الإكراه    (تعريفه – أنواعه – شروطه – أثره)


                                            الإكراه

                     (تعريفه – أنواعه – شروطه – أثره)

اولاً: تعريف الإكراه:

الإكراه لغة: حمل الغير على ما لا يرضاه قهرًا.

وفي اصطلاح الفقهاء: حمل الغيرِ على أن يفعل ما لا يرضاه، ولا يختار مباشرته، لو ترك ونفسه.

ثانيًا: نوعَا الإكراه:

1- الإكراه المُلجِئ أو الكامل: وهو الذي لا يبقى للشخص معه قدرة ولا اختيار؛ وذلك بأن يهدِّده بما يضر بالنفس أو بعضوٍ من البدن، وحكمه أن يعدم الرضا ويفسد الاختيار.

2- الإكراه غير الملجئ أو الناقص: وهو التهديد بما لا يضر النفس أو العضو؛ كالتخويف بالحبس أو القيد أو الضرب الذي لا يتلف، وحكمه أنه يعدم الرضا، ولا يفسد الاختيار.

والمقصود بالرضا: الارتياح إلى فعل الشيء، والرغبة به.

والمقصود بالاختيار: ترجيح فعل الشيء على تركه أو العكس.

• وأضاف الحنفية نوعًا ثالثًا، وهو الإكراه الأدبي: وهو الذي يعدم تمام الرضا ولا يعدم الاختيار؛ كالتهديد بحبس أحد الأصول أو الفروع أو الحواشي، وحكمه أنه إكراه شرعي استحسانًا لا قياسًا.

• أما الشافعية، فقد اقتصروا على اعتبار الإكراه الملجئ دون غيره.

ثالثًا: شروط الإكراه:

1- أن يكون المُكرِه قادرًا على تنفيذ ما هدَّد به.

2- أن يغلب على ظن المستكرَه أن المُكرِه سينفِّذ تهديدَه لو لم يحقِّق ما أكره عليه، وأنه عاجز عن التخلص من التهديد بالهرب أو الاستغاثة أو المقاومة.

3- أن يكون الأمر المكره عليه متضمنًا لما لا يرضاه الشارع من إتلاف نفس أو عضو أو مال، ومتضمنًا أذى الآخرين ممَّن يهمه أمره عما يعدم الرضا.

4- أن يكون المستكرَه ممتنعًا عن الفعل الذي أُكرِه عليه قبل الإكراه.

5- أن يكون المهدد به أشدَّ خطرًا على المستكرَه مما أكره عليه.

6- أن يترتب على فعل المكره به الخلاص من المهدد به.

7- أن يكون المهدد به عاجلاً.

8- ألا يخالف المستكره المكره بفعل غير ما أكرهه عليه، أو بالزيادة عليه أو بالنقصان منه، وإلا اعتبر مختارًا، وهذا عند الشافعية والمالكية، أما الحنابلة والحنفية فقد اعتبروا المخالفة بالنقصان وحدَها إكراهًا.

9- اشترط الشافعية أن يكون المكره عليه معينًا بأن يكون شيئًا واحدًا، فلو تعدَّد لم يكن كذلك، وليس هذا بشرط عند بقية المذاهب.

10- ألا يكون المهدد به حقًّا للمكره يتوصل به إلى ما ليس حقًّا له ولا واجبًا، وهذا شرط عند الحنفية والمتأخرين من الشافعية، وليس بشرط عند غيرهم.

رابعًا: أثر الإكراه في التصرفات الحسية:

ما لا يقع عليه الإكراه من الفعل أو الترك: قد يكون حسيًّا، وقد يكون أمرًا شرعيًّا، والمكره به في كل منهما معين أو مخير فيه.

ويتعلق بالتصرفات الحسية المعينة حكمان: أحدهما بالنسبة للآخرة، والآخر بالنسبة للدنيا:

أ- أحكام الآخرة:

وتختلف أحكام الآخرة في التصرفات الحسية المكرَه عليها بحسب نوع التصرف، وأنواع التصرف الحسي ثلاثة: مباح، ومرخَّص فيه، وحرام.

1- التصرف الحسي المباح بالإكراه:

وهو أكل الميتة، والدم، ولحم الخنزير، وشرب الخمر، ونحو ذلك، وحكمه يختلف بحسب نوع الإكراه.

فإن كان الإكراه ملجئًا، فإن هذه الأفعال تباح؛ لأن الله أباحها عند الضرورة بقوله: ﴿ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ ﴾ [الأنعام: 119]، فلو امتَنَع المستكرَه عن تناولها حتى قُتِل فإنه يؤاخذ على ذلك؛ لأنه ألقى بنفسه إلى التهلكة، وقد قال -تعالى-: ﴿ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ﴾ [البقرة: 195].

أما إن كان الإكراه ناقصًا، فلا يباح الإقدام عليها ويأثم إذا فعل.

2- التصرف الحسي المرخص بالإكراه:

مثل إجراء كلمة الكفر على اللسان مع اطمئنان القلب بالإيمان، أو سب النبي محمد – صلى الله عليه وسلم – أو الصلاة إلى الصليب، فهذه لا تباح بحالٍ، ولكن رخَّص الشارع فيها عند الإكراه التام رحمةً بالعباد، ولكن إن امتنع المستكرَه عن فعله حتى قتله كان مثابًا ثواب الجهاد.

وألحق الشافعية والحنابلة والظاهرية الإكراهَ الناقص بالتام في هذا الباب، واقتصر الحنفية والمالكية على الإكراه التام، وقالوا: إذا كان الإكراه ناقصًا فلا يرخص فيها أصلاً، ويحكم بكفر فاعلها.

والأصل في ترخيص كلمة الكفر عند الإكراه التام ثابتٌ بقوله – تعالى -: ﴿ مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ [النحل: 106]، ولم يُبِح المالكية إجراءَ كلمة الكفر على اللسان إلا في حالةِ الإكراه على القتل فقط.

3- التصرف الحسي الحرام الذي لا يباح ولا يرخص فيه بالإكراه:

هو قتل المسلم بغير حقٍّ، أو قطع عضوٍ من أعضائه ولو أنملة؛ لأن القتل حرام محض، قال – تعالى -: ﴿ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا ﴾ [الأحزاب: 58]، وتستوي في التحريم حال الإكراه الناقص والإكراه التام، ومن أمثلة هذا التصرف أيضًا في التحريم ضرب الوالدين، والزنا.

ب- أحكام الدنيا:

أما الأحكام الدنيوية في الأنواع الثلاثة المتقدمة؛ فهي:

1- النوع الأول: ومن أمثلته:

• الإكراه على شرب الخمر:

لا يجب الحد على المستكره إكراهًا تامًّا باتفاق، ولا تنفذ تصرفات السكران المكره على الشرب عند الجمهور.

أما في حالة الإكراه الناقص، فيجب الحد عند الحنفية دون الجمهور الذين أخذوا بعموم قوله – صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استُكرِهوا عليه))[2].

• الإكراه على السرقة:

إذا كان الإكراه تامًّا، فلا إثم ولا حد على السارق المستكره، والحكم نفسه ينطبق على الإكراه الناقص عند الجمهور، خالف في ذلك الحنفية، فقالوا بالإثم والحد في ذلك.

2- النوع الثاني: ومن أمثلته:

• إذا كان الإكراه تامًّا، فلا يحكم بالردة ولا تَبِين امرأةُ المُستكرَه باتفاقِ الفقهاء ما عدا المالكية إذا كان التهديد بغير القتل.

وكذا إذا كان الإكراه ناقصًا عند الشافعية والحنابلة والظاهرية، أما المالكية والحنفية، فقالوا: يُحكَم بكفره وتلحقه أحكام المرتدِّين، قالوا: لأنه ليس بمكرَه حقيقة؛ بل أقدم على هذا الفعل الشنيع لدفع الغمِّ عن نفسه لا للضرورة، والرأي الأول أرجح؛ عملاً بالنص.

• الإكراه على إتلاف المال:

إذا كان الإكراه تامًّا، فالضمان على المكرِهِ عند الحنفية والحنابلة في الأرجح عندهم، وبه قال بعض الشافعية؛ لأن المستكرَه مسلوب الإرادة، وهذا هو الأظهر.

وقال المالكية وبعض الشافعية: الضمان على المستكره قياسًا على المضطر إلى أكل طعام الغير فإنه يضمن.

وقال الشافعية في الأرجح عندهم، وفي وجهٍ عند الحنابلة: الضمان عليهما معًا؛ لأن الإتلاف صدر من المستكره حقيقة، ومن المكره بالتسبب.

أما إذا كان الإكراه ناقصًا، فالضمان على المستكره عند الجمهور؛ لأن الإكراه الناقص لا يسلب الاختيار.

3- النوع الثالث: ومن أمثلته:

• الإكراه على القتل:

اتَّفق أهل العلم على إثم مَن أُكرِه على القتل فقَتَل، واختلفوا في القصاص منه إذا كان الإكراه تامًّا، فقال المالكية والشافعية والحنابلة: يقتص من المكرِهِ والمستكرَه جميعًا؛ لأن المستكره وجد منه القتل حقيقة، والمُكرَه متسبِّب في القتل، والمتسبب كالمباشر.

وقال أبو حنيفة: يقتص من المكرَه، ولا قصاص على المستكره، وهذا القول رواية عن أحمد وأحد قولَي الشافعي.

أما إن كان الإكراه ناقصًا، فيجب القصاص على المستكره بلا خلاف.

• الإكراه على الزنا:

إذا أكرهت المرأة على الزنا، فلا يقام عليها الحد عند جمهور الفقهاء، سواء كان الإكراه تامًّا أم ناقصًا؛ لقوله – تعالى -: ﴿ وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [النور: 33].

أما إذا أُكرِه الرجلُ على الزنا إكراهًا تامًّا أو ناقصًا، فالمختار عند الحنابلة وجوب الحد؛ لأن الانتشار لا يكون إلا عن طواعية واختيار.

وقال الشافعية: لا يجب الحدُّ على المكرَه على الزنا، سواء أكان الإكراه تامًّا أم ناقصًا؛ لأن في الإكراه شبهةً، والحدود تُدرَأ بالشبهات، وهذا أظهر المذاهب، والله أعلم.

أما الحنفية، فيُوجِبُون الحدَّ في الإكراه الناقص ولا يوجِبُونه في الإكراه التام.

أما عند المالكية، فالمُفتَى به سقوط الحد إذا كان التهديد بالقتل، ووجوب الحد إذا كان دون ذلك، ويستوي عندهم المرأة والرجل في الحكم.

خامسًا: أثر الإكراه في التصرفات الشرعية:

أولاً: التصرفات الشرعية المعينة: وهي إما أن تكون إنشاءً أو إقرارًا.

والتصرفات الإنشائية نوعان:

ما لا يحتمل الفسخ، وما يحتمل الفسخ.

1- التصرفات الشرعية المعينة التي لا تحتمل الفسخ:

وهي مثل الطلاق، والنكاح، والظِّهار، واليمين، والعفو عن القصاص.

ويذهب الحنفية إلى أنه لا تأثير للإكراه على هذا النوع، وأنها نافذة مع الإكراه؛ لأنها لا تقبل الفسخ؛ ولأنه يستوي فيها الجِدُّ والهزل.

أما الجمهور، فيذهبون إلى أن الإكراهَ يؤثِّر في هذا النوع فيفسد، فلا يقع طلاق المُكرَه ونحو ذلك، وهذا هو الأرجح؛ لقوله -تعالى-: ﴿ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ ﴾ [النحل: 106].

كما ثبت في السنة أن خنساء بنت خزام زوَّجها أبوها وهي ثيِّب، فكَرِهت ذلك، فأَتَت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فردَّ نكاحها، وقال – صلى الله عليه وسلم -: ((لا طلاق في إغلاق))[3].

2- التصرفات التي تحتمل الفسخ:

وهي مثل البيع والإجارة ونحوهما من كل تصرف يعتبر سببًا للملك.

ويذهب الحنفية إلى أن الإكراه يفسد هذا النوع من التصرفات ولا يبطلها؛ أي: إن التصرف نافذ ولكنه فاسد، تترتب عليه أحكام فساد العقود.

ولكن يملك المشتري البيع مثل المبيع بالقبض، وللمستكره بعد زوال الإكراه الخيار بين إمضاء التصرف وفسخه؛ لأن الرضا شرط لصحة هذه التصرفات، وليس ركنًا.

وقال المالكية وزُفَر من الحنفية: تعتبر هذه التصرفات مع الإكراه موقوفة؛ لأن الرضا شرط في صحة انعقاد العقد.

وذهب باقي الفقهاء من الشافعية والحنابلة والظاهرية إلى بطلان هذه التصرفات مع الإكراه.

3- أثر الإكراه على الإقرارات: فإذا أكره شخص على أن يقر بشيء، فحكم ذلك كالتالي:

أ- مذهب الجمهور:

يلغى الإقرار ولا يترتب عليه أي أثر؛ لأنه حصل بقهر ودون إرادة واختيار؛ لقوله – صلى الله عليه وسلم -: ((رُفِع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استُكرِهوا عليه)).

ب- مذهب المالكية:

إقرار المستكرَه بغير حق غير لازم؛ أي: إن المستكره مخيَّر بعد زوال الإكراه بين أن يُجيز ما أقرَّ به أو لا يجيزه.

أما الإقرار بالمعاصي، كالزنا، وشرب الخمر، والقتل، ونحوها، فهم كالجمهور في إلغاء إقرار المكره فيها؛ لأن الحدود تدرأ بالشبهات.

ثانيًا: التصرفات الشرعية المخير فيها، سواء كانت مما يحتمل الفسخ أو لا يحتمله، وللفقهاء فيها قولان:

قال الشافعية: لا إكراهَ مع التخيير؛ ولذلك فلا أثرَ عندهم للإكراه على هذا النوع من التصرفات.

وقال الجمهور: لا يُشتَرط التعيين في المكرَه عليه؛ فالإكراه باقٍ مع التخيير، ويكون للإكراه أثر في هذا النوع من التصرفات أيضًا.


[1] راجع: فتح الباري 7/309، بدائع الصنائع 7/175، قواعد الأحكام 2/269، الدر المختار ورد المحتار 5/88، الإكراه بين الشريعة والقانون للبرديسي 372، تحفة المال 272، الكتاب مع اللباب 4/107، مغني المحتاج 3/289، المغني 7/120.

[2] ابن ماجه، وابن حبان، والحاكم.

[3] أبو داود وابن ماجه، والحاكم، وقال: على شرط مسلم.

/www.alukah.net


اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

x

‎قد يُعجبك أيضاً

استقلال السلطة القضائية

استقلال السلطة القضائية   حيث أن شعوب العالم تؤكد في ميثاق الأمم المتحدة، في جملة ...