الأمن الروحي في المغرب.. تجانس مذهبي أضيف إليه الترشيد
دبي – أبرزت العديد من المحطات والوقائع أن تعاطي المغرب مع القضايا المتصلة بالأمن الروحي تطبعه الصرامة والحسم؛ ففي عام 2009 بادر المغرب إلى قطع علاقاته الدبلوماسية مع إيران، كرد على التقارير التي كانت تتحدث عن توجه إيران إلى نشر الفكر الشيعي بالمغرب عبر بعثتها الدبلوماسية، بما يشكل تهديدا لمقومات المغرب الدينية والروحية، ولمذهبه السني المالكي، وهو ما اعتبر في حينه بمثابة رسالة واضحة لبعض نشطاء التيار الشيعي بالمغرب، وحتى داخل الجاليات المغربية الموجودة في أوروبا.
يعتقد البعض أن المسّ بالعقيدة الأشعرية وبالمذهب السني المالكي، إنما يبدو للسلطات بالمغرب ليس فقط مساسا بالهوية الدينية، المرتكزة عليهما معا، بل ولربما أيضا وفي سياق ذلك مساسا بالمجهودات الحثيثة التي ما فتئ العاهل المغربي الملك محمد السادس يقوم بها، بغية توفير الأمن الروحي للمغاربة، والحفاظ على الهوية الدينية الإسلامية المغربية.
ويرصد الباحث ادريس لكريني في دراسته المعنونة بـ”التنوع المجتمعي العربي: الحالة المغربية” مجموعة من العمليات الإرهابية التي هزت المجتمع المغربي في العقدين الأخيرين بعد سنوات طويلة كانت فيها البلاد في مأمن من مخاطر الإرهاب، بدءاً بأحداث 16 مايو لسنة 2003، التي استهدفت مجموعة من المنشآت التي يرتادها السياح بالعاصمة الاقتصادية الدار البيضاء، مرورا بتفجير شخص لنفسه داخل ناد “للإنترنت” يوم 11 مارس 2007، وتفجير عدد من الأشخاص لأنفسهم يومي 9 و10 أبريل 2007 بالمدينة نفسها، والهجوم الانتحاري الفاشل الذي استهدف حافلة للسياح بمدينة مكناس بتاريخ 13 أغسطس 2007، وأحداث “أركانة” بمراكش عام 2011، وصولا إلى تفكيك عدد من الشبكات والخلايا التي اتهمت بالضلوع في أنشطة إرهابية.
ومن منطلق ضبط هذا الحقل بواسطة آليات جديدة، وقطع الطريق على كل توظيف منحرف للدين، تم تفعيل مجموعة من التشريعات والتدابير والإجراءات التي تعزز الحضور الديني الرسمي كتعزيز إمكانات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية وإعادة هيكلتها، وتفعيل دور العلماء، وتعزيز مراقبة المساجد، وتطوير وتحديث تدريس التربية الإسلامية في مختلف المؤسسات التعليمية، وتطوير تناول الإعلام الرسمي للشؤون الدينية، وغير ذلك من التدابير.
ويضيف الباحث لكريني، في دراسته التي تضمنها كتاب “أزمات المسلمين الكبرى” الصادر عن مركز المسبار للدراسات والبحوث في دبي، أن الدولة المغربية قد فتحت، ومن جانب آخر، المجال لعدد من الأحزاب ذات المرجعية الإسلامية للمشاركة في الحياة السياسية بشكل رسمي، كحزب العدالة والتنمية الذي فاز بمقاعد مهمة في انتخابات 2011 التشريعية التي مكنته من قيادة الحكومة.
لا تخلو السياسة الدينية المغربية من تداعيات على مستوى الإسهام في مكافحة الإرهاب ومحاصرته، وسحب هذا المجال الحيوي من كل القوى المتطرفة التي يمكن أن تعبث به، وكذلك على مستوى تدبير التنوع المجتمعي بشكل بناء، وتحصين المجتمع ضد أي صراعات دينية أو طائفية خطيرة.
الوحدة المذهبية في المغرب لا تنم عن أي تطرف أو انغلاق، بقدر ما تسمح بتحصين الذات وحماية الهوية الوطنية
جاء في خطاب الملك محمد السادس ليوم 30 أبريل من عام 2004 بمدينة الدار البيضاء، بشأن إعادة هيكلة الحقل الديني بما يدعم تعزيز الوحدة في إطار التنوع، ويسهم في ترسيخ الاعتدال والتسامح وصدّ التطرف والإرهاب، أنه “إذا كان من طبيعة تدبير الشؤون الدنيوية العامة الاختلاف، الذي يعدّ من مظاهر الديمقراطية، والتعددية في الآراء لتحقيق الصالح العام، فإن الشأن الديني، على خلاف ذلك، يستوجب التشبث بالمرجعية التاريخية الواحدة للمذهب المالكي السني، الذي أجمعت عليه الأمة، والذي نحن مؤتمنون على صيانته، معتبرين التزامنا دينيا بوحدته المذهبية، كالتزامنا دستوريا بالوحدة الترابية الوطنية للأمة، حريصين على الاجتهاد الصائب، لمواكبة مستجدات العصر”.
المذهب المالكي لعب، وعلى امتداد عدة قرون من تاريخ المغرب، دورا مهما في تعزيز الأمن الروحي للمغاربة، وتمتين وحدتهم والمحافظة على هويتهم في إطار مجتمع يطبعه التنوع. وتشير الممارسة إلى أن هذه الوحدة المذهبية لا تنم عن أي تطرف أو انغلاق، بقدر ما تسمح بتحصين الذات وحماية الهويّة الوطنية.
وتبرز الوقائع التاريخية أن هذا المذهب الذي أثبت قدرة كبيرة على التطور، والتكيف مع مختلف الأحداث والمحطات التاريخية للمغرب، كان بمثابة صمام أمان يتوافق وطبيعة المجتمع المغربي؛ فقد سمح بتجاوز مختلف الإشكالات السياسية والاجتماعية التي واجهت المغاربة.
شهد مفهوم الأمن تطورا واتساعا كبيرين، نتيجة للتحولات والمتغيرات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي شهدتها المجتمعات. فتحقّق الأمن لم يعد مبنيا اليوم على عنصر وحيد، على عكس مرحلة الحرب الباردة التي تميزت بتوترها على مختلف الواجهات، وارتبط المصطلح بتلك الحالة التي تغيب فيها الصراعات والمواجهات العسكرية، بما يعنيه ذلك من تركيز على خطر وحيد يحكمه الهاجس العسكري، أصبح مفهوم الأمن منفتحا على مجموعة من العوامل في علاقتها بالتهديدات والمخاطر البيئية والصحية والقانونية والمعلوماتية والروحية.
الأمن الروحي هو حجر الزاوية في أمن الوطن الذي يجمع بين “أمن الدولة “و“أمن الشعب”، ثم أن العلاقة بين الأمن الروحي والسيادة المذهبية، هي علاقة وثيقة. فإذا كان المقصود بالأمن الروحي هو الحفاظ على العقيدة الدينية، مما قد يعترضها من أخطار تأتي من الداخل أو من الخارج، وصون الهوية الدينية من الآفات والتشوهات والتحريفات، فإن السيادة المذهبية هي حماية الاختيارات الدينية، على المستويين معاً: الاعتقادي والتشريعي، أي العبادات والمعاملات، والتي تشكل مصدراً للوقاية ضد الأخطار التي تهدد الوحدة الوطنية.
إن نجاعة وحيوية الأمن الروحي المتصل بالاعتقادات الروحية داخل المجتمع لا تتأتّى من مقاربة أحادية الجانب لحزب أو تيار أو توجّه معين بقدر ما تهمّ مجمل المواطنين في علاقة ذلك بهويتهم وشخصيتهم، ولقد راكم المغرب تجربة واعدة على مستوى مكافحة التطرف والإرهاب؛ كان من صميمها رسم استراتيجيا تضمن الأمن الروحي للمغاربة، تحول معها المغرب إلى “قبلة” لدول عربية وأفريقية وأوروبية، بهدف استلهام الاستراتيجيا المغربية في الهيكلة والتأطير والبناء المذهبي.
وهذا هو النموذج المعتدل الذي استطاع المغرب تصديره إلى عدد من الدول الأفريقية، وحرص عدد من دول المنطقة على الاستفادة منه في شكل تكوين أئمة بالمغرب، كسبيل لمكافحة الإرهاب والتطرف، وتأمين المحيط الإقليمي للمغرب والإسهام في ترسيخ قيم السلام والتسامح.
ويخلص الباحث ادريس لكريني، في دراسته إلى أن “إمارة المؤمنين” وفق النموذج المغربي المعتدل، تظل منسجمة مع ذاتها التاريخية، باعتبارها تمثل دائما ذلك الإسلام المنفتح المؤسس على الاختيار الثلاثي الذي حافظ على تماسك المغرب منذ قرون: المذهب المالكي الرابط بين النص والسياق، والأشعرية الرابطة بين النص والعقل، والتصوف الجنيدي الرابط بين النص والأشواق الروحانية.
alarab.co.uk