الشرطة القضائية بين ازدواجية التبعية الإدارية و القضائية
رغم أن العدالة هي قيمة إنسانية تختلف عن كل التصورات الاقتصادية التي تعتمد وسائل العمل والإنتاج والكلفة والجودة، فإن التحولات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والتكنولوجية التي عرفها العالم، وحاجة المواطن إلى عدالة ناجعة وجيدة،كلها وغيرها أسباب دفعت إلى تفكير الفقه والمسؤولين
الحكوميين والقضائيين، بالمغرب وخارجه في إعمال تلك التصورات على العدالة الجنائية. أما من حيث تأثير التشريع المسطري الحالي على نجاعة العدالة الجنائية، فيمكن القول بأن قانون المسطرة الجنائية لم يعد يساير في وضعه الحالي مقتضيات الدستور، بصرف النظر عن تخلفه عن مواكبة التطور التكنولوجي الذي يمكن للعدالة أن تستفيد منه، وعن التحولات الوطنية والإقليمية والدولية في مجال حقوق الإنسان، وحق الدفاع جزء لا يتجزأ منه، ومنه حق المشتبه فيه في التبصير، فورا، بحقوقه أمام الضابطة القضائية، كالحق في الصمت والحق في حضور المحامي، وكالحق الكامل والفعلي في الدفاع أمام قضاء النيابة العامة وقضاء التحقيق، والحق في المحاكمة العادلة، إضافة إلى غموض بعض مقتضيات ذلك القانون وتعقيد بعضها، فبات بالتالي لزاما تغييره وتعديله لهذه الأسباب ولغيرها.
أما تأثير الوضع المسطري الحالي على النجاعة، وتحقيق المحاكمة العادلة، فيمكن رصده على عدة مستويات من أهمها، مرحلة البحث التمهيدي، والنيابة العامة وقضاء التحقيق، والحاجة الى قاضي الحريات والاعتقال، على النحو التالي:
مرحلة البحث التمهيدي:
اعتبارا لكون “مرحلة البحث التمهيدي مرحلة ذات حساسية كبيرة وخطيرة في مسار المحاكمة باعتبارها تمهد بنسبة كبيرة لمصير المعني بها ومصير حريته وحقوقه، الأمر الذي أضحى يفرض تمتيع الشخص موضوع البحث التمهيدي بحقوق الدفاع كاملة بكل مضامينها وشموليتها كالحق في تبصيره بكافة حقوقه، بما فيها حقه في الصمت وحقه في حضور المحامي منذ بدء الوضع تحت الحراسة النظرية وأثناء الاستنطاقات.
وهكذا أتى الفصل 23 من الدستور بمقتضيات جديدة تنص على أنه ” يجب إخبار كل شخص تم اعتقاله، على الفور وبكيفية يفهمها، بدواعي اعتقاله وبحقوقه، ومن بينها حقه في التزام الصمت، ويحق له الاستفادة، في أقرب وقت ممكن، من مساعدة قانونية، ومن إمكانية الاتصال بأقربائه، طبقا للقانون.”
ومعلوم أن هذا المقتضى الدستوري قد تم استلهامه من اتفاقيات وصكوك دولية، لا شك أن منها ” الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان الناصة في المادة السادسة منها، وتحت عنوان ” الحق في محاكمة عادلة”، على أن” لكل متهم الحق في أن يبلغ في أقصى مهلة وبلغة يفهمها وبالتفصيل بطبيعة التهمة الموجهة إليه وبسببها، وأن يمنح الوقت الكافي والتسهيلات لتحضير دفاعه”.
وإعمالا للاتفاقية المذكورة، فقد أقرت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان مبدأ ضرورة الاستعانة بمحام من بداية الوضع تحت الحراسة النظرية إلى نهايتها وخلال الاستجواب، مع إمكانية الاطلاع على وثائق الملف.
ومسايرة للمواثيق المشار إليها، فقد أعطى القانون رقم 392.2011 الصادر بفرنسا بتاريخ 14/4/2011 حول تعديل موضوع الحراسة النظرية، الحق للمحامي بأن يحضر كل فترة الحراسة النظرية منذ بدايتها، كما عزز في الحق في السكوت الذي كان قد ادخل بموجب القانون الصادر بتاريخ 15/6/2000.
ومن أجل محاولة الرفع من نجاعة مسطرة العدالة الجنائية عند مرحلة البحث التمهيدي، يمكن التذكير، إضافة إلى ما سبق بيانه من حقوق، بما يلي:
– إن الشرطة القضائية تعمل، بمقتضى الفصل 128 من الدستور تحت سلطة النيابة العامة وقضاة التحقيق، في كل ما يتعلق بالأبحاث والتحريات الضرورية في شأن الجرائم، وضبط مرتكبيها ولإثبات الحقيقة، وهي بذلك يجب أن تخضع لرقابة قضائية حقيقية وفعلية حول ظروف الوضع تحت الحراسة النظرية، وللتعرف أكثر على إشكالية موقع الشرطة القضائية بين ازدواجية التبعية الإدارية والقضائية، يمكن الرجوع الى العرض المقدم من طرف الدكتور مصطفي حلمي عضو الهيأة العليا.
– إذا كان مطلوبا عدم استعمال أي أسلوب للعنف أوالتعذيب أو الإهانة ولو بالإشارة، وعدم الاعتداد بأي شهادة للشخص على نفسه أو باتهام نفسه، فلا بد من وضع جزاءات جنائية وتأديبية لزجر ذلك وردعه، مع النص على بطلان المحاضر عند خرق القاعدة الآمرة المطلوب سنها.
– ينبغي أن لا تمتنع الضابطة القضائية عن تلقي الشكايات مباشرة من أصحابها، سيما في حالة التلبس، وأن لا تكتفي بتوجيههم إلى النيابة العامة، والمادتان 57 و78 من قانون المسطرة الجنائية لا تمنعانها من ذلك، بل العكس هو الصحيح.
– لتلافي البطء والتعقيد، ينبغي إيجاد مقتضى قانوني يتم معه تفادي البحث من طرف أكثر من جهة ضبطية، لأن في الاستماع للمشتكي بالدائرة حيث يسكن، وإرجاع الملف إلى الإدارة المركزية المحلية لإرساله إلى حيث يسكن المشتكى به، مضيعة كبيرة للوقت وللجهد، والفقرتان الثانية من المادة 22 والأولى من المادة 22/1 يمكن اتخاذهما منطلقا لتأسيس ذلك المقتضى لمحاولة الحد من حالة التعقيد والبطء المشار اليها.
– اعادة النظر في الحجية التي تكتسيها المحاضر المنجزة بخصوص القضايا الجنحية، وقصرها على ما عاينه الضابط، دون ما تلقاه من تصريحات .
– إن مطالبة الضابطة بمجهودات إضافية لما تقوم به في إطار التصدي للإجرام، يقتضي بالضرورة اعادة النظر في امكانياتها المادية والبشرية، مع تحفيز رجالها وتحصينهم بمنحهم رواتب محترمة، والاهتمام بوضعهم الاجتماعي والسكني، وبأيتامهم وأراملهم، دون إهمال ربط المسؤولية بالمحاسبة.
– إن مكافحة الأشكال الجديدة للجرائم ذات الخطور الخاصة كالجريمة المنظمة وغيرها أضحى يفرض إدخال وسائل خاصة للبحث والتحري، مع ضرورة احترام الحقوق والحريات الفردية والجماعية.
على مستوى النيابة العامة، يلاحظ أن:
– نشاطها مثقل بتراكم المهام وتعددها، واختلاط المهام الإدارية والتدبيرية بالمهام القضائية، مع نقص كبير في عدد قضاة النيابة العامة، وكتاب الضبط التابعين لهم، ونقص، أحيانا، في التكوين بتجلياته المختلفة، وهو ما يقتضي إعادة النظر في طريقة عملها عن طريق فصل ما هو تدبيري وتسييري عما هو قضائي محض، وتوظيف العنصر البشري اللازم، والزيادة في عدد قضاة النيابة العامة مع تحصينهم بالتكوين الأساسي والمستمر والتخصصي، إذ لا ضير في أن يقضي القاضي حياته المهنية في النيابة العامة،كاختيار، يمكنه من التفرغ لمجالات عمل محددة سيتقنها بلا شك، وسينعكس ذلك على الجودة والتبسيط وتقديم الخدمات للمرتفق، ومن ثمة على الرفع من نجاعة العدالة الجنائية والقول نفسه يصدق على غيره، فالوضع الحالي أضحى غير مقبول، حيث يقضي رجل القضاء في النيابة العامة خمس أو عشر سنوات، ثم يولى أمر البت في نزاعات الشغل أو يسند أمر اليه امر البت في القضايا الجنحية نفسها، لكن ليس لمؤهلاته العلمية والمهنية، بل لما كان قد عرف عنه من تشدد في الاعتقال عند ممارسته مهام النيابة، فتختل آنئذ الموازين كلها.
– هناك مطالبات بتوسيع صلاحيات النيابة العامة، في إطار النجاعة وخلق البدائل، عن طريق “منح السيد الوكيل العام للملك صلاحية الإحالة على المحكمة في حالة سراح” بحذف الفقرة الخامسة من المادة 73 من قانون المسطرة الجنائية والمتعلقة بوجوب إصدار أمر بالاعتقال من طرف الوكيل العام للملك، إذا ظهر له أن القضية جاهزة للحكم عند الإحالة مباشرة على غرفة الجنايات.
ودون أن تغيب في هذا المقام النداءات الحقوقية التي كانت مطروحة وقت صدور ظهير الإجراءات الانتقالية سنة 1974 والذي عيب عليه، وقتها، توسيعه لصلاحيات النيابة العامة على حساب قضاء التحقيق، مع ما ينطوي عليه اللجوء إلى هذا القضاء – مبدئيا – من ضمانات، فإن الفقه مازال يتوجس خيفة من ذلك التوسع، ويقول ” إذا كان القانون يخول للنيابة العامة صلاحيات كبيرة في مجال تجسيد سياسة التجريم، من خلال سلطتها في تقرير ملاءمة المتابعة وإقامة الدعوى العمومية وممارستها في تعاون مع قضاء التحقيق وقضاء الحكم “… ” فإن مركزها يوحي في هذا الجانب بالهيمنة على القضاء الجنائي “.
بقلم: طيب محمد عمر, المحامي بهيأة الدار البيضاء