جرت العادة أن يطرح موضوع عقوبة الإعدام في إطار العلوم القانونية والسياسية، وبالضبط في ضوء الفقه الجنائي. ويتبين أن هذا الطرح لا يؤدي إلى قناعة مطلقة بالعمل بعقوبة الإعدام أو بإلغائها لأن البراهين والحجج التي يستعملها تقبل وتبرر النتيجتين معا ولا تسمح باختيار إحداهما دون الأخرى[1].
ونظرا للارتباط المتين بين القانون الجنائي وعلم الإجرام، ومحاولة المشرع الجنائي أن يؤسس مقتضيات التجريم والعقاب والسياسة الجنائية بصفة عامة، على نتائج وخلاصات علم الإجرام، يمكن أن يكون طرح عقوبة الإعدام في ضوء علم الإجرام مساعدا مهما على اتخاذ موقف سليم بالإبقاء عليها أو بإلغائها.
دراسة عقوبة الإعدام أو قراءتها في ضوء علم الإجرام تتطلب إبداء ملاحظات أولية أساسية منبثقة من تاريخ الإعدام كعقوبة ومن الطبيعة الخلافية التي تعتبر عقوبة الإعدام تدبيرا جزائيا،والتي تنطلق من التعبير ذاته “عقوبة الإعدام” سواء من زاوية المضمون أومن زاوية التركيب اللغوي.
من حيث التاريخ، يلاحظ العمل بالإعدام كعقوبة منذ الحضارات القديمة كالفرعونية والبابلية والإغريقية واليونانية[2]، بناء على معتقدات مختلفة تدخل ضمنها الديانات السماوية بما فيها الإسلام. ويجدر التنويه بخصوص الإسلام أن القرآن يحصر نطاق العقوبة في البغي والقتل العمد، على وجه القصاص في الحالة الأخيرة. وأضافت السنة الردة والزنى بعد الإحصان. ويشترط تطبيق الإعدام دائما توفر شروط جدية تضيق من إمكانية إجرائه.
فيما يتعلق بالطبيعة الخلافية لتصور الإعدام كعقوبة فإنها تثير مشكلا مبدئيا جوهريا مفاهيميا بالإضافة إلى الصيغة غير المفيدة لمعنى عبارة “عقوبة الإعدام” أو تنافر التعبير وافتقاده لأي معنى سليم، مما يقتضي الوقوف بداية عند استحالة اعتماد الإعدام كعقوبة على مستوى المبادئ العامة أو المشتركة بين علم الإجرام والقانون الجنائي والعلوم المتداخلة معهما.
ويتميز علم الإجرام في حد ذاته بعجزه عن تأسيس موقف علمي واضح حول المسألة إذ يتسم تصوره للظاهرة الإجرامية في نظريات التجريد الذاتي أو النفساني بنشاز استثنائي يقبل العمل بالإعدام، كما لا يخلو تصوره لنفس الظاهرة في ضوء النظريات الاجتماعية والسياسية بنوع من الافتعالية في التطبيق.
أولا: استحالة تصور الإعدام بمفهوم العقوبة في المبادئ العامة .
يتضح من التطور التاريخي ومن اختلاف الأمكنة في العالم أنه يستحيل الجزم بقبول الإعدام كعقوبة أو كتدبير جزائي له طبيعة أخرى مما تقتضيه الحياة المجتمعية. كما تسري ذات الملاحظة على وجود التصور في حد ذاته لمعنى صحيح تؤديه عبارة “عقوبة الإعدام” من الناحية الاصطلاحية والمنطقية.
1) خلافية التصور في الزمان والمكان.
كانت مسألة قبول عقوبة الإعدام في المنظومة الجزائية محل خلاف ونقاش أزلي وكوني شامل، في الزمان والمكان والنطاق.
من حيث أزلية النقاش وطبيعته الكونية، منذ فجر التاريخ، نقتصر في ذلك على ما بعد القرن الثامن عشر[3]. وتعثرت المواقف بين الترك والاعتماد في كل الدول، ونكتفي منها بدول أوروبا وخاصة فرنسا وإنجلترا وإيطاليا. وتعثر تكريس العقوبة أو اعتمادها بالدول التي تقررها في القانون الوضعي، بين التطبيق العام على كل أنواع الجرائم أو حصره على الجرائم العادية لبشاعتها في نظر المشرعين، أو السياسية لخطورتها القصوى في نظر الحكام ومنظري التشريع. ولم يكن لعلم الإجرام أي مجال في النقاش لأنه لم يكن قد ظهر بعد على الساحة [4]الفكرية المتعلقة بالإجرام ولا تعرف إمكانية مكافحته القانونية والاجتماعية لعقوبة الإعدام.
ولكن منذ فجر القرن العشرين نسجل هيمنة خط عام، قانوني وسياسي، دائما خارج علم الإجرام، نحو الإلغاء في الكثير من الدول، بالرغم عن غياب الحجة القطعية أو الحاسمة بين دعاة الإلغاء والمدافعين عن الاستمرار في التكريس[5]. ويتميز الوضع العالمي اليوم بالإلغاء في أغلبية الدول المنضوية في هيئة الأمم المتحدة. وصارت البعض منها تتراجع وتكرس الإعدام من جديد أمام تفاقم الإجرام المنظم والإرهاب. ويبقى المغرب من بين الدول المستمرة في العمل بعقوبة الإعدام في القانون الجنائي رغم أن تنفيذ الأحكام الصادرة بها توقف منذ 1993[6]. وبصرف النظر عن موافقة أو معارضة موقف المغرب، يمكن القول بأن القانون يتسم بعيب شكلي يضاعف النفور منه. ذلك أنه يقرر الإعدام في أزيد من ثلاثين حالة جرمية تشترك جميعها في القتل بحيث كان بالإمكان الاقتصار على جريمة القتل العمد، ومنع العمل بظروف التخفيف عند الاقتضاء في بعض الحالات.
ولعل مثال فرنسا وإنجلترا في طريقة الإلغاء خير دليل على نهج الإلغاء المرتكز على قرار سياسي عوض المبرر العلمي، حتى في الربع الأخير من القرن الماضي. ومن الغريب أن هذه الطريقة سادت رغم ما ساهمت به البوادر الأولى لعلم الإجرام في مناقشة الموضوع، لانطلاقها واعتمادها على معطيات علمية مغايرة للنظريات القانونية وخاصة منها الجزائية، والنظريات السياسية والاجتماعية.
وتتجلى شمولية النقاش المرتكزة على حقول معرفية غير علم الإجرام، في تعرض المعنيين به إلى كل جوانب موضوع عقوبة الإعدام أو الحقول العلمية التي تبرز فيها، القانونية، السياسية، الفلسفية، الاجتماعية والدينية. وغالبا ما ظلت النتيجة محتملة للوجهين النقيضين الاعتماد والإلغاء[7]، أو قابلة للنقاش لغياب الحجة الحاسمة لصالح موقف ضد الآخر، وذلك لغموض معنى العقوبة في الإعدام وكذا لصعوبة إدخال الإعدام في حق العقاب[8] الذي يعترف به للدولة ضمن سلطاتها السياسية الشرعية. ولعل طريقة إلغائه في إنجلترا[9] نهاية القرن العشرين خير دليل على هذا المنظور لأنها تأسست على الواقع وليس على التنظير، في مرحلتين للتوقيف الموقت على وجه التجربة لمعرفة أثر ذلك التوقيف على كمية ونوعية الإجرام، ثم قرر المشرع الإلغاء بصفة نهائية بعدما تأكد له أن ترك العمل بالإعدام لا يؤدي إلى تكاثر الجرائم التي يعاقب عليها بالإعدام . وتم الإلغاء بفرنسا دفعة واحدة بقانون من البرلمان، دون اكتراث بالواقع ورأي المجتمع في الحالتين.
لكن، ورغم احتداد النقاش السياسي والقانوني، وظهور وتطور علم الإجرام منذ فجر القرن العشرين، استمر سكوت مطبق تقريبا حول مركز عقوبة الإعدام في علم الإجرام والحالة أن محوره الدقيق والعميق هو الإجرام ومكافحته، مما يبرر التساؤل عن السبب في ذلك؟ ربما يرجع السبب في هذا إلى ابتعاده عن المناقشات السياسية وتركيزه على معاينة وتحليل ظاهرة الإجرام كمعطاة مرضية إنسانية واجتماعية، لصيقة بالإنسان كلما تواجد في نظام مجتمعي، تفرض أساسا فهم أسبابها من أجل التوصل إلى معالجتها سواء من خلال العناية بالإنسان أو المجتمع.
2) خلافية معنى عبارة “عقوبة الإعدام”
نلاحظ هنا عدم تجانس التركيبة اللغوية أو تنافر عناصرها بشكل يفرغها من كل معنى مفيد في الخطاب. فلا يمكن عقليا ولا منطقيا تصور إضافة مفهوم الإعدام إلى مفهوم العقوبة والجمع بينهما للتعبير عن معنى معين. ويتجلى عدم قيام المعنى بشكل واضح سواء من منظور العقوبة أو من مفهوم الإعدام.
من زاوية عنصر العقوبة، يبقى معناها القانوني العام، وحتى المعاني الأخرى من دينية وأخلاقية وتأديبية وغيرها السائدة في أدبيات هذه المجالات، هو جعل الجاني يتألم ماديا أو معنويا من تدبير يؤذي جسده أو حريته أو أمواله أو مشاعره (سمعة، شرف، عرض، الخ.). العقوبة إحساس بالألم يهدف إلى التخويف منها ومن ارتكاب الفعل المسبب لها، وإلى الجزاء المترتب عن الضرر المجتمعي، أي مقابلة الجريمة بثمنها، وإلى إصلاح السلوك و إعادة الإدماج بالمجتمع[10]. وتتميز العقوبة الجنائية دائما بجرح أو بإهانة شخصية الجاني في عمقها وبإذلالها في عين المجتمع.
ولا يتأتى هذا إلا حين تنصب التدابير العقابية على إنسان حي وكامل الوعي والإرادة، بالتالي تقتضي العقوبة بقاء الشخص المعاقب حيا ليشعر بالألم وليربط بينه وبين السلوك الإجرامي ومسئوليته عنه، لأن قتله يعني استحالة تحقيق ذلك.
من زاوية عنصر الإعدام فهو قتل أو تحقيق للموت بمعنى وضع حد للحياة أي الشرط الذي بدونه يزول معنى العقوبة. فتحويل الإنسان من كائن أو مخلوق حي كامل الوعي بالمسئولية إلى جسم ميت لا حياة ولا إحساس ولا شعور له، يفرض تساؤلا مبدئيا يتعلق بمن يتحمل العقوبة أو على من تقع العقوبة؟ إذا تعلق الأمر بالإنسان الجاني فإعدامه يعني تغييبه وبالتالي حصر العقوبة في اللحظة السابقة لموته، وإذا كان الميت هو المقصود فهو لايبقى بإنسان بالاصطلاح القانوني. فالقانون، منذ قرون عديدة، لا ينظم العقوبة إلا على الإنسان من أجل تحقيق غاياتها المجسدة في الألم والردع الخاص والعام والإصلاح وإعادة الإدماج، مما لا يمكن تصوره في الميت ولا في جثمانه.
ولا يمكن تصوره في شخص غير الجاني، مثل الأسرة والقبيلة وغيرها، لما في ذلك من دلالة على اعتماد مسئولية جماعية بدائية، وعلى تنفيذ انتقام ضد أبرياء، ومن الاعتداء وخرق أبسط حقوق الإنسان بإنزال الأذى بمن لم يقترف إثما ولا خطأ ولم يظهر انحرافا في سلوكه ولا يحتاج إلى إصلاح. بالتالي لا يبقى إلا جواز اعتبار الإعدام شكلا للانتقام أو لسلوك بدائي لا يميز في العقوبة جانبها الجزائي المبني على مسئولية الإنسان الفرد عن أفعاله، ولا يمكن معرفة ضد من يقع لأن الجاني قد مات ولأن غيره ليس جانيا.
الخلاصة أن مفهوم الإعدام لا يتطابق مع مفهوم العقوبة كمؤسسة قانونية ولا معنوية ولا أخلاقية، وبتعبير آخر يجوز القول بأن الإعدام ليس عقوبة بالمعنى القانوني.
وهذا يجعل من مناقشة اعتماده أو إلغائه بناء على الأدوات القانونية عملا فارغا من كل معنى، سواء في إطار الفكر القانوني أو الفلسفي. بالفعل تجري المناقشة المنصبة على العمل بالإعدام في إطار قناعات فكرية وحضارية، مهما تنوعت منابعها أو مراجعها، متأرجحة بين المبررات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والدينية، رغم إقحام جوانب قانونية فيها من ردع وتهديد للجناة المحتملين. ويقتصر القانون، شكليا فقط، على تكريس الموقف سياسيا تبعا لما وصل إليه النقاش من الزوايا الاجتماعية والاقتصادية والدينية.
منقول