التوقيف والحبس الاحتياطي
التوقيف أشد إجراءات التحقيق التي يختص بها وكيل النيابة وذلك لأنه ينطوي على مساس كبير بحرية المتهم ، ويتناقض مع ما هو مقرر من أن المتهم بريء حتى تثبت إدانته بحكم بات (مبرم) . ولهذا يقال إن التوقيف فيه إفتئات على حق المتهم الطبيعي في أن ينعم بحريته حتى صدور مثل ذلك الحكم . وبالمقابل من هذا فإن المصلحة العامة في الدعوى الجزائية قد تتطلب المساس بهذه الحرية وذلك بتوقيف المتهم ضماناً لسلامة التحقيق الذي يجريه وكيل النيابة وللحيلولة دون هرب أو اختفاء المتهم او محاولة إخفاء الأدلة .
ولهذا تحرص التشريعات عادة على أن يُحاط إجراء التوقيف بضمانات من أجل احترام الإنسان وكرامته . والتوقيف لا يكون إلا بعد استجواب المتهم إذا اقتضى الأمر ذلك . بمعنى أنه ليس أمراً حتمياً اللجوء إلى التوقيف عقب الاستجواب فقد لا يستدعي الأمر توقيف المتهم وفي هذه الحالة يترك المتهم حراً . ولهذا فإنني أدعو السادة الأفاضل وكلاء النيابة إلى أن يتوخوا الدقة المتناهية عند إصدار مذكرة التوقيف وذلك بأن لا يلجأوا إلى التوقيف إلا إذا كان الأمر يستدعي ذلك . وقد سبق وأن أشرت إلى أنه وبمقتضى الصلاحية التي أعطيت للنائب العام ووكيل النيابة في تفويض أحد أعضاء الضابطة القضائية بالاستجواب في الجنح وأنه بمقتضى ذلك فإن من حقهم التوقيف أيضاً . وقد أبديت عدم قناعتي بهذا الأمر والتخوف من إساءة استعمال السلطة في هذه الحالات مما قد يؤدي إلى الافتئات على حرية الأفراد . ذلك أن اجراء التوقيف هو من أخص خصوصيات النيابة العامة تماماً مثله مثل إجراء الاستجواب سواء أكان ذلك بصدد جناية او جنحة . ولهذا فإنني أدعو إلى إعادة النظر في مسألة التفويض هذه وذلك بإلغائها .
وقد تحدث المشرع الفلسطيني عن التوقيف في الفصل السابع من الباب الثالث من قانون الإجراءات الجزائية وذلك في المواد من115 – 129 . وقد وضع عنواناً لهذا الفصل : التوقيف والحبس الاحتياطي . ورغم استخدامه لتعبير الحبس الاحتياطي إلا أنه لم يرد ذكر لهذا التعبير إلا في العنوان فقط أما المواد المذكورة فإنها لم تتضمن أي استخدام لهذا الاصطلاح . وعلى أية حال فإنه ينبغي أن لا يفهم بأن هناك إجراء تحقيقي اسمه الحبس الاحتياطي غير التوقيف . فالتوقيف يعني الحبس الاحتياطي . وتستخدم بعض التشريعات الإجرائية(1) تعبير الحبس الاحتياطي بدلاً من التوقيف . ولهذا نعتقد أن المشرع الفلسطيني قصد بالتوقيف الحبس الاحتياطي وبالتالي كان الأفضل استخدام أحد التعبيرين فقط أو أن تستخدم كلمة أو بحيث يفهم القارئ أن المقصود بالتوقيف هو الحبس الاحتياطي.
وقد تضمنت المادة (117) الإشارة إلى التحفظ(2) على المقبوض عليه الذي يلجأ إليه مسؤول المركز الأمني ومدته 24 ساعة فقط وشريطة أن يكون قد تبين له أن هذا المقبوض عليه :
أ. ارتكب جناية وفر او حاول الفرار من المكان الموقوف فيه .
ب. ارتكب جنحة وليس له محل إقامة معروف أو ثابت في فلسطين .
وقد ألزمت هذه المادة مسؤول مركز الشرطة أن يبلغ النيابة العامة بذلك فوراً .
كما ألزم المشرع أيضاً وكيل النيابة أن يقوم باستجواب هذا المقبوض عليه خلال أربع وعشرين ساعة (م118) . وبناء على هذا الاستجواب إما أن يتم توقيفه أو يُخلى سبيله فوراً(1).
فإذا اقتضى التحقيق أن يستمر التوقيف أكثر من أربع وعشرين ساعة فإن وكيل النيابة لا يملك تمديد التوقيف وإنما عليه أن يطلب من قاضي الصلح تمديد التوقيف لمدة لا تتجاوز خمسة عشر يوماً (م119 من القانون)(2) . وطلبه هذا ليس ملزماً لقاضي الصلح فله أن يجيب الطلب وله أن يرفضه وذلك بعد سماع أقوال ممثل النيابة العامة والمقبوض عليه (م120) . ومن وجهة نظرنا المتواضعة فإن هذا يشكل ضماناً لمصلحة المقبوض عليه وذلك بأن يكون تجديد التوقيف عن طريق المحكمة وليس عن طريق النيابة . فالنيابة العامة هي خصم للمقبوض عليه وهي طرف من أطراف الدعوى الجزائية وإذا كان القانون قد أعطاها سلطة وصلاحية التحقيق كاملاً بما في ذلك التفتيش والقبض والاستجواب والتوقيف فإن هذا الإجراء الأخير يتعين أن تحكمه ضوابط وضمانات لصالح المتهم . وذلك بأن يكون تحديد هذا التوقيف عن طريق المحكمة وليس النيابة نفسها .
وحسناً فعل المشرع الفلسطيني عندما حدّد أيضاً صلاحية قاضي الصلح بتمديد التوقيف وذلك بأن جعله لا يتجاوز في مجموعه خمسة وأربعين يوماً (م120/1) .
فإذا استدعى الأمر تمديد التوقيف بعد انتهاء مدة الخمسة وأربعين يوماً فإن طلب التوقيف يتم عن طريق النائب العام أو أحد مساعديه إلى محكمة البداية التي تملك صلاحية التمديد لمدة 45 يوماً أخرى (م120/2).
فإذا لم تتمكن النيابة العامة من استكمال التحقيق خلال مدة التسعين يوماً فإن عليها قبل انتهاء هذه المدة أن تعرض المتهم على المحكمة المختصة بمحاكمته لتمديد توقيفه مدداً أخرى حتى انتهاء المحاكمة (م120/3) . ويبدو واضحاً أن هدف المشرع من هذا التقييد والتحديد لمدة التوقيف هو مصلحة المتهم لكي لا تطول مدة توقيفه جراء تأخر النيابة في استكمال التحقيق ولحثها على عدم التباطؤ في التحقيقات دون داع او دون مسوّغ .
وعلى أية حال فإنه لا يجوز بأي حال أن تزيد مدد التوقيف المشار إليها في الفقرات الثلاث أعلاه على ستة أشهر والإ يُفرج فوراً عن المتهم مالم تتم إحالته إلى المحكمة المختصة لمحاكمته (م120/4) . وبموجب هذا النص فإنه إذا استنفذت النيابة مدة الستة أشهر ولم تتمكن من انهاء تحقيقاتها وإحالة المتهم إلى المحكمة المختصة لمحاكمته فإنه يتعين الإفراج عنه فوراً . ولا مجال لتمديد التوقيف أية مدة أخرى بعد نفاذ الستة أشهر . أما إذا أكملت النيابة العامة تحقيقاتها وأحالت المتهم إلى المحكمة المختصة لمحاكمته قبل نفاذ الستة أشهر ففي هذه الحالة يصبح تمديد التوقيف من صلاحية المحكمة التي أحيل إليها المتهم(1) . ومهما يكن من أمر فإنه لا يجوز أن يستمر توقيف المتهم المقبوض عليه في جميع الأحوال أكثر من مدة العقوبة المقررة للجريمة الموقوف بسببها (م120/5).
والأصل هو أن التوقيف لا يكون إلا في مواجهة المتهم وليس في غيبته إلا أن المشرع الفلسطيني خرج على هذا الأصل حينما أجاز توقيف المتهم الغائب وذلك إذا اقتنع القاضي بالاستناد إلى بينات طبية أنه يتعذر إحضاره أمامه بسبب مرضه (م121) .
وقد بينت المادة (123) أن من حق الموقوف الاتصال بذويه والاستعانة بمحام . والمطلوب من السادة وكلاء النيابة العامة أن يُعْمِلوا حكم هذا النص فعلاً وخاصة تمكين المتهم من الاتصال بمحاميه . وأكد المشرع الفلسطيني في المادة (124) على حق المتهم في الاتصال بمحاميه وبدون حضور أحد .
وإذا انتهت مدة التوقيف فلا يجوز بحال من الأحوال إبقاء المتهم في مركز الاصلاح (السجن) ويتعين الإفراج عنه فوراً .
وفي نهاية الحديث عن التوقيف فإنه لا بد من الإشارة إلى ما جاء في المادة (128) بخصوص واجب كل من علم بوجود موقوف أو نزيل بصفة غير قانونية أو في غير المكان المخصص لذلك ، أن يخطر النائب العام أو أحد مساعديه بذلك ، الذي يأمر بإجراء التحقيق والإفراج عن الموقوف أو النزيل بصفة غير قانونية ، ويحرر محضراً بذلك لاتخاذ الإجراءات القانونية اللازمة .
والأمر ليس مقصوراً فقط على المواطن العادي بأن يقوم بالابلاغ عن أية خروقات لحقوق الأفراد وإنما أيضاً على رجال النيابة العامة بأن لا يهملوا أو يتوانو عن التحرك الفوري في مثل تلك الحالات والإفراج عن المحتجزين بغير حق وأن يوصوا بملاحقة من اعتدى على حريات الناس والمطالبة بإنزال العقاب الرادع بحقه .
منقول