمكن ترقية أي قاض إلى الدرجة الأعلى في حدود المناصب الشاغرة إن لم يكن مسجلا في لائحة الأهلية التي يعدها وزير العدل. و يعتبر تدخل وزير العدل في إعداد اللائحة المذكورة ضربة أخرى لاستقلال القضاء. ولا بد هنا من الإشارة كذلك لمسطرة التنقيط التي يسهر عليها رئيس المحكمة ويبقى التنقيط سريا لا يحق للقاضي الاطلاع عليه. والتنقيط من قبل رئيس المحكمة يجعل القاضي تابعا لرئيس المحكمة يوجهه كيفما شاء ويعطيه التعليمات التي يشاء ويفقده استقلاله وتجرده وحياده. وتعتمد الترقية كذلك على عدد الملفات التي بت فيها القاضي خلال السنة دون التعمق فيما بذله من مجهود في مضمون هذه الأحكام حيث أصبح الصراع والمنافسة يقتصران على العدد (الهائل غالبا من أحكام عدم القبول ) حتى إنني اقترحت في ندوة من الندوات أن تزال اللام عن وزارة العدل لتصبح التسمية “وزارة العد”.
لا بد من الإشارة إلى مقتضيات الفصل 61 من النظام الأساسي لرجال القضاء الذي يعطي لوزير العدل كأحد أعضاء السلطة التنفيذية الحق في إخبار المجلس الأعلى للقضاء بالأفعال المنسوبة للقاضي أي أن وزير العدل هو الذي يعرض – أو لا يعرض – على هذا المجلس جميع الخروقات المتعلقة بالقضاة وهو أمر غير طبيعي وغير سليم بالمرة. كما أن وزير العدل هو الذي يتلقى عادة شكايات المتقاضين وشكايات المحامين حيث يأمر (أو لا يأمر ) بإجراء تفتيش حول مضمون الشكاية. وباعتبار أن المفتشية تابعة لوزارة العدل كجهاز تنفيذي، فإنه لا يمكن الكلام بعد عن استقلال القضاء عن السلطة التنفيذية.
وأمام تدخل اختصاصات وزير العدل كأحد أعضاء السلطة التنفيذية في الوضعية الفردية للقضاة وفي كل من يسبح في المحيط القضائي من موظفين و أعوان ومفتشين وبنايات وموارد مختلفة وغيرها،.
ب- من صفات القاضي: ينص الفصل 13 من النظام الأساسي للقضاة على ما يلي :”يحافظ القضاة في جميع الأحوال على صفات الوقار والكرامة التي تتطلبها مهامهم”. إلا أن هذه الصفات غير كافية لوحدها بالنسبة للقاضي، إذ يفترض في القاضي صفات أخرى متعددة نقتصر منها على الإشارة إلى ثلاثة صفات أساسية وهي الحياد والنزاهة وحسن الخلق.
أ-الحيـاد?-: والحياد يعني أن تكون للقاضي مناعة خلقية تبعده عن الإغراءات والمال والجنس وغيرها، وتصونه من الانحراف والزلل. كما على القاضي أن يبتعد عن الانتماءات السياسية تفاديا لتأثير الروابط الحزبية عن الأدلة الموضوعية.. وقد أكد هذا المنع النظام الأساسي لرجال القضاء في المادة 13 التي تنص على أنه “يمنع على الهيئة القضائية كل نشاط سياسي وكذا كل موقف يكتسي صبغة سياسية”. وقد سبق القول بأن الضرورة تقتضي كذلك أن يكون وزير العدل بعيدا عن السياسة باعتباره يتقلد مهمة عالية بالمجلس الأعلى للقضاء – وأمام المهام التي خوله المشرع إياها للتدخل في القضاة – وباعتبار أن القاضي بشر من شأن ضعفه محاباة الجهة السياسية التابع لها وزيره.
ب– النزاهـة?: النزاهة تعني الإبتعاد عن الإغراءات كيفما كان نوعها سواء كانت طمعا في مال أو في ترقية أو في منصب من المناصب أو إرضاء لجهة من الجهات أو خوفا أو رهبة من هذه الأخيرة. فعلى القاضي أن يكون نزيها مع ضميره قبل أن يكون نزيها مع المتقاضين الذين يضعون كل ثقتهم في حياده وفي نزاهته، وإذا فقدت هذه الثقة فإن جميع دواليب الدولة تؤدي الثمن وتؤديه غاليا لأن المشهد القضائي بالبلاد هو الذي يعكس صورة هذه الاخيرة التي تصبح قاتمة في حالة هدر العدالة لأن دولة الحق والقانون لا يجب أن تقتصر على سن ترسنة من القوانين كما هو الشأن بالنسبة للمغرب، بل هي سلسلة مرتبطة ما بين التشريع والتطبيق السليم للقوانين وتنفيذ الأحكام القضائية. والمصداقية في نزاهة القضاة أمر أساسي لا محيد عنه.
ث – حسن الخلق: قال أحمد شوقي “صلاح أمرك بالأخلاق مرجعه – فقوم النفس بالأخلاق تستقم”. وحسن الخلق يكمن في طلاقة الوجه وكثرة الحياء وانعدام الأذى وكثرة الصلاح وصدق للسان وقلة الكلام وكثرة العمل وقلة الزلل والفضول وبر الوصول وقمة الوقار وقوة الصبر وكثرة الشكر والرضا والحلم والرفق والعفة والشفقة وعدم التسرع وغياب الحقد والحسد.
د– الاجتهاد: فمن اجتهد وأصاب فله أجران ومن اجتهد ولم يصب فله أجر واحد. وبجانب البحث والتنقيب بخصوص القضايا المعروضة عليه فإننا نجد قضاة يقومون بمجهودات محمودة سواء في مجال التدريس أو في مجال الكتابة. إلا أن الملاحظ هو أن القضاة مكبلي الأيدي سواء تعلق الأمر بالتدريس أو بالتأليف والنشر. و يتوقف السماح بالتدريس و النشر مع الإشارة إلى صفة القاضي على إذن كتابي لوزير العدل – دائما هذه السلطة التنفيذية ! – (الفصل 15 من النظام الأساسي لرجال القضاء). كما يعتبر الإذن قبل النشر مس خطير بحرية التعبير لا يشجع القاضي على الدراسة والابتكار والنشر.
استقلال القضاء وانعكاسه على دور الدفاع
لا يجادل أحد في كون القضاء هو ركن من أركان الدولة إذا انهار انهارت معه هذه الأخيرة بالتبعية: فالقضاء هو الساهر على فرض احترام القانون من طرف الجميع و دون تمييز بين الأشخاص سواء من حيث العنصر أو اللون أو الجنس أو اللغة أو الدين أو الرأي السياسي أو غيره من الآراء أو المنشأ الوطني والاجتماعي أو الأصل العرقي أو الملكية أو المولد أو الحالة الإقتصادية أو أي وضع آخر. والقضاء هو حامي الأفراد والجماعات من التعسف والشطط والظلم وهو الذي يحد من التجاوزات ويوفر ما استقر عليه الجميع أنه عدل وهو الذي يوفر المناخ السليم للنمو الإقتصادي والحافز على تشجيع الإستثمار. وأن المساواة أمام القانون و افتراض البراءة والحق في محاكمة عادلة و علنية أمام محكمة مستقلة و نزيهة، هي من بين المبادىء التي لا مناص منها لتعزيز و احترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية.
ويتبوأ القضاء منزلة كبيرة في الدولة نظرا لما يقوم به من وظيفة من شأنها بت الأمن ومحاربة الفوضى في المجتمع. إلا أن القضاء لا يمكنه أن يحقق المكانة الجديرة به إن هو لم يحض بثقة المواطنين عامة وبثقة المتقاضين خاصة وأن ثقة هؤلاء وأولئك لن تتحقق إلا من خلال برهنة القضاة أنفسهم على تجردهم و نزاهتهم و استقامتهم و استقلالهم عن أي تدخل أو تأثير. ومن تم وجبت دراسة استقلال سلطة القضاء عن باقي السلط واستقلال القضاة كأفراد يمثلون السلطة القضائية عند قيامهم بمهام وظائفهم ومدى تأثير هذا الإستقلال أو انعدامه على دور الدفاع والمحاكمة العادلة. وسأقتصر في هذه الدراسة على قضاء الحكم نظرا لأن الكل يعرف انعدام استقلال القضاء الواقف وقضاء التحقيق الذي سأكتفي بخصوصهما ببعض الاشارات لاغير.
أولا- استقلال القضاء عن السلطتين التشريعية و التنفيذية:
بالرجوع مرة ثانية إلى الفصل 82 من الدستور نجده ينص على أن “القضاء مستقل عن السلطة التشريعية و عن السلطة التنفيذية”. و من هذا المنطلق ومن منطلق دراسات فقهية متعددة يمكن القول بأن المغرب لا يعتبر القضاء سلطة بل وظيفة. إلا أن ديباجة الدستور تنص على أن المملكة المغربية تتعهد بالتزام ما تقتضيه مواثيق المنظمات الدولية من مبادىء وحقوق وواجبات. والمغرب عضو في منظمة الأمم المتحدة الذي اعتمد مؤتمره السابع لمنع الجريمة والمجرمين على توصية تنص على أن “الدولة تكفل استقلال السلطة القضائية و ينص عليه دستورالبلد و قوانينه. ومن واجب جميع المؤسسات الحكومية وغيرها من المؤسسات احترام ومراعاة استقلال السلطة القضائية”.
وباعتبار أن الدستور المغربي لا يتكلم سوى عن السلطة التشريعية و السلطة التنفيذية فسنتناول بالدرس هذه السلط قبل التطرق للسلط الأخرى التي لا تقل خطورة على القضاء.
أ-استقلال القضاء عن السلطة التشريعية: تسهر السلطة التشريعية على وضع القوانين العامة المجردة دون نظر إلى حالة معينة ولا إلى شخص بذاته، والنظام الديموقراطي يقتضي فصل هذه السلطة التي تسن القوانين عن السلطة القضائية التي تطبق القوانين.
استقلال القضاء، كسلطة أو كوظيفة، عن السلطة التشريعية تبرره حماية المتقاضين أنفسهم إذ لا يتصور في العصر الحديث أن يقوم القاضي الذي يفصل في المنازعات على سن قوانين تساير ميوله و نزواته حسب نوع القضايا أو حسب نوع المتقاضين.
كما أن استقلال القضاء يقتضي أن يمنع على السلطة التشريعية أن تفصل في منازعة تدخل في اختصاص القضاء أو أن تنزع عن الجهات القضائية جزء من اختصاصاتها لتمنحها لجهات غير قضائية لتنظر فيها بصورة مستقلة.كما يتعين على السلطة التشريعية تفادي خلق ما يعرف بالقضاء الإستثنائي لتتحرر السلطة التنفيذية من سلطة القضاء واستقلاله. فالقضاء الإستثنائي يرتبط ويتأثر بطريقة مباشرة أو غير مباشرة بالسلطة التنفيذية التي تجد فيه مجالا خصبا لتنفيذ سياستها. وهذا الإرتباط يبدد استقلال القضاء الذي يشكل الدعامة الأساسية لإقرار العدل. ويشكل القضاء الاستثنائي خطرا على مهنة المحاماة، إذ يقتصر دور المحامي على أداء شكلي إذ تأتي الأحكام جاهزة من السلطة التنفيذية، ويقتصر دور القضاة على النطق بها.
ومن جهة أخرى فإنه لا يجوز للسلطة التشريعية عند استعمالها حق ترتيب الجهات القضائية وتحديد اختصاصاتها أن تسلب حق التقاضي على شخص أو أشخاص معينين. كما لا يجوز لها إلغاء الأحكام القضائية أو تعطيل أو وقف تتفيذها.
وإذا كان لا يحق للقضاة التدخل في العمل التشريعي بصفة عامة فإنه بإمكانهم تفسير القوانين بخصوص الحالات المعروضة عليهم إلا فيما يتعلق بدستورية القوانين التي يمنع النظر فيها لمحاكم الموضوع وتبقى من اختصاصات الغرفة الدستورية.
ب-استقلال القضاء عن السلطة التنفيذية: فبعض رجالات هذه السلطة وما لهم من إمكانات ومن قوة النفوذ يميلون إلى الاستئثار والتسلط حتى في المنازعات التي تكون السلطة التنفيذية طرفا فيها. تفيد تعنث السلطة التنفيذية في تنفيذ احكام السلطة القضائية مما يفقد المصداقية في الأحكام، ومن تم في القضاء.
فاستقلال القضاء عن السلطة التنفيذية لا يقتضي من هذه الاخيرة عدم التدخل في أعمال القضاء فحسب ولكن يقتضي منها السهر على توفير جميع الموارد والوسائل المادية الضرورية للجهاز القضائي للقيام بمهامه.
لا مكانة لمجتمع بدون قضاء ولا مكانة لاستقرار بدون قضاء ولا مكانة لاقتصاد بدون قضاء.
أن القضاء لا يجب أن يخضع للضغوط السياسية فإنه يمكن التساؤل عن إمكانية تقليد مهام وزير العدل الذي يشغل في نفس الوقت منصب نائب رئيس المجلس الأعلى للقضاء لرجل منتمي سياسيا ؟.
والملاحظ كذلك هو ما يواجه القاضي يوميا من تراكم الملفات التي يتعين عليه دراستها والبت فيها وتحرير الأحكام بشأنها لا تسمح له بإصدار أحكام في المستوى المطلوب منه. ثم إن العدد المهول من الملفات المعروضة في الجلسات الجنحية أو الجنائية لا تبيح للمحكمة ولا للمحامين القيام بدورهم في ظروف مريحة تسمح للقضاة باستقصاء الحقيقة. ان القضاء رهين بالتريث وعدم التسرع في تجهيز الملفات وإصدار أحكام بشأنها خصوصا تلك التي تتعلق بحرية الأشخاص. ويمكن للمهتم أن يلاحظ عن قرب المهازل التي تقع سواء على مستوى التحقيق أو على مستوى محاكم الجنايات نظرا للضغط الذي تمر فيه المحاكمات وعدم إعطاء الوقت الكافي للمحامين للقيام بمهامهم في ظروف تسودها روح المسؤولية.
نص المشرع المغربي في الفصل 239 من القانون الجنائي على معاقبة “كل عامل أو باشا أو قائد أو أي حاكم إداري آخر فصل في مسألة من اختصاص المحاكم وذلك في غير الحالات التي ينص عليها القانون”. ويجب الإلحاح على ضرورة أن تعمل السلطة التنفيذية على احترام أحكام و قرارات المحاكم والحرص على تنفيذها ولو بالقوة إن اقتضى الأمر ذلك، إذ لا معنى لبناء المحاكم و تجهيزها وتكوين القضاة وتجنيد عدد هائل من الفاعلين في المحيط القضائي إذا كانت الأحكام ستبقى حبرا على ورق بدون تنفيذ. وعلى الإدارة نفسها أن تعطي المثال على تنفيذ الأحكام والقرارات الصادرة ضدها من قبل المحاكم الإدارية أو غيرها إذ لا يعقل أن تبقى الأحكام بدون تنفيذ و ” لا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له ” . وكما يمنع على السلطة التنفيذية التدخل في القضاء، فإنه يمنع على هذا الأخير التدخل في شؤون السلطة التنفيذية أو عرقلة أعمالها أو إلغاء قراراتها. إلا أنه يبقى دائما أن القضاء الإداري يتمتع بحق مراقبة شرعية الأعمال الإدارية و بحق إلغاء القرارات المتسمة بتجاوز السلطة أو بالشطط في استعمال السلطة، و للقضاء الإداري سلطة الحكم على الإدارة بتعويض المصابين بالأضرار التي تسببت لهم فيها حسب القواعد المعمول بها في المجال. .
ثانيا – استقلال القضاء عن الرأي العام وعن سلطة الاعلام:
تعتبر وسائل الإعلام المرآة الحقيقية التي تعكس وضعية المجتمع من النواحي السياسية والاجتماعية والاقتصادية و الثقافية. ولا أحد ينكر الدور الهام الذي يلعبه الإعلام: المرئي أو المسموع أو المكتوب (…)، في تنوير الرأي العام وبث الوعي وتدعيم الثقافة وتكريس الحياة الديمقراطية وفضح التجاوزات وغرس المواطنة و نقل الرأي و الرأي الآخر.
وحيث إنه أمام جسامة مسؤولية الصحفيين في التصدي لخرق الحقوق فقد أدى منهم الكثير الثمن غاليا نظرا لما تعرضوا له من مضايقات و اختطاف واغتيالات واعتقالات ومحاكمات إذ أصبح الإعلام يعتبر سلطة رابعة إلى جانب السلط الثلاثة المتحدث عنها سابقا لما له من تأثير مباشر على الجماهير.
وللإعلام دور خطير كذلك في تشكيل وجدان المواطنين وفي إعطاء الأخبار أهميتها أو تهميشها أو تمييع أهدافها، وإذا كان الكل قد نادى و منذ فجر الاستقلال بحذف الرقابة الرسمية على وسائل الإعلام فإن على رجل الإعلام أن يوظف الرقابة الذاتية لكي لا يزرع البلبلة داخل المجتمع أو يؤثر سلبا على القضاء: فالإعلام بإمكانه أن يكون حاجزا ضد إقبار بعض الملفات وهنا يلعب الإعلام دورا إيجابيا في تعزيز المساءلة والمحاسبة إلا أن الإعلام بإمكانه أن يؤثر ويوجه القضاء بعناوين ومضامين مقالات أو تصريحات أو صور تعبر عن انفعال أو هوى أو شهوة الرأي العام، كما أن وسائل الإعلام تكون أحيانا وسيلة في يد السلطة السياسية أو الاقتصادية تستعملها للتأثيرعلى القضاء لمعاقبة اعدائها و التستر على أصدقائها، ولا يقتصر الأمر هنا على ما يعرف بالإعلام الحر أو الحزبي أو الاقتصادي بل يشمل كذلك وسائل الإعلام الرسمية.
فالإعلام على عكس ما كان عليه بالأمس أصبح اليوم كالغذاء فيه الملوث الذي يسمم الأفكار ويلوث الدماغ يجعل من القاضي بطلا لبضعة أسابيع أو لبضعة شهور وتدفعه إلى ارتكاب الخطأ القضائي. والمعروف أن هم بعض الصحفيين وبغض النظر عن الخلفيات السيئة للغاية إذ يقتصر دائما على السبق في نشر الخبر، ومرارا تنشر أخبار لم يتم تعميق البحث بشأنها و يبقى المواطن فريسة للمولوعين بالفضائح وينسى الجميع بأن البراءة هي الأصل وتستمر الضغوطات من قبل الجميع إلى أن يتم الاعتقال ثم ربما الإدانة؟،
فعلى القاضي إذن أن يكون حذرا من بعض وسائل الإعلام التي تتخصص في إطلاق النار على كل من يتحرك امامها وان يقتصر حين يخلو للمداولة على عناصر الملف وعلى ما راج امامه في الجلسة و ألا يكترث برأي الجمهور وبانتقادات الآخرين ليعبر من تم على أنه فعلا قاض مستقل عن ضغوطات الرأي العام ووسائل الاعلام.
ويمكن القول بأن المشرع واع بخطورة التأثير على القضاة، بحيث أنه نص في الفصل 266 من مجموعة القانون الجنائي على معاقبة الأقوال والأفعال أو الكتابات العلنية التي يقصد منها التأثير على قرارات رجال القضاء قبل صدور الحكم غير القابل للطعن في قضية ما. إلا أن الأبحاث التي أجريناها لم تسمح لنا بالحصول على اجتهادات في هذا المضمار.
ويمكن القول بأن تأثير الرأي العام ووسائل الإعلام يكون له وقع سلبي كذلك على مهنة الدفاع، ودور الدفاع إذ تتم المحاكمة في جو من الضغوط النفسية إذا كان القاضي منحازا إلى ما تورده وسائل الإعلام، ويمكن القول بأن المحامي يفطن منذ أول جلسة لتأثير أو عدم تأثير الرأي العام ووسائل الإعلام على القاضي مما يجعل المحاكمة تمر في جو هادئ، أو في جو من التوثر، الشيء الذي لا يسمح للدفاع بالقيام بمهامه بحرية واستقلال.
واستقلال القاضي عن الرأي العام ووسائل الإعلام واقتصاره على الأدلة و المناقشة التي تمت أمامه من الشروط الضرورية للمحاكمة العادلة، ومن الشروط الضرورية كذلك للدفاع للقيام بمهامه دون ضغط الشارع لأن المحامي المدافع عن الشخص الذي أشارت إليه الأصابع عادة ما ينظر إليه كالشريك، ومن تم تكون مهمته صعبة للغاية، إلا إذا وجد نفسه أمام قضاء مستقل يكفل لموكله جميع حقوق الدفاع.
ثالثا – استقلال القضاء عن سلطة المال وعن سلطة النفس الأمارة بالسوء
قال صلى الله عليه وسلم “كاد الفقر أن يكون كفرا”. وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه “لو كان الفقر رجلا لقتلته “، ومن تم وجبت محاربة العوز المادي داخل الجهاز القضائي برمته وتمكينه من جميع الإمكانات التي تصون كرامة أفراده وكرامة ذويهم،
والرشوة في القضاء هي ما يعطى لمن لا يستحق على حساب من يستحق وذلك بغية كسب قضايا ما كان لها ان تكسب دون مقابل والراشي لا يدفع رشوته إلا لأنه يعلم أن هناك حق لغيره يرغب هو في هدره. والرشوة آفة اجتماعية تنخر الجسد الاجتماعي لأنها إعانة على الظلم والعدوان وهدر لكرامة الإنسان لما يترتب عنها من ضياع للحقوق و فساد للمجتمع. وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم “لعن الله الراشي والمرتشي والرائش” أي الوسيط بينهما . والرشوة داخل الجهاز القضائي دلالة على فساد القضاء وموت الضمير وترك الأخلاق والتنافس على تقديم الرشوة بدل التنافس على تقديم البينة، و الرشوة تربك القانون و تضعف المدافعين عنه بل هي تقتل القانون المتعارف عليه وتبرز قانون المال وتزيل كل وقار على القضاء.
حقيقة أن المشرع واع بمرض المجتمع هذا وقننه بالنسبة للقضاة حيث يمنع على هؤلاء أن يباشروا إلى جانب مهامهم أي نشاط بأجر أو بدونه باستثناء التعليم إذا رخص لهم بذلك وزير العدل، وإذا كان زوج القاضي يمارس نشاطا خاصا يدر عليه نفعا صرح القاضي بذلك لوزير العدل ليتخذ أو يأمر باتخاذ التدابير اللازمة للحفاظ على استقلال القضاء وكرامته ( الفصل 15 من النظام الاساسي لرجال القضاء )، كما يلزم المشرع القاضي بالتصريح كتابة بما يملكه من عقار و قيم منقولة وكذا ما يملكه منها زوجه وأبناؤه القاصرون ويقدم تصريحا إضافيا فورا كلما حدث تغيير في وضعيته المالية (الفصل 16)، ويتتبع وزير العدل ثروة القضاة وأعضاء عائلتهم ويمكنه بعد موافقة المجلس الأعلى للقضاء أن يقدر ثروة القضاة بواسطة التفتيش (الفصل 17). إلا أن الملاحظ هو أن هذه النصوص بقيت منذ أزيد من ثلاثة عقود حبرا على ورق، إذ الكل يعرف الثروات الهائلة لكثير من القضاة لم يكونوا يملكون شيئا عند التحاقهم بمهامهم، وأصبحوا بين عشية وضحاها من أصحاب الفيلات والضيعات والعمارات والسيارات الفخمة، ناهيك عن مستواهم المعيشي اليومي المرتفع جدا، ودون أن تقوم الوزارة المكلفة بالتدقيق في مصدر هذه الثروات.
حقا إن المشرع أدخل تعديلا جوهريا على القانون الجنائي عن طريق تشديد العقوبات الخاصة بجرائم الاختلاس والغدر واستغلال النفوذ والارتشاء، وذلك بالتشديد في العقوبات السالبة للحرية والرفع من العقوبات المالية كما تمت إضافة عقوبة المصادرة لفائدة الدولة كعقوبة إضافية، وتمديدها لتشمل الأموال والقيم المنقولة والممتلكات والعائدات المتحصلة من ارتكاب الجريمة أيا كانت هذه الأموال، وأيا كان المستفيد منها. كما أضيف لمجموعة القانون الجنائي فصل جديد يتمتع بموجبه الراشي المبلغ عن الجريمة للسلطات القضائية بعذر معف من العقاب، وذلك لتشجيع التبليغ عن جريمة الرشوة. إلا أن الإرادة السياسية لا زالت تتردد في هذا المجال وربما أنها تنتظر الضوء الأخضر من جهة معينة لتنطلق في دق الطبول كعادتها.
ومن جهة أخرى، فإن الاستقلال فضيلة لا تمنح فقط بالقوانين بل يجب استحقاقها على أرض الواقع. والقاضي بطبيعة الحال فرد من أفراد المجتمع ينتمي لعائلة معينة وينتمي لمنطقة معينة أو لقبيلة معينة أو لعرق معين، كما يمكن للقاضي أن يكون له تعاطف مع جهة سياسية معينة بالرغم من أن المشرع يمنع عليه كل نشاط سياسي وكل موقف سياسي ( الفصل 13 من النظام الأساسي لرجال القضاء ). فلا يكفي القاضي الابتعاد عن سلطة المال، بل عليه أن يتحدى تنازع المصلحة الشخصية أو العائلية أو العرقية أو القبلية أو السياسية ليبرهن للجميع على أنه فعلا محايدا مستقلا وقورا.
رابعا – استقلال القضاة عند اداء مهامهم
لا أحد يجادل في الدور الذي يقوم به القضاة في المجتمع، وجسامة المسؤولية الملقاة على عاتقهم. وإذا كان القاضي بشر مثلنا فاننا ننتظر منه نحن جميعا أن يكون فوق البشر رغم وضعيته الفردية عند أدائه لمهامه وقلة الإمكانات وتراكم الملفات ورغم عدم استقلاله عن باقي السلط وخصوصا عن السلطة التنفيذية. غير أن الاستقلال الفعلي للقاضي رهين بضميره و بحياده و بنزاهته، ففض النزاعات بكل أمانة وموضوعية دون التحيز لفائدة أحد الخصوم يقتضي من القاضي أن يكون محايدا ونزيها. ومن تم وجبت دراسة الوضعية الفردية للقضاة و حصانتهم قبل دراسة بعض الصفات المطلوبة في القاضي.
أ-الوضعية الفردية للقضاة وحصانتهم : يعين القضاة في المغرب من طرف الملك باقتراح من المجلس الأعلى للقضاء طبقا للفصل 33 والفصل 84 من الدستور
وتجدر الملاحظة هنا إلى أن المعهد العالي للقضاء ورغم أنه مؤسسة عمومية فإن هيمنة الجهاز التنفيذي، أي وزارة العدل، عليه سواء من حيث الولوج أو من حيث التأطير أو من حيث البرامج أو من حيث امتحان نهاية التدريب يحد شيئا ما من استقلاله، كما يمكن القول بأنه لا دخل للمجلس الأعلى للقضاء – الذي يمثل بواسطة وزير العدل وكاتب المجلس – في المعهد العالي للقضاء. ومن تم فإن القاضي يشعر دائما بشعور التبعية لهذه الوزارة ويصعب عليه أن يحس بالتجرد نحوها رغم ان الدستور يضمن استقلال القضاء عن السلطتين التشريعية والتنفيذية.
وإذا كان تعيين قضاة الحكم يتم من قبل الملك بناء على اقتراح من المجلس الأعلى للقضاء فان الأمر على عكس ذلك بخصوص قضاة النيابة العامة وقضاة التحقيق. واذا كان وزير العدل يشرف على السياسة الجنائية طبقا للمادة 51 من قانون المسطرة الجنائية فٍان المادة 38 من قانون المسطرة الجنائية تلخص وضعية قضاة النيابة العامة الذين يخضعون” للتعليمات التي يتلقونها”. اما قضاة التحقيق فٍانهم كذلك لا يتوفرون على أدنى استقلالية من خلال النصوص الحالية. فتعيينهم واعفاؤهم من مهامهم يتم بقرار لوزير العدل بدل المجلس الاعلى للقضاء طبقا للمادة 51 ق.م.ج. بل ان رئيس المحكمة وبناء على طلب النيابة العامة بٍامكانه اصدار قرار نظامي بتعيين قاض للتحقيق من بين قضاة او مستشاري المحكمة في حالة الاستعجال والظروف المنصوص عليها بالمادة 53 ق.م.ج. واكثر من هذا وذاك فٍان النيابة العامة هي التي تعين من يحقق في كل قضية اذا تعدد قضاة التحقيق طبقا للمادة 90 من نفس القانون. وان دل هذا على شىء فانما يدل على عدم استقلال قضاة النيابة العامة وقضاة التحقيق على هيمنة وزير العدل وهو ما يضر بالعدالة ككل.
وبالرجوع الى قضاء الحكم، فإن استقلال القضاة رهين بتحصين القاضي من النقل والعزل دون الكلام عن تحصينه ماديا. ومن تم فإنه لا يجوز إبعاد القاضي من منصبه سواء بطريقة الفصل أو الإحالة على التقاعد أو الوقف عن العمل أو النقل إلى وظيفة أخرى إلا في الأحوال وبالكيفية المنصوص عليها بالقانون. وينص الفصل 83 من الدستور على ما يلي: “لا يعزل قضاة الاحكام ولا ينقلون إلا بمقتضي القانون”. وتأكيدا على الحصانة فإن الفصل 69 من النظام الأساسي لرجال القضاء ينص على عدم إمكانية ترقية القضاة المنتخبين بالمجلس الأعلى للقضاء من درجة لأخرى و لا نقلهم و لا انتدابهم مدة انتخابهم.
وينص الفصل 33 من النظام الأساسي لرجال القضاء على ما يلي: “يمكن لقضاة الأحكام أن يعينوا في مناصب جديدة بطلب منهم أو نتيجة ترقية أو إحداث محكمة أو حذفها” و يمكن القول بأن النقل إذا كان موضوعيا مجردا مبني على الفصل 33 هذا لا يطرح مشاكل كثيرة باعتبار أنه يتم بظهير باقتراح من المجلس الأعلى للقضاء. أما ما يسمى بالانتداب القضائي المنصوص عليه بالفصل 57 من النظام الأساسي لرجال القضاء، فإن المشرع أدخله في اختصاصات وزير العدل تفاديا لتعطيل المرفق العمومي أثناء عدم انعقاد دورات المجلس الأعلى للقضاء، ويتم الانتداب لمدة ثلاثة أشهر في السنة يمكن تجديدها بموافقة القاضي المعني بالامر. إلا أن الانتداب القضائي يستغل أحيانا كإجراء تأديبي لا يمث بصلة للمصلحة العامة الشىء الذي يجعل جل القضاة تحت التهديد و تحت رحمة وزير العدل.
ولا تقتصر حصانة القاضي على النقل، بل تمتد إلى العزل وهو أخطر من النقل لأنه يضع حدا لمهام القاضي، لذا فإن الدستور نص في الفصل 85 على أن قضاة الأحكام لا يعزلون ولا ينقلون إلا بمقتضى القانون. إلا أن لوزير العدل وطبقا للفصل 62 من النظام الأساسي لرجال القضاء الصلاحية في ايقاف القاضي حالا إذا ارتكب خطأ خطيرا. وكان على المشرع أن يحدد طبيعة “الخطأ الخطير” لا أن يتركه عبارة فضفاضة يصعب حصرها. حقيقة أن الأمر لن يطرح صعوبة إذا تعلق بجريمة لا لبس فيها إلا أن ترك تقدير الامر للسلطة التنفيذية يمس باستقلال القضاء لأنه ولو قضى المجلس الأعلى للقضاء ببراءته وأعاده لمنصبه فإن قراره لن يعيد لهذا القاضي كرامته.
وفي نفس السياق، وبخصوص ترقية القضاة، فإن الدستور المغربي نص في الفصل 87 منه على أن المجلس الأعلى للقضاء يسهر على تطبيق الضمانات الممنوحة للقضاة فيما يرجع لترقيتهم وتأديبهم. إلا أنه وباستقراء الفصول 23، 24 و 25 من النظام الأساسي لرجال القضاء وكذا مرسوم 8 أبريل 1975 المحدد لترتيب درجات ورتب الترقي والأرقام الاستدلالية و الفصل 7 من مرسوم 23 ديسمبر 1975 المتعلق بتحديد شروط كيفية تنقيط القضاة وترقيتهم يظهر الدور المحوري مرة ثانية لوزير العدل باعتبار هذا الأخير هو المكلف بإعداد لائحة الأهلية للترقي ولا يمكن ترقية أي قاض إلى الدرجة الأعلى في حدود المناصب الشاغرة إن لم يكن مسجلا في لائحة الأهلية التي يعدها وزير العدل. و يعتبر تدخل وزير العدل في إعداد اللائحة المذكورة ضربة أخرى لاستقلال القضاء. ولا بد هنا من الإشارة كذلك لمسطرة التنقيط التي يسهر عليها رئيس المحكمة ويبقى التنقيط سريا لا يحق للقاضي الاطلاع عليه. والتنقيط من قبل رئيس المحكمة يجعل القاضي تابعا لرئيس المحكمة يوجهه كيفما شاء ويعطيه التعليمات التي يشاء ويفقده استقلاله وتجرده وحياده. وتعتمد الترقية كذلك على عدد الملفات التي بت فيها القاضي خلال السنة دون التعمق فيما بذله من مجهود في مضمون هذه الأحكام حيث أصبح الصراع والمنافسة يقتصران على العدد (الهائل غالبا من أحكام عدم القبول ) حتى إنني اقترحت في ندوة من الندوات أن تزال اللام عن وزارة العدل لتصبح التسمية “وزارة العد”.
لا بد من الإشارة إلى مقتضيات الفصل 61 من النظام الأساسي لرجال القضاء الذي يعطي لوزير العدل كأحد أعضاء السلطة التنفيذية الحق في إخبار المجلس الأعلى للقضاء بالأفعال المنسوبة للقاضي أي أن وزير العدل هو الذي يعرض – أو لا يعرض – على هذا المجلس جميع الخروقات المتعلقة بالقضاة وهو أمر غير طبيعي وغير سليم بالمرة. كما أن وزير العدل هو الذي يتلقى عادة شكايات المتقاضين وشكايات المحامين حيث يأمر (أو لا يأمر ) بإجراء تفتيش حول مضمون الشكاية. وباعتبار أن المفتشية تابعة لوزارة العدل كجهاز تنفيذي، فإنه لا يمكن الكلام بعد عن استقلال القضاء عن السلطة التنفيذية.
وأمام تدخل اختصاصات وزير العدل كأحد أعضاء السلطة التنفيذية في الوضعية الفردية للقضاة وفي كل من يسبح في المحيط القضائي من موظفين و أعوان ومفتشين وبنايات وموارد مختلفة وغيرها،.
ب- من صفات القاضي: ينص الفصل 13 من النظام الأساسي للقضاة على ما يلي :”يحافظ القضاة في جميع الأحوال على صفات الوقار والكرامة التي تتطلبها مهامهم”. إلا أن هذه الصفات غير كافية لوحدها بالنسبة للقاضي، إذ يفترض في القاضي صفات أخرى متعددة نقتصر منها على الإشارة إلى ثلاثة صفات أساسية وهي الحياد والنزاهة وحسن الخلق.
أ-الحيـاد?-: والحياد يعني أن تكون للقاضي مناعة خلقية تبعده عن الإغراءات والمال والجنس وغيرها، وتصونه من الانحراف والزلل. كما على القاضي أن يبتعد عن الانتماءات السياسية تفاديا لتأثير الروابط الحزبية عن الأدلة الموضوعية.. وقد أكد هذا المنع النظام الأساسي لرجال القضاء في المادة 13 التي تنص على أنه “يمنع على الهيئة القضائية كل نشاط سياسي وكذا كل موقف يكتسي صبغة سياسية”. وقد سبق القول بأن الضرورة تقتضي كذلك أن يكون وزير العدل بعيدا عن السياسة باعتباره يتقلد مهمة عالية بالمجلس الأعلى للقضاء – وأمام المهام التي خوله المشرع إياها للتدخل في القضاة – وباعتبار أن القاضي بشر من شأن ضعفه محاباة الجهة السياسية التابع لها وزيره.
ب– النزاهـة?: النزاهة تعني الإبتعاد عن الإغراءات كيفما كان نوعها سواء كانت طمعا في مال أو في ترقية أو في منصب من المناصب أو إرضاء لجهة من الجهات أو خوفا أو رهبة من هذه الأخيرة. فعلى القاضي أن يكون نزيها مع ضميره قبل أن يكون نزيها مع المتقاضين الذين يضعون كل ثقتهم في حياده وفي نزاهته، وإذا فقدت هذه الثقة فإن جميع دواليب الدولة تؤدي الثمن وتؤديه غاليا لأن المشهد القضائي بالبلاد هو الذي يعكس صورة هذه الاخيرة التي تصبح قاتمة في حالة هدر العدالة لأن دولة الحق والقانون لا يجب أن تقتصر على سن ترسنة من القوانين كما هو الشأن بالنسبة للمغرب، بل هي سلسلة مرتبطة ما بين التشريع والتطبيق السليم للقوانين وتنفيذ الأحكام القضائية. والمصداقية في نزاهة القضاة أمر أساسي لا محيد عنه.
ث – حسن الخلق: قال أحمد شوقي “صلاح أمرك بالأخلاق مرجعه – فقوم النفس بالأخلاق تستقم”. وحسن الخلق يكمن في طلاقة الوجه وكثرة الحياء وانعدام الأذى وكثرة الصلاح وصدق للسان وقلة الكلام وكثرة العمل وقلة الزلل والفضول وبر الوصول وقمة الوقار وقوة الصبر وكثرة الشكر والرضا والحلم والرفق والعفة والشفقة وعدم التسرع وغياب الحقد والحسد.
د– الاجتهاد: فمن اجتهد وأصاب فله أجران ومن اجتهد ولم يصب فله أجر واحد. وبجانب البحث والتنقيب بخصوص القضايا المعروضة عليه فإننا نجد قضاة يقومون بمجهودات محمودة سواء في مجال التدريس أو في مجال الكتابة. إلا أن الملاحظ هو أن القضاة مكبلي الأيدي سواء تعلق الأمر بالتدريس أو بالتأليف والنشر. و يتوقف السماح بالتدريس و النشر مع الإشارة إلى صفة القاضي على إذن كتابي لوزير العدل – دائما هذه السلطة التنفيذية ! – (الفصل 15 من النظام الأساسي لرجال القضاء). كما يعتبر الإذن قبل النشر مس خطير بحرية التعبير لا يشجع القاضي على الدراسة والابتكار والنشر.