الإستقرار السياسي … معاييره ومؤشراته ..


الإستقرار السياسي … معاييره ومؤشراته ..

يشار إلى مدى الاستقرار الداخلي في دولة معينة بأنه: مدى تماسك فئات المجتمع داخل هذه الدولة، وترابطهم فيما بينهم من جهة، وفيما بينهم وبين السلطة من جهة أخرى، وبين مؤسسات هذه السلطة من جهة ثالثة، ترابطاً عضوياً يكفل وقوف هذه الدولة ومجتمعها أمام التقلبات والمتغيرات المختلفة كوحدة متماسكة. وفي حال توفر ذلك في دولة معينة فإننا نقول عن هذه الدولة أنها تتمتع بوحدة وطنية. والوحدة الوطنية – كما هو معروف – هي أساس وجود واستمرار الدولة، فالدول التي تفقد أو تتعرض وحدتها الوطنية للاهتزاز تزول أو تهزم.
إن الاستقرار السياسي في الدول الحديثة، لا يمكن تحقيقه بالقمع والغطرسة وتجاهل حاجات الناس وتطلعاتهم المشروعة. فالترسانة العسكرية ليست هي وسيلة جلب الاستقرار وحفظه. كما أن زهو القوة وخيلاءها وأوهامها، ليس هو الذي ينجز مفهوم الاستقرار.. فالعديد من الدول تمتلك ترسانة عسكرية ضخمة وأجهزة أمنية متطورة، وكل مظاهر القوة المادية إلا أن استقرارها السياسي هش وضعيف، ومع أي ضغط أو تحول، نجد التداعي والاهتراء والضعف. وفي المقابل نجد دولاً لا تمتلك أسلحة عسكرية ضخمة، ولا مؤسسة أمنية متطورة، إلا أن استقرارها صلب ومتين، وقادرة بإمكاناتها الذاتية من مواجهة الأزمات ومقاومة المؤامرات، وحفظ استقرارها وأمنها العام (1).
المبحث الأول: الاستقرار السياسي
الاستقرار السياسي هو مدى قدرة النظام السياسي على استثمار الظروف وقدرة التعامل بنجاح مع الأزمات لاستيعاب الصراعات التي تدور داخل المجتمع، مع عدم استعمال العنف فيه، لأن العنف هو أحد أهم ظواهر عدم الاستقرار السياسي. والاستقرار السياسي أمر تسعى إليه الأمم والشعوب؛ لأنه يُوفِّر لها الجو والبيئة الضروريين للأمن والتنمية والازدهار، ومفهوم الاستقرار السياسي مفهوم نسبي تختلف بعض مفرداته حسب المجتمعات (2).
فالاستقرار السياسي هو حالة الثبات وعدم التغيير فيما يعرف بالمؤسسات السياسية الرسمية وغير الرسمية التي ترسم قوانين ودساتير وأعراف تحكم وتضبط نسق وتوازن المؤسسة للوصول إلى الأهداف المنشودة وكذلك ضبط العلاقة مع بقية النسق السياسي الذي إذا حدث أي خلل في جزء منه تتأثر بقية الأجزاء الأخرى وكون قد خرجت من حالتها التي رسمتها لنفسها وهي الاستقرار إلى حالة عدم الاستقرار.
أولاً: مفهوم الاستقرار السياسي
ورد في القاموس: استقر، يستقر، استقراراً، استقر الرجل بالمكان ثبت فيه وتمكن، فالاستقرار يعني ثبات الشيء في مكانه إذا لم يتغير أو يتم تغييره، والثبات لا يعني عدم الحركة فالحركة هي حركة ثابتة.
وقد اصطلح على الاستقرار في العلوم الاجتماعية على ثبات الوضع الاجتماعي الذي لا يطرأ عليه تغيير فجائي أو جذري، بمعنى عدم حدوث تغيير مقصود من قبل المجتمع نفسه أو من خارجه يقوم بتغيير النسق وتوازنه مما يفقده حاله فيخرج على حالة الثبات أو الاستقرار الذي كان عليه إلى حالة عدم الاستقرار (3).
إن تمتع الدولة باستقرار داخلي، يؤدي إلى منحها فرصاً أكثر لخدمة مصالحها الاستراتيجية، في علاقتها الخارجية، وبالتالي لعب دور استراتيجي أقوى، وتمتعها بثقل أكبر ضمن الحسابات الإقليمية. وعلى الرغم من وجود تعريف نظري عام واضح ومحدد للاستقرار الداخلي، وهو الذي تم التقديم به، إلا أن المعايير العملية لدراسة الاستقرار الداخلي لدولة ما، والمقاييس التي يمكن اعتمادها للحكم على الواقع الداخلي لهذه الدولة بأنه واقع مستقر أو لا، هي في الحقيقة معايير ومقاييس عديدة ومتشبعة ومتداخلة، تشير إلى مدى استقرار كل من المجتمع ومؤسسات الدولة واستقرار العلاقة بينهما، وهي معايير (4):
– اجتماعية: تتمثل بمستوى التعاون والاندماج الفعلي بين مختلف فئات المجتمع ضمن مؤسسات المجتمع المدني والمجتمعات السياسية والثقافية والاقتصادية.
– سياسية: كحس تمثيلي مؤسسات لمختلف فئات المجتمع، وإيجابية العلاقة بين هذه المؤسسات.
ويتأثر واقع الاستقرار في المجتمع بعوامل ثقافية وسياسية واقتصادية واجتماعية متداخلة ترتبط بالبنى الفكرية السائدة في المجتمع الثقافي وتطوير الوضع الاقتصادي، واستقرار النظام السياسي في الدولة، ومدى احترام مبدأ الفصل بين السلطات الثلاث، والتداول السلمي للسلطة، ودور المؤسسة العسكرية في الحياة السياسية: هل هي متدخلة فيها أم لا؟ وكيف يحدث هذا التدخل: هل هو على شكل ضغوط، أم يتخذ شكل انقلابات ؟ وما هي ديمومة هذا التدخل :مؤقت أم طويل المدى؟.
الاستقرار السياسي هو: قدرة الحكومة أو النخبة الحاكمة على البقاء في الحكم المدة المحددة لها في الدستور. أما الديمقراطية فهي التداول السلمي للسلطة بين نخب سياسية متصارعة، تحتكم للإرادة العامة في بقائها وخروجها من السلطة.
ثانياً: مؤشرات الاستقرار السياسي
يخطئ من يعمم أن هناك علاقة وثيقة بين الديموقراطية والاستقرار السياسي. بل من الممكن الجدل أن الديمقراطية أحد مسببات عدم الاستقرار السياسي، حتى في المجتمعات العريقة ديمقراطياً.
وللاستقرار السياسي مجموعة من المؤشرات لا يختلف عليها الباحثون, ويمكن إجمالها كالتالي (5) :
1- نمط انتقال السلطة في الدولة:
المقصود بانتقال السلطة هنا تغيير شخص رئيس الدولة, وهي عملية تختلف طبقاً لنوع النظام السياسي والأساليب الدستورية المتبعة, فإذا تمت عملية الانتقال طبقاً لما هو متعارف عليه دستورياً فإن ذلك يعد مؤشراً حقيقياً لظاهرة الاستقرار السياسي, أما إذا تم عن طريق الانقلابات والتدخلات العسكرية فهذا مؤشر على عدم الاستقرار السياسي. وقد عانت الدول النامية من ظاهرة الانقلابات العسكرية, ففي الفترة من عام 1958 حتى عام 1977 رُصد (151) انقلاب أي بمعدل (8) انقلابات سنوياً.
إن التقلبات الوزارية الكثيرة وأعمال الشغب وتغيرات النظام نفسه عبر الإطاحة به لا يشكل عدم استقرار باعتبارها شيء من التعبير عن حرية الرأي، لأن تقلبات الحكومات الوزارية لا يعني تغيير في شخصيات الوزراء، أما أعمال الشغب فهي مسائل نسبية، وتغير النظام من شكل لأخر أو سقوطه، لا يعني أنه غير مستقر لأنه قد يبقى نظام ما في الحكم لمدة طويلة ويشرف على الانهيار، رغم أنه يتداعى بشكل بطئ، مثل الجمهورية الفرنسية الثالثة التي استمرت لمدة ( 70 ) سنة .
2- المؤسساتية.
كلما اقترب نظام الحكم في مجتمع ما إلى المؤسساتية، كان هذا مؤشراً للاستقرار السياسي، والعكس صحيح. المؤسساتية تعني: أن صناعة القرار السياسي في مجتمع ما تحكمه آليات مؤسساتية تأخذ بنظام الفصل بين السلطات، واحترام سلطة القانون والبعد عن شخصنة عملية صناعة القرار كلما اقترب ذلك النظام السياسي من حالة الاستقرار، حتى ولو لم يكن ديمقراطياً.
3- شرعية النظام السياسي:
شرعية النظام السياسي من الدعائم الأساسية للاستقرار السياسي, والاستقرار السياسي يعد بدوره من دلائل الشرعية السياسية. وهناك عدة اتجاهات في تعريف الشرعية السياسية: قانوني, سياسي, ديني, والذي يهمنا هو الاتجاه السياسي, الذي يعرف الشرعية السياسية “تبرير السلطة الحاكمة من منطق الإرادة الجماعية”. بمعنى أن النظام السياسي يكتسب شرعيته من خلال تحقيق مصالح الشعب وصيانة استقلال البلاد وحماية الحقوق…. وتظهر هذه الشرعية من خلال تقبل أفراد الشعب للنظام وخضوعهم له طواعية. فرفض المواطنين أو عدم تقبلهم طواعية، واختياراً لأنماط السلطة الموجودة في المجتمع من خلال الفكر الحر عن طريق المشاركة والإقناع سيؤدي إلى العنف (6) .
4- قوة النظام السياسي ومقدرته على حماية المجتمع وسيادة الدولة:
قوة النظام السياسي من المؤشرات الهامة لظاهرة الاستقرار السياسي, لأن النظام يتوجب عليه مسؤوليات – لا يمكن تحقيقها دون امتلاك عناصر القوة- كالدفاع عن البلد في حال تعرضه لاعتداء خارجي وكذلك حماية أمن المجتمع. وفي حال كان النظام السياسي ضعيفاً لا يستطيع صون سيادته وتحقيق أمنه الداخلي, فإن النتيجة الطبيعية التبعية للنظم القوية. فالنظام الذي لا يستطيع تجنب الانهيارات والتقلبات الفجائية التي قد تطيح به وببنيته الأساسية، سيفسح المجال أمام عدم استقرار سياسي وولادة نظام جديد على أسس جديدة، وإن النظام الذي لا يرضي تطلعات المواطنين سيؤدي إلى استمرار عدم الاستقرار السياسي على المدى الطويل أو القصير (7) .
ومن معايير الاستقرار السياسي ازدياد فرص الانفتاح السياسي والديمقراطية المقترنين بالاعتدال في المواقف والسلوكيات، واتخاذ مواقف أقل تشدداً وتوتراً من قبل الأطراف السياسية والمدنية.
وبهذا يظهر أن الاستقرار السياسي ليس وليد القوة العسكرية أو الأمنية، على أهميتها في ذلك، ولا يتأتَّى بالمزيد من الإجراءات الردعية أو الإكثار من الممنوعات والضغوطات، وإنما يتم ببناء حياة سياسية سليمة، ترفع مستوى الرضى الشعبي ومستوى الثقة في الحياة السياسية وفي مؤسسات الدولة والمجتمع، وتبث الأمن والطمأنينة وبالتالي الاستقرار. إن الكثير من الدول تملك ترسانة عسكرية كبيرة وأجهزة أمنية متطورة، والكثير من مظاهر القوة المادية، إلا أن استقرارها السياسي هش، سرعان ما يعاني التداعي والضعف مع أي ضغط أو تحول.
5- محدودية التغيير في مناصب القيادات السياسية:
المقصود بالقيادات السياسية في السلطة التنفيذية، فبقاء القادة السياسيين على رأس أي نظام سياسي لفترة طويلة مؤشر للاستقرار السياسي، ولكن يجب أن يقترن ذلك برضا الشعب. ويعد التغيير المتلاحق في المناصب القيادية أحد مؤشرات عدم الاستقرار السياسي (8) . فسقوط الحكومات بمعدلات كبيرة، وقصر مدة استمرارها بالحكم عن ثمانية أشهر كأدنى حد لحكومة مستقرة، والتقلبات في النظام بشكل كبير أي أقل من مدته القانونية المعترف بها دستورياً من خلال النص عليها في صلب الدستور، وتتراوح هذه المدة في معظم الدول بين أربعة إلى سبعة سنوات وعلى هذا فإن أي حكومة تقل مدتها عن الثمانية أشهر فهذا مؤشر عدم استقرارها.
6- الاستقرار البرلماني:
إن البرلمان هو الممثل للشعب أو الأفراد في كل الأنظمة على اختلاف أنماطها (رئاسي, برلماني, مختلط) ولا يجوز للسلطة التنفيذية أو رأس الدولة حل البرلمان, على اعتبار أن شرعية البرلمان تأخذ من الشعب أو الأفراد وفق عملية الانتخاب. ولكن في بعض الأحيان تظهر صور لعدم الاستقرار بالنسبة للبرلمان تتمثل في:
أ‌- استقالة أو إسقاط العضوية عن عضو أو أكثر من أعضاء البرلمان.
ب‌- حل البرلمان قبل استيفاء مدته القانونية.
إن هاتين الحالتين قد يكون السبب فيهما في كثير من الأحيان انسلاخ أو خروج فرد أو جماعة عن الحزب الحاكم أو المؤتلف، مما يسبب خلل في نسب تشكيل الحكومة والحكومة الائتلافية.
7- الديمقراطية وتدعيم المشاركة السياسية:
تعد المشاركة السياسية أحد مقاييس الحكم على النظام بالاستقرار السياسي من حيث تطبيق قواعد الديمقراطية في الحكم, وهي الحالة التي يتوافر للأفراد فيها القنوات الرسمية للتعبير عن آرائهم في القضايا الوطنية واختيار النواب والممثلين في المجالس النيابية والمحلية. بذلك تصبح المشاركة الشعبية وسيلة لتحقيق الاستقرار الداخلي وتدعيم شريعة السلطة السياسية.
8-غياب العنف واختفاء الحروب الأهلية والحركات الانفصالية والتمردات:
يرى البعض أن الإضرابات والمظاهرات ضد السلطة القائمة هي نوع من عدم الاستقرار السياسي، لكن يرى البعض الآخر أنها مجرد تعبير عن حيوية المجتمع بحيث تطفو على السطح التناقضات الموجودة فيه.
إن العنف السياسي هو التغير الرئيسي لعدم الاستقرار السياسي, أما اختفاء العنف السياسي فهو من المؤشرات الهامة على ظاهرة الاستقرار السياسي.
ويمكن تعريف العنف السياسي”الاستخدام الفعلي للقوة المادية لإلحاق الضرر والأذى بالآخرين, وذلك لتحقيق أهداف سياسية أو أهداف اقتصادية واجتماعية لها دلالات سياسية”.
والعنف قد يكون رسمي أو غير رسمي, أما الرسمي فهو الموجهة من النظام ضد المواطنين أو ضد جماعات أو تنظيمات أو عناصر معينة, أما غير الرسمي فهو الموجهة من المواطنين أو الجماعات ضد النظام وبعض رموزه. أما الحركات الانفصالية والتمردات والحروب الأهلية فتمثل أعلى صور عدم الاستقرار السياسي, وذلك لتضمنها اللجوء إلى العنف على نطاق واسع (9) .
9- الوحدة الوطنية واختفاء الولاءات التحتية (الأولية):
إن المجتمعات التي لا تعرف ظاهرة التعدد سواء على المستوى العرقي أو الديني أو اللغوي أو الطائفي غالباً ما تكون أقرب إلى الاستقرار السياسي من تلك التي تعرف التعددية.
العيب ليس في التعددية الاجتماعية وإنما في استراتيجيات النخب الحاكمة في التعامل مع هذه التعددية, وهنا نميز بين نوعين مختلفين: أحدهما يتعامل مع الأقلية من منطق الاستيعاب بالقوة, والثاني يتعامل مع الأقلية من منطق المساواة في الحقوق والواجبات.
إن النموذج الأول غالباً ما ينتج عنه بروز الولاءات غير الوطنية أو ما يدعى بالولاءات التحتية, وبالتالي مطالبة بالاستقلال أو حكم ذاتي… كما حدث في العراق والسودان أما النموذج الثاني فيؤدي إلى تمتين اللحمة الوطنية وإعلاء الهوية الوطنية على الهويات دون الوطنية.
10- نجاح السياسات الاقتصادية للنظام:
ينظر إلى الاستقرار الاقتصادي على أنه مؤشر عام من مؤشرات الاستقرار السياسي في كل المجتمعات, فعندما يكون النظام السياسي مستقراً, فإنه يوجه سياساته الاقتصادية نحو أهداف التنمية, وهذه السياسات التنموية التي ترفع مستوى المعيشة والرفاهية للأفراد, تخلت نوعاً من الطمأنينة والرضا الشعبي تجاه النظام السياسي.
11- مدى فاعلية وكفاءة النظام السياسي في الاستجابة لمتطلبات البيئتين الداخلية والخارجية:
عن طريق حسن استخدام موارده المتاحة لمواجهة الضغوط التي تأتيه من محيط تينك البيئتين. كلما كان النظام مرناً في استخدام موارده المتاحة سواء كانت كمية (تعليم، صحة، رعاية اجتماعية، خدمات بلدية…. إلخ) أو معيارية (حرية، عدالة، مساواة، مشاركة سياسية… إلخ) في التعامل من تلك الضغوط الداخلية والخارجية، كلما كان ذلك أدعى لاستقراره، حتى ولو لم يكن بالضرورة ديمقراطياً (10) .
12- قلة تدفق الهجرة الداخلية والخارجية:
إن أسباب الهجرة بشقيها الداخلي والخارجي يمكن إجماله بالوضع الأمني والاقتصادي, وكلا السببين بدورهما يؤشران إلى ظاهرة عدم استقرار سياسي, وكلما كانت معدلات الهجرة قليلة أو معتدلة دل ذلك على وجود الاستقرار السياسي. وقد تكون أحياناً العمالة الوافدة سبباً من أسباب عدم الاستقرار السياسي في الدول المضيفة.
فالاستقرار السياسي في جوهره ومضمونه، ليس وليد القوة العسكرية والأمنية، مع ضرورة ذلك في عملية الأمن والاستقرار، وإنما هو وليد تدابير سياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية، تجعل من كل قوى المجتمع وفئاته عيناً ساهرة على الأمن ورافداً أساسياً من روافد الاستقرار. وتخطئ الدول وترتكب حماقة تاريخية بحق نفسها وشعبها، حينما تتعامل مع مفهوم الاستقرار السياسي بوصفه المزيد من تكديس الأسلحة أو بناء الأجهزة الأمنية، فالاستقرار الحقيقي يتطلب خطوات سياسية حقيقية تعمق من خيار الثقة المتبادلة بين السلطة والمجتمع، وتشرك جميع الشرائح والفئات في عملية البناء والتسيير. ولذلك نجد أن الدول المتقدمة عسكرياً وأمنياً والمتخلفة سياسياً، هي التي يهتز فيها الاستقرار السياسي لأبسط الأسباب والعوامل، أما الدول التي تعيش حياة سياسية فعالة، وتشترك قوى المجتمع في الحقل العام وفق أسس ومبادئ واضحة، هي الدول المستقرة والمتماسكة والتي تتمكن من مواجهة كل مؤامرات الأعداء ومخططاتهم (11) .
المبحث الثاني: عدم الاستقرار السياسي
تعد ظاهرة عدم الاستقرار السياسي أكثر الظواهر السياسية شيوعاً في الدول النامية. والواقع أن مفهوم عدم الاستقرار السياسي أكثر المفاهيم السياسية غموضاً وتعقيداً. هذا المفهوم قد يضيقه البعض ليقتصر على عدم الاستقرار الحكومي، بمعنى التغيرات السريعة المتتابعة في عناصر الهيئة الحاكمة، وقد يوسع فيه البعض الآخر ليحتضن أيضاً عدم الاستقرار النظامي، بمعنى التحولات السريعة في الإطار النظامي للدولة من شـكل معين إلى نقيضه: من الملكية إلى الجمهورية، من الحكم المدني إلى الحكم العسكري. وقد يزداد المفهوم اتساعاً ليعانق الصور المختلفة للعنف السياسي من أعمال شغب ومظاهرات واضطرابات واغتيالات سياسية وحروب أهلية وحركات انفصالية.
إن عدم الاستقرار السياسي هو ظاهرة تتميز بها الأنظمة البرلمانية، التي لا يتمكن فيها الناخبون من إيصال أكثرية واضحة تنتمي إلى حزب أو تيار واحد إلى البرلمان، وهذا يمكن الأحزاب الصغيرة من التحكم في تشكيل الحكومات وفي إسقاطها نتيجة عدم التفاهم في تشكيل الحكومة، لكن مما يؤخذ على هذا التعريف عدم انطباقه على معظم دول العالم سواء كانت ديمقراطية أم ديكتاتورية، فعلى سبيل المثال، إن عدم الاستقرار السياسي في الأنظمة الرئاسية التي تتبعها العديد من دول العالم، كان أكبر بكثير من الدول ذات النظام السياسي البرلماني، بسبب عدد الانقلابات فيها، كما أن الدول التي تتبع نظام الحزب الواحد أو القائد أو المهيمن سواءاً كانت شيوعية أم فاشية أم غير ذلك، توجد فيها طاقات كامنة كبيرة جداً لإحداث عدم الاستقرار السياسي، فسقوط المعسكر الشيوعي عام 1989، أدى إلى تفككه وتفكك دوله إضافة إلى اندلاع حروب أهلية في معظمها (12) .
أولاً: مفهوم عدم الاستقرار السياسي
البعض يرى أن الاضطرابات والمظاهرات ضد السلطة القائمة هي نوع من عدم الاستقرار السياسي، لكن يرى البعض الآخر أنها مجرد تعبير عن حرية المجتمع بحيث تطفو على السطح التناقضات الموجودة فيه. ويرى الآخرون أن التقلبات الوزارية الكثيرة وأعمال الشغب وتغيرات النظام نفسه عبر الإطاحة به لا يشكل عدم استقرار باعتبارها شيء من التعبير عن حرية الرأي، لأن أعمال الشغب مسألة نسبية وتغيير النظام من شكل لآخر أو سقوطه لا يعني أنه غير مستقر لأنه قد يبقى نظام ما في الحكم لمدة طويلة ويشرف على الانهيار رغم أنه يتداعى بشكل بطئ مثل الجمهورية الفرنسية التي استمرت لمدة 70 سنة (13) .
وأهم المفاهيم التي قدمها الباحثين لتعريف عدم الاستقرار السياسي هو مفهوم قدمه عدي عبد الرحمن حسن والذي يرى فيه أن عدم الاستقرار هو عدم قدرة الدولة على إدارة الصراعات القائمة داخل المجتمع بشكل يستطيع من خلاله أن يحافظ عليها في دائرة تمكنه من السيطرة والتحكم فيها، ويصاحبه استخدام العنف السياسي من جهة وتناقض شرعيته وكفاءته من جهة أخرى، ومن هذا التعريف يدرك أنه يوجد بعض التناقض في المجتمع مع استطاعة السلطة القائمة التحكم فيه سيؤدي إلى الاستقرار، لكن إذا ما فشلت في التحكم فيه فسيقود ذلك إلى عدم استقرار سياسي وتناقص شرعية النظام بحيث يصبح أمر تغييره مقبولاً من قبل بضعة مؤثرات داخل المجتمع حتى وإن كانت هذه المؤثرات ليست سوى مؤثرات ناتجة عن إحدى الأقليات الموجودة في المجتمع.
ويقول صموئيل هنتنغتون إن عدم الاستقرار يساوي المطالب السياسية مقسومة على المؤسسات السياسية، أي أن عدم الاستقرار يزيد كلما زادت المطالب السياسية وضعفت قدرة المؤسسات السياسية على الاستجابة الفاعلة لها.
ثانياً: مؤشرات عدم الاستقرار السياسي
إن زيادة مؤشر العنف السياسي من أهم المؤشرات الدالة على عدم الاستقرار السياسي، وعندما تزداد هذه المؤشرات بشكل كبير فإن الدولة تسير نحو عدم الاستقرار السياسي. وتتوقف درجة العنف السياسي على عدة عوامل، أهمها (14) :
مجال العنف: أي درجة المشاركة في العنف السياسي داخل الدولة.
وحدة العنف: أي التلف والتخريب الناتج عن أعمال العنف.
استمرارية العنف: أي الزمن الذي تستغرقه عمليات العنف السياسي.
ويرى عبد الرحمن خليفة أن أهم مؤشرات الصراع الداخلي في الدولة والتي تساهم في عدم استقراره، هي (15) :
1- عدد الاغتيالات السياسية داخل الدولة.
2- عدد الإضرابات العامة.
3- وجود حرب عصابات.
4- عدد الأزمات الحكومية داخل البناء السياسي.
5- عدد عمليات التطهير التي تتم في أجهزة الدولة.
6- عدد أعمال الشغب داخل نظام الدولة.
7- عدد الثورات التي نشبت داخل الدولة.
8- عدد المظاهرات المعادية للحكومة.
9- عدد القتلى الذين لقوا مصرعهم في كل صور العنف المحلي.
أما مؤشرات الصراع الخارجي والتي تساهم في عدم استقراره فهي:
1- عدد المظاهرات ضد السياسة الخارجية للدولة.
2- عدد مرات الاحتجاج ضد السياسة الخارجية للدولة.
3- عدد مرات العقوبات السلبية التي فرضت على الدولة.
4- عدد الدول التي قطعت علاقاتها الدبلوماسية معها.
5- عدد المرات التي تم فيها استدعاء سفراء الدولة أو طرد السفراء الأجانب منها.
6- عدد المرات التي صدرت فيها تهديدات ضد الدولة.
7- عدد المرات التي ألتجئ فيها للعمل العسكري كنوع من الحل للمعضلات التي تقابل الدولة خارجياً.
8- عدد الحروب التي اشتركت فيها الدولة.
9- عدد المرات التي تم فيها تحريك القوات العسكرية دون أن تصل إلى حد نشوب الحرب.
10- عدد الاتهامات التي وجهت الدولة.
11- عدد القتلى في الصراعات الخارجية.
– مكونات الاستقرار السياسي في العالمين العربي والإسلامي:
إن مكونات الاستقرار السياسي في العالمين العربي والإسلامي، هي (16) :
1 – وجود مصالحة حقيقية بين مشروع السلطة ومشروع المجتمع: بحيث أن كل طرف يقوم بدوره الطبيعي في عملية البناء والعمران. فالاستقرار السياسي لا يمكن أن يتحقق على الصعيد الواقعي بعيداً عن انسجام الخيارات السياسية والثقافية بين السلطة والمجتمع.. والدول التي تعيش حالة حقيقية من الوئام والانسجام على صعيد الرؤية والخيارات بين السلطة والمجتمع، هي الدول المستقرة والقادرة على مواجهة كل التحديات والمخاطر.. لذلك فإننا نرى أهمية أن تخطو الدول العربية والإسلامية والمهددة في أمنها واستقرارها، إلى بلورة مشروع وطني متكامل للمصالحة بين السلطة والمجتمع.. فالاستقرار السياسي الحقيقي يكمن في مستوى الانسجام السياسي والاستراتيجي بين السلطة والمجتمع.
2- وجود الثقة المتبادلة والرضا المتبادل بين السلطة والمجتمع: فالأنظمة التي لا تثق بشعبها أو الشعب الذي لا يثق بحكومته، فإنه مهدد بشكل حقيقي في أمنه واستقراره.. لأن الأمن الحقيقي والاستقرار العميق هو الذي يستند إلى حقيقة راسخة وهي توفر الثقة العميقة والمتبادلة بين السلطة والمجتمع. هذه الثقة هي التي تمنح القوة لكلا الطرفين. فقوة المجتمع في انسجامه السياسي مع نظامه السياسي، وقوة النظام السياسي في ثقة المجتمع به وبخياراته السياسية والاستراتيجية.. لذلك فإن الاستقرار السياسي يتطلب وبشكل دائم العمل على غرس بذور الثقة بين السلطة والمجتمع ..
ولا ريب أن خلق الثقة المتبادلة بين الطرفين، يحتاج إلى مبادرات حقيقية وانفتاح متواصل ومستديم بين مختلف القوى، حتى يتوفر المناخ المواتي للثقة والرضا المتبادل بين السلطة والمجتمع.
3 – توفر الحريات السياسية والثقافية: فلو تأملنا في العديد من التجارب السياسية على هذا الصعيد، لاكتشفنا وبشكل لا لبس فيه أن الدول التي تتوفر فيها حريات وتمنح شعبها بعض الحقوق، هي الدول المستقرة والتي تتمكن من مواجهة التحديات والمخاطر.. أما الدول التي تمارس السياسة بعقلية الاستئصال والتوحش وتمنع شعبها من بعض حقوقه ومكتسباته السياسية فإنها دول مهددة في استقرارها وأمنها.. لأنه لا يمكن لأي شعب أن يدافع عن دولة هو أول ضحاياها.. لهذا فإن الاستقرار السياسي هو وليد طبيعي لتوفر الحريات في الداخل العربي والإسلامي.
وأخيراً، قد تكون الأنظمة الديمقراطية أقرب لأن تكون مؤسساتها السياسية أكثر كفاءة وفاعلية في القدرة على استخدام موارد النظام السياسي في ترسيخ حالة الاستقرار السياسي في مجتمع ما، لكن الديمقراطية وحدها ليست كفيلة بذلك، بدليل عدم استقرار الكثير من الأنظمة البرلمانية في دول الغرب، وسوء حالة عدم الاستقرار السياسي في كثير من مجتمعات العالم الثالث التي لجأت إلى العنف لتحقيق التحول الديمقراطي. فكل التحديات والمخاطر لا يمكن مواجهتها، إلا باستقرار سياسي عميق، ولا استقرار حقيقي إلا بديمقراطية وتنمية مستدامة.. لذلك فإن الخطوة الأولى والاستراتيجية في مشروع مواجهة تحديات المرحلة ومخاطرها المتعددة هو بناء أمننا واستقرارنا على أسس ومبادئ حقيقية تزيدنا منعة وصلابة وقدرة على المواجهة.
المراجع:
محمد محفوظ، في معنى الاستقرار السياسي، صحيفة الرياض، العدد 13819، 25 أبريل 2006.
شاهر اسماعيل الشاهر، الدولة في التحليل السياسي المقارن، دمشق: الهيئة العامة السورية للكتاب، عام 2015.
بن الحاج يحيى، الجيلاني(1997) وآخرون، القاموس الألفبائي، بيروت: الأهلية للنشر، ص320.
ZOUAVE P., 1998-La Resistance Stratejique,op.cit.,p8-14.
حاج سليمان، رائد نايف (2009)، الاستقرار السياسي ومؤشراته، الحوار المتمدن، 21/3/2009.
الصفار, فاضل(2008)، الحرية السياسية دراسة مقارنة في المعالم والضمانات, دار العلوم للتحقيق والطباعة والنشر، ط1, بيروت، ص244.
الجابري، محمد عابد(1994)، فكر ابن خلدون: العصبية والدولة، ط6، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية.
محمود، مصطفى عبد الجواد(1996)، الأحزاب السياسية في النظام السياسي الدستوري الحديث والنظام الإسلامي، ط1، دار الفكر العربي، القاهرة، ص88.
مسعد، نيفين عبد المنعم، الأقليات والاستقرار السياسي في الوطن العربي، القاهرة، مكتبة النهضة المصرية.
شاهر اسماعيل الشاهر، الدولة في التحليل السياسي المقارن، دمشق: الهيئة العامة السورية للكتاب، عام 2015.
محمد محفوظ، في معنى الاستقرار السياسي، صحيفة الرياض، العدد 13819، 25 أبريل 2006.
شاهر اسماعيل الشاهر، الدولة في التحليل السياسي المقارن، دمشق: الهيئة العامة السورية للكتاب، عام 2015.
الصمد، رياض، المؤسسات الاجتماعية والسياسية في الدولة الحديثة، النموذج اللبناني، المؤسسة الجامعية، لبنان، ص18.
حنفي، عبد العظيم محمود(2013)، ظاهرة عدم الاستقرار السياسي وأبعادها، الأهرام المسائي، 10/9/2013.
خليفة، عبد الرحمن، أيديولوجية الصراع السياسي، القاهرة، دار المعرفة الجامعية، ص211 – 212 .
محمد محفوظ، في معنى الاستقرار السياسي، صحيفة الرياض، العدد 13819، 25 أبريل 2006.
إعداد :د. شاهر اسماعيل الشاهر كلية العلوم السياسية – جامعة دمشق – مدير المركز الوطني للبحوث والدراسات – عضو اتحاد الكتاب العرب

https://alhoriyatmaroc.yoo7.com/t2741-topic


اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

x

‎قد يُعجبك أيضاً

 أمين البقالي: ماهية الحريات العامة 

ماهية الحريات العامة   أمين البقالي طالب باحث في العلوم القانونية بكلية الحقوق اكدال مقدمـــــة: موضوع ...