القوة الملزمة للعقد في قانون الالتزامات والعقود المغربي
العقد هو اتفاق إرادتين أو أكثر على إحداث أثار قانونية متمثلة في إنشاء الالتزام أو نقله او تعديله أوانهائه، و اذا نشأ العقد صحيحا مستوفيا لكامل أركانه و شروطه رتب مختلف أثاره القانونية و بالتالي كسب قوته الملزمة من حيث الاشخاص و الموضوع تطبيقا لمبدأ سلطان الارادة . فبعد انشاء العقد تأتي المرحلة الموالية و هي مرحلة تنفيذ العقد و ترتيب أثاره . و من مظاهر سلطان الارادة في هذه الفترة هي التزام المتعاقدين بما ابرماه و تنفيذ العقد بحسب ما جاء فيه
ويعتبر مبدأ القوة الملزمة للعقد من أهم النتائج المترتبة عن مبدأ سلطان الإرادة، فالأفراد لهم مطلق الحرية في إبرام ما شاؤوا من العقود بشرط احترامهم لمقتضيات النظام والأخلاق والآداب العامة وإدا حصل مثل هذا الاتفاق بناءا على هذه الحرية فان العقد يصبح بمثابة شريعة المتعاقدين.
وتحقيقا للعدالة منح المشرع للقاضي سلطة التدخل في العلاقات العقدية لمواجهة الظروف المتغيرة التي ينشأ عنها اختلال التوازن العقدي كتعديل الشروط التعسفية والتي يقوم بمراجعة الاتفاق ، و إزالة ما يخالف العدالة. كما منح القاضي هذه السلطة بموجب نصوص أخرى ، وذلك بالنص على حق القاضي في تعديل العقد في حالة ورود شرط جزائي و كذلك حق القاضي في منح أجل للوفاء ولمعالجة هذا الموضوع ارتأينا إتباع المنهج التحليلي، معتمدين في ذلك على الإشكاليات التالية، ما المقصود بمبدأ القوة الملومة للعقد ؟ ما مدى سلطة القاضي في تعديل العقد ؟ وعلى أي أساس تمنح له هذه السلطة ؟ وهذا ما سنحاول التطرق إليه في موضوعنا هذا وذلك وفقا للتقسيم الآتي:
المبحث الأول : القاعدة العامة : العقد شريعة المتعاقدين
المبحث الثاني : الاستثناءات الواردة على القاعدة
المبحث الأول : القاعدة العامة : العقد شريعة المتعاقدين
نص الفصل230 من ق ل ع المغربي بما يلي : ” الالتزامات التعاقدية المنشأة على وجه صحيح تقوم مقام القانون بالنسبة إلى منشئيها، ولا يجوز إلغاؤها إلا برضاهما معا أو في الحالات المنصوص عليها في القانون” .
وهذا معناه أن للعقد قوة ملزمة أكتسبها من إرادة المتعاقدين أو اتجاهها إلى ترتيب آثاره ، وبهذا فإن الحقوق و الالتزامات التي تتولد عن العقد واجبة التنفيذ و الإلزام .
وبالتالي لا يمكن نقض العقد أو تعديله إلا وفقا لاتفاق الطرفين ، أو للأسباب التي يقررها القانون . وفقالمبدأ القوة الملزمة للعقد ، فما اتفقت عليه إرادة الأطراف هو القانون الذي يجيب أن يتبع ، ويحكم العلاقة ما بين المتعاقدين ، فحرية الإرادة تبدو واضحة وفقا لهذا المبدأ العقد شريعة المتعاقدين فلا يكون الأطراف ملزمين إلا وفقا لما قررته إرادتهم ، ويقومون بتنفيذ التزاماتهم وفقا لما جرى عليه الاتفاق في العقد ، هذا كأصل عام لأن هناك قيودا كثيرة تحد من قوة هذا المبدأ و هذه القيود منها ما يتعلق بإمكانية تعديل العقد و منها ما يرتبط بضرورة تنفيذ العقد بطريقة تستوجب حسن النية .
حيث ينص الفصل 231 من ق ل ع المغربي :” كل تعهد يجب تنفيذه بحسن نية. وهو لا يلزم بما وقع التصريح به فحسب، بل ايضا بكل ملحقات الالتزام التي يقررها القانون، أو العرف أو الانصاف وفقا لما تقتضيه طبيعته ” .
فيجب على كل طرف أن ينفذ الالتزامات الملقاة على عاتقه وفقا لمضمون العقد مع مراعاة حسن النية ، فلا يجيز القانون للمتعاقد القيام بتنفيذ العقد بطريقة تدل على سوء نيته، أو بطريقة يكون فيها متعسفا في استعمال حقه في المجال التعاقدي ، هذا لأنه إذا كان من حق المتعاقد أن يقوم بتنفيذ العقد حسب ما اتفق عليه مع المتعاقد الآخر ، فإن ذلك يجب أن يكون وفق حسن النية الذي يهيمن على العقود جميعها ، وكذلك على الشخص عدم التعسف في استعمال حقه الذي خوله له القانون . ذلك أن هذا المبدأ يعد في القانون الحديث قاعدة عامة تشمل جميع العقود ، ولقد قرر المشرع ذلك في الفصل 231 بما يلي : “يجب تنفيذ العقد طبقا لما اشتمل عليه بحسن نية..” .
هذا المبدأ يقيد المدين في تنفيذه للالتزام ، كما يقيد أيضا الدائن في مطالبته بتنفيذ الالتزام ، فلا يمكن تنفيذ العقد بما يخالف مبدأ حسن النية ، ويكون ذلك بالتعاون المستمر بين الطرفين أثناء التنفيذ .
فاذا ثبت هدا نقدم بعض الأمثلة لذلك، ففي البيع مثلا يلتزم البائع بنقل الحق المبيع إلى المشتري ومن مقتضى حسن النية وجوب امتناعه عن كل عمل من شأنه جعل نقل هذا الحق مستحيلا أو عسيرا ، كما أن على الناقل الذي تعهد بنقل البضاعة أن يقوم بنقلها من أصلح طريق للمرسل . وعلى المقاول الذي تعهد بتوصيل أسلاك كهربائية بأن يقوم بتوصيلها من اقصر طريق .
ونتيجة لمبدأ حسن النية فإنه يجب أن ينفذ العقد بمستلزماته و ليس بما ورد فيه من عبارات فحسب ، وهذا وفقا للقانون أو العرف أو الانصاف ، ولقد جاء ذلك في الفصل 231 كالتالي : ” …وهو لا يلزم بما وقع التصريح به فحسب، بل ايضا بكل ملحقات الالتزام التي يقررها القانون، أو العرف أو الانصاف وفقا لما تقتضيه طبيعته” ويتضح بالتالي بأن حسن النية يعد قيدا هاما يرد على دور الإرادة في تنفيذها للعقد لهذا راعى المشرع مصلحة المتعاقد حسن النية وقرر حمايته في الكثير من الأحيان
المبحث الثاني : الاستثناءات الواردة على القاعدة
للحد من القوة الملزمة للعقد نص المشرع المغربي على بعض الاستثناءات من خلالها يمكن للقاضي تعديل العقد، فالأصل أن العقد شريعة المتعاقدين ، و أنه ينفذ وفقا لما اتفقا عليه ، غير أن المشرع أورد على هذا المبدأ مجموعة من الاستثناءات أوردها لاعتبارات العدالة والصالح العام و المتمثلة في سلطة القاضي في تعديل العقد . فهذه الأخيرة تعتبر من الموضوعات التي تكتسي أهمية خاصة في فقه القانون المدني و قد أثارت و لا زالت تثير الكثير من الجدل و أن قامت باعتباراتها في رأي معارضيها تعد انتقاصا للحرية التعاقدية إذ أنها تشكل قيدا على حرية الأفراد في تعاقداتهم وسببا يؤدي إلى عدم استقرار المعاملات المدنية.
وبذلك سنتطرق لتدخل القاضي في اطار نظرية الظروف الطارئة ( أولا) ومهلة الميسرة ( ثانيا ) وتدخل القاضي للتخفيف من الشروط التعسفية ( ثالثا ) وأخيرا تدخله في إطار الشرط الجزائي ( رابعا ).
أولا : تدخل القاضي في إطار نظرية الظروف الطارئة
ودلك بالنسبة للتشريعات التي أخذت بهذه النظرية، حيث يتمكن القاضي من مراجعة بنود العقد عندما يثبت لديه بأن للاستمرار في تنفيذ الالتزامات الملقاة على عاتق المدين أصبح مرهقا لهذا الأخير ومن شأن هذا التنفيذ أن يلحق بالمدين أقصى الخسارات المادية، ونظرا لأن ق ل ع المغربي لم يعطي أي اهتمام لهذه النظرية، لذلك يصعب التسليم بوجود ميدان لتطبيق هذه النظرية من الناحية العملية.
ثانيا : تدخل القاضي لتمتيع المدين بمهلة الميسرة.
المعاملات التي تتم بين الأشخاص قد تكون منجزة و ذالك هو حال أغلب المعاملات اليومية في مجال العقود ومع ذالك فقد تكون الالتزامات التي تتضمنها هذه المعاملات مؤجلة .
و الأجل القضائي هو الذي يكون مصدره القضاء حيث يجيز القانون للقاضي أن يمنح المدين حسن النية أجلا أو آجالا معقولة للوفاء بدينه ولم يلحق الدائن من ذلك ضرر جسيم
فبالنسبة للحالات التي يكون فيها سند الدين محددا من حيث تاريخ الأداء والاستحقاق، فيمكن للدائن سلوك مسطرة استعجالية لاستصدار الأمر بالأداء والذي يختص به رئيس المحكمة الابتدائية، من اجل منح آجل قصد الوفاء بالدين المحكوم به ( الفصل 165 م م ).
ويمكن أيضا للمحكمة أن تمنح للمدين هذه الآجال في غير الحالات الاستعجالية وهذا ما نص عليه الفصل 243 الفقرة الثانية من ق ل ع المغربي ” ومع ذلك يسوغ للقضاة مراعاة منهم لمركز المدين ومع استعمال هذه السلطة في نطاق ضيق ان يمنحوه آجالا معتدلة للوفاء وان يوقفوا اجراءات المطالبة مع إبقاء الأشياء على حالاها.”
ثالثا : تدخل القاضي للتخفيف من حدة الشروط التعسفية
الأصل في التعاقد أن يتم إجراؤه بحرية النقاش و المساومة، بحيث تترك لكل من طرفيه الفرصة في أن يجعل الأخر يرتضي أفضل الشروط بالنسبة إليه. و هذا هو عقد المساومة الذي يكون فيه توافق الإرادتين نتيجة مساومة بين طرفين متساويين ، يؤدي كل منهما دورا في إبرام العقد مساويا للدور الذي يؤديه الأخر.
و هناك نوع أخر من العقد يشذ عن هذه القاعدة ، فلا تكون هناك مساومة أو نقاش في شروطها و إنما يضع أحد الطرفين هذه الشروط و لا يكون أمام الطرف الثاني إلا أن يذعن لها و يقبلها أو يرفضها .
و قد نشأت عقود الإذعان في الفكر القانوني المعاصر ، نتيجة الوضع الاقتصادي المتمثل في قيام قوى هائلة توصلت إلى هذا التحكم عن طريق الاحتكار. و قد ساعد على ذلك أن هذه السلع أو الخدمات تتطلب لأدائها مجهودات كبيرة و أموالا طائلة لا تستطيع القيام بها إلا شركات ضخمة لا تجد لها منافسة . و من هذه الحاجات أو الخدمات على وجه الخصوص تقديم الضرورات المنزلية كالكهرباء، الغاز و التأمين….إلخ.
وتتمثل سلطة القاضي هنا إما في تعديل الشروط التعسفية أو الغائها، فالمظهر الأساسي للحماية التي يضمنها القانون لصالح الطرف المذعن تتمثل في رفع الضرر الذي يلحق بهذا الطرف من جراء الشروط التعسفية إما بتعديل هذه الشروط أو بإلغائها.
فبالنسبة لتعديل الشروط التعسفية ، كتعديل التزامات الطرفين بالزيادة أو النقصان، او تعديل الشرط الجزائي.
واما فما يخص الغاء الشروط التعسفية فهذه الصورة من التدخل تعتبر دون شك أشد جرأة من الصورة الأولى ، و سلاحا بالغ الخطورة في يد القضاء ، إذ بموجبه يستطيع القاضي إذا ما وصف الشرط بأنه تعسفي أن يلغيه ، فيعفي الطرف المذعن منه .مخالفا بذلك قاعدة العقد شرعية المتعاقدين.
رابعا : تدخل القاضي في إطار الشرط الجزائي
الشرط الجزائي أو ما يعرف بالتعويض الاتفاقي، هو اتفاق سابق على تقدير التعويض الذي يستحقه الدائن في حالة عدم تنفيذ المدين للالتزامه الأصلي أو لمجرد التاخير في تنفيذه.
وكنتيجة لذلك شهد المغرب إصلاح تشريعي في السنوات الاخيرة من بينها بعض فصول قانون الالتزامات والعقود، ومن ضمن هذه الفصول الفصل 264 الذي شمله التعديل بموجب قانون 95. 27 الذي دخل حيز التنفيذ بمقتضى ظهير 11 غشت 1995 الذي كرس ما استقر عليه القضاء من مشروعية التعويض الاتفاقي مما كسب هذا الموضوع اهمية في النقاش كنوع من التلطيف من مبدأ سلطات الإدارة الذي كرسه الفصل 230.
و الفصل 264 من ق ل ع بعد تعديله وضع حد للحجبة المطلقة للتعويض الاتفاقي حيث أن تقدير التعويض أصبح موكول للمحكمة التي يمكنها تخفيض التعويض المتفق عليه إذا كان مبالغا فيه او الرفع من قيمته إذا كان زهيد ولها أيضا أن تخفض من التعويض المتفق عليه بنسبة النفع الذي عاد على الدائن من جراء التنفيذ الجزئي
ولاشك أنه بمقتضى هذه المادة أصبح بإمكان المحكمة التدخل في مجال العقد بشكل مباشر وبالتالي في قيمة الشرط الجزائي سواء بالتخفيض أو الرفع استنادا إلى معايير موضوعية تكشفها المحكمة لما لها من فطنة وسلطة تقديرية . frssiwa.blogspot.com