الجهوية المتقدمة بالمغرب
تزايد الإهتمام بالجهوية بشكل بارز في توجه الدول سواء المتقدمة أو النامية، بحيث أصبح الإهتمام بها أحد المقومات الأساسية في سياساتها العامة، إذ جاءت لتجاوز الإختلالات التاريخية المتمثلة في تركز الأنشطة الصناعية في بعض الجهات والمدن بعينها ، وللتخفيف من المركزية الشديدة التي كانت تعاني منها بعض الأنظمة، ولاسيما الأنظمة الدكتاتورية والعسكرية كألمانيا وإيطاليا، ولخلق عدالة إجتماعية في الدول النامية بعد أن إستفحلت الظواهر الإجتماعية ( التهميش- الفقر- الظلم الإجتماعي بكل تجلياته)، وتفاوتت الفوارق المجالية بين المناطق الغنية جدا والمناطق الفقيرة جدا والمضطهدة، وينطبق هذا الوصف بمختلف أبعاده وتجلياته على المغرب الذي عانى الآمرين من أجل محاولة الخروج من هذا الوضع الذي هدد إستقرار الدولة وإستمراريتها.
بعد حصول المغرب على إستقلاله وجد نفسه أمام تركة استعمارية جسيمة على صعيد الفوارق الجهوية على كافة الأصعدة الاقتصادية ،الاجتماعية والسياسية، وبعد ما تبين العجز الواضح للإقليم كإطار لمحو تلك الفوارق والتفاوتات حيث أن الإطار الإقليمي كوحدة جغرافية لم تعد كافية وقادرة بأن تستعمل كحقل للتخطيط الإقتصادي والإجتماعي، فظهرت ضرورة الإعتماد على تنظيم جديد وفعال، فكانت الجهة الوسيلة الملائمة لإختيارات إعداد التراب الوطني والتنمية الجهوية، والتي يفترض فيها أن تكون وحدة ترابية قادرة على تقديم إطار للنمو الإقتصادي والإجتماعي.
وإذا كان من الصعب التحدت في مرحلة ما بعد الإستقلال الى سنة 1971 عن المركزية الجهوية، فإن إشكالية التنمية الجهوية طرحت من خلال المخططات التي عرفتها البلاد منذ الستينات، وإكتست درجات متفاوتة من مخطط لآخر بهدف تخطي صعوبة الإختلالات المجالية وعدم التوازن بين مختلف الجهات والمناطق.
ففي مرحلة الستينات تم تسجيل تجربتين اعتبرتا مدخلا حقيقيا نحو ظهور تجربة المناطق الاقتصادية التي جاء بها ظهير 16 يونيو 1971، وهما : مشروع تهيئة حوض سبو، ومشروع التنمية الاقتصادية القروية للريف الغربي، الا ان اهم العراقيل التي حالت دون تحقيق اهداف المخططات السابقة هي عدم المعرفة بالحقائق المحلية وبالتالي ضرورة اقحام البعد المجالي لعمليات التنمية في المخططات.
وقد صدر في هذا الاطار الظهير الشريف بتاريخ 16/06/1971 بشان احداث الجهات الاقتصادية السبعة، كلبنة اولى لتنظيم حقيقي للجهة في المغرب، حيث وضعها في اطار قانوني مؤسساتي مبينا وظيفتها وحدود مشاركتها في المسلسل الوطني للتنمية، وجاء ليترجم التوجه الجهوي الذي اصبح من صميم الاختيارات الاقتصادية للمغرب، وبالتالي اعادة تقسيم المغرب جهويا على اسس جديدة تاخد بعين الاعتبار المستجدات والمعطيات السوسيو- اقتصادية، خصوصا بعد ترقية الجهة الى جماعة محلية وفق الفصل 94 من دستور 1992 والفصل 100 من دستور 1996، أصبحت في الدستور الحالي لسنة 2011 تتصدر الجماعات الترابية، وأصبحت أيضا تحظى بمكانة الصدارة ضمن الخطب الملكية والأنشطة الحكومية وإهتمام كبير من طرف باقي هيآت الدولة سواء الرسمية أو الغير الرسمية.
• 2- مفاهيم وأفكار توضح المقصود بالجهوية وأهدافها:
تعد الجهوية الإطار الأنسب لتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية المحلية فبعدما أظهرت الوحدات اللامركزية التقليدية المقصود هنا الجماعات الحضرية والإطار الإقليمي – عجزها عن استيعاب المشاكل الاقتصادية ومختلف الإكراهات التي يواجهها المجال المغرب ، ظهر الفضاء الجهوي كإطار أوسع وملائم لمواجهة هذه الاختلافات وتحقيق التنمية ، وذلك بالنظر لما تتيحه الجهوية من إمكانية لتجميع الثروات المتواجدة على صعيد الأقاليم والمناطق والتنسيق بين مختلف الخطط والبرامج الاقتصادية والاجتماعية المحلية والمخططات الوطنية، الأمر الذي من شأنه أن يحقق نموا اقتصاديا واجتماعيا لكافة المناطق والجهات وبالتالي محاربة الإختلالات والتباينات الاقتصادية والاجتماعية .
كما أن الجهوية تعد أحد الأساليب الإدارية التي تجعل إدارة المرافق العامة مطابقا لحاجيات الأفراد والسكان حيث أن المجلس الجهوي المنتخب من طرف سكان الجهة يكون أدرى من غيره بحاجيات هذه الجهة وبإدارة مرافقها الأمر الذي من شأنه أن يجعل القرارات المقترحة أكثر موضوعية ونجاعة وفعالية لكافة المشاكل والقضايا ذات الطابع المحلي .
كما أنها – الجهوية – تعد نوع متطورا من اللامركزية الإدارية وإحدى آليات تجسيد الحكم المحلي وتفعيل مبدأ المشاركة الشعبية في تدبير الشؤون المحلية .
هذا ويمكن تعريف الجهة إستنادا للمادة 1 من ظهير التنظيم الجهوي لسنة 1997 – بكونها جماعة محلية تتمتع بالشخصية المعنوية والاستقلال المالي والإداري تمارس مجموعة من الاختصاصات المستندة لها بموجب القانون وهي معنية بتحقيق الاقتصادية والاجتماعية الجهوية.
• 3- أنواع الجهوية:
يمكن التمييز بين ثلاث أنواع من الجهوية إعتمادا على المرجعية القانونية التي تستمد منها وجودها، وتتمثل في:
1- الجهوية الوظيفية: حيث تعتبر الجهة فضاءا ترابيا لتيسير مهمة محددة من مهام الدولة دون أن يقتضي الأمر تمتعها بالشخصية المعنوية والإستقلالية الذاتية.
2- الجهوية الإدارية: وينبغي الفصل داخلها بين الجهوية الإدارية اللامركزية ( تكون الجهة وحدة ترابية متميزة عن السلطة المركزية- للتوضيح أكثر – ) والجهوية الإدارية مع عدم التركيز ( في هذه الجهوية تكون الجهة عبارة عن مقاطعة إدارية خاضعة للسلطة الرئاسية للمؤسسات المركزية ).
3- الجهوية السياسية : تتبوأ في ظلها الجهة بمرتبة سامية داخل تنظيم الدولة، فالجهة (في الجهوية السياسية) تتقاسم مع السلطة المركزية جملة من الوظائف السياسية خاصة في الميدان التشريعي والتنظيمي، والتي تحددها الوثيقة الدستورية، وتمثل الجهوية السياسية أعلى مستوى من مستويات اللامركزية الترابية دون الوصول إلى الدولة الفدرالية .
• 4- الجهوية الموسعة في الخطب الملكية:
+ الخطاب المرجع للجهوية الموسعة بالمغرب: خطاب 6 نونبر 2008
تشكل الجهوية الموسعة مرجعية شبه دائمة في الخطب الملكية، إلا أن خطاب 6 نونبر 2008 يعد مرجعية أساسية إذ يحدد تصورا مفصلا إلى حد ما للجهوية المتقدمة أو الموسعة، ويؤكد صاحب الجلالة في هذا الخطاب على ما يلي:” لذلك قررنا بعون الله فتح صفحة جديدة في نهج الإصلاحات المتواصلة الشاملة التي نقودها بإطلاق مسار جهوية متقدمة ومتدرجة، تشمل كل مناطق المملكة، وفي مقدمتها جهة الصحراء المغربية… “، وهكذا يشير الخطاب الملكي إلى مفاهيم وعبارات يمكن الإستناد إليها لتحديد المعالم الكبرى للجهوية المرتقبة: ” الجهوية المتقدمة والمتدرجة “، ” التدبير الديمقراطي للشؤون المحلية “، ” جهوية موسعة وملائمة “، ” إصلاح هيكلي عميق “، ” إستحضار دور المؤسسات الدستورية “، ” تقسيم ناجع “، ” نظام فعال لإدارة لاممركزة يشكل قطيعة مع المركزية المتحجرة”، ” إصلاح مؤسسي عميق “، ” ورش هيكلي كبير”، ” نموذج مغربي لجهوية متقدمة”…
ويتحدث هذا الخطاب أيضا عن مبادئ توجيهية أساسية: ” مبادئ الوحدة والتوازن والتضامن” التي تسعى إلى تحقيق ثلاثة أهداف: ” ترسيخ الحكامة المحلية الجيدة وتعزيز القرب من المواطن وتفعيل التنمية الجهوية المندمجة”.
+ خطاب تنصيب اللجنة الإستشارية للجهوية: خطاب 5 يناير 2010
جاء خطاب تنصيب اللجنة الإستشارية للجهوية ليدقق شيئا ما في التوجيهات، حيث إعتبر أن بلورة الجهوية يتعين أن تقوم على مرتكزات أربع:
* 1- التشبت بمقدسات الأمة وتوابثها في وحدة الدولة والوطن والتراب، فالجهوية الموسعة يجب أن تكون تأكيدا ديمقراطيا للتميز المغربي الغني بتنوع روافده الثقافية والمجالية المنصهرة في هوية وطنية موحدة- حسب الخطاب الملكي-
* 2- الإلتزام بالتضامن، إذ لا ينبغي إختزال الجهوية في مجرد توزيع جديد للسلطات بين المركز والجهات…
* 3- إعتماد التناسق والتوازن في الصلاحيات والإمكانات وتفادي تداخل الإختصاصات أو تضاربها بين مختلف الجماعات المحلية والسلطات والمؤسسات…
* 4- إنتهاج اللاتمركز الواسع الذي لن تستقيم الجهوية بدون تفعيله في نطاق حكامة ترابية ناجحة قائمة على التناسق والتفاعل.
– المهام التي أوكلت للجنة الإستشارية للجهوية من قبل الملك في خطاب 5 يناير 2010:
يكمن دور اللجنة الإستشارية في تحديد مكونات هذه المفاهيم والنظريات والعبارات المركبة التي تعمدت وضعها بين مزدوجتين، والتي تبقى، على أية حال، عامة في مبادئها. فهذا الجهاز الإستشاري كان مدعو لتحديد تصور عام للجهوية يسمح للمغرب بالإنتقال من تنظيم إداري مبني على مركزية مفرطة أو ” مركزية متحجرة ” حسب الخطاب الملكي ” إلى نظام يتأسس على ” الحكامة الجيدة المحلية ” و ” المقاربة الترابية “، أي نظام إداري جديد يشبه إلى حد كبير الأنظمة المطبقة في الدول الجهوية كإسبانيا وإيطاليا…
يمكن على ضوء كل هذه الملاحظات العامة أن نبرز الملامح الكبرى للجهوية المتقدمة، بالإستناد إلى التوجيهات التي وردة في الخطب الملكية، وذلك من خلال الخصوصيات والوسائل:
+1- خصوصيات الجهوية المتقدمة:
إن الجهوية المقررة في الخطب الملكية، تكتسي ثلاث خصوصيات: فهي جهوية متدرجة وجهوية أصيلة أو مغربية- مغربية وجهوية موسعة.
أ- جهوية متدرجة: يمكن رصد بوضوح هذه الخاصية في المراحل التاريخية التي عرفها المغرب: جهوية تقليدية قبل 1912، جهوية الأزمة في عهد الحماية، جهوية وظيفية بين 1956 و 1970، جهوية إقتصادية بين 1971 و 1996، واللامركزية الجهوية منذ 1997. فالملاحظ أن الجهوية تتميز، من الناحية التاريخية، بالتدرج وتسلسل الحقب.
والواقع أن الراحل الملك الحسن الثاني قد أكد على فكرة الإصلاح الجهوي المتدرج في الكلمة التي ألقاها أمام البرلمان بتاريخ 5 نونبر 1996 أوضح أنه ” إذا وافقنا على كل شيء منذ البداية سيكون من الصعب التراجع عن القرارات المتخذة وإسترجاع ما تم منحه…فإذا تبين، بعد سنة، أنه من المستحب توسيع إختصاصات الجهة، ستواكب النصوص هذه الإختصاصات كلما كانت الحاجة ماسة لذلك”.
ويتفق الكل على أن التدرج في الإصلاحات ومنح الإختصاصات للجهة يشكل تقنية يمكن تبريرها بعدة إيجابيات.
فهي تسمح، أولا، بأقلمة (مواكبة) الإصلاح لمستوى تطور المجتمع المغربي لتفادي التفاوتات المحتملة بين المؤسسات والإطار البشري الذي يستقبلها، كما أنه من المؤكد أن التدرج سيسمح للجهات بأن تتمرن على ممارسة الإختصاصات الجديدة.
وبصفة عامة يعد التدرج منهجية إيجابية خصوصا في ميدان اللامركزية، حيث يتعلق الأمر بنظام معقد يقتضي تحقيقه النفس الطويل.
ب- جهوية مغربية-مغربية أو جهوية أصيلة: إن الخطب الملكية تدعو بصريح العبارة إلى تقوية الأصالة وإضفاء الطابع المغربي على الجهوية المرتقبة، بالإرتكاز على الخصوصيات الوطنية والمحلية التي تميز المغرب.
وهكذا يضم خطاب 6 نونبر 2008 بعض العبارات الدالة على هذه الخصوصية في الجهوية المرتقبة مثل: ” وفي جميع الأحوال فإن المملكة ستضل وفية لهويتها الحضارية “،” وإننا ندعو الجميع للتحلي بروح الوطنية والمواطنة لرفع التحدي الكبير لإنبثاق نموذج مغربي لجهوية متميزة “. وشدد خطاب تنصيب اللجنة الإستشارية للجهوية، من خلال الإشارات المتكررة، على هذه السمة بطريقة تثير الإنتباه: ” التشبت بمقدسات الأمة وتوابثها “، ” نموذج وطني لجهوية متقدمة”، ” إيجاد نموذج مغربي- مغربي”، ” إبداع منظومة وطنية متميزة للجهوية بعيدا عن اللجوء للتقليد الحرفي أو الإستنساخ الشكلي للتجارب الأجنبية”، ” فالجهوية الموسعة يجب أن تكون تأكيدا ديموقراطيا للتميز المغربي “.
ومن الإشارات الظاهرة والخفية التي ينطوي على التأكيد على تبني الطابع الأصيل في الجهوية المرتقبة نجد:
– التأكيد على ضرورة وضع جهوية تأخذ بعين الإعتبار محدودية الإمكانيات المالية والمادية والتقنية والبشرية التي يتوفر عليها المغرب، ومدى إمكانية إستيعاب مكونات المجتمع للإصلاح الجهوي.
– الإعتراف الضمني بصعوبة إنشاء جهوية بنفس القوة التي ينطوي عليها هذا النظام في الدول المتقدمة.
– كما أنه من الواضح أن التقنية التدرجية في تطبيق الجهوية المتقدمة، تعد عنصرا مكملا لجهوية مغربية- مغربية.
ج- جهوية موسعة: حظيت الجهوية بنصيب وافر في الخطابات الملكية وأضحت طموحا شخصيا للملك محمد السادس، وهكذا يؤكد خطاب 6 نونبر 2001 على ما يلي: ” إننا عازمون على توطيد الجهوية بمنظور للتنمية الجهوية المتوازنة لا يختزلها في مجرد هياكلها وأبعادها الإدارية والمؤسساتية والثقافية، بل يعتبرها فضاء خصبا للتنمية الشاملة والمتواصلة بالجهة ومن أجلها “. ولقد ورد نفس الموقف في خطاب 30 يوليوز 2001: ” مولين عناية قصوى في هذا المجال للجهة والجهوية التي نعتبرها خيارا إستراتيجيا وليس مجرد بناء إداري”.
إن الجهوية الموسعة تهدف إلى جعل الجهة إطارا لتمثيل الجماعة والمصالح والأنشطة التي تشكل نسيج الحياة اليومية لساكنتها والتي تتحكم في مصيرها، وأيضا تعمل على التدقيق في توزيع الإختصاصات بين الدولة والجهة. وخطاب 6 نونبر 2008 واضح في هذا الشأن لما تحدث عن مبدأ التوازن: ” وأما التوازن فينبغي أن يقوم على تحديد الإختصاصات الحصرية المنوطة بالدولة مع تمكين المؤسسات الجهوية من الصلاحيات الضرورية للنهوض بمهامها التنموية “.
+2- وسائل الجهوية الموسعة:
إن الجهة أصبحت جماعة محلية منذ تكريسها دستوريا سنة 1992، حيث يتعلق الأمر بشخص عام يتوفر على الشخصية القانونية والوسائل المالية، فلا يمكن للجهة أن تشتغل بدون أن تتوفر على وسيلتين: سلطة التصرف القانوني والوسائل المالية، فالوسيلتين مرتبطتين أشد الإرتباط، فالجهة التي تتوفر على الكفاءة القانونية للتصرف بدون وسائل مالية تصبح شخصا ” قاصرا “، وإذا توفرت على الوسائل المالية الكافية دون سلطة التدخل القانوني ستصبح شخصا فاقدا للكفاءة.
وإستيعابا لهذه العلاقة المثينة بين الكفاءة القانونية والوسائل المالية للإقلاع الجهوي وتحقيق التنمية الجهوية أكدت الخطب الملكية على ضرورة توفر الجهات على الوسائل الضرورية، وهكذا يشير خطاب 6 نونبر2008 وخطاب تنصيب اللجنة الإستشارية إلى مسألة الوسائل من خلال مجموعة من العبارات: ” التوازن “، ” الصلاحيات الضرورية “، ” مبدأ التضامن “، ” موارد عامة وذاتية “، ” التوازن في الصلاحيات والإمكانات”، ” جهات قائمة الذات وقابلة للإستمرار “، ” جهوية ذات جوهر تنموي”. وأبدع خطاب 8 نونبر 2008 بتبنيه منظورا شموليا لمفهوم الوسائل المعمولة رهن إشارة الجهة، فلقد أشار إلى: ” إعتماد تقسيم ناجع ” و ” تعزيز مسار اللاتمركز كعنصر مكمل للجهوية”، و ” إعادة تنظيم الإدارة المحلية “…
وهكذا، فحسب الخطاب الملكي، يتوقف نجاح الإصلاح على الوسائل التالية: تقسيم ترابي ناجع، توفير الوسائل المالية والبشرية واللاتمركز الواسع.
أ- تقسيم ناجع: يوضح خطاب 6 نونبر 2008 أن ” نجاح الجهوية رهين بإعتماد تقسيم ناجع يتوخى قيام مناطق متكاملة إقتصاديا وجغرافيا ومنسجمة إجتماعيا وثقافيا “، فحسب الخطاب الملكي، يرتبط نجاح هذا الورش ( ورش الجهوية الموسعة) بنجاعة التقسيم الجهوي كأساس للإصلاح على المستويين البنيوي والوظيفي. والتقسيم يعد من الإشكاليات الدائمة في الإصلاحات من هذا النوع لكونه يتحكم في ما تبقى من مكونات الجهوية.
وقد ركز الخطاب على فئتين من المعايير الواجب أخذها في الإعتبار في التقسيم الجهوي:
+ أولا: المعايير الإقتصادية والجغرافية التي تشكل مراجع موضوعية ترتبط بالمستقبل العلمية.
+ ثانيا: المعايير الإجتماعية والثقافية التي تعد من المراجع الذاتية ذات الصلة بالماضي، والتي تجسد الجهوية العاطفية. والإشكالية التي يطرحها الخطاب بطريقة ضمنية تكمن في ضرورة التوفيق بين التكامل الإقتصادي والجغرافي بين الجهات من جهة والإنسجام الإجتماعي والثقافي من جهة أخرى.
وقد أوكلت مهمة إقتراح عدد الجهات بالإعتماد على المعايير السالفة الذكر للجنة الإستشارية للجهوية، والتي قدمت تقريرها الذي يتضمن مقترحاتها في كل جوانب بناء جهوية قوية، لكن تبقى إقتراحاتها إستشارية يمكن أن يأخذ بها المشرع في مضامين القوانين التنظيمية التي نص عليها الدستور الجديد، ومنها القوانين التنظيمية للجماعات الترابية ( الجماعات- الحضرية والقروية-/ العمالات والأقاليم/ الجهات ) كما يمكن أن يتجاهلها وينص على مبادئ أخرى برؤية مغايرة لتلك التي بنت عليها اللجنة إقتراحاتها.
ب- الوسائل المالية والبشرية:
1- إن توسيع الجهوية بالتدقيق والتفصيل في الإختصاصات والنقل الإضافي لمهام أخرى ومنح صلاحيات جديدة للجهات يقتضي بقوة الأشياء، الرفع من الموارد المالية وإلا ستصبح الجهوية الموسعة مجرد كلام فارغ، والخطاب الملكي المؤرخ في 6 نونبر 2008 كان واضحا في هذا الشأن: ” ويضل التضامن الوطني حجر الزاوية في الجهوية المتقدمة، إذ أن تحويل الإختصاصات للجهة يقترن بتوفير موارد مالية عامة وذاتية”.
2- إن الجهوية الموسعة تعني كذلك أن المنتخبين الجهويين سيكونون في أمس الحاجة إلى موارد بشرية جديدة، ويقتضي مبدأ اللامركزية أن الوسائل البشرية لا يمكن أن تنتج إلا عن وجود أعوان خاصين لا يخضعون لسلطات أخرى غير السلطات المحلية المنتخبة، والحال أن الجهة حاليا كجماعة ترابية لا تتوفر على إدارة خاصة ووظيفة عمومية جهوية- غياب لموظفين تابعين للجهة-، ويبقى موظفي الجهة ملحقين بالجهة فقط في إطار وضعية الإلحاق، فهم تابعون بالأساس للإدارة المركزية، وبالتالي لنجاح الجهوية الموسعة يجب أن تتوفر الجهة على هيئة خاصة للموظفين.
ج- نظام فعال لإدارة لا ممركزة: أكدت عدة خطب ملكية على التلازم بين اللامركزية الجهوية واللاتمركز. ولقد أوضح الملك الراحل الحسن الثاني أمام المشاركين في الندوة الوطنية للجماعات المحلية التي أقيمت في مدينة مكناس: ” إذا كانت اللامركزية تشكل الغاية، فاللاتمركز يعد الوسيلة لتحقيق هذه الغاية “، وأكدت على هذا الترابط جل الخطابات الملكية التي تناولت موضوع الجهوية الموسعة، وهو نفس التوجه الذي جاء به خطاب 6 نونبر 2008: ” مهما وفرنا للجهوية من تقدم، فستظل محدودة ما لم تقترن بتعزيز مسار اللاتمركز، لذلك يتعين إعطاء دفعة قوية لعمل الدولة على المستوى الترابي “، والمقصود بتعزيز مسار اللاتمركز هو توطيد صلاحيات الوالي وتقوية سلطات العمال، بإعتبار أن الوالي أو العامل هو ممثل للسلطة المركزية على المستوى المحلي والإقليمي والجهوي.
فالوالي هو السلطة الملائمة لممارسة الإختصاصات اللاممركزة والتنسيق على المستوى الترابي، ومن المنطقي أن تعزيز اللاتمركز سيساهم في أقلمة الدولة ( الإدارة المركزية) مع المجال الجهوي، فإذا كان على الجهة أن تمارس مهامها مع الأخذ بعين الإعتبار الدور الأساسي الذي تلعبه الدولة، فعلى الدولة كذلك أن لا تتجاهل الجهة وسيرورتها، ذلك أن الجهوية الموسعة تقتضي وجود ممثلين للدولة، أي ولاة وعمال، قادرين على العمل في إطار تشاوري مع المؤسسات الجهوية. كما يتعين على موظفي الدولة أن يعتبروا الجهة كمحور أساسي لتدخلاتهم، وأن يتخلصوا من نزوعهم نحو التدبير المركزي المفرط الذي نعته الخطاب الملكي ” بالمركزية المتحجرة “.
• 5- مقترحات اللجنة الإستشارية للجهوية:
+1- السياق العام لعمل اللجنة الإستشارية للجهوية:
بمجرد تنصيبها كرست اللجنة الاستشارية للجهوية أولى جلساتها لدراسة الخطاب الملكي ليوم 3 يناير 2010 دراسة معمقة، جاعلة منه مرجعها الأسمى وخارطة طريقها نحو تصور الجهوية المتقدمة، مستلهمة مما يتضمنه من أحكام سديدة أهداف ومنهج عملها.
وبناء على ما أنيط بها من مهام التزمت اللجنة بوضع نموذج للجهوية ينطبق على مجموع التراب الوطني في انتظار ما ستنتهي إليه المفاوضات حول مشروع نظام الحكم الذاتي لأقاليم الجنوب . وللسير صوب هذه المقاصد، اختارت اللجنة البناء على مكتسبات التجربة الوطنية في اللامركزية بما لها وما عليها، معززة ما فيها من الإيجابيات وطارحة ما فيها من النقائص، ساهرة على جعل مضامينها ومظاهرها مستجيبة لمتطلبات اللحظة التاريخية والغايات المنشودة، مما استلزم تسليط أضواء التقييم على المراحل السابقة واستشراف المستقبل استجابة للطموحات والتطلعات للتغيير.
وسعيا لهذه الغاية وعملا بمنطوق المهام المناطة بها، قامت اللجنة باستشارات واسعة النطاق شملت كل الهيئات الكفيلة بالإسهام في البناء المنشود، أحزابا سياسية ومنظمات نقابية ومنتخبين في الجماعات والعمالات والأقاليم والجهات ومنظمات مهنية وشبكات جمعوية للمجتمع المدني وقطاعات وزارية وهيئات مكلفة بالتنمية وأجهزة عمومية مكلفة بالدراسات والتقييم والمراقبة.
وقد تمت هذه الإستشارات إما مشافهة لتقييم الأوضاع الراهنة واستشراف آفاق المستقبل، وإما مكاتبة من خلال تقارير تعرض التشخيصات وتقدم المقترحات، وإما بكلتي الطريقتين. وبناء على ما توصلت به اللجنة من معطيات فإنها قامت بتحليل معمق لاستجلاء مواقف الهيئات المعنية عن مختلف مكونات البنيان المنشود.
وبفضل حسن استعداد الهيئات المستشارة وتجاوبها، أتت هذه الاستشارات أكلها إذ زودت اللجنة بمعطيات ثمينة سواء عن نقائص التجربة الحالية أو عن مدى التطلعات، شاهدة بجلاء على أن الجهوية المتقدمة تحظى بالإجماع في مبدئها وتثير آمالا عريضة.
أما عن المنهجية المتبعة ونظرا لما بين نماذج الجهوية من التفاوت الناجم عن اختلاف ظروف قيام الدول وتطورها في التاريخ، فإن اللجنة الاستشارية للجهوية سارت على خط رئيسي في التفكير واستأنست بمصادر تكميلية:
اعتمادا اللجنة على التوجيهات الملكية الواردة في خطاب صاحب الجلالة ليوم 3 يناير 2010، إذ على اللجنة أن تضع مشروعا مغربيا مستمدا من ثقافة البلاد وقيمها، ومن مؤسساتها وتجاربها، ومن تاريخها وجغرافيتها، من خصوصياتها ومميزاتها، من تطلعات مواطنيها وطموحاتهم. وقد عملت على بناء المشروع، لبنة لبنة، وفق ما بدا لها مستجيبا بأكثر ما يمكن من الدقة لواقع المغرب ولطموح أبنائه، وكفيلا ببلوغ مقاصد الجهوية المتقدمة، مستلهمة ذلك من التوجيهات الملكية السامية ومن الأماني والمقترحات الملائمة لكل من تمت استشارته من الفاعلين المغاربة، وفي مقدمتهم الأحزاب السياسية الوطنية بدون استثناء.
بيد أن الامتناع عن التقليد الأعمى وعن نقل النماذج لم يعف اللجنة من الاطلاع على التجارب الأجنبية للوقوف على ما جاءت به من الحلول في قضية أو في أخرى، حيث أجرت بعض المقارنات المركزة أساسا على النماذج المعمول بها في الدول الموحدة، واستشارت عددا من الهيئات الدولية والخبراء الأجانب. ولم تتردد عند الاقتضاء من اقتباس بعض الآليات التي ثبتت فائدتها وبدت قابلة لملاءمة الواقع المغربي.
انكبت اللجنة على الدراسة المتواصلة، سواء في الجلسات العامة أو في إطار فرق العمل الموضوعاتية، للقضايا الجوهرية المتعلقة بالجوانب المؤسساتية والديمقراطية، وباختصاصات المجالس المنتخبة وأنماط المراقبة من طرف الدولة، والتنمية الاقتصادية والاجتماعية بما في ذلك من تمويل التضامن، وبالحكامة وتحديث هياكل الدولة، وباللاتمركز وبالتقطيع الجهوي.
وفي نهاية المطاف فإن نتائج هذا العمل قد أدرجت في ثلاث كتب تشكل تقريرا مفصلا للجنة الذي قدم لصاحب الجلالة وتم نشره ليطلع عليه العموم. وفي ما يرجع للاتمركز الإداري، كجانب متلازم مع الجهوية المتقدمة، واعتبارا لتوجيهات جلالة الملك للحكومة في خطاب 20 غشت 2010 بقصد وضع ميثاق في هذا الصدد، تقدم اللجنة إسهاما في هذا الورش.
+ 2- مقترحات اللجنة الإستشارية للجهوية:
+ جهوية ديمقراطية الجوهر:
* تركيبة المجالس الجهوية وإنتخابها:
* الصلاحيات التنفيذية لرؤساء المجالس:
* المشاركة النسائية وفق مقاربة النوع:
* الديمقراطية التشاركية:
+ إختصاصات موسعة وأكثر تمفصلا:
* صدارة المجلس الجهوي في مجال التنمية المندمجة:
* تركيبة مجالس العمالات والأقاليم وإختصاصاتها وآفاق تطورها.
* تطوير منظومة الجماعات وتجمعاتها البينية.
+ جهوية مكرسة للتنمية المندمجة:
* إحداث صندوق التأهيل الإجتماعي للجهات.
* تحسين الموارد الحالية من حيث التحصيل والتصرف.
* موارد ذاتية جديدة للمجلس الجهوي.
* الرفع من الموارد المرصودة من طرف الدولة.
* توفير موارد متناسبة مع الإختصاصات المنقولة للجهة.
* تبويب ميزانيات الدولة بحسب الجهات.
* إحداث صندوق عمومي للتضامن بين الجهات.
+ حكامة جيدة الأداء:
* إحداث وكالة لتنفيذ المشاريع تحت مراقبة المجلس الجهوي:
* تأهيل إدارات الجماعات الترابية:
* أنماط التدبير:
* نظام المعلومات:
* التقييم وتقديم الحساب:
+ مراقبة أكثر حداثة ومرونة من طرف الدولة:
* الحد من المراقبة القبلية ومن مراقبة الملاءمة:
* تعزيز المراقبة البعدية:
* الإبقاء على المراقبة القضائية لشرعية الأعمال:
+ مساهمة في ورش اللاتمركز:
* سياسات عمومية ذات بعد ترابي ومتناسقة القطاعات.
* تفويض الإختصاصات للمصالح اللاممركزة:
* تعميم عقود البرامج والتدبير وفق الأهداف:
* تنمية الموارد البشرية للإدارة اللاممركزة:
* تنسيق الإدارة العمومية في الجهة:
– في مجال اللاتركيز الإداري:
يعتبر اللاتركيز الإداري الدعامة الضرورية لكل سياسة تهدف إلى إنجاح تجربة اللامركزية كما تشكل هذه العملية إحدى أهم الرهانات لبرنامج إصلاح الإدارة في إطار سياسة إرادية لإعداد التراب، قائمة على اللاتركيز واللامركزية والجهوية. وعدم التركيز الإداري هو أسلوب للتنظيم الإداري يقوم على توزيع السلطات في حدود معينة بين الإدارة المركزية في العاصمة، ومن إقترحات اللجنة الإستشارية في مجال تدعيم اللاتركيز الإداري:
* تنسيق الإختصاصات والإنتشار الترابي للمصالح الخارجية للإدارة والهيآت العمومية اللامركزية العاملة في قطاعات أساسية مثل التربية والتكوين والماء والبنيات التحتية للنقل والسكن والتعمير.
* السهر على تصويب أو تجنب تداخل الإختصاصات وإزدواجية الهيآت والإستعمال غير الملائم أو غير الرشيد للموارد البشرية والمادية بين مختلف أنواع المصالح والهياكل اللاممركزة واللامركزية المكلفة بالعمل اليومي الميداني.
* تضطلع الإدارة المركزية بمهام التوجيه والتصور والتنشيط والمواكبة والمساعدة والتقييم والمراقبة في إتجاه تفويض موسع بالتدرج للمهام الإجرائية والتدبيرية للمصالح الخارجية القريبة من السكان.
* تناط بالإدارة الجهوية مهام التنسيق وتحقيق التماسك بين برامج وأعمال المصالح والهيآت العمومية، وأيضا مهمة التعاقد مع الإدارة المركزية وتتبع التفعيل.
– مقترح اللجنة في التقسيم الترابي الجهوي:
إن ما يميز مشروع التقسيم الجهوي المقترح من طرف اللجنة الإستشارية للجهوية هو تحديد عدد الجهات الواجب إحداثها بغية تعزيز الحكامة الترابية في 12 جهة مقسمة على الشكل التالي:
1- جهة طنجة- تطوان،2- جهة الشرق- الريف،3- جهة فاس- مكناس،4- جهة الرباط- سلا- القنيطرة،5- جهة بني ملال- خنيفرة،6- جهة الدار البيضاء- سطات،7- جهة مراكش- آسفي،8- جهة درعة- تافيلالت،9- جهة سوس- ماسة،10- جهة كلميم- واد نون،11- جهة العيون- الساقية،12- جهة الداخلة- وادي الذهب.
إن هذا التقسيم المقترح من شأنه – حسب اللجنة الإستشارية للجهوية – أن يحقق نوعا من التكامل بين مختلف الجهات، حيث سيضمن توزيعا عادلا للمصالح اللامتمركزة التي ستساهم في تقريب الإدارة من المواطنين، وجعل هذه المصالح تتمتع بصلاحيات واسعة في مجال إتخاذ القرار لما فيه من تحسين صورة العمل الإداري على المستوى الترابي وتخفيفا للآثار السلبية الناتجة عن المركزية المتحجرة.
لكن هذا المقترح في التقسيم لاقى إنتقادات واسعة على أكثر من مستوى، إذ أجمع أكثر من مصدر على أن التقطيع الجهوي، لم ينهض على منهجية علمية، تطبيقا لمعايير تهم الفعالية، والتراكم، والتجانس، والوظيفة، والقرب، والتناسب، والتوازن، مقابل ذلك استرشد هذا التقطيع بقاعدتين تكميليتين، هما الاتصال والقرب.
إعداد الباحث:ذ/عبد الغفور اقشيشو