من المعلوم أن الفقه القانوني عمل في بداية الأمر إلى تقسيم مصادر الالتزام إلى خمسة أقسام و هي العقد و الإرادة المنفردة و الفل الضار أو العلم غير المشروع و الإثراء بلا سبب و القانون ، و هو التقسيم الذي تأثر به مشرع قانون الالتزامات و العقود المغربي تأثر ظهر في الصياغة التشريعية لمقتضيات الظهير المذكور ، وفي هذا الصدد يمكن الوقوف على مقتضيات الفصل الأول من ظهير الالتزامات و العقود ؛ و الذي يجعل كل الالتزامات ناشئة عن أمرين إما عن إرادة أو عن قانون . و في ذلك نص الفصل الأول المذكور على نما يلي : تنشأ الالتزامات عن الاتفاقات والتصريحات الأخرى المعبرة عن الإرادة وعن أشباه العقود وعن الجرائم وعن أشباه الجرائم. ” .
و لكن الفقه وجد نفسه مغرقا في تقسيم أسباب الالتزام ، و تراجع عن التقسيمات القديمة أو الكلاسيكية إلى تقسيم جديد مرتكز على إرادة الأطراف في إحداث الأثر القانوني ، و ميز بناء على ذلك بين أسباب نشأة الالتزامات راجعة إلى إرادة الأطراف و أخرى لا دخل للإرادة الأطراف فيها .
و هكذا فقد عرف الفقه كل سبب تنشأ بموجبه التزامات ويكون قوام ذلك السبب إرادة الطرف أو الأطراف المدينين أو الدائنين ، عرفه بأنه تصرف قانوني ( Acte juridique ) ، وبالتالي يمكن تعريف التصرف القانوني بأنه ما ينشأ من أسباب تنشئ التزاما في ذمة الأفراد و يكون للإرادة دخل فيها . و مثاله عقد البيع و عقد الكراء و عقد القرض و عقد العارية و غيرها من العقود ، فكل تلك العقود لا يمكن تنشأ أو تخرج لحيز الوجود إلا بعد توافق إرادتين أو أكثر على إحداث الأثر القانوني المتوخى منها ، و في عقد البيع فإن الأثر القانوني المتوخى منه هو نقل ملكية الشيء المبيع إلى المشتري ، أما في عقد الكراء فإن المنفعة المتعلقة بالعين المكتراة هي الغرض من التصرف القانوني …
هذا إذا تعلق الأمر بتدخل الإرادة في إنشاء السبب المنشأ للالتزام ، أما إذا لم يكن للإرادة أثر في نشأة الالتزام فإن الأمر يتعلق بواقعة قانونية ( Fait juridique ) و بناء عليه فالواقعة القانونية هي كل سبب منشئ للالتزام لا دخل للإرادة فيه ، ومثاله الوفاة و الولادة و غيرهما كالقوة القاهرة أو الحادث الفجائي ما ينشئه القانون ، فكل ذلك لا دخل لإرادة الأطراف فيه و بالتالي فكل ما ينشأ من التزام بسبب ذلك فهو ناتج عن واقعة قانونية و ليس عن تصرف قانوني .
و إذا ما استقر في الأذهان الفرق بين التصرف القانوني و الواقعة القانونية، فإنه يحق لنا أن نتساءل عن علاقة كل من البطلان و الإبطال و الفسخ بكل واحد منهما.
من المعلوم أن كل واقعة قانونية كما تطرقنا لذلك ليس فيها أي دخل للإرادة ، و بالتالي فإن أي حديث عن الجزاءات المرتبطة بالوقائع القانونية لا يمكن تصوره إلا في إطار المخالفة للقانون في الحالة التي يكون القانون هو السبب المنشئ للالتزام ، و على ذلك فكل و التزام أوجبه القانون و لم يثبت أنه نشأ وفق ما يقتضيه القانون فإنه التزام باطل لذاته و ليس لتحكم إرادة الأطراف فيه ، و مثاله ما جاء بالفصل 870 من قانون الالتزامات و العقود و الذي ينص على أنه : ” اشتراط الفائدة بين المسلمين باطل ومبطل للعقد الذي يتضمنه سواء جاء صريحا، أو اتخذ شكل هدية أو أي نفع آخر للمقرض أو لأي شخص غيره يتخذ وسيطا له. ” فبموجب هذا الفصل فإن عقد القرض و إن جاء في صورة تصرف قانوني فإن المشرع عمل جعل صفة المقرض أو المقترض محل اعتبار و رتب عليها جزاء متى تعلق الأمر بمسلمين ، فصفة الإسلام في مثل هذه العقود محل اعتبار بحكم القانون لا بإرادة الأطراف ، و ما قيل في هذه الحالة يقال في الحالة التي يتوفى فيها شخص ما و يترك ورثة يقومون بتوزيع التركة على نحو مخالف لما يقتضيه الشرع و القانوني فمثل هذه الحالات يكن الجزاء المترتب عن تلك الإخلالات هو البطلان .
و لكن إذا تعلق الأمر بالتصرفات القانونية و التي قوامها الإرادة فإن الجزاءات تختلف بحسب الحالة .
فإذا كان الأمر يتعلق بركن من أركان التصرف القانوني كما هو الأمر بالنسبة لركن الرضى أو المحل أو السبب في عقد من العقود ؛ فإن الجزاء المترتب عن الإخلال بالأحكام القانونية المنظمة لذلك الركن هو البطلان ، و البطلان يمكن تعرفيه بأنه الجزاء القانوني الذي يجعل التصرف القانوني منعدما و كأنه لم يكن ، وبالتالي فمتى تعلق الأمر باختلال في حكم من أحكام الأركان فإن البطلان هو الجزاء ، ومثاله أن يتفق اثنان على شراء كمية من الخمر ، ففي مثل هذه الحالة فإن إرادة الطرفين سليمة و لكن محل عقد البيع غير مشروع و غير قانوني ، ذلك أن الشرع و القانون حرما التعامل في الخمر بين المسلمين و بالتالي فإن أي تعامل به يجعل عقد البيع باطل و كأن لم يكن .
و لكن إذا ما تعلق الأمر بشرط من شروط التصرف القانوني فإن أي إخلال بأحكام تلك التصرفات يترتب عنه جزاء الإبطال و ليس البطلان، و الإبطال هو الجزاء المترتب عن الإخلال بشرط من شروط التصرفات القانوني كما هو الأمر عندما تكون إرادة أحد المتعاقدين معيبة بأحد عيوب الرضى إما لسبب الإكراه أو الغبن أو التدليس أو غيرها من العيوب التي تؤثر مباشرة على إرادة الأطراف و تجعلها معيبة؛ و مثال ذلك أن شخصا تعاقد مع أحد الأشخاص على أن يبيعه حاسوبا محولا بخصائص معينة و لكنه استغل جهل المشتري و باعه حاسوبا غير الذي تم الاتفاق على مواصفاته و أقل من المتفق عليه و لكن بثمن الواصفات التيتم الاتفاق عليه ، ففي مثل هذه الحالة فإن المشتري له حق إبطال العقد المبرم بينه و بين البائع لكون إرادته كانت معيبة بعيب التدليس و هو إخفاء حقائق لولاها لما أقدم المشتري على عقد البيع . ففي مثل هذه الحالة فإننا نكون أمام جزاء الإبطال و ليس البطلان .
و تجدر الإشارة إلى أنه إذا لم يكن في مقدور الأطراف تصحيح التصرفات القانونية الباطلة بطلانا مطلقا ، فإنه يمكن لهم تصحيحها متى تعلق الأمر بحالة الإبطال و هو ما يصطلح عليه بالإمضاء ، أي تصحيح التصرف القانوني بإرادة الأطراف و بالتالي جعله كما لو لم يشبه أي عيب .
و إذا كان البطلان أو الإبطال يرتبطان بأركان التصرف القانوني أو شروطه ، فإن الفسخ لا يمكن الحديث عنه إلا في الحالة التي يكون فيها التصرف القانوني كاملا و لا تشوبه أية شائبة ولكن أحد طرفيه يمتنع عن تنفيذ ما بذمته من التزام ، ففي مثل هذا الحالة يحق للمتضرر اللجوء إلى القضاء من أجل طلب فسخ التصرف القانوني ؛ كما هو الأمر بالنسبة للحالة التي يكون فيها البائع متفقا مع المشتري على أن يبيع لهذا الأخير منزلا مقابل مبلغ مالي معين ،و لكن المشتري بعد أن يسلم للبائع الثمن كالا يمتنع البائع من تسليم المنزل للمشتري لسبب من الأسباب التي لا دخل للمشتري فيها ، ففي مثل هذه الحالة يحق للمشتري أن يلجأ للقضاء من أجل طلب فسخ عقد البيع المبرم مع البائع و استرداد الثمن المؤدى و كذا التعويض في حالة المطالبة به . و على ذلك فينتج مما سبق أن الفسخ لا يكون إلا كجزاء عن إخلال أحد الأطراف بالتزاماته التعاقدية ؛ و هنا تجدر الإشارة إلى التفريق بين الفسخ و الانفساخ ذلك أن الفسخ لا يتم إلى عن طريق القضاء بينما الانفساخ ينتج عن الاتفاق بين الأطراف ذاتهم نتيجة تعذر تنفيذ الالتزام من طرف أحدهم لسبب من الأسباب و يتم بموجبه إرجاع الأطراف للحالة التي كانوا عليها.
و خلاصة القول أن البطلان يكون في حالة تخلف ركن من أركان التصرف القانوني بينما الإبطان لا محل له إلا في حالة الإخلال بشرط من شروط ذلك التصرف ،و أما الفسخ فيكون عند سلامة التصرف القانوني و لكن بعد تخلف أحد المتعاقدين مثلا عن تنفيذ التزامه لسبب غير قانوني أو غير مشروع و فيما يتعلق بالانفساخ فإنه ينشأ من اتفاق الأطراف عليه بعدما يتعذر على أحدهم تنفيذ ما بذمته من التزام .
و البطلان يتم التصريح به من قبل القضاء ، أما البطلان أو الفسخ فيكم بهما القضاء بينما يتفق الأطراف على الانفساخ .