الخبرة القضائية في المادة المدنية و الجنائية
مقدمـــــة عامــــــة :
تعتبر الخبرة القضائية من أهم الإجراءات المساعدة للقضاء والتي يأمر بها القاضي في ظروف خاصة وشروط معينة قصد إجراء تحقيق في مسائل فنية، لا يمكن للمحكمة أن تبث في النزاع المعروض عليها دون توضيح بعض المسائل أو النقط الفنية البحتة من الأشخاص ذوي المعارف الخاصة كي تستطيع الحكم فيها بارتياح .
وقد عرف بعض الفقهاء الخبرة القضائية بأنها “إجراء للتحقيق يعهد به القاضي إلى شخص مختص ينعت بالخبير ليقوم بمهمة محددة تتعلق بواقعة أو وقائع مادية يستلزم بحثها أو تقديرها أو على العموم إبداء رأي يتعلق بها علما أو فنا لا يتوفر في الشخص العادي ليقدم له بيانا أو رأيا فنيا لا يستطيع القاضي الوصول إليه وحده” .
ومن خلال هذا التعريف يمكن القول بأن الخبرة علم وفن وإجراء في آن واحد .
فهي علم يتطور مع التطور العلمي والتكنولوجي على جميع المستويات، مما يستوجب وجود مختصين يواكبون هذا التطور وعلى دراية كافية به؛ يمكن للقضاء الاستعانة بهم لاستجلاء اللبس والغموض المحيط بالمسائل التقنية والفنية موضوع الخبرة حتى يتسنى للقاضي البث انطلاقا مما هو ثابت علميا ليريح ضميره ويحقق العدالة المرجوة .
وهي فن قوامه المزج بين ما هو تقني وعلمي وما هو قانوني ومسطري، وهذا العمل ليس في استطاعة كل إنسان القيام به وإنما من الضروري أن يكون الخبير على درجة كبيرة من الإلمام بمتطلبات الميدانين تمكنه من المزج بين هذا وذاك، حتى يكون التقرير المطالب بإنجازه منسجما ومتكاملا ويعطي صورة حقيقية للقاضي حول النزاع المطروح أمامه .
وهي أيضا وبصفة أساسية إجراء من إجراءات التحقيق التي يأمر بها القاضي، وقد اهتم المشرع المغربي بالخبرة القضائية شأنه في ذلك شأن باقي التشريعات المعاصرة وأفرد لها نصوص خاصة من المادة 59 إلى المادة 66 من قانون المسطرة المدنية المعدلة بمقتضى قانون 00 – 85 والمواد من 194 إلى المادة 209من ق م ج ، كما توجد قواعد أخرى أساسية تنظمها في كثير من فروع القانون كالقانو ن المدني والتجاري أو قانون الجنسية والقانون الجنائي؛ ومن سمات الخبرة أنها وسيلة من وسائل الإثبات ذات طابع علمي يمكنها من احتلال مكانة مرموقة في ظل نظام الإثبات لا يمكن للمحكمة الاستغناء عنها بأي حال من الأحوال .
وتجدر الإشارة إلى أن تشعب الحياة وتطورها المستمران أديا إلى خلق اختصاصات متعددة ومتنوعة، وهذا ما يجعل مهمة القاضي صعبة مهما كان تكوينه العلمي أو المعرفي ورغم ثقافته الواسعة أن يلم كامل الإلمام بجميع المسائل ذات الطبيعة التقنية أو الفنية التي يتطلب حلها إجراء خبرة فنية كمسائل الطب والبيولوجيا والمحاسبة والطبوغرافيا والهندسة المعمارية …
ولهذا فالمشرع المغربي خول للقاضي السلطة التقديرية للأمر بإجراء خبرة وتعيين الخبير الذي يقوم بهذه المهمة -إما تلقائيا أو باقتراح أطراف النزاع واتفاقهم- للاستعانة به من أجل استكمال معلوماته وتسليط الضوء على ما غمض من واقع النزاع المعروض عليه، واعتبارا لذلك فإنه لا يمكن اللجوء إلى الأمر تمهيديا بإجراء خبرة لتجنب الجهد الضروري أو القيام بالدراسة اللازمة لتحليل عميق لعناصر النزاع الذي عليه الفصل فيه، بمعنى آخر أنه لا يجوز أن تتحول الخبرة إلى وسيلة للقاضي يلقي بها مهمته على غيره، وإلا كان ذلك تفويضا منه لسلطته القضائية. وقد جاء في قرار صادر عن المجلس الأعلى بتاريخ 30 ماي 1982 بهذا الخصوص : “… إن مهمة الخبير الذي تعينه المحكمة تنحصر في جلاء أمر تقني يرى القاضي الإطلاع عليه ضروريا للفصل في النزاع المعروض عليه، أما الإجراءات التي تتعلق بالقانون كمعرفة الأرض المتنازع عليها، هل هي من الأملاك الخاصة أو من أملاك الدولة أو الجماعات، وهل المدعوون يتصرفون في الأرض عن طريق المنفعة والاستغلال فقط أو عن طريق التملك، فهذه كلها إجراءات قانونية من صميم أعمال القاضي الذي لا يجوز أن يتنازل عنها للغير أو يفوض النظر فيها إليه …”
والخبرة إجراء للتحقيق يتميز عن باقي إجراءات التحقيق العادية الأخرى كالأبحاث واليمين وتحقيق الخطوط والزور الفرعي، لكونها لا ترتبط بقواعد الإثبات الموضوعية المنصوص عليها في قانون الإلتزامات والعقود المتمثلة في الإقرار والكتابة واليمين وشهادة الشهود والقرينة. وما دامت الخبرة إجراء للتحقيق فهي تعد مرحلة من أهم مراحل الدعوى، فأطراف النزاع خلال هذه المرحلة يقومون بطرح ادعاءاتهم ومزاعمهم للمناقشة مع السعي لإثبات صحتها ووجاهتها، كما يقوم القاضي بجمع كافة العناصر والأدلة وا لبراهين التي يستعين بها من أجل الفصل في النزاع المعروض عليه .
ونشير إلى أن موضوع الخبرة القضائية يحضى بأهمية بالغة في العمل القضائي باعتباره أكثر الإجراءات تطبيقا، فيلاحظ مثلا أن دعاوي التعويض المرفوعة إلى القضاء غالبا ما تكون مرتبطة بإجراء خبرة، كذلك الشأن بالنسبة للقضايا العقارية على اختلاف أنواعها؛ كما أن سوء تطبيق هذا الإجراء من طرف القاضي يترتب عنه إضرار بحقوق الدفاع وتطويل أمد النزاع .
والخبرة مهنة حرة تشارك في أداء خدمة عمومية وتنوير القضاء، وقد اعتنى المشرع المغربي بهذه المهنة ونظمها بمقتضى القانون رقم 00 – 45 المتعلق بالخبراء القضائيين، والذي عرف الخبير في مادته الثانية بأنه “المختص الذي يتولى بتكليف من المحكمة التحقيق في نقط تقنية وفنية …” كما حدد شروط الترشيح والتقييد في جدول الخبراء المحلي أو الوطني، نص على حقوق وواجبات الخبراء ومسألة التجريح والتأديب.
وبالرغم من الأهمية البالغة التي يكتسيها موضوع الخبرة القضائية سواء في المجال المدني أو الجنائي والضرورة الملحة له والفرص الفسيحة التي يطرحها من أجل تبادل الرؤى والنقاش، فإن تيار مهم من الفقه أثار مجموعة من الشكوك حوله، بحيث أن إجراءات الخب رة المعقدة تساهم بشكل ملحوظ في البطء في تصريف قضايا المواطنين والزيادة في نفقات المتقاضين، فالكثير من القضايا يتم تأجيلها لأشهر وربما لسنوات لحين حصول المحكمة على تقرير الخبير والذي قد لا تعتمده في آخر المطاف في بعض الأحيان باعتبار أن رأي ودور الخبير مجرد دور استشاري وليس تقريري، وهو ما نصت عليه صراحة المادة الثانية من القانون 00 – 45 حيث جاء فيها : “… يمكن للمحاكم أن تستعين بآراء الخبراء القضائيين على سبيل الاستئناس دون أن تكون ملزمة لها ” .
ومقابل هذا الاتجاه هناك من يؤكد على أهمية الخبرة واعتمادها في مجموعة من القضايا المتشعبة ويحرص كل الحرص على تفعيل المقتضيات القانونية التي تؤطر سير النظام القانوني للخبرة، ومواجهة كل إخلال بالحزم والصرامة لكل من سولت له نفسه التلاعب والخروج عما تروم تحقيقه هذه المقتضيات القانونية سواء في المادة المدنية أو الجنائية .
وأعتقد أن هذا الاتجاه الأخير هو ألأقرب إلى الصواب، لأن دواعي الاستعانة بالخبراء في تزايد مستمر ولا يمكن الإستغناء عنهم وتعويضهم بأي إجراء آخر وحرصا على حسن سير العدالة. وما تعاظم دور الخبرة القضائية وأهميتها إلا نتيجة حتمية لظهور وتطور مجموعة من الأنشط ة الاقتصادية والتقنية التي يتعذر على القاضي الإحاطة بها بمفرده والفصل في المجالات المرتبطة بها بمعزل عن مساعدة فنية أو تقنية من ذوي الإختصاص .
ولقد صدر ظهير شريف رقم 345 – 00 في 29 رمضان 1421 الموافق لـ 26 دجنبر 2000 بتنفيذ القانون رقم 85 – 00 الرامي إلى تعديل الفصول 59و60و61و62و63و64و65و66 من قانون المسطرة المدنية، وهو ما يطرح مجموعة من التساؤلات يمكن إجمالها في الآتي : ماهي خلفيات ودواعي التعديل ؟ ومدى انعكاسه على المستوى العملي ؟ أين يكمن الخلل ؟ هل في عدم تفعيل النصوص القانونية المرتبطة بالخبرة أم أن الإطار البشري المكلف بإجراء الخبرة عاجز عن الوفاء بما هو مطلوب منه ؟ وإلى أي حد يساهم في تكريس ما يصطلح عليه بأزمة الخبرة في ظل القانون المغربي ؟ كيف تعامل الاجتهاد القضائي مع هذه المقتضيات القانونية الجديدة في هذا المجال؟ وهل يعد هذا كافيا لرد الثقة في إجراء الخبرة واعتبارها إحدى الركائز الأساسية لتقنيات التحقيق القضائي وتفعيل مقتضياته بما يستجيب والغاية المنشودة من وراء سنه ؟ وما هي أهم السمات المميزة للخبرة في المادة الجنائية ؟
كلها أسئلة سنحاول الإحاطة بها –قدر الإمكان- من خلال هذه المناولة وفق الإ جراءات المنهجية التالية :
المبحث الأول : الخبرة القضائية في المادة المدنية وفقا لنصوص قانون المسطرة المدنية .
المطلب الأول : القواعد المؤطرة لتعيين الخبراء .
المطلب الثاني : مناقشة تقرير الخبرة ومدى حجيته؟
المبحث الثاني : الخبرة القضائية في المادة الجنائية وفقا لنصوص قانون المسطرة الجنائية .
المطلب الأول : الجهات المختصة للأمر بإجراء الخبرة .
المطلب الثاني : النظام القانوني للخبرة في المادة الجنائية.
المبحث الأول : الخبرة القضائية في المادة المدنية وفقا لنصوص قانون المسطرة المدنية .
بخلاف الخبرة الاتفاقية التي تتم باتفاق يبرم بين أطرافها والخاضعة للقواعد العامة التي تحكم نظام التعاقد أو الخبرة التي يلجأ إليها الشخص من تلقاء نفسه لينتفع بها في نزاع قد ينشأ في المستقبل القريب أو البعيد . وتنقسم الخبرة القضائية إلى خمسة أصناف :
-1- الخبرة : تأمر بها المحكمة تلقائيا أو بناء على طلب أحد الخصوم أو كلاهما، وعلى المحكمة أن تبين دواعي إجراء الخبرة، وفي حالة رفض الطلب بإجرائها وجب عليها تعليل ذلك، والأصل في الخبرة أن المحكمة غير ملزمة بإجابة طلب تعيين الخبير . وأن الأمر متروك لسلطتها التقد يرية، وفي هذا الاتجاه جاء في قرار صادر عن المجلس الأعلى بتاريخ 07 مــارس 1995 :”يجب على المحكمة أن تبني حكمها على اليقين فإذا طلب أحد ألأطراف إجراء تحقيق للتأكد من واقعة ما وكان هذا الإجراء ضروريا للكشف عن الحقيقة، فيجب عليها الرد بشأنه إما بقبوله أو برفضه .” وقد تعهد هذه المهمة لخبير واحد أو عدة خبراء وذلك حسب أهمية وطبيعة موضوع الخبرة، حيث نصت المادة 66 من قانون المسطرة المدنية على أنه “إذا اعتبر القاضي أن الخبرة يجب ألا تقع عن خبير واحد فإنه يعين ثلاثة أو أكثر حسب ظروف القضية“.
-2- الخبرة الثانية : وهي الخبرة التي تهم نفس القضية ولكن بخصوص نقط تختلف تماما عن تلك التي تتناولها الخبرة الأولى ويتم إسناده لنفس الخبير الذي أنجز الخبرة الأولى أو لغيره.
-3- الخبرة المضادة :يطلبها الخصوم أو تأمر بها المحكمة من تلقاء نفسها ويكون موضوعها مراقبة صحة المعطيات وسلامة وصدق ما خلصت إليه الخبرة الأولى .
–4- الخبرة الجديدة : وتكون عندما ترفض المحكمة نهائيا الخبرة الأولى لأي سبب من أسباب البطلان والذي يكون لعيب في الموضوع أو لعيب في الشكل، وينتج عن هذه التفرقة نتائج مهمة، فيكفي أن يكون العيب في الموضوع ليترتب الب طلان، أما العيب في الشكل فلا يؤدي إلى البطلان إلا إذا كانت الشكلية التي تم إغفالها جوهرية وترتب عنها إضرار بأحد الخصوم كفقدان الخبير للأهلية أو إجراء الخبرة من خبير بتفويض من خبير آخر هو عيب موضوعي يستوجب إبطال الخبرة إما كليا أو في جزء منها، ويبقى للمحكمة أن تصادق جزئيا على هذه الخبرة، وعدم دعوة الخصوم إلى مختلف أطوار الخبرة تبقى الخبرة سليمة إذا حضروا لأن العبرة بالحضور وليس بالاستدعاء .
وتجدر الإشارة إلى أن البطلان يلحق بالحكم التمهيدي القاضي بإجراء الخبرة إما بإلغائه، والاستغناء عن الخبرة وإما بإلغائه واستبدال الخبير ولا يمس مطلقا الدعوى القائمة أمام القضاء .
–5- الخبرة التكميلية :تلجأ إليها المحكمة حينما يعتري الخبرة المنجزة على ذمة القضية نقصان واضح، أو أن الخبير لم يجب عن جميع الأسئلة والنقط الفنية المعين من أجلها، ويعهد بالخبرة التكميلية إلى نفس الخبير الذي أنجز الخبرة الأصلية أو إلى خبير آخر حسب تقدير القاصر.
وهناك الخبرة القضائية المتعلقة بتحديد نسبة العجز في حوادث الشغل، الأمراض المهنية (الفصل 11 من قرار وزير الشغل بتاريخ 20 ماي 1993) بالإضافة إلى الدعاوي المتعلقة بالبيوع القضائية بالمزا د العلني أو التي ترد على أموال القاصر .
وأن المشرع المغربي عمل على تنظيم مجال الخبرة في ثمانية فصول من قانون المسطرة المدنية وذلك في الفرع الثاني من الباب الثالث المتعلق بإجراءات التحقيق، وقد طالها التعديل بمقتضى القانون رقم 00 – 85 الصادر بالجريدة الرسمية، النشرة العامة السنة 90 عدد 4866 ص : 233 وما يليها بتاريخ 23 شوال 1421 هجرية الموافق لـ 18 يناير 2000، وهذا التعديل جاء كنتيجة حتمية لما كان من إهدار لحقوق الأطراف وتأخير البت في جوهر دعاويهم في كثير من المناسبات، وبذلك يعد تدخل المشرع المغربي استجابة لمجموعة من النداءات ومن الدراسة العميقة للوضعية التي آلت إليها الخبرة القضائية في ظل المنظومة القانونية المغربية، فماذا استجد في مضامين المقتضيات القانونية المنظمة للخبرة في قانون المسطرة المدنية وفقا لآخر التعديلات؟ وإلى أي مدى ساهمت في إعادة بلورة الدور الحقيقي من إقرار هذا الإجراء التمهيدي؟
وفي سبيل المحاولة للإحاطة بهذه التعديلات والإجابة عن التساؤلات التي يطرحها هذا الموضوع الشائك، سوف أتناول في هذا المبحث : القواعد المؤطرة لتعيين الخبراء (المطلب الأول) مناقشة تقرير الخبرة ومدى حجيته؟ (المطلب الثا ني) .
المطلب الأول : القواعد المؤطرة لتعيين الخبراء .
لعل من بين أهم القواعد المرتبطة بتنظيم مجال الخبرة تتمثل في إمكانية القاضي اللجوء إلى الخبرة عند الضرورة من تلقاء نفسه أو بناء على طلب أحد الخصمين أو وفقا لطلبهما معا، إلا أنه يتعين على القاضي حينما يرفض طلب إجراء خبرة أن يعلل موقفه، وإن كان المجلس الأعلى قد قرر في المجال الإجرائي أن عدم الرد هذا لا يمكن تفسيره أحيانا إلا بأنه رفض ضمني لإجراء الخبرة لا يفسد الحكم أبدا ما لم يتعلق الأمر بطبيعة الحال بإجراء قد يترتب على إغفاله إضرار بالخصم تطبيقا لمقتضيات الفصل 49 من قانون المسطرة المدنية، ولذلك نص المشرع المغربي في المادة 59 من قانون المسطرة المدنية على صلاحيات القاضي في الأمر بإجراء الخبرة تلقائيا أو باقتراح الأطراف واتفاقهم، من طرف خبير محلف أو استثناء من طرف خبير غير مسجل بالجدول شريطة أدائه اليمين أمام الهيئة القضائية التي عينته، على أن يقوم بأمانة وإخلاص بالمهمة المسندة إليه وأن يعطي رأيه بكل تجرد واستقلالية ما لم يعف من ذلك اليمين باتفاق الأطراف، وسلط الضوء على تقنية تحديد النقط المعروضة على الخبير للحسم فيها والتي تكون عبارة عن أسئلة فنية لا ع لاقة لها مطلقا بالقانون، والهدف الذي توخاه المشرع يكمن في مواجهة ظاهرة تجاوز بعض الخبراء القضائيين أثناء مزاولات مهامهم لما هو محدد في الأمر التمهيدي إما تلقائيا أو بحجة غموض ولبس النقط المطلوب التعرض لها . وقد سبق للعمل القضائي المغربي أن تصدى بحزم لهذا التجاوز باجتهادات متواترة وهو ما تفطن إليه المشرع المغربي وصاغه في شكل تعديل تشريعي جديد، وكمثال على هذا التجاوز ما جاء في حكم صادر عن ابتدائية أنفا بتاريخ 23 يونيو 1995 ” إن السيد الخبير خلص في تقريره إلى تقدير قيمة الأصل التجاري اعتمادا على مجموعة من العناصر ولم يتطرق إلى النقطة المحددة في الحكم التمهيدي الأول، وهي مدى تأثير الانتقال على القيمة التجارية وما سيلحق المكتري من جراء الانتقال والبحث عن محل آخر في حالة الإفراغ” .
كما جاء في قرار المجلس الأعلى عدد 1751 الصادر بتاريخ 18/11/2000 “والخبرة عكس ما ذهب إليه القرار أعادت انطباق الرسم عدد 167 على أرض النزاع والخبير بالنسبة لباقي الحجج لم ينته بشأنها لأية نتيجة حاسمة وإنما اقتصر تقريره على طرح عدة تساؤلات لم يرد عليها وبالتالي فإن المحكمة عندما اكتفت فقط بالخبرة المذكورة دون أن تتحقق من النزاع بما فيه الكفاية ولم تبت في الحجج المدلى بها تكون قد بثت في الدعوى قبل استكمال عناصرها”
وتجدر الإشارة إلى أن الاختلالات الواضحة في تقارير الخبراء وعدم التقيد بالنقط الفنية المحددة في الأمر التمهيدي أو الإجابة عنها بشكل غامض . يجعل الخبرات المنجزة على هذا النحو مشوبة بطابعها المعيب وهذا ينعكس سلبا على أطراف الخصومة والسير العادي للملفات المعروضة على القضاء وتصريف قضايا المتقاضين في آجال معقولة، وفي هذا الصدد نص القرار الصادر عن المجلس الأعلى عدد 435 بتاريخ 8/10/2003 ملف شرعي عدد : 473/2/1/2002 ” أن هذه الخبرة إنما حددت نصيب كل مجموعة بالأمتار دون أن تفرز نصيب كل واحد من الورثة أطراف النزاع بحدوده وتبين الطرق والممرات المؤدية إليه وتوضح ذلك بأي رسم هندسي يبين ما ذكر فإن القرار المطعون فيه لما اعتمد على مشروع الخبرة المذكور رغم ما شابه من غموض وإبهام وقضى وفقه، فإنه يكون ناقص التعليل المنزل منزلة انعدامه مما يعرضه للنقض.”
1 ومن خلال الفقرة الأخيرة من الفصل 59 من قانون المسطرة المدنية يتضح بأن المشرع المغربي أكد على المبدأ العام الواجب على الخبير التقيد به عند البت في أية مسألة أو واقعة لها علاقة بالقانون. فنص عل ى ما يلي : ” كما يمنع عليه الجواب على أي سؤال يخرج من اختصاصه الفني وله علاقة بالقانون” وهو مبدأ سبق للقضاء المغربي أن كرسه في أكثر من مرة حيث جاء في إحدى حيثيات قرار المجلس الأعلى الصادر بتاريخ 03ماي 1992 ” … إن مهمة الخبير الذي تعينه المحكمة تنحصر في جلاء أمر تقني يرى القاضي الإطلاع عليه ضروري للفصل في النزاع المفروض عليه، أما الإجراءات التي تتعلق بالقانون كمعرفة الأرض المتنازع عليها، هل هي من ألأملاك الخاصة أو من أملاك الدولة أو الجماعات، وهل المدعون يتصرفون في الأرض عن طريق المنفعة والاستغلال فقط أو عن طريق التملك، فهذه كلها إجراءات قانونية من صميم أعمال القاضي، الذي لا يجوز أن يتنازل عنها للغير أو يفوض النظر فيها إليه…”
واعتبارا لكون أن موضوع الخبرة قد يتطلب مجهودا جبارا أو تتعدد جوانبه بشكل يكون فوق الطاقة العادية لخبير واحد، فقد سمح المشرع للمحكمة استثناء بأن تعين في النزاع أكثر من خبير واحد ويستشف ذلك من خلال الفقرة الأولى من الفصل 66 من قانون المسطرة المدنية التي تنص على أنه : ” إذا اعتبر القاضي أن الخبرة يجب أن لات قع عن خبير واحد فإنه يعين ثلاثة أو أكثر حسب ظروف القضية” . وبذلك فإن المشرع المغر بي قد وضع قيدا خاصا على عدد الخبراء عند اختيارهم حيث لا يكون الندب إلا لخبير واحد أو لثلاثة خبراء إذن من الخطورة بمكان وضع المحكمة بين رأيين قد يكونا متعارضين لكل منهما وزنه وسنده ودلائله مما يصعب ترجيح أحدهما عن الآخر؛ غير أن الندب لأكثر من ثلاثة خبراء قد يؤدي إلى البطء والتعقيد وتشعب الآراء وكثرة المصاريف التي يجب أن يتحملها الخصوم وبالتالي يفرغ هذا المقتضى القانوني من محتواه؛ ومن شأنه أن يخل بما يروم إليه المشرع من إجراء الخبرة، وأعتقد أن الاقتصار على خبير واحد أو تعيين ثلاثة خبراء هو أنسب إجراء من حيث العدد، لأن الخبير الثالث من شأنه أن يكون مرجحا لأحد الخبيرين متى اقتضت ملابسات القضية وظروفها ذلك.
وقد تستجد ظروف طارئة تحتم تغيير الخبير الذي سبق للمحكمة أن عينته بكيفية قانونية كوفاته أو عزله من منصبه أو رفضه للمهمة التي أنيطت به، أو ألم به مرض أقعده عن تنفيذ المأمورية الموكولة إليه، أو تجريحه بكيفية قانونية أو إضافة خبير آخر إليه فيجب أن يتم ذلك بكيفية سليمة حتى لا تتسم المسطرة بالعيب وحفاظا على حقوق الدفاع، وفي هذا السياق ورد في قرار صادر عن المجلس الأعلى بتاريخ 10 يوليوز 1961 “إن الخبير المعين من طر ف المحكمة أثناء جريان الدعوى لا يمكن استبداله بآخر إلا بصفة قانونية وبعد إعلام الطرفين بذلك وإلا كان الحكم المبني على تقرير الخبير باطلا…”3 وهذا الموقف الذي تبناه المجلس الأعلى ينسجم مع مقتضيات المادة 61 من قانون المسطرة المدنية، والتي أقرت صلاحية القاضي في استبدال الخبير العاجز عن القيام بالمهمة المسندة إليه أو المتقاعس عن القيام بها دون حاجة لاستدعاء الأطراف ولا أن يتم ذلك في جلسة علنية، ولهذا يمكن القول بأن القاضي يتمتع دائما بأهلية استبدال الخبير القضائي المعين إما تلقائيا أو بناء على طلب أطراف الدعوى، غير أنه متى تم هذا الاستبدال أوجب على المحكمة إشعار الأطراف فورا بهذا التغيير تحت طائلة بطلان إجراءات الخبرة وجعل حجيتها غير ذي موضوع وهو ما أكده المجلس الأعلى في قراره المؤرخ في 25 يوليوز 1976 والذي جاء فيه :” … الأمر القضائي بتعيين خبير أو استبداله، ينبغي أن يبلغ لمن يعنيهم الأمر ليتمكنوا من ممارسة حقهم في التجريح قبل القيام بإجراءات التحقيق ما دام من يعنيه الأمر قد تمسك بهذا التبليغ ليتسنى له ممارسة حقه في تجريح الخبير…” .
والملاحظ من خلال معاينة بعض الملفات التي تقرر فيها إجراء الخبرة أن بعض الخبراء يتقاعسون في أداء واجبهم دون مبرر معقول وبعد تذكيرهم لعدة مرات منهم من يطلب في الأخير وبعد مرور عدة شهور إعفاءه من إنجاز الخبرة والأدهى من ذلك أن هناك من الخبراء من يتقدم بطلب الرفع من أتعاب الخبرة، وتستجيب المحكمة لطلبه إلا أنه بعد ذلك يلتمس إعفائه من المأمورية المنوطة به. وانطلاقا من هذا الوضع نميل إلى الاتجاه الفقهي الذي يطالب بتطبيق جريمة إنكار العدالة عن الخبراء الذين تعينهم المحكمة لإنجاز مهمة ما ثم يرفضون القيام بها دون أن يكون لهذا الرفض سببا جديا ومشروعا؛ وتفعيل ما تنص عليه الفقرة الثانية من الفصل 61 من قانون المسطرة المدنية “بصرف النظر عن الجزاءات التأديبية، يمكن الحكم على الخبير الذي لم يقم بالمهمة المسندة إليه أو رفضها بدون عذر مقبول بالمصاريف والتعويضات المترتبة عن تأخير إنجاز الخبرة للطرف المتضرر، كما يمكن الحكم عليه بغرامة لفائدة الخزينة” .
ونشير إلى أنه إذا كان من حق المحكمة أن تختار من بين الخبراء من تراه الأصلح لإنجاز المهمة التي تطلبها فإن هذا الاختيار قد يقيده المشرع أحيانا وهكذا مثلا فلا يمكن في المادة الاجتماعية أن يكون خبيرا قضائيا الطبيب الذي عالج العامل المصاب ولا الطبيب صاحب العم ل ولا طبيب صندوق الضمان الاجتماعي إلا إذا وافق الطرف المعني بالأمر على ذلك صراحة وفقا للمادة 281 من قانون المسطرة المدنية .
لقد نص المشرع المغربي صراحة على موجبات تجريح الخبير القضائي مع تحديد الأمد الزمني للبت في طلب التجريح وحصره في خمسة أيام من يوم التقديم، وفي ذلك تجسيد فعلي لأحد حقوق الدفاع المخولة قانونا لأطراف النزاع بغية المحافظة على مصالحهم وصيانتها من احتمال غياب عنصر الحياد لدى الخبير، أو عدم أهليته التقنية لمباشرة المهمة المنوطة به، وبذلك أحسن المشرع فعلا لما أقر جملة من القواعد الجديدة المنظمة لمسطرة تجريح الخبراء في المادة 62 من قانون المسطرة المدنية :
– تحديد درجة القرابة أو المصاهرة كسبب للتجريح إلى حدود درجة ابن العم المباشر مع إدخال الغاية .
– تحديد أسباب التجريح في خمسة صور رئيسية وهي كالآتي :
*وجود نزاع سابق بين الخبير القضائي المعين من طرف المحكمة أو أحد أطراف الدعوى.
*تعيين خبير قضائي في مجال غير اختصاصه المسجل بموجبه بلائحة الخبراء .
* إذا سبق للخبير القضائي أن أدلى برأيه أو بشهادة في موضوع النزاع .
* إذا كان الخبير القضائي في مركز استشاري لأحد أطراف النزاع .
*وجود سبب خطير آخر يعهد بتقدير قيمته لمحكمة الموضوع .
ومن هذه الصياغة تجاوز المشرع المؤاخذات التي وجهت للمادة 62 من قانون المسطرة المدنية قبل التعديل بموجب القانون رقم 00 – 85 والتي كانت تكتفي بالقول أنه : ” لا يقبل التجريح إلا للقرابة القريبة أو لأسباب خطيرة أخرى…”
ويمكن التنويه أيضا بالمبدأ الذي كرسه التعديل الجديد حينما خول إمكانية إثارة الخبير القضائي لأسباب التجريح تلقائيا بمجرد العلم بها وهو ما يبرز حياد ومصداقية الخبير، وينعكس إيجابا على تسريع وتيرة البت في الملفات المعروضة على أنظار القضاء وتجنب المساطر الفرعية من طلبات التجريح أو استبدال الخبراء من جهة أخرى، وهو ما سبق أن تبناه الأستاذ إبراهيم زعيم بقوله : “… وبديهي أنه من واجب الخبير أيضا أن يجرح نفسه إذا توفر فيه سبب من أسباب التجريح، وذلك حتى يكون وفيا لليمين التي أجراها على قيامه بمأموريته بكل تجرد واستقلال …” والغاية تكمن في التصدي لظاهرة التعاقد المسبق لمجموعة من الخبراء مع بعض الشركات الخاصة كما هو الشأن بالنسبة لشركات التأمين أو النقل أو الشركات المحاسباتية أو الأبناك، والتي غالبا ما تلجأ إلى اعتماد خبراء قارين في إطار تعاقدي لقاء أجر ة شهرية أو مقابل ما تم إنجازه من مهام، وقد تعمد المحكمة إلى تعيينهم ضد الشركات التي يعملون لفائدتها.
كما تم تحديد لأول مرة الأمد الزمني الذي يتعين فيه على محكمة الموضوع البت في طلب التجريح، وهو خمسة أيام من تاريخ تقديم الطلب، في حين أن المشرع المغربي قبل التعديل كان يقضي بإجبارية البت في طلب التجريح دون تأخير وهي عبارة عامة وفضفاضة، وأن المقرر الذي تصدره المحكمة بخصوص تجريح الخبير لا يقبل أي طعن إلا مع الحكم البات في الجوهر حسب الفقرة الأخيرة من المادة 62 من قانون المسطرة المدنية.
وبخصوص كيفية تقديم طلب التجريح إلى المحكمة فقد حافظ المشرع المغربي على نفس الإجراءات المسطرية التي كانت مقررة سابقا، ولهذا يتعين على أطراف الخصومة وتحت طائلة عدم القبول والتي تتوافر لديها وسائل لتجريح الخبير المعين على ذمة القضية تقديمها داخل خمسة أيام من تبليغها مقرر التعيين ويجب أن يكون الطلب موقعا عليه شخصيا من طرف المتمسك بالتجريح أو وكيله مع تبيان أسباب التجريح المبررة في عريضة طلبه، وأعتقد أن آجال الخمسة أيام غير كافية لفسح المجال لطرفي النزاع البحث والتقصي عن هوية الخبير ومدى تخصصه وكفاءته للقيام بالمهام المسندة إليه.
وحبذا لو أخذ المشرع المغربي بما هو معمول به في باقي التشريعات كفرنسا مثلا حيث أقر المشرع الفرنسي إمكانية تجريح الخبير إلى غاية الشروع في عملية الخبرة، أو إلى غاية ظهور مستجدات تبيح سلوك مسطرة التجريح .
وفي سياق رصد أهم القواعد المؤطرة لتعيين الخبراء وما عرفته النصوص القانونية المنظمة للخبرة من تعديلات نلاحظ أن أهم تغيير طرأ على المادة 63 من قانون المسطرة المدنية يتمثل في تجريد الخبير القضائي من أهلية إجراء تصالح بين أطراف الخصومة وذلك نظرا لأن محاولة الصلح هي مهمة قضائية مخولة للمحكمة دون غيرها، ولا يمكن إقرارها أو تفويضها لفائدة الأغيار ولو كانوا مساعدي العدالة، ومن هذا المنطلق فإن الصلح لا يعتبر مسألة تقنية حتى نسلم بأهلية الخبير في القيام بها وإنما هي مسألة مرتبطة فطبيعتها بجوهر النزاع الذي يستقل القضاء وحده بالحسم فيه سلبا أو إيجابا ونشاطر ما ذهب إليه الأستاذ محمد المجدوبي الإدريسي في اعتبار أن محاولة التصالح بين الأطراف بواسطة الخبير هي من مخلفات المسطرة المتبعة أمام محاكم الصلح في ظل التنظيم القضائي القديم، والتي تعتبر فيها محاولة إجراء التصالح بين الأطراف الجانب المهم من المسطرة سواء أمام قاضي الصلح أو أمام الخبير .
وأقر المشرع المغربي إجبارية استدعاء الأطراف ووكلائهم مع الاستغناء عن تقنية الرسالة المضمونة المشفوعة بالتوصل وتعويضها بالاستدعاء القانوني، وبذلك أحال بصفة ضمنية على الطرق العادية للتبليغ المستمدة من مقتضيات الفصول 37 و 38 و 39 من قانون المسطرة المدنية بالإضافة إلى التبليغ عن طريق الأعوان القضائيين قصد تفادي التكاليف التي تتطلبها الرسالة المضمونة مع الإشعار بالتوصل والعراقيل التي كانت تواجه الخبراء في هذا الصدد .
والاستدعاء الموجه للأطراف يتم مرة واحدة؛ اللهـم إلا إذا أخرت الخبرة لتاريخ لاحق ولم يشعر به الأطراف فإنه يتعين في هذه الحالة تجديد الاستدعاء إليهم بنفس الطريقة، والبطلان الناتج عن عدم دعوة الأطراف للخبرة ليس من النظام العام وبالتالي لا تثيره المحكمة تلقائيا، ويتعين على من له المصلحة في ذلك أن يثيره قبل الإدلاء بمستنتجاته في الموضوع1 وهو ما أكده المجلس الأعلى في مجموعة من قراراته2 .
والملاحظ أن المشرع قد تطرق في التعديل الأخير إلى الحالات الاستعجالية التي يتعين فيها إنجاز الخبرة على وجه الاستعجال وأجاز للمحكمة أن تأمر بإنجاز الخبرة في غياب الأطراف إذا كانت حالة الاستعجا ل تتطلب ذلك، وقد جاء في القرار الصادر عن المجلس الأعلى بتاريخ 13 نونبر 1989 “… حيث أن العرف التجاري البحري في شأن الخبرة القضائية وإجراءاتها للتأكد من حالة البضائع إثر تفريغها من الباخرة يرجح في التطبيق على الخبرة القضائية وإجراءاتها المسطرية، نظرا لحالة الاستعجال التي تستلزمها ظروف البضائع المفرغة على أرضية الميناء من فوات …
وحيث أن القرار المطعون فيه قد أثبت أن العرف السائد بميناء الدار البيضاء يكتفي في إجراء الخبرة ببعث برقية من لدن الخبير إلى أطراف النزاع لحظور عملية الخبرة وأن الخبير الذي قام بإنجاز الخبرة راعى هذا العرف وبعث “تلكس” إلى الطالب بتاريخ 03 يونيو 1981 لحضور عملية الخبرة التي أنجزها في 05 يونيو 1981…”
كما نصت المادة 63 من قانون المسطرة المدنية في الفقرة الثالثة على أن الخبير يضمن في محضر مرفق بالتقرير أقوال الأطراف وملاحظاتهم ويوقعون معه عليه مع وجوب الإشارة إلى من رفض منهم التوقيع؛ إلا أنه بالاطلاع على تقارير الخبرة المودعة لدى كتابة الضبط فإنها غالبا لا تتضمن توقيع الأطراف بالمرة ولا للإشارة إلى من رفض منهم التوقيع، وبهذا فإن ما جاءت به هذه الفقرة من مستجدات لم تجد طريقها بعد إلى الت طبيق والمحكمة تتغاضى الطرف عنها، وحتى الطرف الذي له المصلحة في إثارة هذا السهو من قبيل الخبير في تعقيبه عن الخبرة لا يشير إليه بتاتا؛ إضافة إلى أن نفس المادة لم ترتب أي أثر قانوني عن هذا الإغفال وأنه بالرغم من وجود مقتضيات صريحة مضمنة بالمادة 63 من قانون المسطرة المدنية فإننا نلاحظ غياب وجود لأي إشراف قضائي فعلي أثناء ممارسة الخبير لمهمته لاعتبارات كثيرة منها كثرة القضايا المعروضة على المحاكم بمختلف درجاتها والتي تعوق القاضي من القيام الفعلي بذلك الإشراف .
كما أن أهم مستجد جاءت به المادة 64 من قانون المسطرة المدنية يتجسد في تخويل أطراف الدعوى أيضا إلى جانب القاضي صلاحية تقديم طلب باستدعاء الخبير بحضورهم قصد تقديم إيضاحات أو معلومات لرفع ما ضمنه في تقريره الأول من غموض مع تسجيل محتوياتها بمحضر يوضع رهن إشارة الأطراف للتعقيب عليه وإبداء أوجه دفوعاتهم إزاءه، وهذه الإمكانية كان متعذرا على الأطراف سلوكها قبل التعديل بموجب القانون رقم : 00 –85 .
وأكد المشرع في المادة 65 من قانون المسطرة المدنية مبدأ استعانة الخبير القضائي بالمترجم عند وجود ضرورة لذلك، ويتعين عليه اختيار مترجم مدرج بجدول التراجمة المعتمدين أو الالتجاء إلى القاضي لتعيين مترجم يتولى نفس المهمة؛ غير أن النص لم يوضح كيفية اللجوء إلى القاضي؛ هل بواسطة تقديم طلب في الموضوع؟ إن كان كذلك فإنه لم يحدد أجلا لهذه الاستعانة؛ إضافة إلى أن القانون رقم 50.00 المتعلق بالتراجمة المقبولين لدى المحاكم لم ينظم هذه المسألة، إلا أنني أعتقد أن الأمر يجب أن يتم داخل أجل معقول حرصا على الأجل المحدد للخبير في الأمر التمهيدي لإنجاز تقرير الخبرة داخله صيانة لحقوق المتقاضين وتجهيز القضايا للبت فيها داخل أجل معقول .
كما يتمتع الخبير بصلاحية الاستماع إلى جميع أطراف الخصومة وكذا إلى غيرهم من الأغيار الذين يرى في الاستماع إليهم أمرا مفيدا في تحقيق الخبرة عدا إذا جرده الأمر القضائي من هذه الإمكانية، ومتى لاحظت المحكمة أن أقوال الأغيار قد تفيد في الدعوى لها أن تستند عليهم وتستمتع إليهم بالطرق التي حددها القانون والخاصة بشهادة الشهود إما تلقائيا وإما بطلب من أطراف النزاع وهو ما تبناه المجلس الأعلى في قراره الصادر بتاريخ 13 يناير 1995 والذي جاء فيه :” إن المحكمة اعتمدت على تحريات أشخاص المستمع إليهم من طرف الخبير وبنت قضاءها على ذلك رغم أن الخبير مهنته تقنية ولا علاقة له بالتدخل فيما يخص الموضوع الذي يبقى النظر فيه للقضاء الذين عليهم أن يناقشوا الدعوى في إطارها القانوني وذلك باعتماد وسائل الإثبات وكل الإجراءات الواجبة للوصول إلى الحقيقة وإقرار العدل والإنصاف بما فيها تطبيق المقتضيات القانونية من طرف المستشار المقرر بدل الاعتماد على تصريحات الأشخاص الذين لم يتم الاستماع إلى إفاداتهم من طرف المحكمة مما يجعل القرار المطعون فيه خارقا لمقتضيات المذكورة ويجعله معرضا للنقض “.
ومن الملفت أنه من خلال تناول المواد المنظمة للخبرة القضائية في المادة المدنية أن المشرع المغربي قد تعامل مع الخبرة انطلاقا من قاعدة القضاء الفردي، والحال أن المشرع قد تبنى منذ سنة 1993 قاعدة القضاء الجماعي ¹. وهو ما لم يتداركه أثناء التعديل الذي طرأ على البنود المتعلقة بالخبرة، وفي انتظار إعادة النظر في قانون المسطرة المدنية نفضل الاستئناس بالفصل 155 من قانون الإجراءات المدنية الفرنسي والذي نستنتج منه الأحكام الآتية :
-1- إذا كانت المحكمة تتكون من قاض فرد وأمر بالخبرة فيقع على عاتقه دون غيره مهمة الرقابة والإشراف .
-2- إذا كانت هيئة المحكمة مكونة من عدة قضاة نكون حينئذ أمام أحد الفرضيات الآتية :
*أ القا ضي المكلف بالتحقيق في القضية هو الذي يمارس الرقابة والإشراف .
ب إذا لم يوجد قاض للتحقيق تعين المحكمة أحد أعضائها ليتولى الرقابة والإشراف .
ج إذا لم تعين المحكمة أحد أعضائها تمارس الرقابة والإشراف من جانب رئيس الهيئة .
وتجدر الإشارة إلى أنه يمكن للنيابة العامة أن تحضر أعمال الخبرة انسجاما مع مقتضيات الفقرة ألأخيرة من المادة 55 من قانون المسطرة المدنية التي تنص على أنه ” يمكن لممثل النيابة العامة أن يحضر في كل إجراءات التحقيق التي أمرت بها المحكمة” .
المطلب الثاني : مناقشة تقرير الخبرة ومدى حجيته ؟
عند انتهاء الخبير من إنجاز المهمة المنوطة به في إطار الضوابط القانونية المنظمة لسير عمل الخبرة القضائية، يدع تقريره والذي غالبا ما يكون مكتوبا بكتابة الضبط للمحكمة المختصة التي تتولى التأشير عليه، وبه يضمن الخبير كل الملاحظات العلمية أو الفنية والخلاصة التي توصل إليها حسب ما ورد في الأمر التمهيدي والإجابة على الأسئلة الفنية المحددة من طرف قاضي الموضوع، والمشرع المغربي لم ينظم شكلية معينة للحلة التي يجب أن تصاغ فيها تقرير الخبرة ³ وإنما اكتفى بالإشارة فقط من خلال مقتضيات المادة 60 من قانون المسطرة المد نية إلى ما يلي : “إذا كان التقرير مكتوبا حدد القاضي الأجل الذي يجب على الخبيران أن يضعه فيه وتبلغ كتابة الضبط الأفراد بمجرد وضع التقرير المذكور بها، لأخذ نسخة منه.
إذا كان التقرير شفويا حدد القاضي تاريخ الجلسة التي سيستدعي لها الأطراف بصفة قانونية ويقدم الخبير تقريره الذي يضمن في محضر مستقل.
يمكن للأطراف أخذ نسخة من ذلك المحضر وتقديم استنتاجاتهم حوله عند الاقتضاء”
وأشار المشرع كذلك في المادة 64 من قانون المسطرة المدنية إلى إمكانية القاضي إذا لم يجد في تقرير الخبرة الأجوبة على النقط التي طرحها على الخبير أن يأمر بإرجاع التقرير إليه قصد إتمام المهمة، كما يمكنه تلقائيا أو بطلب من أحد الأطراف استدعاؤه لحضور الجلسة التي سيستدعي لها جميع الأطراف لتقديم الإيضاحات والمعلومات اللازمة التي تضمن في محضر يوضع رهن إشارة الأطراف .
وأعتقد أنه كان يتعين على المشرع المغربي أن يقوم بدمج المادتين في مادة واحدة تتولى تنظيم أحكام إيداع تقرير بكتابة الضبط والتأكد من استيفائه كل الشروط القانونية والإجابة الدقيقة على مضمون الأمر التمهيدي، آنئذ تمكين الأطراف بنسخة منه قصد التعقيب عليه وذلك من أجل ضمان البت في القضايا الت ي تقرر فيها إجراء الخبرة في أمد وجيز وتفادي البطء وتطويل الإجراءات المسطرية .
وهكذا فإن تقرير الخبرة يكون دائما محلا لمناقشة أطراف النزاع وموضوعا لطعونهم ولذلك يمكن مثلا لمن قدم التقرير في مصلحته أن يستند إلى ما تضمنه من أبحاث وحجج وآراء وما توصل إليه الخبير من نتائج وما اشتمل عليه محضر الأعمال من الأقوال والملاحظات للتدليل على صحة ادعائه وسندا له كما يكون لهذا الخصم أن يفسر ما غمض من عبارات التقرير بما يتفق مع مصلحته في الدعوى المثارة أمام المحكمة .
أما الخصم الآخر فله الحق أيضا في مناقشة مضامين هذا التقرير فيفند ما جاء فيه مبرزا ما يحتوي عليه من تناقض بين أجزائه أو خطأ في بياناته أو فساد في الرأي أو الاستدلال أو في الاستنباط وله أن يطعن في المقدرة العلمية أو الفنية للخبير انطلاقا من الهفوات التي يشملها تقريره، ولمحكمة الموضوع كذلك الحق في مناقشة تقرير الخبرة على النحو الذي أشارت إليه المادة 64 من قانون المسطرة المدنية .
وفي هذا الصدد يمكن أن نتساءل عن مدى حجية تقرير الخبرة من حيث الإثبات؟ ومتى يتقرر بطلان تقرير الخبرة القضائية وماهي سلطة المحكمة إزاء تقرير الخبير؟ وما هو مركز الخبرة أمام محكمة الا ستئناف كدرجة ثانية من درجات التقاضي وأمام المجلس الأعلى باعتباره محكمة قانون؟
إن التقرير الذي ينجزه الخبير بناء على انتداب من المحكمة كقاعدة عامة له قوة ألإثبات التي تكون عادة للأوراق الرسمية في شأن ما أثبته هذا الخبير من الوقائع التي شاهدها أو سمعها أو علمها أو استنتجها في حدود الاختصاصات التي أوكلت إليه. فمادام الخبير يقوم بمهمته في التحقيق والتقصي والبحث بمثابة الوثيقة الرسمية التي لا يمكن إثبات عكس ما ضمن بها مبدئيا إلا عن طريق الطعن بالتزوير خاصة وأن الخبير لا يباشر مهمته هذه إلا بعد تأديته لليمين القانونية. وهكذا فتقرير الخبير حجة في الإثبات بشأن مختلف بياناته المتعلقة بتاريخه وبحضور الخصوم في الدعوى أمامه أو تخلفهم عن ذلك الحضور، وبجميع الأمور المادية التي حققها الخبير والأعمال الشخصية التي أنجزها في حدود المأمورية الفنية أو العلمية التي انتدب من أجلها، ومن غير المعقول والمنطق قبول شهادة الشهود للتدليل على خلاف تلك البيانات، وقد جاء في قرار المجلس الأعلى الصادر بتاريخ 23 شتنبر 1995 :” لكن حيث إنما جاء بهذا الفرع خلاف الواقع ذلك أن الخبير وهو شخص محلف يشهد في تقريره بأنه قام باستدعاء المشغلين لحضور عملية الخبرة فامتنعوا عن الحضور بدعوى أنهم وضعوا تصريحهم المشار إليه بالقضية بمكتب الضبط بتاريخ 17 فبراير 1977 بالإضافة إلى أن الخبرة حسب تنصيصات القرار قد بلغت للمشغلين الطاعنين فلم يطعنوا فيها بأي مطعن قانوني مما جعل هذا الفرع خلاف الواقع الأمر الذي يجب عدم قبوله” .
غير أنه ما عبر عنه أطراف النزاع من أقوال أو ملاحظات أو مؤاخذات وأثبته الخبير القضائي في التقرير الذي أعده فالراجح أن تكون لمحكمة الموضوع السلطة الكاملة في تقريرها عند تكوين اعتقادها بشأنها، أما ما يخرج عن نطاق اختصاص الخبير ولا يمت بصلة بمأموريته فيمكن دحضه بكافة وسائل الإثبات.
مما لا شك فيه أن ما يتوصل إليه الخبير من نتائج فنية أو علمية ويضمنها في صلب تقريره لا تكون له القوة المطلقة وإنما يحق لأطراف الدعوى دائما إثبات خطئه أو سهوه أو عدم مطابقته للواقع ولهم في ذلك اللجوء إلى كافة وسائل الإثبات الممكنة وخاصة متى اطمأن قاضي الموضوع إلى ذلك الإثبات، وعمليا كثيرا ما يلجأ المتقاضون في هذا الإطار إلى طلب إجراء خبرة مضادة محاولة منهم لكشف خلاف ما قرره الخبير أو على الأقل إبراز الهفوات والثغرات التي لامست التقرير المنجز والمعترض عليه، والأكثر م ن ذلك فإنه لا يوجد من يمنع قاضي الموضوع من اللجوء إلى خبرة جديدة، إذا لم يقتنع بالخبرة الأولى وذلك انسجاما مع المقتضيات القانونية المنظمة للنظام القانوني للخبرة في التشريع المغربي والمنصوص عليها في قانون المسطرة المدنية .
وفيما يتعلق ببطلان تقرير الخبير ومن خلال تعريف الفقه للبطلان بأنه جزاء يلحق الإجراء المسطري كلما جاء مخالفا للنموذج الذي وضعه المشرع يترتب عن ذلك تجريد هذا الإجراء من كل أثر قانوني والملاحظ على أن المشرع المغربي تناول نظرية البطلان بشكل مقتضب في إطار قانون المسطرة المدنية وكرس مبدأ أساسي بأن بطلان إجراء ما رهين في كافة الأحوال بإحداث ضرر للخصم وهو ما تم النص عليه في الفقرة الثانية من الفصل 49 من قانون المسطرة المدنية “يسري نفس الحكم بالنسبة لحالات البطلان الإخلالات الشكلية والمسطرية التي لا تقبلها المحكمة إلا إذا كانت مصالح الطرف قد تضررت فعلا ” وكذلك الشأن بالنسبة لما نصت عليه المادة 359 من قانون المسطرة المدنية “يجب أن تكون طلبات نقض الأحكام المعروضة على المجلس الأعلى مبنية على أحد الأسباب الآتية :
– 1 – خرق القانون الداخلي .
– 2 – خرق قاعدة مسطرية أضرت بأحد الأطراف…”
وكنتيج ة حتمية لما أقره المشرع المغربي فالخبرة لا تبطل إلا إذا ثبت من يتمسك بذلك البطلان أصابه ضرر من جرائه، ولعل من جملة الأسباب التي يمكن الاعتماد عليها للدفع ببطلان الخبرة نذكر على سبيل المثال : عدم آداء الخبير الغير مسجل بجدول الخبراء اليمين التي نص عليها الفصل 59 من قانون المسطرة المدنية حيث جاء في قرار المجلس الأعلى الصادر في 05 يوليوز 1985 أن الطاعن ” … لم يكن ينازع في مبدأ الخبرة وإنما في قانونية الخبرة التي أنجزت من طرف خبير غير محلف دون أن يؤدي اليمين الشيء الذي كان معه كامل الحق في الطعن فيها…” أو عدم التقيد بأحكام المادة 63 من قانون المسطرة المدنية فيما يتعلق باستدعاء الأطراف والوكلاء لحضور إنجاز الخبرة ، وقد جاء في قرار المجلس الأعلى عدد 623 الصادر بتاريخ 03 مارس 2004 أن تقرير الخبرة المصادق عليه من طرف المحكمة مصدره القرار المطعون فيه لا يتضمن حضورهم، وأن الإشعارات بالاستدعاء المتعلقة ببعضهم رجعت بملاحظة غير مطالب به وبأن أحدهم متوفى، مما لم يكن معه الخبير قد احترم مقتضيات الفصل 63 المحتج بخرقه، وأن المحكمة مصدره القرار المطعون فيه عندما صادقت على تقريره، تكون قد جعلت قرارها غير مبني على أساس وعرضته ب التالي للنقض والإبطال” أو عدم الإشارة إلى أقوال الحضور وملاحظاتهم ضمن تقرير الخبرة أو إغفال توقيع التقرير من طرف الخبير أو الخبراء المنتدبين أو عدم إنجاز الخبير للمهمة المنوطة به شخصيا أو تجاوزه للمأمورية التي أسندت إليه …
وتجدر الإشارة إلى أن إثارة الدفع ببطلان إجراء من إجراءات الخبرة يجب التمسك به مباشرة بعد إيداع التقرير وليس بعد مناقشة موضوعه، تحت طائلة عدم قبوله لوقوعه بعد فوات وقته، وفي هذا الصدد جاء في قرار صادر عن المجلس الأعلى :”بما أن الطاعنة قدمت مستنتجاتها في الجوهر بعد إنجاز الخبرة دون أن نتمسك قبل ذلك ببطلانها لعلة عدم استدعائها من طرف الخبير للحضور أثناء قيامه بمهمته فإن الطعن يكون غير مقبول…”
وفيما يتعلق بسلطة المحكمة إزاء تقرير الخبير فإنه يمكن القول وإن كان يعد مبدئيا دليلا من أدلة الإثبات في الدعوى إلا أنه ليس بالدليل القاطع والحاسم فيما يفرض على محكمة الموضوع فرضا ، وإنما هو عبارة عن وثيقة يندرج استخلاص ما ضمن بها في مجال السلطة التقديرية لتلك المحاكم ، وكيفما كانت الوضعية العلمية للخبير أو للخبراء الذين أنجزوا التقرير ، فبالإضافة إلى أن لقاضي الموضوع أن يلجأ إلى خبرة تكميلية أو خبرة جديدة أو خبرة مضادة ² ، فقد أكد المشرع المغربي على السلطة التقديرية التي تتمتــع بهــا المحاكم في هذا الصدد ويتجلــى ذلــك من خلال مقتضيات الفقرة الأخيرة من الفصل 66 من ق م م والتي تنص ب ” لا يلزم القاضي بالأخذ برأي الخبير المعين ويبقى له الحق في تعيين أي خبير آخر من أجل استيضاح الجوانب التقنية في النزاع ” وما نصت عليه الفقرة الأخيرة من المادة الثانية من قانون رقم 45.00 بأنه ” يمكن للمحاكم أن تستعين بأراء الخبراء القضائيين على سبيل الاستئناس دون أن تكون ملزمة لها ” وهو ما أكده الاجتهاد القضائي من خلال القرار الصادر عن المجلس الأعلى بتاريخ 26 نونبر 1959 بأن ” تقديرات الخبراء القضائيين المعينين لا تلزم محاكم الموضوع .”
ومن خلال الفصل 140 من ق م م الذي ينص على أنه ” لا يمكن استئناف الأحكام التمهيدية إلا في وقت واحد مع الأحكام الفاصلة في الموضوع وضمن نفس الآجال ، ويجب أن لا يقتصر مقال الاستئناف صراحة على الحكم الفاصل في الموضوع فقط بل يتعين ذكر الأحكام التمهيدية التي يريد المستأنف الطعن فيها بالاستئناف ” وعليه فطبقا لتوجيهات المشرع وقواعد المسطرة ولما استقر عليه الاجتهاد القضائي المغربي ، لا بد من التميي ز من جهة أولى بين مختلف الإجراءات المسطرية التي تلابس الخبرة القضائية كالقواعد الخاصة بكيفية تعيين الخبير وكيفية تجريحه ومسألة أدائه لليمين إن لم يكن مسجلا بالجدول حسب الصيغة المنصوص عليها في المادة 18 من قانون 45.00 المتعلق بالخبراء القضائيين ³ واستدعائه للأطراف وما يرتبط بكل ذلك من آجال … ، وبين جوهر الخبرة القضائية من جهة أخرى بمعنى ما توصل إليه الخبير من خلال استنتاجاته وتقريراته .
فالطعون المتعلقة بالإجراءات المسطرية يجب إثارتها مبدئيا قبل كل دفع أو دفاع في الجوهر والتي ترتبط بالجوهر يمكن التمسك بها في جميع مراحل التقاضي ، وإن كان يستثنى من ذلك المجادلة أمام المجلس الأعلى في أمور قانونية لم يسبق عرضها على قضاة الموضوع ، وبذلك فإن المسائل القانونية المتصلة بالنظام العام ولو كانت ذات طبيعة إجرائية ومن ذلك التي تمس بحقوق الدفاع كاستدعاء الأطراف بكيفية قانونية لحضور الخبرة ، فيمكن أن تثار في أية مرحلة كانت عليها القضية ، ولو لأول مرة أمام المجلس الأعلى ، وقد جاء في قرار صادر عن المجلس الأعلى أنه ” يكتسي الفصل 63 من ق م م الذي يوجب على الخبير أن يشعر الأطراف باليوم والساعة التي سينجز فيها مهمته صبغة آمر ة ويتعلق بحقوق الدفاع ويجب احترامه مهما كانت طبيعة الخبرة ولهذا تكون المحكمة قد خرقت النص المذكور عندما بررت عدم استدعاء الخصم لحضور الخبرة الطبية بكونه شخصا عاديا لا يمكن له القيام بأي دور في موضوع الخبـرة التي تستند على معلومات وأجهزة طبية هي في متناول الخبير وحده … ” وباعتبار أن محكمة الاستئناف تعد درجة ثانية للتقاضي تنشر الدعوى أمامها من جديد بحيث يسمح لها دائما أن تعيد النظر في استخلاص وقائع النزاع واستعمال إجراءات التحقيق الممكنة في هذا المجال ، إضافة إلى ما نص عليه الفصل 334 من ق م م: ” يتخذ المستشار المقرر الإجراءات لجعل القضية جاهزة للحكم ويأمر بتقديم المستندات التي يرى ضرورتها للتحقيق في الدعوى ويمكن له بناء على طلب الأطراف أو حتى تلقائيا بعد سماع الأطراف أو استدعائهم للحضور بصفة قانونية الأمر بأي إجراء للتحقيق من بحث وخبرة وحضور شخصي دون مساس بما يمكن لمحكمة الاستئناف أن تأمر به بعد ذلك من إجراءات في جلسة علنية أو في غرفة المشورة ¹ ”
ومما لا شك فيه وطبقا للقواعد العامة للإجراءات يبقى دائما من حق قضاة الدرجة الثانية أن يتبنوا الخبرة التي تم إنجازها على مستوى الدرجة الابتدائية ولهم إلغاؤها كليا أو جزئيا حسب ما يقتنعون به ، بل ولهم الأمر بخبرة جديدة كلما ظهر لهم أن في ذلك فائدة بشرط تعليل مواقفهم التي ارتكزوا عليها في هذا المجال.
وبديهيا أن محكمة الاستئناف التي تعد بمثابة مرجع استئنافي للأحكام الصادرة عن المحاكم الابتدائية غير مقيدة بما تضمنه تقرير الخبرة المنجزة على المرحلة الابتدائية ولها أن تأمر بخبرة أخرى جديدة وفقا لما سبق بيانه مع تعليل موقفها وفي حالة تعدد الخبرات لها أن توازن فيما بينها وتأخذ بما اطمأنت إليه وتستبعد ما لم تطمئن إليه بكيفية مبررة .
أما ما يتعلق بمركز الخبرة أمام المجلس الأعلى باعتباره محكمة قانون فإنه لا بد من إبداء مجموعة من الملاحظات من أهمها :
– انه لا يمكن مطلقا إجراء خبرة أمام المجلس الأعلى بحكم أن الخبرة لها ارتباط وثيق بجانب الواقع في الدعوى وليس بجانب القانون فيها .
– لا يمكن مطلقا للخصم في الدعوى أن يجادل ولأول مرة أمام قضاء المجلس الأعلى في مسائل لم يسبق عرضها أمام قضاة الموضوع كالطعن في الخبرة مثلا .
– الخبرة في جوهرها أي فيما خلص إليه الخبير واقتنع به قاضي الموضوع أو لم يقتنع به من مسائل الواقع التي يندرج استخلاصها ضمن السلطة التقديرية لمحاكم الموض وع سواء تعلق الأمر بالمحاكم الابتدائية أو محاكم الاستئناف والتي تخرج بالتالي عن المجال القانوني الذي يراقبه المجلس الأعلى مبدئيا .
– يمكن الطعن في الإجراءات القانونية المتصلة بالنظام العام والتي تم خرقها من جانب الخبير كعدم استدعاء الأطراف في الدعوى لحضور الخبرة .
– يمكن الطعن في الخبرة بسبب خرق ما يتعلق بقواعد التسبيب كأن تأمر محكمة الموضوع بإجراء خبرة ثم تتخلى عن الأخذ بنتائجها دون أن تعلل موقفها هذا ،أو أن تستبدل خبيرا بآخر دون أن تظهر سببا مقنعا لذلك .
1- قرار صادر بتاريخ 27 فبراير 1987 منشور بمجلة قضاء المجلس الأعلى العدد 40 ص 116 وما بعدها .
2- د محمد الكشبور المرجع السابق ص 134 .
/www.droitetentreprise.com