التقريب الجغرافي للقضاء من المتقاضين في المغرب
سبق لنا في مقال سابق نشرته المفكرة القانونية تحت عنوان “تقريب القضاء من المتقاضين في المجالين المدني والاداري بالمغرب” [1]، أن تحدثنا عن هذا الموضوع من زاوية أخرى تهم التقريب الوظيفي للقضاء من المتقاضين بما يعنيه ذلك من توزيع الإختصاص بين مختلف المحاكم ووضع معايير محددة لذلك، سواء في إطار المحاكم المدنية العادية التي أصبغ عليها المشرع صبغة الولاية العامة أو القضاء المتخصص في جانبه الإداري والتجاري. وقلنا بان مشروع قانون التنظيم القضائي المعروض حاليا على الغرفة الثانية للبرلمان المغربي حسم تقريبا في إنهاء تجربة القضاءالمتخصص التي عرفها المغرب لمدة عقدين من الزمان [2].
وسوف نحاول في هذا المقال، أن نعالج الموضوع من زاوية اخرى تهم تقريب القضاء من المتقاضين من ناحية عدد المحاكم وانتشارها جغرافيا وآثار ذلك على النجاعة والجودة القضائيتين.
أولاً: الإنتشار الجغرافي للخدمة القضائية بالمغرب
يختلف تقريب القضاء جغرافياً بين المحاكم العادية والمتخصصة، بحيث يمكن القول أن هذا التقريب متحقق بشكل كبير في المجال العادي أكثر منه في المتخصص. فالمحاكم الابتدائية التي منحها المشرع الولاية العامة [3] وتبت في مختلف القضايا المدنية وغيرها هي منتشرة بمختلف ربوع المملكة ويبلغ عددها حوالي 70 محكمة ابتدائية يتبع لها أزيد من 177 مركز قاضٍ مقيم[4] في مختلف الجماعات القروية والحضرية. وكذا حوالي 21 محكمة استئناف عادية. بالمقابل، لا يبلغ عدد المحاكم الإدارية المتخصصة إلا 07 محاكم إدارية متمركزة بالرباط وفاس ومكناس ووجدة وأكادير ومراكش والدار البيضاء، وكذا محكمتين للإستئناف الإداري توجد إحداهما بالرباط والأخرى بمراكش. وتنتشر المحاكم التجارية الإبتدائية في مدن الدار البيضاء والرباط وطنجة ووجدة ومراكش وفاس ومكناس وأكادير تغطي كل هذه المحاكم ثلاث دوائر استئنافية تجارية كبيرة هي الدار البيضاء وفاس ومراكش.[5] وعليه يمكن القول أن مبدأ تقريب القضاء جغرافيا من المتقاضي في مجال القضاء المتخصص كحق من حقوق الولوج إلى العدالة ، هو ضعيف بالمقارنة مع القضاء العادي .
وتجدر الإشارة هنا إلى أن مبدأ التقريب الجغرافي للقضاء في المغرب لا يكون دائما لفائدة من يريد الولوج إلى العدالة كمدعّ. فأحيانا نجد ان المشرع يفَعًل هذا المبدأ لصالح الطرف المدعى عليه أيضا، وخاصة عندما يكون هذا الأخير طرفا ضعيفا في عملية التعاقد ويحتاج إلى تدابير حمائية خاصة, ومن امثلة ذلك ما نجده في القانون رقم 31.08 القاضي بتحديد تدابير لحماية المستهلك [6]، بحيث نلاحظ أن المشرع في هذا القانون وفي سياق تقريره لمجوعة من التدابير الهادفة إلى حماية المستهلك العادي وخاصة من الشروط التعسفية التي كانت بعض شركات التمويل أو التوريد تضمنها بالعقد وبالتالي تقوم بجر المستهلك إلى محاكم بعيدة عن موطنه ومقر سكناه، فإن هذا القانون نص في مادته 202 وخلافا لما تسمح به القواعد العامة لتحديد الإختصاص المكاني على ما يلي : “في حال نزاع بين المورد والمستهلك، ورغم وجود أي شرط مخالف، فإن المحكمة المختصة هي محكمة موطن أو محل إقامة المستهلك أو محكمة المحل الذي وقع فيه الفعل المتسبب في الضرر باختيار هذا الأخير “.
ثانياً: أثر التقريب الجغرافي للقضاء على الجودة والنجاعة القضائيتين
يؤثر التقريب الجغرافي للقضاء من المتقاضين لا محالة على الجودة والنجاعة القضائتين في المغرب، طالما أن التقريب يفرض وجود عدد من المؤسسات القضائية من محاكم ابتدائية ومراكز قضائية متباعدة فيما بينها بما تحتاج إليه من أطر ادراية وقضائية وبنايات وغيرها فضلا عن ضرورة مواكبتها بالتفقد والتأطير والصيانة. وهي كلها أمور غير متاحة أمام قلة الإمكانات المادية للدولة. والملاحظ بالنسبة للمغرب أنه لم يكن هناك حسم في اختيار النموذج الذي يريده مند عقود خلت: هل هو القرب الوظيفي بما يعنيه من تقريب الخدمة في جانبها القضائي المبني على النجاعة والجودة والأمن القضائي وإن تباعدت المحاكم عن المتقاضين جغرافيا، أم أن الخدمة القضائية كغيرها من الخدمات الأخرى في الدولة يجب أن تكون قريبة من المواطنين كالطب والتعليم وغيرهما، أم أنه يجب، كاختيار ثالث، المزج بين الاختيارين أي الاحتكام إلى بعض المعايير في انشاء المحاكم أو المراكز القضائية، كمعيار التجمعات السكانية ومعيار وجود عدد القضايا بكثرة في مناطق معينة وتصنيفها.
والواقع أن الإشكال في المغرب في هذا الموضوع بالضبط يرتبط بإشكال آخر وهو أن قانون التنظيم القضائي الحالي لسنة 1974[7] في مادته الأولى منح للحكومة وحدها السّلطة التقديرية لتعيين مقار المحاكم بكافة أنواعها أي العادية منها والمتخصصة ودوائر نفوذها وعدد موظفيها بمرسوم صادر عن رئيس الحكومة. كما أن إحداث مراكز القضاة المقيمين التابعة لنفوذ المحاكم الإبتدائية لا يتطلب سوى قرار لوزير العدل والحريات وفق ما ينص عليه الفصل الثاني من قانون التنظيم القضائي. وبنتيجة ذلك، تم إحداث العديد من المحاكم بالمدن والمراكز القضائية لظروف معينة أو لأسباب سياسية أو لها علاقة بالحملات الإنتخابية، ولم يسجل فيها إلا عدد قليل من القضايا.ولهذا السبب، فإن مخرجات الحوار الوطني حول إصلاح منظومة العدالة دعت إلى إعادة النظر في هذه المراكز وتأهيلها وإغلاق ما لا تدعو الضرورة إلى الاحتفاظ به.
لكن مع ذلك، يبقى الحل هو الاحتكام في إنشاء المحاكم العادية والمراكز إلى معايير مرتبطة بكثرة النشاط القضائي أي اعتماد عدد القضايا المحتمل تقديمها بناء على دراسات علمية وتقييد مع حذف السلطة التقديرية للحكومة في هذا المجال واعطاء دور للمجلس الأعلى للسلطة القضائية أيضا في هذا الموضوع مع ضرورة أن يكون إنشاء أو إلغاء المحاكم بقانون صادر عن البرلمان لا بمجرد مرسوم صادر عن الحكومة .
————————————————————————–
[1] – تم نشر هذا المقال في المفكرة القانونية بتاريخ 14-10-2016 بموقعها الاليكتروني على الرابط الآتي: http://legal-agenda.com/article.php?id=3189
[2] – يتعلق الامر بمشروع القانون رقم 15-39 بشأن التنظيم القضائي ، ويقترح هذا القانون اعادة ادماج القضاء المتخصص (التجاري والاداري ) في أقسام داخل المحاكم الابتدائية العادية مع الاحتفاظ بمحاكم متخصصة في بعض الاقطاب الاقتصادية والإدارية الكبرى كمدينتي الدار البيضاء والرباط وهو الامر الذي كان معمولا به قبل اصلاحات سنتي 1993 بالنسبة للقضاء الاداري و1997 بالنسبة للقضاء التجاري للاطلاع على مشروع قانون التنظيم القضائي يراجع الموقع الرسمي لوزارة العدل والحريات المغربية: http://www.justice.gov.ma/lg-1/documents/doccat-4.aspx.
[3]- الفصل 18 من قانون المسطرة المدنية المصادق عليه بالظهير بمثابة قانون رقم 1.74.447 وتاريخ 11 رمضان 1394 (28 شتنبر 1974) المنشور بالجريدة الرسمية عدد 3230 مكرر، بتاريخ 13 رمضان 1394 (30 شتنبر 1974).
[4] – “مركز القاضي المقيم “هو تسمية مغربية وارد في قانون التنظيم القضائي المغربي و تطلق على ملحقة للمحكمة الابتدائية ، تتواجد ببعض المناطق البعيدة عن المدن ويوجد به قاض بشكل دائم يقوم بالمهام القضائية في حدود ما هو مفوض للمركز من طرف الجمعيات العمومية بالمحكمة الابتدائية التي يتبع لها .
[5] – مصدر الاحصائيات الموقع الرسمي لوزارة العدل والحريات وفق الرابط الآتي : http://www.justice.gov.ma/lg-1/statistiques/graphes.aspx تاريخ التصفح هو : 22 يوليوز 2016.
[6] – المنشور بالجريدة الرسمية عدد 5932 بتاريخ 3 جمادى الأولى 1432 (7 أبريل 2011)، ص 1072.
[7] – ظهير بمثابة قانون رقم 1.74.338 بتاريخ 15 -07- 1974 يتعلق بالتنظيم القضائي للمملكة متاح على الموقع الالكتروني لوزارة العدل والحريات:
adala.justice.gov.ma/production/legislatio
إعداد : د/عبد اللطيف الشنتوف