الإكراه البدني في الديون التعاقدية بين الحذف والإبقاء
الحديث عن حذف الإكراه البدني في العلاقات التعاقدية موضوع يتطلب الحذر والدراسة الدقيقة المتأنية لأنه يجمع بين الجوانب الحقوقية والقانونية والعمل القضائي، فضلا عن ضرورة استيعاب وجهات نظر الفقه المتعددة، والإطلاع على منشور وزير العدل، والمادة 11 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، وإلى لايمكن فصلها عن إطارها العام، إضافة إلى مدى صحة ربطها بالتوجه الجديد لحذف الإكراه البدني كوسيلة من وسائل تنفيذ الأحكام جبريا، إلى غير ذلك من التساؤلات التي تفرض نفسها بإلحاح.
وأمام إلحاحكم على الإدلاء بوجهة نظر، فإني سأستعرض بعض رؤوس الأقلام في الموضوع وما علق في ذهني على أساس الرجوع إلى التفاصيل وبعض الإشكاليات المطروحة.
بادئ ذي بدء أشير إلى أنه لابد للدارس والمحلل من تفكيك مصطلحات المادة 11 من العهد الدولي المتكون من:
– الإلتزام التعاقدي.
– العجز عن الوفاء = المعسر.
– السجن = الذي هو نتيجة لعمل جرمي يفضي إلى عقوبة السجن أو الحبس.
وهنا يطرح سؤال أولي هو: هل الإكراه البدني يعد عقوبة حتى نربطه بكلمة السجن الواردة في المادة 11؟. أقول إن الإكراه البدني ليس عقوبة سجنية رغم أن الشخص الخاضع له يمكن أن يودع في مؤسسة جرى العمل واقعيا أن تكون المؤسسات السجينية، التي يودع بها أشخاص في إطار وضعيات مختلفة:
1) المسجونون: ينفذون عقوبات قضائية ( حكم قضائي بات) بسبب ارتكاب فعل جرمي.
2) المعتقلون احتياطيا: في إطار نظام الاعتقال الاحتياطي، الذي يخضع له الشخص قبل البث في قضيته من طرف المحكمة.
3) المكرهون بدنيا: كإجراء من الإجراءات والوسائل التي تضمن إلزام الشخص بتنفيذ ما قضت به المحكمة، كديون عامة، أو خاصة تنتهي مدته (الإكراه البدني) إما بأداء المبلغ المحكوم به، أو بطلب المحكوم له، أو قضاء المدة التي حددها الحكم القضائي للإجبار على أداء ما بذمته، علما أن قضاء المدة الحبسية لايعفي من الدين، بمعنى أن الدائن يمكنه ملاحقة المدين/ المحكوم عليه متى تبين له أن هذا الأخير له ممتلكات يمكن التنفيذ عليها.
وهذا التقسيم والتصنيف منصوص عليه أساسا في المادتين 1 و6 من القانون المنظم للسجون بالمغرب الصادر بالجريدة الرسمية عدد4726 بتاريخ 16 شتنبر1999 (ظهيررقم 1.99.200 بتاريخ: 25 غشت 1999، بتنفيذ القانون رقم 23.98).
إن المكرهين بدنيا ليسوا مجرمين يمكن إخضاعهم للسجن كعقوبة، أي أن الإجبار والإكراه الذي يخضعون له كإجراء قانوني امتثالا لمقتضيات الحكم يستوجب تسميتهم بالمكرهين بدنيا، وبالتالي وضعهم في مؤسسات خاصة تختلف عن وضعية المسجونين التابت في حقهم الأفعال الجرمية، والمعتقلين احتياطيا / المشتبه فيهم المتابعين من أجل أفعال جرمية، تفاديا للاختلاط وما يترتب عنه من مشاكل داخل السجن.
إلا أنه بحكم الواقع الذي لايرتفع يتم إيداع الأصناف الثلاثة في بناية واحدة مقسمة إلى أجنحة، أو هكذا يجب أن يكونوا أمام معضلة قلة المؤسسات السجنية.
إن الإكراه البدني هو وسيلة وليس غاية في حد ذاته لضمان وصول المحكوم له إلى حقه المحكوم به بعيدا عن منطق روح الإنتقام، التي قد يكون أحيانا أساس رغبة الدائن للزج بغريمه في السجن. وهذا التصور مرفوض بمنطق حقوق الإنسان وكسلوك غيرحضاري، علما أن الإكراه البدني لايطبق ولاينفذ الحكم القاضي به إلا وفق الشروط المحددة قانونا، تبعا لروح وفلسفة مبادئ حقوق الإنسان، وقانون المسطرة الجنائية .
وأمام النقاش الدائر في الموضوع يطرح السؤال التالي:
– هل ألغى المشرع المغربي من تصوره نظام الإكراه البدني. كوسيلة للإجبار على تنفيذ الأحكام القضائية إعمالا للمادة 11 من العهد المذكور؟
بالرجوع إلى القوانين والنصوص التشريعية الحديثة من قبيل مدونة تحصيل الديون العمومية (رقم 15.97 المأمور بتنفيذه بمقتضى الظهير الشريف رقم1.00.175 بتاريخ 3 ماي 2000). والقانون المنظم للسجون بالمغرب المشار إليه أعلاه وكذا قانون المسطرة الجنائية الجديد، يتضح جليا أن المشرع أقر نظام الإكراه البدني واعتبره شيئا مشروعا، رغم أن ظهير 1979 المتضمن الأمر بنشر العهد الدولي أعلاه بالجريدة الرسمية، كان قائما ومفروض مراعاة مقتضياته من طرف المشرع وعليه فلماذا لم يتم استحضار هذه المقتضيات وغيره من المواثيق الدولية الملتزم باحترامها دستوريا للقول بأن الإكره البدني لم يعد مشروعا، وبالتالي عدم إقراره في هذه النصوص الجديدة؟. قد يكون الجواب أن الأمر موضوع نقاش يتعلق بالديون التعاقدية بين الأشخاص العاديين في معاملاتهم المدنية والتجارية… فنقول كيف تسمح الدولة لهذا التمييز فتحصن مركزها القانوني بإجراء الإكراه البدني لإستخلاص ديونها وغراماتها ويمنع ذلك على باقي الأشخاص استعمال نفس الوسيلة للوصول إلى حقوقهم، خصوصا وأن الجميع يتحدث عن دولة المساواة في الضمانات وقواعد المحاكمة العادلة، التي من بينها ضمان وصول المحكوم له إلى حقه، لأن عدم تنفيذ الحكم يفرغ المحاكمة والعمل القضائي من كل محتوى سواء بالنسبة للدولة أو الأشخاص العاديين،( سواء كانوا طبيعيين أو معنويين).
وكآلية لاستقراء مفهوم دلالة ومعنى المادة 11 المشار إليها أنفا أرى أنه لابد من استحضار مقتضى تشريعي أساسي من التشريع المغربي ورد في الفصل 551 من القانون الجنائي، الذي يحدد الحماية القانونية للعلاقات التعاقدية وآثار الإخلال بها، حيث اعتبر أن الإخلال بالالتزام التعاقدي يؤدي بصاحبه (المخل) إل ى الحبس كعقوبة على عدم وفائه بالالتزام، شريطة أن يكون سلوكه هذا بدون عذر مشروع. بمعنى أن مضمون الفصل 551 عند تنصيصه على عبارة “دون عذر مشروع” كعبارة عامة من حالاتها العسر.
إذن المادة 11 بهذا التصور إنما هي متممة وموضحة ومتكاملة مع مقتضيات الفصل 551 من القانون الجنائي التي تحمي العلاقات التعاقدية بين الأفراد وتلزمهم بتنفيذ التزاماتهم. المتقابلة تحت طائلة جزاء الحبس والغرامة المترتبة على العقوبة الواردة في هذا الفصل، ما لم يكن هناك مبرر مشروع لعدم تنفيذ هذه العلاقة التعاقدية بسبب العسر الوارد في المادة 11 من العهد الدولي.
وكخلاصة أولية يمكن القول أن المادة 11 تتعلق بتنفيذ العلاقات التعاقدية بين الأطراف قبل وصولهم إلى المحكمة في إطار المنازعة القضائية، والتي بواسطتها لا يمكن سجن إنسان من أجل عدم تنفيذ الالتزام التعاقدي الملزم به لعجزه عن الوفاء.
أما تنفيذ الأحكام القضائية ووسائل الإجبار على تنفيذها بالإجراءات المحددة تشريعيا، ومنها الإكراه البدني، فيبدو أن إخضاعها للمادة11 من العهد وتجميد مقتضيات هذه الأحكام تصورا غير صحيح في رأينا، علما أنه يجب التمييز بشأن موضوع تحديد الإكراه البدني الموكول للقضاء وبين تنفيذ هذا الحكم المحدد قضائيا وتنفيذ مقتضيات الحكم الخاضع بدوره لتدابير وإجراءات قانونية خاصة جرى بها العمل منذ زمان، منها امتناع المحكوم عليه عن الأداء إما تعسفا أو عجزا أو تهربا أو تحايلا بإخفائه ما يمكن الحجز عليه من ممتلكاته فيحرر بذلك محضرا يسمى محضر الإمتناع وعدم وجود ما يحجز، ثم تأتي مرحلة أخرى يبادر فيها إلى توجيه إنذار للمحكوم عليه من أجل الأداء، وبعد مرور الأجل القانوني على توصله يوجه الطلب مرفقا بالوثائق المحددة قانونا إلى وكيل الملك من أجل إخضاعه للإكراه البدني إلى غير ذلك من الإجراءات والمساطر القانونية والإدارية المتبعة الواضحة مقتضياتها في نصوص التشريع من قيبل الفصل 681 من الظهير الشريف رقم1.58.261 بتاريخ 10 فبراير1959، بشأن قانون المسطرة الجنائية كما وقع تعديله بظهير رقم265.66 بتاريخ11 يناير 1970… وكذا الباب الخامس من الكتاب السادس من قانون المسطرة الجنائية الجديد رقم 22.01 وذلك بالمواد من 633 إلى غاية 647… إلخ. هذه بعض الملاحظات الأولية التي تحضرني اللحظة، وكما قلت فإن الموضوع دقيق وحساس يحتم الرجوع إلى ما أشرت إليه في البداية، للخروج بخلاصات تضمن حقوق مختلف الأطراف والحفاظ على هيبة وحرمة الحكم القضائي الذي يشكل مظهرا من مظاهر سيادة الدولة، مع الحرص على استقرار المعاملات والاطمئنان لها من طرف المتقاضين.
إعداد:ذ/الحسين الملكي