الدعوى العمومية
الجريمة كظاهرة اجتماعية، حتى وإن لم تكن قدرا محتوما في حياة الأفراد إلا أنها قدر محتوم في حياة الشعوب والأمم، وإن كان اعتبار مكافحة الجريمة واجبا مقدسا ملقى على عاتق السلطات المختصة التي تسهر على دعم الأمن في الجماعة فإن أنجع وسيلة لمعاقبة الجاني تكمن في الدعوى العمومية التي تباشر باسم المجتمع بواسطة النيابة العامة باعتبار الجريمة تلحق ضررا بالمجتمع المدني ككل.
وهذا لا يعني إقصاء المتضرر ومنعه من مباشرة حقه في التعويض، حيث مكّنه القانون من مقاضاة الجاني ومطالبته بالتعويض في الضرر الحاصل من جراء فعله الإجرامي.
ومن المبادئ السائدة في التشريعات الجنائية المعاصرة أنه “لا عقوبة بدون محاكمة” ومعنى ذلك أنه لا يجوز للدولة الالتجاء إلى تنفيذ العقاب مباشرة وإنما عليها أن تستصدر حكما قضائيا يكشف حقها ويقضي بنفاذه بعد ثبوته([1]).
فحق الدولة في العقاب يمر بعدة مراحل إجرائية تبتدئ بالبحث في الجرائم وجمع الأدلة وتنتهي بإصدار حكم إما بالبراءة أو بالإدانة وتنفيذ الحكم.
وبين الجريمة والعقوبة نجد جملة من الإجراءات التي تحدد نطاق الإدعاء الجنائي وتنظم مختلف المراحل الذي يجتازه حق الدولة في العقاب وهو ما يصطلح عليه ” بالعقوبة الجنائية” التي تهدف بالأساس إلى حماية مصلحة الفرد وحماية مصلحة الجماعة([2]).
وحماية هذه الأخيرة يتطلب بالضرورة ممثل أو ناطق باسم هذه الجماعة ومدافع عنها وهو ما يعرف بحماية الحق العام والذي تتولاه النيابة العامة عن طريق الدعوى العمومية.
فالدعوى في مفهومها العام هي السلطة التي يستمدها الشخص من القانون للحصول من هيئة قضائية تابعة للدولة على الحق الذي يدّعي أنه له، وتبعا لذلك فإن استرجاع أي حق مسلوب يدعيه أي شخص لا يمكن أن يستند إلى منطق القوة والأخذ بالثأر، بل يجب رفع الأمر إلى القضاء بوصفه الجهاز الرسمي الوحيد من أجهزة الدولة الذي يوفر طرق استرجاع الحقوق([3]).
فالدعوى العمومية هي وسيلة المجتمع لتوقيع العقاب على الجاني تمارسها باسمها النيابة العمومية.
وفق المفهوم المذكور أعلاه للدعوى عامة و الدعوى العمومية خاصة، فإن القاضي لا يمكن أن يتعهد من تلقاء نفسه للنظر في قضايا الناس إلاّ متى رفعت إليه الدعوى.فهي شرط جوهري حتى تتمكن السلطة القضائية من ممارسة صلاحيتها. والقاضي الجزائي لا يمكن له البت في أي نزاع إلا متى تمّ إثارة الدعوى العمومية وتقديمها للقضاء للفصل فيها.
وقد جاء بالفصل 2 م إ ج أن إثارة الدعوى العمومية و ممارستها من خصائص الحكام والموظفين الذين أناطها القانون بعهدتهم.
وما نلاحظه هو أن المشرع التونسي لم يحدد ما المقصود بالإثارة بل إكتفى بتحديد الأطراف التي تثير الدعوى العمومية.
ويمكن القول بأن إثارة الدعوى العمومية هي العمل القانوني الذي يضع النزاع بين يدي السلط القضائية المختصة([4]) للفصل فيها وإصدار الأحكام في الجريمة موضوع التتبع أو طلب إجراء الأبحاث الهادفة إلى الوصول إلى الحقيقة في ارتكاب الجريمة.
فكل جريمة ترتب دعوى عمومية الهدف منها تطبيق العقوبات([5])، وهذه الدعوى لا تنطلق بصفة فعلية حقيقية إلاّ بإثارة الدعوى العمومية أي تحريكها من مرحلة السكون إلى مرحلة تصبح فيها قائمة الذات يتعهدها هيكل قضائي مختص.
وتتميز هذه المرحلة بخلط في بعض المفاهيم التي و إن تشابهت فإنه وجب التفريق بينها، حيث أن التقارب الزمني و الوظيفي يؤدي إلى الخلط بين مفهوم التتبع الجزائي و إثارة الدعوى العمومية من جهة وإثارة الدعوى العمومية و ممارستها من جهة ثانية.
فعادة ما يتم تعريف التتبع الجزائي بأنه إثارة للدعوى العمومية([6])، على أن البعض الأخر يعتبر أن إثارة الدعوى العمومية هي العمل الأولي الذي به ينطلق التتبع الجزائي([7]).
و بالرجوع إلى المعجم القانوني يمكن تعريف التتبع بأنه جملة الأعمال التي تقوم بها النيابة العمومية تطبيقا للقانون و بحثا عن مرتكب الجريمة، فهي جميع الأعمال السابقة لمرحلة التحقيق([8]).
وقد أكّد الفقيهان Merle et Vitu أن إثارة الدعوى العمومية هي العمل الأولي الذي تنطلق به الدعوى العمومية فهي أول عمل من أعمال ممارسة الدعوى العمومية([9])، لكن الإثارة ليست كل أعمال الممارسة وهو ما يستدعي التمييز بين المفردتين:
إثارة الدعوى العمومية « La mise en mouvement de l’action public»وممارسة الدعوى العمومية « L‘exercice de l’action public ».
فإثارة الدعوى العمومية هو الإجراء المبدئي الذي ينطلق به التتبع الجزائي للكشف عن مرتكب الجريمة، في حين أن ممارسة الدعوى العمومية تعني مجموع الأعمال الإجرائية التي يقع القيام بها بعد الإثارة والتي تحتكرها النيابة العمومية أو الإدارة دون المتضرر وهي تتمثل في جميع الأعمال الإجرائية من تقديم الطلبات والدفوعات و تحرير المستندات و تقديم الطعون([10]) التي يكون الغاية منها إصدار حكم بات في القضية([11]).
وتبعا لذلك يمكن القول بأن مرحلة التتبع الجزائي تجمع بين إثارة الدعوى العمومية وممارستها، فهي تشمل جميع الأعمال الأولية التي يقوم بها الأعوان المؤهلون بمعاينة الجرائم و الأعمال اللاحقة التي تقوم بها السلط المختصة بمباشرة الدعوى العمومية و تحقيق الملاحقة الجزائية([12]).
و تاريخيا كانت الدعوى الشخصية هي الأصل([13]) في ظل النظام القبلي الذي كان يعرف نظام الاتهام الفردي الذي يخوّل بمقتضاه للمتضرر الحق في القصاص لنفسه أو لورثته أو قبيلته الذين يرثون عليه هذا الحق، و هو النظام الذي وقع اعتماده في ظل الشرائع القديمة حيث كانت أعمال العنف تنشئ في جانب المعتدى عليه حقا شخصيا في الانتقام سواء بنفسه أو بواسطة ذويه دون تدخل المجموعة في الأمر و قد استمر هذا الوضع إلى حين ظهور الدولة القديمة، فكانت شريعة أثينا أول شريعة عرفت الدعوى العمومية([14]) حيث قامت بتحديد شروط القيام بها وممارستها إلاّ أنها حافظت على صبغتها الفردية فإثارة الدعوى العمومية كانت بيد المتضرر وحده حيث يتولى هذا الأخير توجيه التهمة لشخص الذي اعتدى عليه أمام القاضي وجمع الأدلة وتقديمها للقاضي في محاكمة علنية غير مسبوقة ببحث أولي.
وما يعاب على هذا النظام انه نظام يقدّم المصلحة الخاصة على مصلحة المجتمع فالدعوى العمومية حكرا على المتضرر الذي يملك وحده حق إثارتها بقطع النظر عن الضرر الذي أحدثته الجريمة بالمصلحة العامة، هذا إلى جانب الدور السلبي للقاضي الذي لا يتعدّى تقييم الأدلة المعروضة عليه من طرف الإدّعاء.
وهذه السلبيات أدّت إلى ظهور النظام التحقيقي هذا النظام الذي ظهر مع ظهور الدولة كسلطة تحرص على فرض النظام والأمن في المجتمع. فالجريمة هي إعتداء على المجتمع بأكمله ولا بد من إيجاد نظام يحقق الزجر ويضمن حماية المصلحة العامة في آن واحد، وهذا غير ممكن إلاّ بتدعيم دور القاضي في مرحلة التتبع الجزائي.
فإثارة الدعوى العمومية في النظام التحقيقي ليست حكرا على المتضرر فقط فالقاضي له تحريك الدعوى العمومية من تلقاء نفسه دون الحاجة لوجود شكوى صادرة عن المتضرر إذ يكفي علمه بوقوع جريمة حتى يبادر بإثارة الدعوى العمومية، فكل قاضي هو مدّعي عام([15]).
وهو ما أدّى إلى تقلص المساواة بين الدفاع و الاتهام إذ أن المتهم يجد نفسه في مواجهة طرف رسمي أقوى منه خاصة وأن هذا النظام أتاح في بداية ظهوره استعمال كل الوسائل لانتزاع الاعترافات والوصول إلى الحقيقة دون مراعاة حقوق المتهم أو ضمان حرمته الجسدية. ففي ظل هذا النظام اختفى دور الفرد في الادعاء، حيث خرجت الدعوى العمومية من حوزة المجني عليه لتدخل تحت سيطرة السلطة العامة.
و مع تطور مفهوم الجريمة باعتبارها ظاهرة اجتماعية افرزها واقع اجتماعي وهي على ذلك الأساس حق للمجتمع قبل أن تكون للمتضرر، أوكلت الدولة للسلطات القضائية حق تتبع الجاني بمجرد حصول العلم بالجريمة وهو ما يعبّر عنه بنظام الاتهام القضائي([16]).
و لتوطيد سلطان الدولة و هيمنتها ظهر نظام الاتهام العام الذي يقوم على قاعدة التخصص في هيكلة الأجهزة المكلفة بإنابة المجتمع في تتبع الجناة و طلب توقيع العقاب، أسندت لتلك الأجهزة( النيابة العمومية بصفة أصلية و الإدارة) سلطة إثارة الدعوى العمومية و ممارستها اقتصاصا لحق المجتمع الذي أهدرت مصالحه بارتكاب الجريمة.
وبذلك اختصت النيابة العمومية بتحريك الدعوى العمومية و رفعها إلى القضاء ومباشرتها أمامه إلى حين صدور حكم بات.
وعملية التطور هذه لم تكن بمعزل عن قواعد الشريعة الإسلامية التي كان لها نظام خاص بها مقارنة بتشاريع الوضعية.
فالتشريع الإسلامي عرف نظام الحسبة وهي الصورة الإسلامية لما يشبه نظام النيابة العمومية([17]). و من وظائف المحتسب البحث عن الجرائم وأدلتها ومرتكبيها، وهو ما يعرف حاليا بأعمال الضابطة العدلية ويقوم المحتسب بأعماله بتكليف من ولي الأمر لا بناء على إنابة من المجتمع .
ويبقى على كل أفراد المجتمع واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لذلك لا يمكن اعتبار أن لتشريع الإسلامي نظاما مشابها للقانون الوضعي في تتبع المجرمين أو مرتكبين المنكر. ففي ظل النظام الإسلامي لا نجد مفهوم “الدعوى العمومية” لكن إذا كان الهدف من الدعوى العمومية تطبيق العقوبات فإنه يمكن القول بأن العقوبات في النظام الإسلامي تختلف بحسب نوع الجريمة.
تنقسم الجرائم في الشريعة الإسلامية إلى قسمين: جرائم عامة تستهدف حق المجتمع و جرائم خاصة تنال من المصالح الشخصية للفرد، و العقوبات عن الجرائم العامة شرعت لاستيفاء حق المجتمع أو حق الله أما عقوبات النوع الثاني فهي شرعت لاستيفاء حق الفرد أو حق العبد الذي وقعت عليه الجريمة([18]). و تنقسم الجرائم العامة بدورها إلى قسمين جرائم الحدود المحددة على سبيل الحصر في القرآن الكريم([19])، وجرائم تمس بمصلحة المجتمع لكن لا القرآن الكريم و لا السنة النبوية الشريفة أوردوا حكما في شأنها بحيث ترك أمرها لولي الأمر.
أما الجرائم الخاصة فهي كذلك تضم قسمان، قسم وقع التنصيص عليه بمصدري التشريع(القرآن و السنة) و يطلق عليها جرائم القصاص أو الدية و قسم يضم الجرائم التي تشكل إعتداء على الحق الخاص ولكنها غير مذكورة في مصدري التشريع الإسلامي.
وبناءا على هذا التقسيم يحق لكل فرد القيام بالادعاء دفاعا عن المجتمع في جرائم الحدود في حين تكون جرائم القصاص حقا للمجني عليه أو ذويه في تتبعها اقتصاصا لحقه أو طلبا للدية.
وتبعا لذلك يمكن الإقرار أن نظام إثارة الدعوى العمومية إن جاز قول ذلك يخضع لسلطة الفرد الذي كان له القيام في حق نفسه وحق المجتمع.
ولم تبرز الدعوى العمومية على النمط الحديث في التشريعات العربية إلا بعد سقوط دولة الخلافة الإسلامية([20]) حيث عملت جل التشريعات على مواكبة العصر والخروج عن قواعد التشريع الإسلامي واقتباسها من التشريعات الغربية أغلب القواعد الإجرائية الموضوعية.
أما بالنسبة للقانون التونسي فلقد عرف الدعوى العمومية من خلال مراحل تاريخية متعددة([21])، فأول قانون جاء بالدعوى العمومية هو قانون تحقيق الجنايات الفرنسي الصادر عام 1808 و المطبق في تونس([22]).
على أن الدعوى العمومية بمفهومها الحديث ظهرت لأول مرة في تونس مع عهد الأمان الصادر في 26 أفريل 1861 وذلك عندما تمّ تأسيس محاكم عدلية عصرية (ابتدائي-استئنافي- تعقيب). و قد تمّ إحداث هيكل أسندت له مهمة تحريك و ممارسة الدعوى العمومية، أطلق عليه اسم “وكلاء الحقوق العمومية”([23]).
و بمقتضى الأمر30 ديسمبر 1921 المتعلق بإصدار قانون المرافعات الجنائية الذي تأثر بالقانون الفرنسي الصادر سنة1987 تمّ إرساء أول نظام جزائي تونسي. على أنه في سنة 1968 وقع إعادة تنظيم قانون المرافعات الجنائية بمقتضى قانون عدد23 لسنة 1968 المؤرخ في 24 جويلية 1968 الذي قام بجمع كل النصوص القانونية المتعلقة بالإجراءات الجزائية في مجلة واحدة هي مجلة الإجراءات الجزائية.
وقد سعى المشرع من خلال هذه المجلة إلى التوفيق بين كل من النظامين الاتهامي و التحقيقي و ذلك من خلال منح سلطة إثارة الدعوى العمومية و ممارستها لنيابة العمومية وبعض الإدارات بصفة أصلية، على أنه للمتضرر من الجريمة أيضا إثارة الدعوى العمومية على مسؤوليته الخاصة متى توفرت الشروط القانونية التي حددتها أحكام مجلة الإجراءات الجزائية.
وبالرجوع إلى مجلة الإجراءات الجزائية نلاحظ أن المشرع التونسي ميّز بين ثلاث مراحل تشهدها الدعوى العمومية: مرحلة التتبع ومرحلة التحقيق ومرحلة المحاكمة.
وقد خصّ كل جهاز بمرحلة معينة فعهد لنيابة العمومية بمرحلة التتبع في حين عهد التحقيق لحكّام التحقيق أما المحاكمة فهي من أنظار محاكم الحق العام([24]).
ولحسن سير مرفق القضاء أقرّ المشرع مبدأ هام هو في الأصل أساس ودعامة قانون الإجراءات الجزائية([25])، هو مبدأ الفصل بين الوظائف القضائية الذي يبرز من خلال ثلاث مستويات:
أولا الفصل بين وظيفتي التتبع والتحقيق،
ثانيا الفصل بين وظيفتي التحقيق والمحاكمة، ثالثا الفصل بين وظيفتي التتبع والمحاكمة.
وتطبيقا لهذا المبدأ فإن النيابة العمومية هي المكلفة بالتتبع وبالتالي لا يمكنها القيام بأعمال التحقيق أو المحاكمة، أما مرحلة التحقيق فهي من أنظار حاكم التحقيق باعتباره درجة أولى من درجات التحقيق و دائرة الاتهام باعتبارها درجة ثانية من درجات التحقيق وبالتالي فإن المبدأ يقتضي عدم قيام كل من حكام التحقيق ودائرة الاتهام بأي عمل من أعمال التتبع أو المحاكمة و نفس القاعدة تنطبق على القاضي الجالس المكلف بالبت في النزاع والنطق بالعقوبة المستوجبة للفعل الإجرامي.
فهذا المبدأ الهدف منه ضمان تحقيق العدالة الجزائية وحماية كل من المصلحة العامة والخاصة وتوفير الضمانات اللازمة للمتهم لما تمثله العقوبة من نيل لحقوقه الشرعية.
على أن هذا المبدأ يقع تجاوزه على مستوى إثارة الدعوى العمومية. وهذا الخرق وإن كان بصريح النص في الجرائم المجلسية أين مكّن المشرع القاضي من تحريك الدعوى العمومية من أجل كل فعل من شأنه أن يخل بهيبة القضاء ويعطل حسن سير المرفق القضائي، فإن الأمر يتسم بالضبابية والغموض بالنسبة لقاضي التحقيق حيث أن الجدل مازال قائما حول هل بإمكان هذا الأخير فعلا إثارة الدعوى العمومية؟
على أن الأمر يتغير نسبيا مع دائرة الاتهام التي تعتبر درجة ثانية من درجات التحقيق و التي لها إثارة الدعوى العمومية من أجل أفعال لم يقع التحقيق في شأنها([26]).
كما أن البعض من الفقهاء يعتبرون أنه في تمكين الإدارة والمتضرر من إثارة الدعوى العمومية هو إعلان عن بداية تراجع نفوذ الدولة في مجال التتبع الجزائي. فالمبدأ يقتضي أن الدعوى العمومية هي تكريس لحق الدولة والمجتمع في توقيع العقاب وذلك من خلال هيكل مختص هو النيابة العمومية مكلف بإثارة الدعوى العمومية وممارستها والسهر على تطبيق القانون وتنفيذ الأحكام، لكن هذه القاعدة العامة بدأت تشهد العديد من الاستثناءات خاصة مع تطور مفهوم العقوبة البديلة وظهور مؤسسات قانونية جديدة تحول دون إثارة الدعوى العمومية كمؤسسة الصلح هذا إلى جانب تمكين بعض الإدارات من سلطة التتبع من إثارة و ممارسة لدعوى العمومية لما لها من دراية تقنية يفتقر لها جهاز النيابة العمومية. كل هذه العوامل تؤكد بأن الدولة بدأت تفقد سيادتها على مستوى التتبع الجزائي([27]).
فالنزاع الجزائي يضع على المحك مصلحة المجتمع و استقراره من جهة وذمّة وشرف وحرية الأفراد من جهة أخرى، وتحقيق الأمن والاستقرار الاجتماعي يفرض إيجاد جملة من القواعد القانونية الكفيلة بضمان مصلحة المجتمع وحماية حقوق الأفراد لما يرتبه النزاع الجزائي من آثار تنعكس مباشرة على حرية الفرد.
فإلى أي مدى تمكن المشرع من خلال نظام إثارة الدعوى العمومية من تحقيق التوازن بين مصلحة المجتمع من جهة ومصلحة المتضرر والمتهم من جهة ثانية؟
منذ اللحظة الأولى التي يرتكب فيها الفعل الإجرامي ينشأ لدولة حق في توقيع العقاب كجزاء عن الجريمة المخالفة للقواعد القانونية التي اتفقت المجموعة على احترامها وعدم مخالفتها. وحق الدولة في العقاب يبرز من خلال قيام الدعوى العمومية.
فالدعوى العمومية هي النشاط الإجرائي الذي تمارسه النيابة العامة باسم المجتمع(الجزء الأول) فهي رد فعل المجتمع تجاه الجريمة، وإلى جانب ما يمكن أن تلحقه الجريمة من ضرر للمجتمع و من تشويش اجتماعي فإنه يمكن إن تسبب ضررا ماديا وحصول هذا الضرر من شأنه أن يفتح لصاحبه الحق في تحريك الدعوى العمومية للمطالبة بالتعويض إذا ما قررت النيابة العمومية عدم مواصلة التتبع وأصدرت في ذلك قرار بالحفظ( الجزء الثاني).
الجزء الأول: إثارة الدعوى العمومية من قبل المجتمع
الجزء الثاني: إثارة الدعوى العمومية من قبل المتضرر
(1) الجزء الأول: إثارة الدعوى العمومية من النيابة العامة
الدعوى العمومية هي النشاط الإجرائي([28]) الذي تمارسه السلط باسم المجتمع ([29]).
فإلى جانب ما يمكن أن تلحقه الجريمة من ضرر للمجتمع ومن تشويش اجتماعي(trouble sociale) فإنه يمكن أن تسبب أيضا ضرر مادي ومعنوي لشخص معين وباعتبار أن الدعوى هي السلطة التي يستمدها الشخص من القانون للحصول من هيئة قضائية تابعة لدولة على الحق الذي يدعيه.
فإن المشرع خصّ القضاء بصفة أصلية بإثارة الدعوى العمومية ( الفصل الأول) على أنه مكّن بعض الإدارات من هذا الحق نظرا لخصوصية المصالح التي تسهر عليها هذه الإدارات (الفصل الثاني) و هو ما أكدّه طالع الفصل 2 م إ ج على أن إثارة الدعوى العمومية هي من خصائص الحكّام و الموظفين الذين أناطها القانون بعهدتهم.
الفصل الأول: إثارة الدعوى العمومية من القضاء
جاء بالفصل 12 من قانون عدد 29 لسنة 1967 المؤرخ في 14 جويلية1967 المتعلق بنظام القضاء ومجلس الأعلى للقضاء والقانون الأساسي للقضاة ما يلي: “يتألف السلك القضائي من قضاة جالسين وأعضاء النيابة العمومية ومن القضاة التابعين لإطار الإدارة المركزية بوزارة العدل.”
وانطلاقا من هذا الفصل نتبين أن السلك القضائي يتكون من القضاء الواقف والقضاء الجالس.
والقانون خصّ القضاء الواقف ممثلا في النيابة العمومية بسلطة إثارة الدعوى العمومية (المبحث الأول) فالنيابة العمومية بصفتها وكيل وممثل الهيئة الاجتماعية فهي تنفرد مبدئيا بسلطة إثارة الدعوى العمومية خاصة وأن المشرع التونسي شأنه شأن العديد من التشاريع الأخرى ميّز بين ثلاث مراحل في سير الدعوى العمومية هما على التوالي مرحلة التتبع و التحقيق والمحاكمة.
وقد خصّ كل مرحلة بجهاز خاص يشرف عليها؛ فالنيابة العمومية مكلفة بالتتبع من إثارة الدعوى العمومية وممارستها. في حين أن مرحلة التحقيق هي من مهام حاكم التحقيق و دائرة الاتهام وللقضاة سلطة إصدار الأحكام على أنه في بعض الحالات هذا المبدأ يشهد استثناءات حيث يمكن أن تثار الدعوى العمومية من الجهاز المكلف بالتحقيق أو بالمحاكمة وبالتالي إمكانية إثارة الدعوى العمومية من قبل القضاء الجالس (المبحث الثاني).
(2) المبحث الأول: إثارة الدعوى العمومية من القضاء الواقف
النيابة العمومية هي الجهاز القضائي المكلّف بدفاع عن مصالح المجتمع لدى الهيئات القضائية الزجرية ([30]) وذلك من خلال إثارة الدعوى العمومية([31]) وممارستها والسهر على تطبيق القانون استنادا إلى أحكام الفصل 2 م إ ج.
والنيابة العمومية تمتاز بمركز قانوني يختلف عن ما يتمتع به القضاة وهو ما يدعونا إلى التساؤل عن سلطات النيابة العمومية في إثارة الدعوى العمومية (الفقرة الأولى) ثم التعرض في مرحلة لاحقة إلى الطرق المعتمدة من قبل النيابة للإثارة الدعوى العمومية (الفقرة الثانية).
1) الفقرة الأولى: سلطة الإثارة
النيابة العمومية لا تقوم بدور المنوط بعهدتها إلاّ من تاريخ علمها بالجريمة وهذا العلم قد يتخذ أشكال متعددة فقد يكون على شكل شكاية من المتضرر أو وشاية من الغير أو اكتشاف هذه جريمة بمناسبة القيام بأعمال بحث من طرف أعوان الضابطة العدلية([32]).
وبناءا على ذلك فاءن وكيل الجمهورية بمجرد علمه بفعل من شأنه أن يكوّن جريمة و قبل إثارة الدعوى العمومية يجب عليه أن يتأكد من شرعية التتبع(أ) ثم عملا بأحكام الفصل 30 من م إ ج يقدر مدى إمكانية إثارة الدعوى العمومية تأسيسا على مبدأ ملائمة التتبع(ب).
أ- تقدير شرعية التتبع
أوكل المشرع لنيابة العمومية ممثلة في وكيل الجمهورية مهمة إثارة الدعوى العمومية و ممارستها والسهر على تطبيق القانون([33]) فوكيل الجمهورية هو سيد الدعوى العمومية([34]) وبالتالي يكون عليه أن يتثبت من شرعية التتبع قبل تعهيد المحاكم وذلك من خلال تقدير شرعية التتبع من حيث الأصل ومن حيث الشكل.
فوجود الجريمة في بعض الحالات غير كاف لإثارة الدعوى العمومية إذ يجب التأكد من قيام أركان الجريمة و وجود أدلة كافية للإدانة.
فبمجرد وقوع الجريمة يجب على وكيل الجمهورية التأكد من قيام أركانها والتي تستوجب أولا التأكد من توفر الركن الشرعي أي الوجود القانوني للجريمة، فلا جريمة بدون نص قانوني يحددها و يقرّ عقوبتها تأسيسا على مبدأ الشرعية([35]).
ويترتب عن هذا المبدأ أنه لا يمكن معاقبة شخص إلاّ إذا ارتكب فعل يجرمه القانون ويضبط له عقوبة وأن يكون هذا النص القانوني نافذ وقت ارتكاب الجريمة. فمن واجب “قلم الإدعاء” أن يعين بدقة التهمة الموجهة للمظنون فيه والنص القانوني المنطبق عليه([36]).
ثانيا التأكد من توفر الركن المادي باعتباره الفعل أو السلوك الذي يأمر القانون بتركه أو عدم القيام بما يأمر القانون بفعله ([37]). والمبدأ في القانون الجنائي أنه لا عقاب إلاّ من أجل جريمة تامة أدّت إلى تحقيق نتيجة إجرامية إلاّ أن المشرع يعاقب على المحاولة بالنسبة للجنايات والجنح في الصور التي بنص عليها القانون([38]).
و أخيرا التأكد من الركن المعنوي حيث جاء بالفصل 37 من المجلة الجزائية أنه “لا يعاقب أحد إلا بفعل ارتكب قصدا عدا الصور المقررة بوجه خاص بالقانون.”
كما يجب على وكيل الجمهورية التأكد من توفر عناصر كافية للإدانة وقيام المسؤولية الجزائية للمشتبه فيه أي أن تتجمع لديه كل الأدلة التي تقنعه بوجاهة هذا التتبع وأن يمتنع من إحالة شخص غير مقتنع بإدانته إذ لا فائدة ترجى من إشغال المحكمة بقضية يعرف وكيل الجمهورية مآلها سلفا([39]).
فلوكيل الجمهورية الامتناع عن إثارة الدعوى العمومية إن رأى أن المصلحة العامة في ذلك تفرض عدم الإثارة كما في صورة عدم الرغبة في الفات انتباه الرأي العام لمثل هذه الجرائم على شرط أن لا تكون خطيرة.
والنيابة العمومية لا يمكن لها إثارة الدعوى إلاّ متى كانت مختصة ترابيا حيث جاء بالفصل 27 م.إ.ج “يتعهد بالتتبعات وكيل الجمهورية المنتصب بالمكان الذي ارتكبت فيه الجريمة أو بالمكان الذي به مقر المظنون فيه أو بمحل إقامته الأخير أو بالمكان الذي عثر فيه عليه.”
و نظرا لتعددّ الاختصاص فإنه يمكن أن ينشأ تنازع ايجابي حول الاختصاص بين وكلاء الجمهورية بالمحاكم الابتدائية المختلفة فقد يتعهّد وكيل الجمهورية المنتصب بالمكان الذي ارتكب فيه الجريمة و في نفس الوقت قد يتعهد زميله المنتصب بالمكان الذي عثر فيه على المظنون فيه فما هو الحلّ في هذه الصورة؟
في هذه الصورة يمكن القول بأن من تعهد أولا هو الذي يكون له حق الإحتفاظ بملّف القضية و مواصلة العمل فيها. و هذا ما كرسه المشرع في الفصل 16 م إ ج([40]) أما بالنسبة لوكيل الجمهورية الذي رفعت يده عن القضية فإنه يجب عليه إحالة ما قام به من أبحاث إلى زميله الذي تعهد أولا “فمن مصلحة الأمن العام أن لا يلغي الآثار والأدلة التي يؤتى بها إليه أو التي يستكشفها”([41])
وفي هذا الإطار يقع التساؤل عن مدى إمكانية إثارة الدعوى العمومية بالنسبة لجريمة ارتكبت بالخارج؟
نظم المشرع هذه المسألة في الباب السابع من م إ ج تحت عنوان ” في الجنايات و الجنح المرتكبة بالبلاد الأجنبية” وانطلاقا من الفصول 305 و 307 و 307 مكرر فإنه يمكن لوكيل الجمهورية تتبع الجرائم التي ترتكب خارج الإقليم التونسي ومن ثمة إثارة الدعوى العمومية على أن ذلك لا يكون إلا من خلال احترام الشروط الواردة صلب هذه الفصول([42]).
كما أنه على النيابة العمومية التأكد من اختصاصها الحكمي فهي مبدئيا تختص بإثارة الدعوى العمومية في كل الجرائم لدى المحاكم العادية إلاّ أن المشرع خصّ بعض الجرائم بمحاكم استثنائية تتعهد وفق مقاييس شخصية أو موضوعية فقد نصّ الفصل 71 م.ح.ط على أنه ” لا يحال الأطفال الذين سنّهم بين الثلاثة عشر والثمانية عشر عاما المنسوبة إليهم مخالفة أو جنحة على المحاكم الجزائية العادية وإنما يرجعون بالنظر لقاضي الأطفال أو محكمة الأطفال.”
أما الجريمة العسكرية فهي من اختصاص النيابة العمومية العسكرية([43]) فهي غير ممكنة إلا بعد صدور أمر من وزير الدفاع([44]) والمصلحة العسكرية هي التي تبرر إخضاع إثارة الدعوى العمومية لجهة خاصة إذ قد تقتضي مصلحة الدفاع في ظروف معينة عدم التتبع رغم توفر أركان الجريمة وذلك حماية لأمن القوات المسلحة ومحافظة على الأسرار العسكرية كما أن الجرائم التي يختصّ بها القضاء العسكري قد ترتكب من قبل عسكرييّن لهم مراكز حساسة و هو ما يفترض ألا يتخذ القرار بالتتبع في شأنهم إلاّ من قبل السلطة صاحبة الاختصاص والنظر([45]).
ب- تقدير ملائمة التتبع
تتبنى الأنظمة الإجرائية المعاصرة مبدأ من مبدأين مبدأ شرعية التتبع أو مبدأ ملائمة التتبع و يعني الأول أن النيابة العمومية تكون ملزمة بإثارة الدعوى العمومية إزاء كل الجريمة بلغها العلم بها([46]) أما الثاني فيعني أنه لنيابة العمومية الاجتهاد في تقدير مدى وجاهة التتبع بما ” يسمح بإفلات بعض الجرائم القابلة للمسائلة و الثابتة بوجه كاف من أية إجراءات جنائية و ذلك لبواعث لا شأن لها بالقانون”([47]).
والقانون التونسي اعتمد مبدأ ملائمة التتبع على أن هذا المبدأ لا يجب الأخذ على إطلاقه إذ أنّ المشرع أتبعه ببعض الإستثناءات.
ويقصد بمبدأ ملائمة التتبع أنه عند حدوث جريمة ما و العلم بها من قبل وكيل الجمهورية و التحقق من ثبوتها من الناحية القانونية و إسنادها لمتهم معلوم([48]) فإنه على هذا الأخير القيام بتقدير ملائمة التتبع أي أن يختار بين إثارة الدعوى العمومية أو حفظ القضية وهو ما أكدّه الفصل 30 م إ ج الذي جاء فيه أن ” وكيل الجمهورية يجتهد في تقرير مآل الشكايات و الإعلامات التي يتلقاها أو التي تنهى إليه.” وهو ما أكّدته الدوائر المجتمعة لمحكمة التعقيب حيث اعتبرت أن مبدأ ملائمة التتبع يكسب النيابة العمومية شرعية التحكم في مآل الدعوى الجزائية([49]).
وانطلاقا من هذا الفصل نتبين أن قرار إثارة الدعوى العمومية من عدمها ليس مبنيا على الاعتباط أو التعسف([50]) لأن هذا القرار لا يقع اتخاذه إلا بعد إجراء أبحاث بخصوص الجريمة المرتكبة هذا إلى جانب مراعاة كل الظروف الحافة بالجريمة. ففي بعض الحالات رغم توفر الأركان القانونية للجريمة و ثبوت انتسابها للفاعل إلا أن وكيل الجمهورية يخيّر عدم الإثارة لانعدام مصلحة المجتمع في ذلك([51]). فمصلحة المجتمع لا تتمثل بضرورة في تتبع كل الجناة خاصة و أن علم الجريمة قد أثبت أن التصدي للظاهرة الإجرامية لا يتطلّب بالضرورة اللّجوء إلى الردع العام والردع الخاص بقدر ما يتطلب العمل على إصلاح المجرم بتفريده بالعقوبة واتخاذ التدابير المناسبة لشخصيته([52]).
لكن السؤال الذي يطرح نفسه هو إذا ما قرر وكيل الجمهورية حفظ القضية هل يمكن إثارتها من جديد؟ أي هل يحق لنيابة العمومية أن تتراجع في قرار الحفظ ؟
وضع المشرع مبدأ قانوني مفاده أنه لا يجوز تتبع أو محاكمة شخص من أجل نفس الفعل مرتين هذا من جهة، من جهة أخرى فأن قرار الحفظ ليس عملا قضائيا فهو يتخذ من دون مرافعة و لا يخضع لأي طريقة من طرق الطعن ولا يكتسب حجية الأمر المقضي به و تبعا لذلك يمكن القول أن قرار الحفظ ليس إلاّ قرارا إداريا لا يقبل أي طعن فيه إلاّ برفع الأمر إلى رؤساء وكيل الجمهورية ومن هنا إذا تراءى له أنّه من الملائم تتبع نفس الشخص من أجل نفس الأفعال من جديد ؛ أن يتراجع في قرار الحفظ الذي أصدره([53]) و يمكنه من باب أولى و أحرى أن يتراجع في صورة ظهور عناصر جديدة على أنه يشترط أن لا تكون الدعوى العمومية قد سقطت بمرور الزمن([54]).
لكن هل يمكن اعتبار إستئناف التحقيق لظهور أدلة جديدة إثارة جديدة لدعوى العمومية؟
إستئناف التحقيق لظهور أدلة جديدة هو الإجراء الذي يقع بمقتضاه العودة إلى الدعوى العمومية([55]) مجددا و هو إجراء من إجراءات ممارسة الدعوى لا إثارتها فهو تمديد لدعوى سبق أن أثيرت من النيابة العمومية و عرضت على التحقيق.
و يستنتج مما سبق عرضه أن النيابة العمومية مختصة مبدئيا بإثارة الدعوى العمومية إلاّ أنه و تفاديا لما قد يحصل من تعسف عند إعمال هذا المبدأ فإن المشرع أتبعه ببعض الإستثناءات التي توجب الإثارة أو تحول دونها.
من ذلك صدور أمر يقضي بالتتبع حيث تقتضي التبعية الإدارية تنفيذ المرؤوس للأوامر الشرعية الصادرة عن رئيسه([56]) وهي خاصية تتميز بها النيابة العمومية مقارنة بالقضاء الجالس والتي أكّد عليها الفصل 23 م إ ج([57]) على أنه يجب الإشارة أن الوكيل العام لدى محكمة الاستئناف سواء تلقى تعليمات بإثارة الدعوى العمومية من طرف وزير العدل أو قرر ذلك من تلقاء نفسه فإنه ” لا حق له في إقامة الدعوى العمومية لدى المحكمة الابتدائية، كما لا حق له في الإحالة على المحكمة أو التحقيق؛ أو الإحالة على حاكم المخالفات و إنّما يعطي أوامره لوكيل الجمهورية الذي يتولى تنفيذها”([58]).
وفي صورة تلقي وكيل الجمهورية لأمر بالتتبع من رئيسه فإنه لا يحق له حفظ القضية بل يكون ملزما مبدئيا بالتتبع و من ثمة إثارة الدعوى العمومية.
كما أن النيابة تكون مطالبة بالتتبع في صورة قيام المتضرر على مسؤوليته الشخصية حيث جاء في الفصل 36 م إ ج أنه للمتضرر في صورة حفظ القضية من وكيل الجمهورية إثارة الدعوى العمومية على مسؤوليته الشخصية على أن ذلك لا يكون إلا وفق شروط معينة ضبطها المشرع وهو ما سيقع التعرض له في مرحلة لاحقة.
على أنه في حالات أخرى تكون إثارة الدعوى العمومية معلقة قيد إجرائي كصدور شكوى أو الحصول على إذن.
فالمبدأ يقتضي أن إثارة الدعوى العمومية لا يتوقف على وجود التشكي([59]) على أن هذا المبدأ يشهد استثناء مؤسس على اعتبارات شخصية لا يقع اعتمادها في أغلب الأحيان باعتبار أن حق المجني عليه في إثارة الدعوى العمومية لا يمثل فقط قيدا على مبدأ ملائمة التتبع الذي تمارسه السلطات المختصة من خلال الامتناع عن تقديم الشكوى وإنما تحدث عنصرا من التعسف في إثارة الدعوى العمومية لا يبرره سوى الحاجة الملحة إلى حماية المصالح الخاصة للمجني عليه([60]).
كما أنه يجب على النيابة العمومية في بعض الحالات الحصول على إذن من هيئة أو من سلطة معينة لإثارة الدعوى العمومية. والإذن هو الإجراء نصّت عليه بعض القوانين والمعاهدات الدولية الذي من خلاله تعبر بعض الجهات عن عدم معارضتها إثارة الدعوى العمومية ضدّ شخص يتبعها([61]).
فالحصانة التي يتمتع بها بعض الأشخاص تكون عائق أمام إثارة الدعوى العمومية.
والحصانة قد تكون قضائية([62]) أو برلمانية وهي التي يتمتع بها أعضاء مجلس النواب و مجلس المستشارين([63]) على أنه يجب الملاحظة أن المشرع استثنى بصفة ضمنية المخالفات من الحصانة سواء كانت برلمانية أو قضائية و بالتالي يمكن إثارة الدعوى العمومية في شأنها دون حاجة لإذن المجلس([64]) .
أما فيما يخصّ الحصانة الدبلوماسية فقد كرستها اتفاقية فيانا الموقعــة فـي 18 أفريل 1961 و التي تمنح الحصانة القضائية لسائر الأعوان الدبلوماسيين والأعوان والإداريين والفنيين للسفارات بالإضافة إلى أفراد عائلاتهم بما يحول دون تتبعهم من أجل أيّ جريمة يرتكبونها بما في ذلك المخالفات.
وفي بعض الصور الأخرى تكون إثارة الدعوى العمومية غير ممكنة إلاّ بعد البت في مسألة من المسائل الأولية التي قد تهم القانون المدني أو التجاري مثلا. ومن أمثلة ذلك ما نصّ عليه الفصل 239 م.ج بالنسبة لجريمة الفرار بقاصر الذي جاء فيه أنه إذا تزوج الفار بقاصر فإنه يتم إيقاف المحاكمة أو إيقاف تنفيذ العقاب. والزواج المقصود هنا هو الزواج الصحيح وبالتالي فإنه إذا أثيرت مسألة تتعلق بإبطال الزواج وتعهد بها القضاء المدني فإنه في هذه الحالة تعتبر دعوى إبطال الزواج من المسائل الأولية التي تحول دون إثارة الدعوى العمومية.
2) الفقرة الثانية : طرق الإثارة
إثارة الدعوى العمومية هو طرح القضية وعرضها على القضاء وهو ما يدعو إلى التساؤل عن كيفية هذا الطرح بعبارة أخرى ما هو الإجراء الذي من خلاله نتبين أن الدعوى العمومية وقع إثارتها فعلا؟
إذ ما قررت النيابة العمومية إثارة الدعوى العمومية فإنها يكون أمامها وسائل مختلفة لإثارة الدعوى ففي حالات تكون ملزمة بالقانون بإتباع طريقة معينة دون الأخرى فبعض الجرائم لا يجوز تتبعها إلاّ بالإحالة على حاكم التحقيق (أ) في حين أنه في جرائم أخرى يقع الإحالة على محاكم القضاء(ب).
أ – الإحالة على التحقيق:
فتح بحث تحقيقي هو الإجراء الذي من خلاله يتم إثارة الدعوى العمومية أمام قاضي التحقيق([65]). وجوبي في الجنايات([66]) على أنه يبقى اختياري في الجنح ما لم ينصّ القانون على خلاف ذلك([67]). على أن التحقيق يصبح وجوبي عمليا إذ ما قررت النيابة العمومية إثارة الدعوى العمومية ضدّ مجهول عملا بأحكام الفصل 31م.إ.ج.
و بمقتضى إصدار قرار فتح بحث فإن وكيل الجمهورية يتولى إثارة الدعوى العمومية و ذلك بتعهيد قاضي تحقيق.
وقرار فتح بحث يجب أن يستوفي جملة من الشروط الشكلية والموضوعية التي سكت المشرع عنها وهذا القرار يجب أن يكون مكتوبا فشرط الكتابة في قرار فتح بحث يتماشى ومبدأ تدوين إعمال التحقيق و وجوب تكوين ملف عن القضية.
فالطبيعي أن تكون وثيقة التعهّد أي قرار إجراء البحث مكتوبا هذا بالإضافة إلى أن الفصل 51 م.إ.ج يلزم قاضي التحقيق بالبحث في حدود الأفعال المبيّنة بقرار إجراء البحث و هو ما يفترض إدراجها في وثيقة مكتوبة.
كما يجب أن يكون قرار فتح البحث مؤرخ و ممضي ذلك حتى يكون للملف الوجود القانوني و الحجيّة. فالإمضاء تنصيص وجوبي وشكلية أساسية حيث أن غياب الإمضاء يبطل هذا القرار و كذلك الأعمال التي بنيت عليه باعتبارها صادرة عن قاضي تحقيق غير متعهد.
كما أن تاريخ القرار يساعد على تحديد مسألة التقادم وانقطاعه باعتبار أن قرار إجراء البحث هو عمل تتبع تتحرك به الدعوى العمومية و تنقطع به مدة التقادم.
كما يجب أن يتم تعيين قاضي التحقيق في وثيقة التعهد و هو شرط إجرائي فهي شكلية ضرورية يترتب عن غيابها بطلان الإجراءات اللاحقة المبنية عليها.
وقد أسند المشرع هذه المهمة للنيابة العمومية إذ جاء بالفصل 49 م.إ.ج ” إذا كان بالمحكمة عدّة حكام تحقيق فإن وكيل الجمهورية يعين لكل قضية الحاكم المكلف بالبحث فيها.” هذا الفصل وإن ورد في شكل جملة شرطية مفادها أن الخيار يكون للنيابة في حالة ما إذا تواجد عدة قضاة تحقيق بنفس المحكمة، ممّا يعني انتفاء الخيار عند وجود قاضي تحقيق واحد([68]).
وقرار البحث يجب أن يستوفي جملة من الشروط الموضوعية كتحديد الأفعال المراد التحقيق في شأنها و تحديد الوصف القانوني و النص القانوني المنطبق و تعيين الأشخاص المظنون فيهم.
على أن هذه التنصيصات لا تعد وجوبية وبالرجوع إلى الفصل 51 م.إ.ج فإنه يمكن الاقتصار على تحديد الأفعال فقط باعتبار أن القاعدة الإجرائية تقتضي أن يكون التعهد عينيا موضوعيا لقاضي التحقيق ويعني ذلك أن إعطاء وصف قانوني للأفعال أو تعيين الأشخاص المظنون فيهم لا يعد ضروريا ولا يقيد قاضي التحقيق.ان يكون مميزا
لئن كان القضاء الواقف هو الجهاز الأصلي المكلف بإثارة الدعوى العمومية بدون منازع على أن ذلك لا يعني إقصاء القضاء الجالس من حق إثارة الدعوى العمومية.
-ب- الاحالة على المحاكمة
إذا قررت النيابة العمومية إحالة شخص على قاضي الناحية أو على المجلس الجناحي بالمحكمة الابتدائية التابع لها فإن العمل القضائي جرى أن يسجل وكيل الجمهورية قرار إحالة إما على محضر البحث نفسه الذي قدمته له الشرطة أو سائر أجهزة الأمن المختصة الأخرى أو على ورقة مستقلة([69]).
ولئن لم يخصّ المشرع قرار الإحالة بشكليات معيّنة إلا أن ذلك لا يمنع من ضرورة احترام بعض الشروط إذ يجب أن يتضمن قرار الإحالة اسم الشخص المحال، بيان الأفعال المنسوبة إليه، تاريخ قرار الإحالة وفي الأخير توقيع وكيل الجمهورية.
و يقع تسليم قرار الإحالة إلى كتابة المحكمة التي تتولى استدعاء المعني بالأمر وذلك بإحدى طريقتين إما توجيه استدعاء لمن تمت إحالته وهي الطريقة الإدارية أو بواسطة عدل منفذ.
على أن الواقع جرى على إتباع الطريقة الإدارية و كل استدعاء بطريقة أخرى يعتبر غير قانوني([70]).
وعلى خلاف قرار الإحالة فالمشرع خصّ الاستدعاء بجملة من الشروط الشكلية، إذا نصّ الفصل 135م.إ.ج على جملة من البيانات الضرورية التي يجب أن يتضمنها الاستدعاء كبيان الفعل الواقع من أجله التتبع و النصّ القانوني المنطبق عليه، بيان المحكمة المتعهدة ومكان وساعة وتاريخ الجلسة حتى يتمكن المتهم من الحضور،صفة المستدعى أي هل تمّ استدعائه بوصفه متهما أو مسؤولا مدنيا أو شاهدا،اسم المكلف بالتبليغ وصفته وتاريخ التبليغ، هذا بالإضافة إلى ضرورة ذكر اسم ولقب المستدعي وعنوانه([71]).
ويفترض أن يبلغ الاستدعاء إلى المستدعي نفسه. إلاّ أن الفصل 139 م.إ.ج نصّ على أنه يمكن أن يسلم أيضا إلى وكيله أو خادمه أو لمن يكون ساكنا معه بشرط أن يكون مميزا.
و يجب على مبلّغ الاستدعاء أن ينصّ على صفة الشخص الذي تسلّم الاستدعاء حتى تتمكن المحكمة من معرفة ما إذا كان يتجه وصف الحكم غيابيا أو معتبر حضوري في صورة عدم حضور المستدعى إذ عملا بالفصل 175 م.إ.ج يكون الحكم معتبرا حضوريا إذا بلغ التنبيه لشخص المتّهم و لم يحضر و يكون غيابيّا إذا استدعى المتهم بصفة قانونية دون أن يبلغه شخصيا.
وتجدر الإشارة إلى أن تشريعنا يختلف عن التشريع الفرنسي من حيث أنه لا يحثّ على الاجتهاد في إبلاغ الاستدعاء إلى المعني بالأمر نفسه و يفتقر إلى بعض وسائل التبليغ عند غياب هذا الأخير، فقد فرض الفصل 555م.إ.ج فرنسي على العون المبلغ للاستدعاء أن يقوم بكلّ المساعي للتوصل إلى تسليم الاستدعاء لشخص المستدعي نفسه. فالفصل 139 م.إ.ج لا يفرّق بين الاستدعاء للمستدعي نفسه أو لوكيله أو لخادمه أو لمن يكون ساكنا معه و هو من شأنه أن يؤثر سلبا على الاعتراض. كما أن الاستدعاء يجب أن يقع تسليمه قبل مدّة من اليوم المعيّن للحضور بالجلسة وذلك لتمكين المستدعي من الاستعداد للحضور في الموعد وإعداد دفاعه أو تكليف محام للدفاع عنه.
وقد اوجب الفصل 136 م.إ.ج أن يكون الأجل بين توجيه الاستدعاء واليوم المعين للحضور الجلسة ثلاثة أيام على الأقل، أمّا إذا كان المستدعي قاطنا خارج تراب الجمهورية فإن الفقرة الثانية من الفصل 136 م إ ج ترفع الأجل إلى ثلاثين يوم.
والسؤال الذي يطرح نفسه هو ما جزاء الإخلال بهذه الشكليات؟
جاء بالفصل 199 م.إ.ج على أنه ” تبطل كلّ الأعمال و الأحكام المنافية للنصوص المتعلّقة بالنظام العام والقواعد الإجرائية الأساسية أو لمصلحة المتهم الشرعيّة.”
وتبعا لذلك فإن الاخلال بشكليات الاستدعاء وتبلغيه يمكن أن تؤدي إلى بطلان الإحالة وبطلان الحكم الصادر فقد اعتبر فقه القضاء الفرنسي أن بطلان الاستدعاء يؤدي إلى بطلان الحكم الصادر غيابيا و كل الأعمال اللاحقة([72]).
على أنه يجب التمييز بين الإخلال بشكليّات توجيه الاستدعاء المعتبرة من القواعد الإجرائية الأساسية و بين خلو الاستدعاء من التنصيصات الضرورية المقررّة لمصلحة المتهم الشرعية. ففي صورة الإخلال بشكلية توجيه الاستدعاء أي الإخلال بواجب الاستدعاء في حدّ ذاته([73]) أو “حذف الخصائص الأساسية للاستدعاء التي قد تؤثر على طبيعته الرسمية([74]) أو موضوعه”([75]) فقرار الإحالة يكون باطلا في كلتا الحالتين.
أما في الصورة الثانية أي خلو الاستدعاء من التنصيصات الضرورية وهي التنصيصات التي أوجبها المشرع في الاستدعاء المقررة لمصلحة المتهم فإن الإخلال بها يكون موجبا للبطلان عملا بالفصل 199 م.إ.ج([76]).
و قد تكون الإحالة توا على معنى الفصلان 200 و 206 م.إ.ج حيث خوّل المشرع وكيل الجمهورية إمكانية إحالة المظنون فيه توّا على حاكم الناحية إن كان بحالة سكر أو عجز عن التعريف بنفسه ، أو على المحكمة الابتدائية بعد استنطاق بسيط في صورة الجريمة المتلبس بها.
تنتج مما سبق عرضه أن إثارة الدعوى العمومية في الجرائم البسيطة تكون بالإحالة على المحكمة بالنسبة لنيابة العمومية أما بالنسبة لشخص الواقع ضده الإثارة فتكون بالاستدعاء، على إن الوضع مختلف في الجرائم المعقدة و الخطيرة.
(3) المبحث الثاني: إثارة الدعوى العمومية من القضاء الجالس
إن من المبادئ الأساسية التي تسود مادة الإجراءات الجزائية هو مبدأ الفصل بين الوظائف([77]) وهو ما يعني اختصاص النيابة العمومية بإثارة الدعوى العمومية وممارستها في حين يختص قضاء التحقيق في البحث في القضية و في نسبتها للمتهمين بينما يتعهد قضاء الحكّام بالفصل في الدعوى و إصدار الأحكام فيها و بالتالي لا يمكن للمحكمة (الفقرة الثانية) أو لقضاة التحقيق(الفقرة الأولى) إثارة الدعوى العمومية إلاّ بصفة استثنائية ونادرة.
3) الفقرة الأولى: محاكم التحقيق
إن الحرص على حماية الحقوق الفردية من جهة وحسن سير العدالة الجزائية من جهة أخرى يفرض الفصل بين سلطة التتبع و التحقيق.
لكن إذا كان الفصل بين التتبع و التحقيق مبدأ محتم في مادة الإجراءات الجزائية فإن الجمع بينهما استثناء أقرّه المشرع في حالات حصرية وهو ما يدعو إلى التساؤل هل أن الجمع بين سلطة التتبع و التحقيق يعني إمكانية إثارة الدعوى العمومية من طرف حاكم التحقيق(أ) و دائرة الاتهام(ب).
أ- حاكم التحقيق
قاضي التحقيق يمثل هيكلا قضائيا مستقلا تابعا للمحكمة الابتدائية وليس لرئيسها أو لوكيل الجمهورية بها أي إشراف قضائي عليه. فهو يقوم بالأعمال المناطة بعهدته بكامل الحرية لا رقابة عليه إلا للقانون و وجدانه فهو مختص بالبحث و تقصي الحقيقة([78]) و للقيام بدوره على أحسن وجه كرّس المشرع مبدأ الفصل بين التحقيق والتتبع فقاضي التحقيق يتعهد بالقضية بموجب قرار فتح بحث صادر عن وكيل الجمهورية أو بموجب إثارة الدعوى العمومية من قبل القائم بالحق الشخصي([79]).
و تبعا لذلك فإن تعهد قاضي التحقيق في الجرائم العادية مرتبط مبدئيا بالنيابة العمومية في وجوده و موضوعه إلاّ أن المشرع التونسي نصّ على حالة استثنائية يمكن له فيها من أن يتعهد بالبحث من تلقاء نفسه([80]) وهي حالة التلبس حيث نصّ الفصل 35 م.إ.ج أن ” لحاكم التحقيق في دائرته أن يجري رأسا و بنفسه في صورة الجناية المتلبس بها جميع الأعمال المخوّلة لوكلاء الجمهورية طبق القانون زيادة على ما له من الوظائف الخاصة به و يجب عليه إعلام وكيل الجمهورية حالا….”
و بالتالي فهو يتمتع بسلطتي التتبع و التحقيق بمجرد وقوع جناية متلبس بها. لذا وفي صورة ارتكاب جناية بمحضره أو في صورة حضوره على عين المكان قبل وكيل الجمهورية فإنه يجمع بين السلطتين فيتولى البحث في القضية دون توقف على حضور وكيل الجمهورية أو على وجود قرار فتح بحث تحقيقي.
فهل يعني ذلك إمكانية إثارة الدعوى العمومية من طرف قاضي التحقيق؟
انطلاقا من الفصل 35 م.إ.ج فإن قاضي التحقيق لا يجمع بين سلطة التحقيق و التتبع إلاّ في الجناية المتلبس بها إذ هو في الجنحة المتلبس بها يتعهد بوصفه عون من أعوان الضابطة العدلية و بالتالي فإن أعماله تكون من قبيل الاستدلال لا التحقيق([81]) على أن الأمر مختلف في الجنايات المتلبس بها.
فقد جاء بالفقرة الثانية من الفصل 14 م.إ.ج أنه فيما عدا الجناية المتلبس بها ليس لقاضي التحقيق أن يتعهد بالنازلة بدون قرار في ذلك من ممثل النيابة العمومية، وتبعا لذلك نستنتج أن تعهد قاضي التحقيق في الجنايات المتلبس بها يكون تلقائيا دون الحاجة لقرار فتح بحث فالمشرع عمّم حكم التعهد الفوري لقاضي التحقيق كسلطة تتبع على تعهده كسلطة تحقيق.
و بالربط بين عبارة الفصل 35 م إ ج ” أن يجري رأسا” وعبارة الفصل 14 م إ ج ” زيادة على ماله من وظائف” نتبين وجود تلاحق زمني لأعمال قاضي التحقيق كسلطة تتبع و كسلطة تحقيق و إذا كان بإمكان قاضي التحقيق إثارة الدعوى العمومية فإن ذلك لا يمنع النيابة العمومية من تسييرها و مراقبتها([82]) .
على أن الأستاذ دوبلا يرفض مثل هذا الإقرار معتبرا أن تعهد قاضي التحقيق في الجناية المتلبس بها لا يعني إثارتها و ذلك تأسيسا على الفرق بين التعهد الإثارة.
وانطلاقا مما سبق عرضه يمكن القول أن قاضي التحقيق في الجناية المتلبس بها يتصرف بكل استقلالية تجاه النيابة العمومية لكن مع ضرورة احترام واجبين اثنين يتمثل الأول في الإعلام الفوري لوكيل الجمهورية بالتعهد التلقائي أما الثاني فهو واجب اطلاع ممثل النيابة العمومية على التقارير بعد فراغ قاضي التحقيق من أبحاثه حتى يقرر في شأنها ما يراه صالحا.
واستنادا لما تقدم تحليله فالمقصود بالإعلام و اطلاع وكيل الجمهورية ليس تمكين هذا الأخير من إثارة الدعوى العمومية و تعهيد قاضي التحقيق لأن الدعوى العمومية قد أثيرت بمقتضى حالة التلبس و إنما تمكين وكيل الجمهورية من ممارسة الدعوى العمومية استنادا للفصل 20م.إ.ج.
و عموما فإن التضارب في المواقف يرجع إلى غموض عبارات النصوص القانونية فالفصل 14 م.إ.ج يمكن قاضي التحقيق من التعهد التلقائي دون الحاجة لقرار فتح بحث من وكيل الجمهورية في حين يأتي الفصل 35 م.إ.ج ليفرض على قاضي التحقيق بعث تقاريره إلى النيابة العمومية لتقرر في شأنها ما تراه صالحا.
والجدير بالمشرع التونسي في هذا الإطار إعادة صياغة هذه النصوص لإزاحة كل لبس و ليكون موقفه واضحا فإما أن يبيح التعهد التلقائي لحاكم التحقيق وإما أن يلغيه مثلما فعل نظيره الفرنسي في م إ ج الحديثة تكريسا لمبدأ الفصل بين التتبع والتحقيق([83]).
على أن دور القاضي يختلف في الجرائم العادية فبمجرد اتصاله بقرار فتح بحث يصبح قاضي التحقيق ملزم بالتحقيق في الأفعال المبينة في القرار.
فقاضي التحقيق يتعهد بالقضية عينيا أي ليس له مباشرة التحقيق إلا في الأفعال المبينة في القرار و لا يمكنه التحقيق في غيرها إلا إذا كانت ظرف تشديد للجريمة المتعهد بها و هو ما أكدّه الفصل 51 م.إ.ج الذي كرس مبدأ عينية التعهد أو موضوعيتهsaisine in rem ([84]).
و يعتبر مبدأ التعهد الموضوعي نتيجة حتمية لمبدأ الفصل بين سلطتي التتبع والتحقيق. فوكيل الجمهورية يثير الدعوى العمومية في خصوص أفعال معينة تكون نطاق عمل قاضي التحقيق فلا يسوغ تجاوزها إلا متى كانت ظرف تشديد.
و التعهد الموضوعي لقاضي التحقيق يعني أن هذا الأخير يتعهد بالأفعال لا بالأشخاص([85]). فإذا تبين له من أعمال الاستقراء أن هناك أشخاص متورطين في القضية كفاعلين أصليين أو شركاء فإنه يمكن أن يشملهم بالبحث و أن يوجه لهم التهمة و ذلك دون الرجوع لوكيل الجمهورية للحصول منه على قرار تكميلي يعهده بالتحقيق معهم، و يكون الأمر كذلك في صورة فتح بحث تحقيقي ضدّ مجهول أو أشخاص معينين. و إن لم يشر المشرع صراحة إلى إمكانية توسيع قاضي التحقيق أبحاثه إلى أي شخص غير مشمول بقرار البحث على أن ذلك يمكن استخلاصه من أحكام الفصل31 و51 من م.إ.ج.
فالفقيه Mangin يرى أن ” توجيه التهمة من طرف قاضي التحقيق لشخص غير مشمول بقرار فتح التحقيق يثير الدعوى العمومية ضدّه بالرغم من عدم وجود نص يعطيه هذه السلطة”([86]).
و يعترض الفقيه F. Helie على هذا الرأي بقوله أن الدعوى العمومية وقع إثارتها بقرار فتح البحث الذي تعهد بمقتضاه قاضي التحقيق بالبحث في فعل معين ويكون تعهده ضمنيا بالتحقيق إزاء لفاعلين والمشاركين في هذا الفعل، فقاضي التحقيق لا يثير الدعوى العمومية هنا و إنما يتعهد بها و يتولى التحقيق فيها.
إذا كانت الآراء مختلفة ومتباينة في شأن مدى إمكانية إثارة الدعوى العمومية من طرف قاضي التحقيق نظرا لخرقها لمبدأ أساسي هو الفصل بين التتبع والتحقيق فهل الأمر ينسحب كذلك على دائرة الاتهام بوصفها درجة ثانية من درجات التحقيق.
ب- دائرة الاتهام
دائرة الاتهام هي محكمة تحقيق من درجة ثانية؛ فهي محكمة من نوع خاص نظرا لاصطباغ عملها بصبغة تحقيقية من جهة و بصبغة قضائية من جهة أخرى([87]).
وقد عرّفها الأستاذ طيب اللومي بأنها” هيئة حكمية أناط القانون بعهدتها حق التحقيق و الاستقراء و إصدار القرارات التي تتعهد بمقتضاها المحاكم بالدعوى العمومية في نطاق ما خوّله لها القانون زيادة على ما أسند إليها من حق النظر على وجه الاستئناف لقرارات قاضي التحقيق و ما تبت فيه من مطالب تسليم مجرمين”([88]).
و قد اقتضى المبدأ في قضاء التحقيق الفصل بين التتبع والتحقيق، إلا انه بالرجوع إلى الفقرة الأخيرة من الفصل 116 م.إ.ج نتبين أن لهذا المبدأ استثناءا إذ مكّن المشرع دائرة الاتهام من أن ” تأذن بإجراء تتبع جديد.. عن أمور لم يقع إجراء تحقيق في شأنها… بعد سماع ممثل النيابة العمومية.”
فدائرة الاتهام “محكمة عليا للتتبع و التحقيق تمثل درجة استثنائية لقرارات قضاة التحقيق بدائرتها و حينئذ فهي عندما تقرر توجيه التهمة فإن التتبع يكون عندئذ مازال جاريا بمقتضى قرارها”([89]). فهل يعني ذلك إمكانية إثارة الدعوى العمومية من طرف دائرة الاتهام؟
و إذا ما وقع تبني مثل هذا الإقرار ألا يعني ذلك اعتبار دائرة الاتهام في هذه الحالة سلطة تتبع أسمى من سلطة النيابة العمومية؟
الفصل 116 م.إ.ج يمكّن دائرة الاتهام من إثارة الدعوى العمومية والحال أن المبدأ يقتضي أن إثارة الدعوى العمومية من مهام النيابة العمومية على أنه في هذه الحالة ينحصر دور النيابة العمومية في مجرد إبداء رأي لا يقيد دائرة الاتهام([90]).
فإذا أثارت النيابة العمومية دعوى عمومية و طلبت فتح بحث تحقيقي ضدّ شخص معين من أجل تدليس شيك مثلا وتعهد قاضي التحقيق بالأبحاث وبعد إنهاء أعماله حرر قرار ختم بحث وأحيل الملف على دائرة الاتهام. فمبدئيا دور دائرة الاتهام يتمثل في مراقبة أعمال قاضى التحقيق فإذا كانت الإجراءات سليمة تحيل الملف على المحكمة المختصة إلا أنه إذا اكتشفت أن هذه صكوك مسروقة فيمكن لها استنادا لأحكام الفصل 116 فقرة أخيرة إثارة الدعوى العمومية من أجل جريمة السرقة.
و القانون الفرنسي في مجلة 1808 نصّ في الفصل 235([91]) على إمكانية أن تأذن دائرة الاتهام من تلقاء نفسها بالتتبع و هو ما جعل بعض الفقهاء([92]) يؤكدون على إمكانية إثارتها للدعوى العمومية. على أن الفصل 202 و 204جديد م.إ.ج الفرنسية يمنح دائرة الاتهام إمكانية الإذن من تلقاء نفسها بالتتبع أو بالاستناد إلى قرار وكيل الجمهورية في فتح البحث([93]). وهذا لا يمنع من القول بإمكانية إثارتها للدعوى من أجل اكتشاف أفعال جديدة حيث يعتبر الأستاذ J.Brouchot أن الفصل 204 م.إ.ج الفرنسية يعطي لدائرة الاتهام سلطة هامة تصل إلى حد إثارة الدعوى العمومية([94]).
و بالرجوع إلى أحكام الفصل 116 نلاحظ أن المشرع لم يحدد ما المقصود ﺒـ”أمور لم يقع تحقيق في شأنها” فإنه من المنطقي أن هذا التتبع الذي ستأذن به دائرة الاتهام أن يشمل بالضرورة أفعال جديدة أو أشخاص جدد.
* تتبع أفعال جديدة:
إن الأفعال الجديدة هي الأفعال التي لم يشملها قرار افتتاح البحث الصادر عن وكيل الجمهورية من جهة و لا تشكل ظرف تشديد من جهة أخرى كما يمكن ذكر شرط أخر ضمني يمكن استنتاجه من الفصل 116 م.إ.ج يتمثل في ضرورة أن تكون هناك علاقة سببية بين الأفعال الجديدة و الأخرى المتعهّد بها وهو ما اشترطه المشرع الفرنسي صراحة بالفصل 202 م.إ.ج الفرنسية.
فدائرة الاتهام على خلاف حاكم التحقيق غير مقيدة بالأفعال المبينة بقرار فتح البحث نظرا لتمتعها بسلطة عظمى في توسيع نطاق التتبعات إلى وقائع جديدة دون التوقف على إثارة النيابة العمومية و لا تتوقف حتى على الوصف القانوني الذي أضفته النيابة أو قاضي التحقيق في قرار ختم التحقيق على الأفعال المحالة عليها لأن من واجبها البحث عن كل الأوصاف القانونية الممكنة للأفعال المحالة عليها. وفي صورة تغيير الوصف القانوني فدائرة الاتهام تكون ملزمة بإعلام المتهم بذلك احتراما لحقوق الدفاع.
* تتبع أشخاص جدد:
لدائرة الاتهام سلطة واسعة في توجيه الاتهام ضدّ كل من تبين تورطه في الجريمة سواء من خلال قرار ختم البحث أو قرار فتح البحث وسواء كان التحقيق ضدّ أشخاص معينين أو مجهولين؛ فكل شخص ثبت تورطه في الجريمة يدخل في نطاق تتبعها دون التوقف على إثارة الدعوى العمومية ضدّه من النيابة العمومية على أن الفصل 116 م.إ.ج فقرة أخيرة أكّد على ضرورة سماع ممثل النيابة العمومية؛ مما يوحي إلينا بأن دائرة الاتهام مقيدة بالقيام بالتتبع بموافقة النيابة التي لها وحدها حق تقرير مآل ما ينتهي إلى علمها من جرائم عملا بمبدأ ملائمة التتبع ولكن هذه القراءة الحرفية للفصل غير صحيحة لأن اشتراط سماع ممثل الحق العام مجرد تأكيد على حق هذه الأخيرة في ممارسة التتبع عملا بأحكام الفصل 20 م.إ.ج([95]).
و لكن حق دائرة التهام في تتبع أشخاص جدد ليس مطلقا([96]) خاصة في صورة صدور قرار من طرف قاضي التحقيق في حفظ التهمة. فما مدى حجيّة هذا القرار على حق دائرة الاتهام في إثارة تتبع جديد؟
فإذا أصدر قاضي التحقيق قرار في الحفظ الكلّي وأصبح باتا سواء بعد ممارسة حق الطعن فيه أو بعد تفويت أجله فلا يمكن لدائرة الاتهام إثارة الدعوى العمومية و تتبع متهم من جديد من أجل نفس الأفعال التي صدر في شأنها قرار عدم وجاهة التتبع([97]).
4) الفقرة الثانية: محاكم القضاء
إن المبدأ القانوني العام اقتضى استقلال قلم الاتهام عن محاكم القضاء المكلفة بتسليط العقوبات و معنى ذلك أن محكمة القضاء لا يمكن لها إثارة الدعوى العمومية من تلقاء نفسها إذا لم يشملها قرار الإحالة الذي هو من خصائص قلم الاتهام إلا في الصور التي نص عليها القانون([98]).
فإثارة الدعوى العمومية تبقى من خصائص النيابة العمومية وبالتالي لا يمكن للقاضي الحكمي إثارة الدعوى أو ممارستها وأي خرق لهذه القاعدة يعتبر تجاوز للسلطة([99]).
كما أن الفقه يؤكد على منع القاضي من أن يجلس في قضية سبق له أن أثار الدعوى في شأنها بصفته ممثلا للنيابة العمومية([100]).
على أن مبدأ الفصل بين التتبع و المحاكمة لا يجب الأخذ على إطلاقه فقد حدّد المشرع نطاق إثارة الدعوى العمومية في الجرائم المجلسية (أ) التي وضع لها نظاما خاصا للتتبع(ب).
أ – نطاق الإثارة
الجريمة المجلسية هي الجريمة التي ترتكب في مجلس القضاء سواء كان متعهدا بالنظر في المادة الجزائية أو في المادة المدنية([101]).
على أن هذا التعريف عام لا يشمله الفصل 295 م.إ.ج الذي جاء فيه “إذا ارتكبت جنحة أو مخالفة أثناء انعقاد الجلسة فان حاكم الناحية أو رئيس المحكمة الجناحية أو محكمة الاستئناف أو المحكمة الجنائية يحرر محضرا في الواقعة و يباشر سماع المظنون فيه و الشهود ثم تسلط المحكمة العقوبات المنصوص عليها بالقانون بحكم قابل للتنفيذ بقطع النظر على الاستئناف.”
و انطلاقا من هذا الفصل يمكن القول أن الجريمة المجلسية هي الجريمة المرتكبة داخل الجلسة التي تنظر في المادة الجزائية، و التي قد تستهدف هيأة المحكمة أو رئيسها أو احد أعضائها أو حتى احد الحاضرين بالجلسة. فهي جريمة حينية متلبس بها تكون فيها إجراءات المحاكمة والتنفيذ فورية([102]).
و لضمان حسن سير الجلسات و تكريس الاحترام الواجب للقضاء جرّم المشرع كل فعل من شأنه أن يخل بحسن سير الجلسة كالتشويش([103]) أو استعمال أجهزة التسجيل الصوتي و آلات التصوير بالجلسة([104]).
كما حرص المشرع على حماية هيبة المحكمة والحفاظ على احترامها في نفوس الأفراد إذ قد تكون قاعة المحكمة مسرحا لاقتراف جريمة من جرائم الحق العام كالسرقة أو القتل أو التجاهر بما ينافي الحياء.
فيمكن أن تكون الجريمة المرتكبة بقاعة الجلسة مرتبطة مباشرة بالقضية الأصلية كتعمد التصريح بما ينافي الحياء من قبل الشاهد أثناء المرافعة([105]) ، أو الاعتداء بالعنف على هذا الأخير أو سرقة احد الحاضرين.
واحتراما لهيبة و حرمة ممثلي السلطة القضائية، جرّم المشرع التونسي كل انتهاك لحرمة الموظف العدلي بالفصل 126 م.ج وكل اعتداء بالعنف على أعضاء هيأة المحكمة بالفصل 127 م.ج.
و يقصد بانتهاك الحرمة أو هضم جانب الموظف العمومي كل فعل موجه ضدّ ممثل السلطة العمومية أثناء قيامه بمهامه من شأنه أن ينال من الاحترام الواجب للوظيفة التي يشغلها.
كما قد تستهدف هيأة المحكمة أثناء الجلسة كالإعتداء بالعنف على القاضي باستعمال السلاح أو التهديد به.
على انه يجب التأكيد على أن الجريمة المجلسية بالمفهوم الوارد بالفصل 295 هي الجريمة الواقعة أثناء انعقاد الجلسة أي حصولها خارج القاعة أو بعد انتهاء الجلسة أو قبل انتصاب هيأة المحكمة أو بأحد المكاتب أو ببهو المحكمة لا يجعل منها جريمة مجلسية على معنى الفصل 295 م.إ.ج ([106]).
ونظرا لما تمثله هذه الجرائم من خطورة وانتهاك لهيبة القضاء أخضعها المشرع لقواعد خاصة و مستقلة بإقرار نظام استثنائي للتتبع ومن ثمة الإثارة.
ب – نظام الإثارة
نظرا لكون الجريمة المرتكبة أثناء انعقاد الجلسة لا تضرّ فقط بالمجني عليه، بل تتعداه لتخلّ بالاحترام الواجب للقضاء، فإن جلّ التشاريع تخول للقاضي أن يبادر بإثارة الدعوى العمومية بشأن الجرائم المرتكبة بالجلسة([107]).
ولقد خوّل المشرع صلب الفصل 295 م.إ.ج ، للقضاء المجلسي إمكانية إثارة الدعوى العمومية، وذلك عن طريق تمكينه من التعهد بصفة مباشرة بالنظر في الجريمة المرتكبة بالجلسة([108]).
على هذا الأساس فإن المحكمة لن تنتظر قيام النيابة العامة بإحالة القضية على أنظارها كي تتعهد بالنظر في الأصل بل يمكنها أن تتولى البت في الجريمة المرتكبة حال وقوعها.
و يقرّ القانون هذه الإمكانية في مادة المخالفات والجنح والجنايات.
فقد نصت الفقرة الأولى من الفصل 295 م.إ.ج انه يمكن للقاضي عند ارتكاب مخالفة أو جنحة أن “يحرر محضر في الواقعة و يباشر سماع المظنون فيه والشهود ثم تسلط المحكمة العقوبات المنصوص عليها بالقانون…”
ولا يشكل تعهد قاضي الناحية بالنظر في مادة المخالفات دون إحالة من النيابة العمومية استثناء من القواعد العامة ذلك أن الفصل 200 م.إ.ج مكّن القاضي من التعهد بالمخالفة دون التوقف على إحالة في صورة التلبس.
فسواء كانت المخالفة المتلبس بها واقعة بالجلسة أو خارجها، لن ينتظر قاضي الناحية إثارة الدعوى العمومية و إحالة القضية من طرف النيابة العمومية، على أن الجنحة المتلبس بها والتي تدخل في اختصاص قاضي الناحية أو المحكمة الابتدائية فإن وقوعها خارج الجلسة يستوجب أن يقترن بإحالة من النيابة العمومية باعتبارها المختصة بإثارتها.
فلا يمكن لقاضي الناحية التعهد بالجنحة المتلبس بها إلا بإحالتها من وكيل الجمهورية طبقا لأحكام الفصل 204 و 206 م.إ.ج.
لكن إذا حصلت الجريمة أثناء انتصاب حاكم الناحية للنظر في المادة الجزائية فله إما اعتماد الفصل 295 م إ ج و بالتالي محاكمة المذنب في الحال دون توقف على إحالة من النيابة العمومية أو أن يقرّر تحرير محضر في الواقعة وإحالته على النيابة العمومية التي تسترجع مهمتها في إثارة الدعوى العمومية. والصورة الأخيرة لا تنزع عن الجريمة صفتها المجلسية.
ويرى الأستاذ محمد الحبيب اليوسف أن الحكم الصادر في شأن الجريمة المجلسية لا يكون قابل للتنفيذ بحكم القانون بل يتعين لتنفيذه حالا (بقطع النظر عن استئنافه) أن يأذن الحاكم بالتنفيذ العاجل ذلك أن قابلية تنفيذ الحكم في الحال بصرف النظر عن الاستئناف مشروط بالشروع حالا في إجراءات المحاكمة حال حصول الجريمة المجلسية حسب منطوق الفصل 295 م.إ.ج([109]).
ويعتبر الجمع بين وظيفتي التتبع و المحاكمة تكريسا لأحدى مبادئ النظام التحقيقي و الذي يقتضي أن كل قاضي هو ممثل للنيابة العمومية([110]) أي أن كل قاضي له الحق بإثارة الدعوى العمومية ” أمام نفسه” في صورة ارتكاب جريمة في مجلسه.
كما تجدر الإشارة أنه في الجرائم المجلسية لا يقع احترام شروط إثارة الدعوى العمومية كضرورة صدور شكوى مثلا في بعض الجرائم الخاصة كالعنف بين الأزواج التي لا يقع إثارة الدعوى العمومية في شأنها إلاّ بصدور شكوى عن المجني عليه، لكن إذا ما وقعت هذه الجريمة بالجلسة فإنه يقع تجاوز هذه القاعدة([111]).
كما أنه يقع تجاوز مبدأ أساسي هو مبدأ ملائمة التتبع فالتعهد مباشرة بالقضية لا يتماشى مع هذا المبدأ لأنه لا يفسح المجال أمام النيابة العمومية لممارسة صلاحياتها في تقدير جدوى التتبع. و بالتالي فإن حلول المحكمة محل النيابة العمومية في إثارة الدعوى العمومية ينتج عنه إقصاء لمبدأ ملائمة التتبع باعتبار أن المحكمة هي التي قررت مآل الفعل الذي ارتكب بالجلسة([112]).
ومن خلال ما سبق عرضه نتبين خصوصية الجريمة المجلسية على مستوى قواعد التتبع و هذه الخصوصية تنسحب كذلك على إجراءات التتبع.
حيث أن الجمع بين سلطتي التتبع و المحاكمة في الجريمة المجلسية يمتد إلى تكريس التعهد المباشر في الجنايات وبالتالي إقصاء مرحلة التحقيق([113]) على خلاف المشرع الفرنسي الذي يستثني الجنايات من إمكانية النظر في الحين([114]). ولعل ما يبرّر هذا الاختيار هو رغبة المشرع في تحقيق الانضباط أمام الهيأة القضائية و الحفاظ على هيبتها.
من جهة أخرى نلاحظ تعهد قضاء الأحكام في الجرائم المجلسية بوظائف الضابطة العدلية حيث اقتضى الفصل 295 م إ ج “تحرير محضر في الواقعة و سماع الشهود” على أن أعمال القضاة تكون بسيطة([115]) مقارنة بأعمال الضابطة العدلية.
ولئن أعطى المشرع القضاء السلطة الأصلية لإثارة الدعوى العمومية فإنه خوّل هذا الحق أيضا للإدارة.
الفصل الثاني: إثارة الدعوى العمومية من الإدارة
تعد الدعوى العمومية وسيلة هامة للتعبير عن حماية المجتمع من الأفعال الإجرامية و تسليط العقاب على مقترفيها من خلال ما أناطه المشرع من سلطة للنيابة العمومية في تتبع المجرمين([116]).
فعلى مستوى المبدأ العام فقد انصرفت إرادة المشرع صريحة إلى تخصيص النيابة العمومية بحق إثارة الدعوى العمومية و ممارستها وحدها دون شريك، إلا أنه و مع بروز فرع جديد من القانون الجنائي و هو القانون الجنائي الاقتصادي و بالنظر لخصوصية جرائمه و تشعبها فقد تخلى المشرع التونسي على مستوى عديد القوانين الجنائية الخاصة عن تلك المبادئ الأصولية في مادة الإجراءات الجزائية و أعطى لبعض الإدارات العمومية اليد الطولى لإثارة الدعوى العمومية([117])، لتعلق الأمر بميادين ذات طبيعة خاصة تغلب عليها الصبغة الفنية المعقدة وتتطلب لتتبعها معارف خاصة ومعمقة وإلمام دقيق بالمسائل المالية كما تستوجب خبرة تطبيقية و دراية فنية([118]).
وتبعا لذلك استحدث المشرع إجراءات خاصة (المبحث الثاني) تستجيب لخصوصيات الميدان الاقتصادي و ذلك من بتمكين السلطة الإدارية من صلاحيات خطيرة تحدّ من سلطات النيابة العمومية في مباشرة اختصاصاتها وهو ما يدّعو إلى التساؤل عن نطاق سلطة الإدارة في إثارة الدعوى العمومية (المبحث الثاني).
(4) المبحث الأول:نطاق الإثارة
إن سلطة النيابة العمومية في إثارة الدعوى العمومية وفقا لأحكام الفصل 2م.إ.ج لا يمكن المساس بها ما لم يوجد نص خاص يسحب منها هذا الاختصاص كليا([119]) أو يقرّ بمشاركة الإدارة كنيابة عمومية مختصة([120]) في إثارة الدعوى العمومية المتعلقة بالمصالح المحمية من طرفها.
و تعتبر إدارة الجباية من أول الإدارات التي أعطها المشرع اختصاص مطلق في إثارة الدعوى العمومية إلا أنه مع صدور قانون عدد 34 لسنة 2008 المؤرخ فـي 2 جوان 2008 المتعلق بإصدار مجلة الديوانة أصبح لإدارة الديوانة كذلك إمكانية إثارة الدعوى العمومية. فالمشرع قصر إثارة الدعوى العمومية بصفة لا تدعو إلى الشك مع إدارة الجباية و إدارة الديوانة بطريقة أصبح فيها نطاق إثارة الدعوى العمومية من طرف الإدارة محددا بصفة صريحة في كل من المادة الجبائية و المادة الديوانية (الفقرة الأولى) على أن نطاق الإثارة بقي عاما و مطلقا بالنسبة لبقية الإدارات (الفقرة الثانية).
5) الفقرة الأولى: نطاق محدد
لئن كانت القاعدة الإجرائية العامة تقضي بالاختصاص المطلق لجهاز النيابة العمومية في إثارة الدعوى العمومية فإن المتمعن في النصوص الجنائية المنظمة للجباية و الديوانة يلاحظ تراجع هذه القاعدة في اتجاه يعطي لكل من الإدارتين اختصاص أصلي في إثارة الدعوى العمومية ليصبح استثناء القاعدة العامة قاعدة في الجريمة الجبائية (أ) والديوانية (ب).
أ – الجريمة الجبائية
تعتبر إدارة الجباية من أول الإدارات التي خوّل لها القانون صلاحيات النيابة العمومية فقد اقتضى الفصل 74 من مجلة الحقوق والإجراءات الجبائية بأن ” يتولى وزير المالية أو من فوّض له وزير المالية في ذلك ممن له صفة رئيس إدارة مركزية أو جهوية للأداءات إثارة الدعوى العمومية وتوجيه المحاضر المستوفاة الشروط إلى وكيل الجمهورية لدى المحكمة المختصة.”
فوزير المالية أو من فوّض له، يثير الدعوى العمومية في خصوص المخالفات الجبائية و الجزائية المتضمنة للعقوبات المالية، أما تلك التي تستوجب عقوبات بدنية فتتم إثارة الدعوى العمومية بعد أخذ رأي لجنة تكفل الأمر عدد 1721 لسنة 2001 المؤرخ في 24 جويلية 2001 بضبط تركيبتها ومهام وطرق عملها([121]).
فكأن المشرع أراد من إدارة الجباية أن تكون نيابة الشؤون الجبائية خاصة وأن الدعوى العمومية الجبائية لا تخضع لنفس السياسة التي تخضع لها الدعوى العمومية في الجرائم العادية([122]). على أن هذه الإرادة لم يتم التعبير عليها بصفة صريحة شأن المشرع المصري الذي خصص نيابة لشؤون المالية و التجارية و كذلك نيابة لمكافحة الضرائب([123]).
و بمقتضى الفصل 74م.ح.إ.ج تستأثر مصالح الجباية بإثارة الدعوى العمومية وتمتلك استقلالية في ممارسة هذه الصلاحية، ولا يحق للنيابة العمومية القول بخلاف ذلك حيث تجد نفسها في وضع سلطة مقيدة([124]). وهو ما أكدّته محكمة التعقيب في العديد من قراراتها مثلا قرارها الصادر بتاريخ 19 جويلية 1928 بأن إدارة الجباية في قضايا الجباية هي بمثابة نيابة عمومية حقيقية([125]) فلا فضل للنيابة العمومية في القضايا الجبائية.([126])
و يبرر هذا الاختيار التشريعي لقدرة مصالح الجباية على معالجة مشاكل الزجر الجبائي و تعقيداته التي من شأنها أن تثقل كاهل النيابة العمومية التي تفتقر إلى التكوين اللازم في ميدان الجبائي الاقتصادي فهي لا تمتلك المعرفة الفنية الدقيقة للمسائل الجبائية التي مازالت غريبة عن القضاء العادي و لا يفقه كنهها و أبعادها([127]).
لكن ولئن مكّن المشرع الجبائي الإدارة من سلطة إثارة الدعوى العمومية في مجال المخالفات الجبائية على أن ذلك لا يعني إقصاء النيابة العمومية صاحبة الاختصاص الأصلي بالنسبة لجرائم الحق العام، فالنيابة العمومية تستعيد اختصاصها إذا تعلق الأمر بجريمة حق عام كالتحيل في الأداء على القيمة المضافة. لكن ذلك لا يعني انه بإمكان النيابة العمومية من إثارة الدعوى العمومية كلما بلغ إليها العلم بوجود مخالفة لتشريع الجبائي إذ ذلك لا يكون ممكن إلا بمبادرة الإدارة عن طريق تقديم شكاية في الغرض.
على أنه بقراءة الفصل 74 م.إ.ح.ج يمكن الإقرار بإقصاء النيابة العمومية من سلطة إثارة الدعوى العمومية، فالنيابة العمومية لا تملك إلا سلطة ممارسة الدعوى العمومية([128]).
فالإدارة الجبائية تتمتع بسلطة غير محدودة في اتخاذ قرار إثارة الدعوى العمومية أو حفظها. فلإدارة اختصاص مطلق في تقدير جدوى التتبع و قيام أركان الجريمة و هي خصوصية مغايرة تماما لأحكام مجلة الإجراءات الجزائية باعتبار أن هذا الاختصاص راجع أصلا إلى النيابة العمومية([129]).
فلإدارة الجباية أن تحيل المظنون فيه على المحكمة المختصة مباشرة أو أن تحفظ القضية، و بذلك يصبح لإدارة الجباية سلطة مباشرة في إثارة الدعوى العمومية في القانون الجنائي الاقتصادي([130]) و ذلك دون المرور على جهاز النيابة العمومية مطلقا و هو من شأنه أن ينال من مبدأ تفريق السلط.
و تشمل سلطة الإدارة في إقرار إثارة الدعوى العمومية الجبائية إضافة إلى تقدير وجاهة التتبع من عدمه إمكانية التصالح مع المخالف وهي بذلك تملك ما لا تملكه النيابة العمومية بالنسبة لجرائم الحق العام من إمكانية التنازل عن الدعوى بإبرام الصلح.
فتوقيع العقاب لا يعد غاية بل هو وسيلة يمكّن الخزينة العامة من استرداد ما فقدته من أموال نتيجة الإخلال بتشريع الجبائي.
إلا انه وإن بدّت إدارة الجباية صاحبة الاختصاص المطلق في تقدير وجاهة التتبع فلقد قيّدها المشرع بوجوب أخذ رأي لجنة إدارية فيما يخص المخالفات الجبائية والجزائية المتضمنة للعقوبات البدنية دون العقوبات المالية.
و أخذ رأي اللجنة هو إجراء شكلي لا يحدّ من حرية وزير المالية في اتخاذ قرار التتبع من عدمه باعتبار أن هذا الرأي هو استشاري غير ملزم كما سبق أن بيّنا.
لكن بالرجوع إلى الفصل 74 م.ا.ح.ج نلاحظ و كأن المشرع تخلى عن مبدأ تقدير وجاهة التتبع باعتبار انه اوجب على وزير المالية إثارة الدعوى العمومية كلما توفرت الشروط القانونية في محاضر المعاينة المنصوص عليها بالفصول 70 إلى 72 م.ا.ح.ج والمتمثلة في التنصيصات الوجوبية كتاريخ المحضر و ساعته و مكانه ونوع المخالفة المرتكبة، فدور وزير المالية حسب هذا التفسير يقتصر على التثبت من توفر تلك الشروط فإن توفرت يصبح مجبرا على الإثارة و إن لم تتوفر يرفض إثارة الدعوى العمومية.
وهو ما يتنافى مع مقصد المشرع من خلال إصداره لمجلة الحقوق والإجراءات الجبائية التي أراد من خلالها أن يعطي الإدارة دورا فعّالا بالإحاطة بأعمال التحيّل و الحد من المخالفات.
على أنه يمكن الإقرار بأن الهدف من التنصيص على عبارة “المحاضر المستوفاة الشروط” هو دعوة الشخص المؤهل لإثارة الدعوى العمومية إلى التثبت من صحة أركان المخالفة فإن ذلك لا يتناقض مع إعمال مبدأ تقدير ملائمة التتبع بالنسبة لتلك المحاضر حسب خطورة و أهمية و طبيعة المخالفة المرتكبة([131]).
و السؤال الذي يطرح نفسه هو في حالة اكتشاف الإدارة لعدم توفر الشروط القانونية المستوجبة في المحضر فهل تقوم بتصحيحه؟ أم تتولى حفظ القضية؟و في هذه الحالة من يراقب قرار الحفظ الذي قد تتخذه الإدارة؟
إن الإقرار بتمتع الإدارة بسلطة مطلقة في تقدير تتبع الجريمة أو حفظ الملف لعدم استيفاء الشروط القانونية أو لانعدام موجب للتتبع، من شأنه أن يفتح الباب لتعسف الإدارة لانعدام سلطة تراقبها([132]).
وإذا كانت إدارة الجباية تتمتع بسلطة هامة في إثارة الدعوى العمومية فإن الأمر ينسحب كذلك على إدارة الديوانة التي تتمتع هي بدورها بسلطات هامة بمقتضى قانون عدد 34 المؤرخ في 2 جوان 2008.
ب- الجريمة الديوانية
شهدت إدارة الديوانة تطور ملحوظ مقارنة مع التشريع السابق لصدور مجلة الديوانة فقد جاء بالفصل 318 “يتولى وزير المالية أو من فوّض له وزير المالية في ذلك ممن له صفة مدير إدارة مركزية أو جهوية لديوانة إثارة الدعوى العمومية…”
من خلال هذا الفصل وضع المشرع حدا للجدل الفقهي الذي آثاره الفصل 221 قديم الذي كان ينصص على” أن الدعوى التي تقوم بها نيابة الحق العام و الدعوى التي تقوم بها إدارة القمارق يسقط الحق بالمطالبة في شأنهما بعد مرور ثلاثة أيام.” وهو ما أدّى بالفقهاء إلى الإقرار بازدواجية إثارة الدعوى العمومية القمرقية التي هي ملك لكل من النيابة العمومية و الإدارة على حد السواء([133]) .
هذا إلى جانب الاختلاف حول تحديد طبيعة الدعوى المتولدة عن الجريمة الديوانية فقد ذهب العديد من الفقهاء إلى التأكيد على أن سلطة إثارة الدعوى العمومية هي سلطة اختيارية أي أنها غير مقيّدة بضرورة إثارتها من قبل الإدارة كما أن إثارتها من قبل الإدارة لا يلزم النيابة العمومية على إثارة التتبعات([134]).
فالفصل 318 جديد تجاوز إشكال أساسي يتمثل في تحديد من له الحق في إثارة الدعوى العمومية هل هي النيابة العمومية أم إدارة الديوانة. حيث جعل المشرع من إدارة الديوانة الجهاز المخول له وحده إثارة الدعوى العمومية وأقصى النيابة العمومية كجهاز مكلف بتمثيل الهيئة الاجتماعية وإثارة الدعوى العمومية وممارستها بل أصبحت النيابة العمومية ملزمة بمد إدارة الديوانة بكل المعلومات التي تتحصل عليها والتي تفترض وجود مخالفة ديوانية وذلك خلافا للمبدأ العام الذي يوجب على سائر الإدارات والموظفين إعلام وكيل الجمهورية بكل ما يبلغ لهم من علم بالجرائم([135]) وهو ما يؤكده صياغة الفصل 319 مجلة الديوانة الذي جاء فيه “تحيل النيابة العمومية على الإدارة كل المعلومات التي تتحصل عليها والتي تفترض وجود مخالفة ديوانية أو آية مناورة ترمي أو ينتج عنها مخالفة القوانين و التراتيب التي لها صلة بتطبيق مجلة الديوانة وذلك بمناسبة النظر في قضايا مدنية أو تجارية أو بحث جزائي ولو انتهى ذلك بعدم سماع الدعوى.”
فهذا الفصل يتضمن صورة مغايرة لما ألفناه في القواعد الإجرائية التقليدية إذا أن المبدأ الإجرائي العام يقتضي بأن يقرر وكيل الجمهورية مآل الشكايات والاعلامات التي يحصل له العلم بها([136]) حيث أن واجب الإعلام يكون محمول على أعوان الضابطة العدلية و المواطنين، لكن في صورة الحال تصبح النيابة العمومية هي المكلفة بإعلام إدارة الديوانة بكل معلومة من شأنها أن تؤدي إلى خرق أحكام مجلة الديوانة وذلك بمناسبة النظر في قضايا مدنية أو تجارية أو بحث جزائي ولو انتهى بعدم سماع الدعوى. فالنيابة العمومية لا تتولى إثارة الدعوى العمومية بل تحيلها على إدارة الديوانة التي تقرر جدوى التتبع و تتولي هي إثارتها إذا ما قررت ذلك.
على أن النيابة العمومية تسترجع حقها في إثارة الدعوى العمومية إذا تعلق الأمر بجريمة حق عام حيث يفرض المنطق القانوني خروجها عن نظر إدارة الديوانة. فبالرجوع إلى روح النصوص القانونية نلاحظ أن إرادة المشرع تتجه إلى تخصيص الإدارة بالجرائم الاقتصادية فقط لما لها من خصوصية تستوجب دراية و كفاءة في التعامل معها قد تفتقدها النيابة العمومية التي و لئن تفقد بعض صلاحياتها في مجال الجرائم الاقتصادية إلاّ أنها تسترجع مركزها و كامل صلاحياتها في جرائم الحق العام فإذا كانت الجريمة الديوانية من شأنها أن تمس المصلحة العامة فإنه يمكن التعامل معها على أساس أنها جريمة حق عام([137]) أما إذا كانت الجريمة فيها ضرر بمصلحة الإدارة فهي تعتبر جريمة ديوانية بحتة خاصة بإدارة الديوانة التي تمتع بحق إثارة الدعوى العمومية في شأنها، كما تتمتع النيابة العمومية على مستوى الأبحاث بصلاحيات هامة تتمثل في مراقبة شرعية الأبحاث وسلامتها من ذلك أن الفصل 56 ثالثا منع أعوان الديوانة من إخضاع شخص الفحص الطبي للكشف على مواد ممنوعة داخل جسده ما لم يحصل على إذن في الغرض من وكيل الجمهورية([138]).
وإن كانت إدارة الجباية و إدارة الديوانة يتمتعان بسلطة مطلقة في إثارة الدعوى العمومية بصريح النص القانوني حيث حدّد المشرع في كلا المادتين نطاق الإثارة بصفة واضحة لا لبس فيها فإن الأمر يختلف بالنسبة لبقية الإدارات حيث نطاق الإثارة تميز بإطلاقه وشساعته.
6) الفقرة الثانية: نطاق مطلق
إن التطور السريع الذي يشهده العالم الآن خاصة فيما يتعلق بالمعاملات التجارية و الاقتصادية فرض اتخاذ جملة من الوسائل التي تمكن من مواكبته و تأطيره و هو ما يبرر خروج المشرع التونسي شأنه في ذلك شأن العديد من القوانين المقارنة عن القواعد الأصولية المعروفة في القانون الجنائي التقليدي فأحدث عدة جرائم في المجالات الاقتصادية و التجارية و هذه التعديلات لم تقف عند القواعد الموضوعية بل شملت أيضا القواعد الإجرائية حيث أصبح للإدارة دور هام في إثارة و ممارسة الدعوى العمومية لكن لئن كان موقف المشرع واضح و صريح عند تأطير لجريمة الجبائية و الديوانية من خلال منح كلا الإدارتين سلطة إثارة الدعوى العمومية، فإن موقفه يشوبه الغموض بالنسبة لبقية الإدارات حيث انه يقع استنتاج سلطة إثارة الدعوى العمومية بصفة ضمنية من النصوص القانونية خاصة فيما يتعلق بالجرائم الاقتصادية(أ) والجرائم البحرية (ب).
أ- الجرائم الاقتصادية
إثارة الدعوى العمومية من قبل الإدارة يطرح إشكالات تطبيقية وعملية حول مثير الدعوى العمومية؟ هل هي الإدارة استنادا لنصوص القانونية أم تبقى النيابة العمومية الهيكل الوحيد المختص بالتصرف في الدعوى العمومية و من ثمة إثارتها.
المبدأ يقتضي أنه لا يمكن المساس بصلاحيات النيابة العمومية إلا بوجود نص قانوني صريح يقضي بذلك ([139]). فالمشرع في الفصل 2 م إ ج لم يخصص جهة معينة بسلطة إثارة الدعوى العمومية دون غيرها فهذا النص نص عام يحمل تأويله على العمومية.([140]) كما أن المشرع استعمل واو العطف في الفصل حيث ورد فيه “الحكّام” و”الموظفين” و تبعا لذلك يمكن الإقرار بإزدواجية إثارة الدعوى العمومية ولعلّ ما يدّعم هذا الإقرار هو مختلف النصوص القانونية المنظمة للميدان الاقتصادي التي لم تكن حاسمة بنفس الكيفية التي جاءت بها النصوص القانونية لكل من مجلة الإجراءات والحقوق الجبائية ومجلة الديوانة.
مبدئيا وبالرجوع إلى مختلف النصوص القانونية نلاحظ أن موقف المشرع اتسم بالتذبذب. فمن جهة مكّن الإدارة من صلاحيات هامة على مستوى معاينة الجرائم والبحث فيها لكنه من جهة أخرى أبقى مهمة إثارة الدعوى العمومية من إختصاص النيابة العمومية حيث جاء في العديد من النصوص القانونية ضرورة إحالة المحاضر التي تحررها الإدارة إلى وكيل الجمهورية من ذلك الفصل 39 من قانون إعادة تنظيم السوق المالية، نفس الشيئ بالنسبة لقانون المنافسة والأسعار حيث اقتضى الفصل 53 إحالة المحاضر المستوفاة الشروط إلى وكيل الجمهورية. في هذه النصوص كان موقف المشرع واضحا و صريح بعدم تمكين الإدارة من إثارة الدعوى العمومية.
على أنه في المقابل نلاحظ غموض وتردد على مستوى الجريمة الصرفية فقد جاء بالفصل 30 مجلة الصرف انه “يحق لوزير المالية أو لممثله طرح القضية أمام المحكمة… في كل القضايا الناتجة عن جرائم في حق تراتيب الصرف” فالإدارة لها تجاوز النيابة العمومية بعرض القضية مباشرة على المحكمة فهي تتمتع باختصاص أصلي يعززه قدرتها على إبرام الصلح حيث جاء بالفصل 31 م ص أن للإدارة التدخل عن طريق الصلح و بالتالي محو إمكانية التتبع من أي سلطة حتى النيابة العمومية نفسها.([141]) فهي تتصرف في الدعوى العمومية الصرفية تصرف النيابة العمومية. ([142])
إلا أن الفصل 29 من مجلة الصرف اقتضى أنه لا يمكن تتبع الجرائم الصرفية إلا بصدور شكوى من وزارة المالية، وبما أن النيابة العمومية هي المؤهلة قانونا بتلقي الشكايات حسب الفصل 30 م إ ج فإنها وحدها تملك تقدير التتبع من عدمه و من ثمة إثارة الدعوى العمومية.
ولتجاوز مثل هذا الإشكال ذهب البعض إلى الإقرار بازدواجية ملكية الدعوى العمومية([143]) بين الإدارة الصرفية و النيابة العمومية فهي ليست حكر على احدهما وذلك تأسيسا على أحكام الفصل 2 م.إ.ج الذي أشار إلى الحكام والموظفين، فكلا الجهتين يتمتع باختصاص أصلي في إثارة الدعوى العمومية.
فإذا كانت الجريمة صرفية بحتة فوزارة المالية تملك سلطة مطلقة في خصوصها فإما أن تقرر المصالحة أو إصدار شكوى إذ اقتضى القانون ذلك أو عرض المسألة مباشرة على القضاء(الفصل 30 م ص)، أما إذا كانت الجريمة مزدوجة تحتمل مؤاخذة صرفية و أخرى ديوانية أو تابعة للقانون العام، فإن معاينتها و تتبعها يكون طبق القانون الذي وقع خرقه حسب مقتضيات الفصل 34 م ص.
فيما يتعلق بالجريمة البنكية فقد جاء بالفصل 27 جديد من القانون عدد 25 لسنة 1994 الصادر في 7 فيفري 1994 المنظم لمهنة البنوك بأن” تتبع المخالفات للتشريع والتراتيب المصرفية يقع بمبادرة من محافظ البنك المركزي التونسي”.
إذن فالتشريع البنكي أوكل لمحافظ البنك المركزي صلاحية إثارة الدعوى العمومية تجاه المخالفات للتشريع المصرفي بعد أن تكون قد كشفت عنها و عاينتها([144]). وما تجدر ملاحظته هو أن المشرع استعمل عبارات غامضة وغير دقيقة حيث جاء بالفصل 27 من قانون 1994 أن التتبعات تكون بمبادرة من محافظ البنك المركزي، فهذا الأخير يتمتع بسلطة هامة في تقدير جدوى التتبع عن طريق مبادرته التي قد تكون شكوى([145]).
كما تبرز سلطته على مستوى التتبع التأديبي فهو يتولى تسليط العقاب مباشرة إذا كان الأمر يتعلق بعقوبات الدرجات الأربعة الأولى من الفصل 27 أو أن يحيل النظر إلى اللجنة المصرفية إذا كان الخطأ يندرج ضمن صلاحيات هذه اللجنة([146]).
ب – الجرائم البحرية
إن الجرائم البحرية التي سيقع التعرض لها في هذه الفقرة هي الجرائم التى وقع تأطيرها صلب المجلة التأديبية والجزائية البحرية الصادرة بمقتضى قانون عدد 28 لسنة 1977 المؤرخ في 30 مارس 1977 حيث جاء بالفقرة الأولى من الفصل 19 من المجلة التأديبة و الجزائية البحرية أن” كل جناية أو جنحة مرتكبة على متن سفينة يفتح في شأنها بحث من طرف السلطة البحرية بالنسبة للسفن المعدة للملاحة الساحلية أو من طرف الربان في الصور الأخرى و ذلك طبقا لأحكام الفصول 46 إلى 49 من مجلة المرافعات الجنائية…”.
و أضاف الفصل 20 بأنه على ربان السفينة أن ” يوجه ملف البحث و أراقه إلى السلطة البحرية بأول ميناء ترسي به السفينة. إذا كان أول ميناء ترسي به السفينة تونسيا فإن السلطة البحرية تتمم و تعتني إن لزم الأمر بإتمام بحث الربان وترفع الدعوى لدى السلطة العدلية المختصة.”
فهل أن إرادة المشرع من خلال استعماله لمصطلح” ترفع الدعوى العمومية لسلط العدلية المختصة” اتجهت إلى تكليف الإدارة بإثارة الدعوى العمومية؟
قبل الإجابة عن هذا التساؤل فإنه يجب التأكيد على أهمية الصلاحيات التي تتمتع بها السلطة البحرية سواء على مستوى معاينة الجرائم أو على مستوى “رفع الدعوى”.
و يبرر هذا الاختيار التشريعي بظروف ارتكاب الجريمة البحرية التي عادة ما ترتكب في ظروف مختلفة عن الظروف المعتادة لجرائم الحق العام هذا إلى جانب ما تتطلبه الملاحة البحرية من استخدام عدد كبير من البحريين والفنيين والعمّال([147]).
فقد نصّ الفصل الأول من المجلة التأديبية البحرية أنه “يخضع لأحكام هذه المجلة جميع الأشخاص مهما كانت جنسيتهم على متن كل سفينة تونسية تمسك دفترا للطاقم باستثناء السفن الحربية…أو موجودين بالفعل على متن السفينة بصفة مسافرين أو للقيام برحلة و ذلك في أي مكان توجد به سفينة…”
وانطلاقا من هذا الفصل يمكن الإقرار بأن الجريمة البحرية هي الجريمة التي ترتكب عادة على ظهر السفينة – باستثناء السفن الحربية- من قبل احد المسافرين أو طاقم السفينة نفسه و في هذه الصورة يكون على الأعوان الواقع تعدادهم ضمن الفصل 17 اتخاذ كل الإجراءات اللازمة لحسن الرحلة البحرية ولضمان سلامة المسافرين من معاينة الجريمة واعتقال المظنون فيه و لو بصفة وقائية([148]).
على أن الجهة المكلفة برفع الدعوى العمومية تختلف بحسب صفة مرتكب الجريمة. فإذا كان مرتكب الجريمة له صفة مسافر فإنه يقع تطبيق الفصل 20 من المجلة التأديبية والجزائية البحرية حيث أكّدت الفقرة الثانية من هذا الفصل بأن السلطات البحرية هي التي تتولى رفع الدعوى لدى السلطة العدلية المختصة، أما إذا كانت الجريمة مرتكبة من “طرف الربان” فإن مدير البحرية التجارية يقوم تلقائيا و فور علمه بالواقعة ببحث أولي و من ثمة رفع الدعوى إلى السلطة العدلية المختصة و يمكن لهذا الأخير أن يفوّض الأمر إلى ممثله الجهوي أو المحلي أو لأحدى السلط المكلفة بالشرطة العدلية المذكورة بالفصل 17 سابق الذكر.
وإذا كانت الجناية أو الجنحة ارتكبت خارج البلاد التونسية من طرف الربان فإن ملف البحث الأولي يوجه من طرف السلطة البحرية إلى الوزير المكلف بالبحرية التجارية الذي يرفع الدعوى لدى السلط العدلية المختصة.
إن القراءة الأولية لمختلف هذه النصوص القانونية الواردة بالمجلة التأديبية الجزائية البحرية يقود إلى الإقرار بتمتع الإدارة البحرية بسلطة إثارة الدعوى العمومية وهو ما أكدّه الأستاذ رضا خماخم معتبرا أن أعوان الصيد البحري المذكورين صلب الفصل 17 لهم حق إثارة الدعوى العمومية بالنسبة للسفن المجهزة للصيد البحري الساحلي([149])، لكن بالرجوع إلى أحكام مجلة التنظيم الإداري للملاحة البحرية الصادرة بمقتضى قانون عدد 59 لسنة 1976 المؤرخ في 11 جوان1976 نلاحظ أن الفصل72 نصّ على أن الدعوى العمومية يقع إقامتها من طرف قلم الإدعاء العمومي بطلب من الوزير المكلف بالبحرية التجارية و هو ما يعني أن إثارة الدعوى العمومية في إطار الجرائم البحرية لا يكون إلا بصدور شكوى من الوزير المكلف بالبحرية التجارية و الحال أن الفصل 20 من المجلة التأديبية الجزائية البحرية اوجب تدخل الوزير المكلف بالبحرية التجارية إلا في الجرائم المرتكبة من طرف الربان.
فهل يقصد المشرع من خلال اعتماده لمصطلح “رفع الدعوى إلى السلط المختصة” صدور شكوى هن السلط البحرية في الغرض. و إذا تمّ تبني فمن من يجب أن تصدر الشكوى من السلط البحرية ممثلة في الإدارة أم من الوزير المكلف بالبحرية التجارية خاصة وأن الفصل 72 من مجلة التنظيم الإداري للملاحة اوجب تقديم الشكوى من الوزير دون الإدارة. ولتجاوز مثل هذا اللبس فإنه كان أجدى بالمشرع اعتماد عبارات واضحة وصريحة تمكن من معرفة المقصد الحقيقي لهذه النصوص القانونية.
(5) المبحث الثاني: إجراءات الإثارة
تلقى النيابة العمومية منافسة جدية من طرف الإدارة فيما يخص إثارة الدعوى العمومية([150]) خاصة و أن المشرع منح هذه الأخيرة العديد من الإجراءات التي لها طابع خاص مقارنة مع الإجراءات العادية.
فقد اتجهت إرادة المشرع في إطار القانون الجنائي الاقتصادي إلى ملائمة النظام الإجرائي ليساير الميدان الاقتصادي وذلك لتفادي البطء الذي قد يلازم الإجراءات العادية ولا يكون ذلك إلا بإعداد متخصصين في البحث عن الجرائم الاقتصادية وفي هذا الإطار تبرز استقلالية الإدارة في إثارة الدعوى العمومية على مستوى الإجراءات السابقة لإثارة الدعوى العمومية (الفقرة الأولى) وكذلك على مستوى الإجراءات الممهدة لإثارة الدعوى العمومية (الفقرة الثانية).
وفي هذا الإطار يجب توضيح ما المقصود بالإجراءات السابقة والإجراءات الممهدة رفعا لكل لبس نظرا لتقارب الزمني الذي من شأنه أن يؤدي إلى الوقوع فيه.
لتمييز بين الإجراءات السابقة والإجراءات الممهدة يجب اعتماد معيار زمني يبدأ من لحظة وقوع الجريمة وينتهي عندي إثارة الدعوى العمومية وبالتالي فإن المقصود بالإجراءات السابقة هي كل الإجراءات التي الهدف منها اكتشاف الجريمة ومعاينتها والبحث عن أدلتها لكن في بعض الحالات هذه الإجراءات غير كافية لإثارة الدعوى العمومية حيث يجب أن صدور شكوى أو طلب رأي بعض الجهات المختصة حتى يقع إثارة الدعوى العمومية وفي هذا السياق يجب فهم الإجراءات الممهدة لإثارة الدعوى العمومية.
7) الفقرة الأولى : الإجراءات السابقة لإثارة الدعوى العمومية
نظرا لخصوصية الجرائم الاقتصادية فيما يتعلق بالأهداف التي تصبو إليها باعتبارها قد سنّت ليس لغاية الزجر و الردع و إنما لإعادة التوازن الاقتصادي لسالف عهده([151]).
فقد أوكل المشرع مهمة معاينة تلك الجرائم وتقديم مقترفيها للعدالة إلى بعض الإدارات العمومية و هو ما كرّسه القانون الجنائي الاقتصادي في أغلب نصوصه التي وضعت نظاما إجرائيا خاصا به لتتبع الجرائم التي ينصّ عليها، وقد حددت مختلف نصوص القانون الجنائي الاقتصادي الأعوان المكلفين بمعاينة (أ) الجرائم الاقتصادية ووسائل إثباتها المتمثلة في تحريرمحاضر البحث (ب). قد تبدو معاينة الجرائم و إثباتها غير ذي ارتباط بموضوع البحث و هو إثارة الدعوى العمومية ولكن معاينة الجرائم تمثل حجر الأساس الذي ستنطلق على إثره الدعوى العمومية و من ثمة إثارتها.
أ- معاينة الجرائم
نظرا لخصوصية الجريمة الاقتصادية و تشعبها فإن أعوان الضابطة العدلية لم يعد بإمكانهم ضبط هذه الجرائم و هو ما جعل المشرع يخصص العديد من الأعوان الإداريين مهمتهم معاينة الجرائم الاقتصادية والبحث في شأنها، و تبعا لذلك منحهم صفة مأمور ضابطة عدلية([152]).
فقد جاء بالفصل 10 م إ ج أنه “يباشر وظائف الضابطة العدلية… أعوان الإدارات الذين منحوا بمقتضى قوانين خاصة السلطة اللازمة للبحث عن بعض الجرائم أو تحرير التقارير فيها.”
ونجد في مجال الجرائم الصرفية من بين الأشخاص الذين أسند لهم المشرع أهلية معاينة الجرائم في حق تراتيب الصرف أعوان الديوانة و أعوان وزارة المالية وأعوان البنك المركزي التونسي الذين لهم الصفة التي تؤهلهم و ذلك حسب أحكام الفصل 24 من مجلة الصرف و التجارة الخاريجية.
و أمام تعدد الأعوان المكلفين بالمعاينة فإنه يقع التساؤل عن القانون الذي يطبق في صورة تكون جريمتين من فعل واحد جريمة ديوانية مثلا وأخرى صرفية، في هذه الحالة هل يقع تطبيق قانون الإجراءات الجزائية، أم يقع ضمّ المحضرين لبعضهما وإثارة الدعوى العمومية من أجل جريمة واحدة، أم يقع التتبع حسب كل تكييف للفعل الواحد؟
إذا كان هناك محضرين فإنه يقع الأخذ بالمحضر الأول ويقع ضمّ بقية المحاضر إلى هذا المحضر فعند تشابك عديد الجهات كالنيابة العمومية والإدارة القمرقية والإدارة الصرفية، فإنه يبقى زجر الجريمة طبقا للإجراءات المنصوص عليها بالقانون الذي وقع خرقه حيث القاعدة تقتضي أن الأسبق في وضع اليد هو الأسبق بالتعهد([153]). بالنسبة للجرائم الجبائية فيقع معاينتها حسب أحكام الفصل12م.ح.إ.ج من قبل أعوان مصالح الجباية، أعوان الديوانة، أعوان الأمن الداخلي، أعوان مصالح النقل البري.و يتولى أعوان مصالح الجباية معاينة جميع المخالفات الجبائية الجزائية ويقتصر دور غيرهم من الأعوان على معاينة المخالفات الجزائية بالطريق العام.
أما فيما يتعلق بالمخالفات الخاصة بالمنافسة والأسعار فإن قانون 29 جويلية 1991 نصّ على أن معاينة المخالفات تكون من قبل متفقدي المراقبة الاقتصادية([154]).
أما الجرائم الديوانية فمعاينتها تكون حسب أحكام الفصل 301 مجلة الديوانة من قبل أعوان الديوانة و أعوان الغابات والأعوان الذين لهم صفة الضابطة العدلية على معنى الفصل 10م إ ج و كذلك أعوان الشرطة وأعوان الحرس الوطني و أفراد الجيش الوطني الذين من مشمولاتهم حراسة الحدود برا أو بحرا أو جوا.
هذا بالنسبة للجرائم الاقتصادية على أن للإدارة في بعض المجالات الأخرى أعوان مكلفين بمعاينة الجرائم، مثلا مجلة شغل في الفصل 177 كلفت متفقد الشغل بمعاينة المخالفات الشغلية. كما أن المخالفات المنصوص عليها بمجلة الغابات فيقع معاينتها حسب مقتضيات الفصل 113 من قبل أعوان الغابات.
هذا إلى جانب ما اقتضاه الفصل 12 من قانون 2 أوت 1988 المحدث للوكالة القومية للمحافظة على البيئة أن معاينة المخالفات لأحكام هذا القانون تتم بواسطة أعوان محلفون ومؤهلون للغرض تابعين للوكالة. وقد نصّ الفصل 17 من المجلة التأديبية الجزائية والبحرية على أن معاينة الجرائم تكون من قبل أعوان السلط البحرية والأعوان التي أعطهم صراحة مهمة البحث([155]) .
في حين أن الفصل 156 من مجلة المياه أوكل مهمة معاينة المخالفات لأعوان وزارتي الفلاحة والصحة العمومية.
هذا التعدد على مستوى الأعوان المكلفين بمعاينة الجرائم ينسحب أيضا على وسائل البحث والمعاينة فأعوان الإدارة لهم حق الزيارة والتفتيش وحق المطالبة والحصول على الوثائق([156]) حق الحجز، حق استنطاق والاحتفاظ بالأشخاص([157]).
وما نلاحظه أن المشرع في ميدان معاينة الجرائم الاقتصادية منح الأعوان الإداريين أكثر مما للضابطة العدلية العادية([158]) وهذا يتدّعم أكثر من خلال وسائل الإثبات التي تعتمدها الإدارة و ذلك لضمان نجاعة تدخل الأعوان الإداريين حيث يعاقب كل شخص يعارض أو يعطّل تنفيذ مهامهم([159]).
ب- تحرير محاضر البحث
في صورة وقوع مخالفة لمقتضيات القانون الجنائي الاقتصادي يتولى أعوان الإدارة المؤهلين تحرير محضر في الغرض يثبتون فيه وقائع المخالفة.
فقد يكون الهدف من المحاضر إبرام الصلح مع المخالف أو تطبيق العقوبة من قبل المحاكم أو تسليط العقوبات الزجرية ذات الطبيعة الإدارية([160]).
وبقطع النظر عن هدف المحضر فهو يندرج ضمن أعمال التحقيق و التتبع، فهو سيكون السند القانوني في صورة إثارة الدعوى العمومية.
وقد اقتضت نصوص القانون الجنائي الاقتصادي جملة من الشروط الموضوعية والشكلية التي بجب أن تستجيب لها المحاضر حتى يقع اعتمادها أمام القاضي الجزائي.
وحددت القوانين الخاصة شكليات المحاضر بالنسبة لكل قطاع على حد سواء يتعلق بعدد الأعوان و رتبهم، و أدائهم اليمين القانونية و حملهم لبطاقاتهم المهنية، هذا بالإضافة إلى ضرورة تضمين المحضر لإمضاء المخالف و تصريحاته.
وهو ما نص عليه الفصل 90 مجلة الضريبة، الفصل 39 من قانون إعادة تنظيم السوق المالية،الفصل 24 من مجلة الصرف، الفصل 311 مجلة الديوانة([161]).
وقد أعطى المشرع للمحاضر المحررة من قبل بعض الإدارات حجية أكبر وحصانة أقوى من تلك الممنوحة للمحضر الذي يحرره أعوان الضابطة العدلية طبقا للتشريع العام([162]) إلا أنه في المقابل فإن تلك المحاضر لا يمكنها أن تحضى بتلك القوة الثبوتية إلا إذا كانت مستوفية لجميع أركانها الشكلية التي اقتضاها القانون .
ولا يمكن للمتهم دحض القوة الثبوتية للمحضر إلا بتقديم الحجة المعاكسة أو القيام بدعوى الزور.
فقد نص الفصل 313 من المجلة الديوانية على أن المحاضر الديوانية تعتمد إلى حين إثبات العكس.
كما أن المحاضر يمكن رميها بالزور وذلك من خلال القيام بدعوى الزور فلا يوجد اختلاف على مستوى الإجراءات الخاصة بها بين القانون الجنائي الاقتصادي ونصوص مجلة الإجراءات الجزائية([163]) فقد جاء بالفصل315 فقرة أولى من مجلة الديوانة أنه ” يقع رمي محاضر الديوانة بالزور وفقا لإجراءات الجاري بها العمل في التشريع العام”.
ومما سبق عرضه نتبين أن للإدارة دور هام في إثارة الدعوى العمومية خاصة في مرحلة الإعداد لانطلاق الدعوى العمومية نظرا لما تتمتع به من استقلالية على مستوى الهياكل التي تتسم بتعدد الأعوان المكلفين بالبحث عن الجرائم واتساع صلاحياتهم حيث ستكون أعمالهم السند القانوني فيما بعد، على أن المشرع الجنائي الاقتصادي لم يكتفي بهذا فقط إذ أن دور الإدارة يبرز كذلك على مستوى الإجراءات الممهدة لإثارة الدعوى العمومية.
8) الفقرة الثانية: الإجراءات الممهدة لإثارة الدعوى العمومية
اشترط المشرع في بعض الحالات لإثارة الدعوى العمومية صدور شكوى من الإدارة (أ) أو طلب رأي الجهات المختصة (ب) ففي هذه الحالة و برغم من وجود جريمة فإن النيابة العمومية تجد نفسها مقيدة وغير قادرة على تحريك الدعوى العمومية إلا بإتمام هذين الاجرائين.
أ- صدور شكوى من الإدارة
وضع المشرع في القانون الجنائي الاقتصادي قيد إجرائي يتمثل في ضرورة صدور شكوى عن الإدارة لانطلاق الدعوى العمومية ومن ثمة إثارتها([164]).
فالإدارة لا تثير الدعوى العمومية بصفة مباشرة إنما عن طريق النيابة العمومية التي لا يمكن لها إثارة الدعوى من تلقاء نفسها برغم من توفر أركان الجريمة اذ أن صدور الشكوى يعتبر حدّ من حرية النيابة العمومية في الإثارة([165]). ويمكن تعريف الشكوىLa plainte ” بأنها بلاغ يقدمه المجني عليه إلى السلطة المختصة طالبا فيه إثارة الدعوى العمومية ضدّ متهم معين بجريمة يقيد القانون حرية النيابة في الدعوى بها على توافر هذا الإجراء”([166])
و انطلاقا من هذا التعريف هل يمكن اعتبار الإدارة مجني عليها؟
مبدئيا لا يمكن اعتبار الإدارة مجني عليها باعتبارها تمثل مصلحة عامة وليس مصلحة خاصة حيث كان أجدى بالمشرع استعمال مصطلح أكثر دقة كـالطلـب La requête مثلا الذي يمكن تعريفه بأنه ما يصدر عن إحدى إدارات الدولة أو الجهات العامة من تعبير عن الرغبة في إثارة الدعوى العمومية عن جرائم حددها القانون وعلّق إثارة الدعوى العمومية على صدورها([167]).
و يرى الفقهاء أن الطلب شرّع لحماية مصلحة عامة في حين الشكوى تحمي مصلحة خاصة وتصدر عن الفرد المجني عليه.
كما أن العديد من الفقهاء انتقدوا اشتراط صدور شكوى لما فيها من تقييد لحرية النيابة العمومية في إثارة الدعوى العمومية خاصة و أن هذه الأخيرة هي سلطة الاتهام الأصلية في المجتمع و الأمينة على مصالحه قد منحها القانون سلطة تقدير جدوى التتبع في إثارة الدعوى العمومية في جميع الجرائم بصورة عامة لذلك لا يوجد ما يبرر الخروج عن هذا المبدأ باشتراط صدور الشكوى عن بعض الإدارات لإثارة الدعوى العمومية.
على أن البعض الأخر من الفقهاء ينادون بضرورة الإبقاء على هذا القيد خاصة في ظلّ السياسة الجنائية المعاصرة التي تتجه نحو الأخذ ببدائل الدعوى العمومية كصدور شكوى و إبرام الصلح([168]) خاصة وأن القانون الجزائي الاقتصادي الهدف منه ليس توقيع العقاب إنما حصول الدولة على حقوقها المالية، كما أن الجرائم الاقتصادية ليس لها أي انعكاس سلبي على المجتمع.
وقد اختلف الفقهاء في تحديد الطبيعة القانونية لصدور الشكوى عن الإدارات.
فذهب رأي إلى القول بأنها إجراء ذو طبيعة موضوعية([169]) فهي تتعلق بسلطة الدولة في العقاب بحيث يترتب على عدم استعمالها أو التنازل عنها انقضاء هذه السلطة. بينما ذهب آخرون إلى القول بأنها ذات طبيعة إجرائية([170]) متصلة بشروط إثارة الدعوى العمومية حيث يترتب عن عدم تقديمها غياب شرط جوهري لنشأة الرابطة الإجرائية بين النيابة العمومية والمتهم والقاضي .
في حين اعتمد رأي ثالث توجه توفيقي بين الرأيين السابقين وذلك بإقراره أنها ذات طبيعة مختلطة أي أن لشكوى ثلاث وظائف فقد تكون شرط موضوعي للمعاقبة لما تنتجه من آثار موضوعية تتعلق بالعقاب و قد تكون شرط إجرائي لما قد تنتجه أيضا من آثار إجرائية ويمكن أن تكون حقا للإدارة المجني عليها في الجرائم التي لا يجوز تتبعها إلا بصدور شكوى من الإدارة.
وانطلاقا من هذه الاتجاهات الفقهية نلاحظ أن المشرع التونسي تبنى الطبيعة الإجرائية لصدور الشكوى التي لا تتوقف عليها إثارة الدعوى العمومية إلا في وجود نص خاص يقضي بذلك حسب أحكام الفصل 3م.إ.ج.
وهو ما أكّده المشرع في القانون الجنائي الاقتصادي في عديد الجرائم الاقتصادية حيث جاء بالفصل 29 من مجلة الصرف و التجارة الخاريجية ” أنّه لا يمكن ممارسة التتبع في حق تراتيب الصرف إلا عن طريق شكوى من وزارة المالية أو ممثل لها مؤهل لهذا الغرض”.و هو نفس التوجه الذي تبنته محكمة التعقيب في قرار لها ” أن الإدارة ذات المصلحة هي التي لها الحق وحدها في القيام…” ([171])
فالشكوى الصادرة عن الإدارة هي تعبير عن رغبة الأخيرة في إثارة الدعوى العمومية وهي ذات طبيعة إجرائية صادرة عن جهة رسمية وتبعا لذلك يجب أن تستوفي جملة من الشروط حيث يجب أن تكون الشكوى مكتوبة صادرة عن من له صلاحية قانونية أو من ينوبه كما يجب أن تعبر الشكوى عن إرادة صريحة في إثارة الدعوى العمومية متضمنة بذلك جملة البيانات التي ستكون سند الإثارة.
هذه الشروط متفق عليها فقهيا على أن المشرع لم يحدد صيغة معينة يجب أن تكون عليها الشكوى. و تعليق إثارة الدعوى العمومية على صدور شكوى يثير مسألة ملكية الدعوى العمومية خاصة وان النيابة العمومية في هذه الحالة لا يقع إقصاءها.
لئن أوجب المشرع في بعض الصور ضرورة صدور شكوى عن الإدارة فإنه ألزم في بعض الصور الأخرى ضرورة استطلاع رأي الجهات المختصة.
ب- طلب رأي الجهات المختصة
مع صدور مجلة الحقوق و الإجراءات الجبائية([172]) التي سعى المشرع من خلالها على تجاوز النقائص لضمان المصداقية والشفافية وتحقيق المساواة بين المطالبين بالأداء فقد جاء بالفصل 74 من م ح ا ج جاء فيه انه “تتم إثارة الدعوى العمومية بالنسبة للمخالفات الجبائية الجزائية وجوبا بعد أخذ رأي لجنة…”
و قد حدد الفصل 2 من الأمر عدد 1721 لسنة 2001 تركيبة اللجنة التي تتكون من :
– الكاتب العام بوزارة المالية.
– ممثل عن وزارة العدل.
– المكلف العام بنزاعات الدولة.
– المدير العام للمراقبة الجبائية.
– المدير العام للدراسات و التشريع الجبائي.
– المدير العام للمراقبة الجبائية.
– المدير العام للامتيازات الجبائية و المالية.
– رئيس الرقابة العامة للمالية.
و تتولى هذه اللجنة دراسة المحاضر المحررة من طرف الأعوان المؤهلين والتثبت من ماديات الجريمة من خلال التقرير المقدم صحبة محضر المعاينة و الذي يضبط نوعية المخالفة و طلبات الإدارة ثم تبدي رأيها في وجاهة التتبع من عدمه([173]).
و قد حدد القرار الإداري الصادر في 15 فيفري 1990 تركيبة اللجنة التي اوجب المشرع على وزير المالية استشارتها قبل إثارة الدعوى العمومية. وهي لجنة تتسم بطابعها الإداري مما يجعل منها هيكل يصعب الإقرار باستقلاليته عن إدارة الجباية خاصة و أن هذه اللجنة لا تتكون من أعضاء ينتمون لسلك القضائي و هو ما سعى المشرع إلى تجاوزه فيما بعد مع صدور مجلة الحقوق و الإجراءات الجبائية.
وما تجدر الإشارة إليه هو أن رأي هذه اللجنة استشاري و ليس ملزم لوزير المالية حيث هي ” تقترح الإجراءات المناسبة” التي يجب اتخاذها، على خلاف التشريع الفرنسي الذي نص صلب الفقرة 3 من الفصل 228 من كتاب الإجراءات الجبائية على أن وزير المالية ملزم بأخذ رأي اللجنة قبل انطلاق التتبع و ذلك في إطار مزيد توفير ضمانات للمطالبين بالأداء من تعسف وزارة المالية في إحالة المخالفين على القضاء نظرا لسلطة التقديرية التي تتمتع بها، في حين أن الإلزامية في التشريع التونسي تنسحب فقط على وجوب أخذ رأي اللجنة الذي يتوقف عليه صحة التتبع باعتبار أن المحكمة يمكن أن ترفض التعهد في غياب ما يثبت استشارة اللجنة([174]).
من ناحية أخرى قد يكون رأي الهيئات مطلوب عند القضاء مثلما نص عليه الفصل 86 من قانون تنظيم السوق المالية، وكذلك تطالب النيابة العمومية بالرأي المعلل للإدارة مثلما نصّ عليه الفصل 57 من قانون المنافسة والأسعار حيث جاء بهذا الفصل انه يمكن لممثل النيابة العمومية المختص أن يطلب في نقاط معينة الرأي المعلل للإدارة المختصة.
و هنا يطرح تساؤل حول زمن استطلاع رأي الإدارة هل هو قبل إثارة الدعوى آم أثناء ممارستها؟
المشرع لم يجب بصفة صريحة عن هذا التساؤل لكن يمكن القول أن اخذ رأي الإدارة ممكن في أي مرحلة من مراحل الدعوى العمومية سواء كانت في مرحلة الإثارة أو مرحلة الممارسة ذلك أن استطلاع رأي الجهات المختصة ضروري وهو يمثل المرحلة السابقة لتشكيل التصرف القانوني فقد لا يكون مجرد إجراء شكلي فهو احد عناصر قيام التصرف القانوني مثلما هو الشأن في الفصل 74 م.ح.إ.ج ذلك أن وزير المالية لا يمكن له إثارة الدعوى العمومية في المخالفات الجبائية إلا بعد اخذ رأي اللجنة.
و في هذا المجال حبذا لو أن المشرع يعمم إجراء استطلاع رأي الجهات المختصة وأن تكون من البيانات الوجوبية خاصة في مرحلة ما قبل إثارة الدعوى العمومية وأن يترتب عن عدم احترامها البطلان المطلق وذلك لطبيعة المعقدة لجرائم الاقتصادية و صعوبة تكيف السلط القضائية معها. وهو من شأنه أن يدعم دور الإدارة في إثارة الدعوى العمومية.
.mohamah.net