التأصيل الفلسفي للمحاكمة العادلة


التأصيل الفلسفي للمحاكمة العادلة

مما لا شك في أن قانون المسطرة الجنائية له إرتباط وثيق بحقوق الإنسان لما يقرره من إجراءات متصلة عضويا بحقوق الإنسان الأساسية كما هي متعارف عليها عالميا، كمبدأ الشرعية والبراءة الأصلية والتقاضي أمام القضاء وحرية الدفاع والطعن في القرارات والأحكام القضائية.[1]

هذا القانون الذي يبتدئ تطبيقه بعد التحقق من خرق النصوص الجنائية الموضوعية، لاعلاقة له بالشرطة الإدارية التي ينحصر نشاطها في الميدان الجنائي في الحيلولة دون وقوع الجريمة، وبالتالي فهو يعمل على معطيين أساسيين ومتقابلين هما ضمان حقوق المجتمع في توقيع الجزاء على المجرمين بشكل حازم وفعال من جهة، وضمان حقوق الأفراد من جهة أخرى.[2]

وتعتبر المحاكمة العادلة من أبرز وأهم الأعمدة الأساسية التي تهدف إلى حماية الإنسان من كل ما شأنه المس بحقوقه وكرامته في جميع مراحل الدعوى، منذ لحظة إيقافه والبحث معه من قبل الشرطة القضائية في ما يعرف بالبحث التهميدي مرورا بإستنطاق أمام النيابة العامة و بالتحقيق الإعدادي وصولا إلى المحاكمة، إبتدائيا، إستئنافيا، ونقضا.

وقد عرف الأستاذ محمد اليديدي رئيس المحكمة الإبتدائية بالرباط سابقا المحاكمة العادلة كما يلي : ” المحاكمة العادلة تكمن في سلامة الإجراءات المسطرية التي تباشر عند محاكمة كل شخص ومطابقتها للقانون، بالإضافة إلى تكييف القانون وجعله منسجما مع المبادئ المتفق عليها والتي تضمن وتصون حقوق الإنسان”. [3]

في ذات السياق، فالمحاكمة العادلة أصبحت اليوم تستمد مرجعيتها من الدستورالذي عمل على تكريسها في الباب الثاني منه، المتعلق بالحريات والحقوق الأساسية، حيث نص الفصل 23 على أن ” قرينة البراءة والحق في المحاكمة العادلة مضمونان ” وكذلك ثم ترسيخها في الفصل 120 من الدستور والذي أكد فيه أن ” لكل شخص الحق في محاكمة عادلة وفي حكم يصدر داخل أجل معقول “.

وقد عملت القوانين الوطنية على وضع مجموعة من المبادئ لتأطير مفهوم المحاكمة العادلة وعملت على تقويتها بمجموعة من الضمانات التي سنتناولها بالتحليل في موضوعنا المتواضع.

من خلال هذا التقديم يمكننا طرح الإشكالية التالية :

إلى أي حد نجحت التشريعات الوطنية في تحقيق متطلبات المحاكمة العادلة؟

وتتفرع هذه الإشكالية التساؤلات الفرعية التالية :

ما هي أهم المبادئ الدستورية للمحاكمة العادلة؟

ما هي أهم الضمانات الدستورية لتفعيل المحاكمة العادلة؟

ما هو دور التشريع الجنائي المسطري في توفير ضمانات المحاكمة العادلة ؟

وما مدى إحترامه لهذه الضمانات ؟

للإجابة عن كل هذه الأسئلة وغيرها سوف نعتمد على التصميم التالي :

المطلب الاول : المبادئ الدستورية للمحاكمة العادلة

الفقرة الاولى مبدأ قرينة البراءة

الفقرة الثانية : مبدأ الشرعية

المطلب الثاني :الضمانات الدستورية للمحاكمة العادلة

الفقرة الأولى : الضمانات القانونية

الفقرة الثانية : الضمانات القضائية

المطلب الثالث : دور التشريع الجنائي المسطري في توفير المحاكمة العادلة

الفقرة الأولى : ضمانات المحاكمة العادلة قبل المحاكمة

الفقرة الثانية : ضمانات المحاكمة العادلة أثناء المحاكمة وبعدها

المطلب الأول : المبادئ الدستورية للمحاكمة العادلة

كرس دستور 2011 مجموعة من المبادئ الأساسية للمحاكمة العادلة ومنها مبدأ قرينة البراءة )الفقرة الاولى ( ومبدأ الشرعية  ) لفقرة الثانية(

 الفقرة الاولى مبدأ قرينة البراءة

تعتبر قرينة البراءة من أهم وأرقى ضمانات المحاكمة العادلة  التي تضمن أمن الأشخاص وحماية حرياتهم الفردية ،حيث إرتقى بها المشرع إلى مصاف المبادئ الدستورية، إذ ثم التنصيص عليها في الفصول  23 و 119 من الدستور ، فالفصل 23 ينص على ” قرينة البراءة والحق في المحاكمة العادلة مضمونان “، والفصل 119 ينص على أنه ” يعتبر كل مشتبه فيه أو متهم بارتكاب جريمة بريئا إلى أن تثبت إدانته بمقرر قضائي مكتسب لقوة الشيء المقضي به” كما أخدت به المسطرة الجنائية، ونصت في مادتها الأولى على أن “كل متهم أو مشتبه فيه بارتكاب جريمة يعتبر بريئا إلى أن تثبت إدانته قانونا بحكم حائز لقوة الشيء المقضى به، بناء على محاكمة عادلة تتوفر فيها كل الضمانات القانونية.

الشك يفسر لفائدة المتهم”.

وجاءت صياغة هذه المادة مشابهة مع ما نصت عليه المادة 11 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والمادة 14 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، والمادة 7 من الميثاق الإفريقي لحقوق الإنسان والشعوب، والمادة 6 من الاتفاقية الأوربية لحماية حقوق الإنسان، حيث تم التأكيد على أن المتهم يبقى بريئا ويجب تمتيعه بكافة الضمانات القانونية إلى أن تتبث إدانته قانونا في إطار محاكمة عادلة، ومن نتائج هذا المبدأ أن الشك يفسردوما لفائدة المتهم[4].

وبما أن الأصل في الإنسان البراءة فإنه عند حصول الشك في إدانته يتعين ترجيح كفة البراءة وذلك طبقا للقاعدة الفقهية التي تنص على أن ” اليقين لا يزول بالشك “.  ويقول رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم ” ادرأوا الحدود بالشبهات فان كان للمسلم مخرج فخلوا سبيله فان الإمام يخطئ في العفو خير له من أن يخطئ في العقوبة”.

لذلك فان مبدأ قرينة البراءة يعتبر إختبارا حقيقيا لمدى إحترام أجهزة العدالة للمشتبه فيه أو المتهم، فيجب أن تستحضر دائما فرضية براءته إلى أن يتم إدانته بمقرر يصدر عن المحكمة المختصة بصورة عادلة ونزيهة، ويكتسب الحكم قوة الشيء المقضي به، وتتوفر فيه كافة الضمانات القانونية المتعارف عليها ، ويترتب عن الإخلال بها بطلان المسطرة، وبالتالي فكل مساس ببراءة المتهم تعرض صاحبها للمسائلة القضائية و أي إجبار للشخص على تجريم نفسه يشكل خرقا لمبدأ قرينة البراءة.[5]
كما أن مهمة أجهزا إنفاذ القانون لا تقتصر فقط على إثبات التهمة، فهي في النهاية أجهزة من أجهزة العدالة مهمتها الأصلية إثبات الحقيقة، ومن ثم ينبغي على هذه الأجهزة العدلية أن تتحرى عن هذه الحقيقة بكل وسائلها القانونية بالتدقيق والتحري وجمع الأدلة و التحقق مما إذا كانت هناك أدلة كافية يمكن أن تدحض أصل البراءة من عدمها.

ومبدأ قرينة البراءة يجب أن يكون حاضرا في كافة مراحل الدعوى، بدءا بالبحث التمهيدي ومرورا بالإستنطاق أمام النيابة العامة، فمرحلة التحقيق الإعدادي، وإنتهاء بمرحلة المحاكمة.

وبالتالي فمهما كانت قيمة الأدلة والقرائن فإن الحكم بالإدانة والحائز لقوة الشيء المقضي به وحده كفيل بنزع قرينة البراءة على المتهم.[6]

ويمكن أن نؤكد في هذا الصدد، أن مبدأ قرينة البراءة يشمل في حمايته كل الأشخاص ، سواء كانوا مشتبه بهم أو متهمين ، ولا فرق إن كانوا متهمين لأول مرة أو معتادين على الإجرام . وبالنسبة لجميع أنواع الجرائم سواء كانت جناية أم جنحة أم مخالفة،  مثلما يسري في الدعوى الجنائية يسري أيضا في إجراءات التأديب بالنسبة للموظفين ، وسواء كان الشخص متهماً أو مشتبه به.

إذن فحماية الحرية الشخصية التي كفلها الدستورلا يتسنى بلوغها إلا إذا افترضت براءة المتهم إلى أن تثبت إدانته في محاكمة عادلة تتوفر فيها كافة ضمانات القضاء العادل والنزيه.

الفقرة الثانية : مبدأ الشرعية كأهم ضمانة في المحاكمة العادلة

يعتبر مبدأ الشرعية ضمانا هاما من ضمانات الحرية الفردية والمحاكمة العادلة، ويعد من القيم التي يقوم عليها النظام الديمقراطي، ومن دعائم دولة القانون.

وإرتباطا بالسياق التاريخي فقد ظهر تطبيق هذا المبدأ لأول مرة في إنجلترا في العهد الأعظم، بعد ذلك سيرى النور في فرنسا وثم إقراره إثر قيام الثورة الفرنسية لحقوق الإنسان والمواطن في عام 1789 والذي نص في مادته 8 ” لا جريمة ولا عقاب إلا بنص” [7]، ويقوم مبدأالشرعية على دعامتين أساسيتن ألا وهما حماية الحرية الفردية وحماية المصلحة العامة، ويكتسي هذا المبدأ قيمة دستورية ببلادنا، فبالرجوع إلى الفقرة الأولى من الفصل 23 من الدستور نجده ينص على أنه ” لا يجوز إلقاء القبض على أي شخص أو متابعته أو إدانته إلا في الحالات وطبقا للإجراءات التي ينص عليها القانون “.وأصل هذا المبدأ في الشريعة الإسلامية قوله تعالى : “وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا” [8] وقوله عز وجل: “وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمتها رسولا يتلو عليهم آياتنا”. [9]

ونظرا لأهمية هذا المبدأ فقد كرسه المشرع  كذلك في الفصل الثالث من القانون الجنائي الذي جاء فيه ” لا يسوغ مؤاخذة أحد على فعل لا يعتبر جريمة بصريح القانون ولا معاقبته بعقوبات لم يقررها القانون”.  كما منح المشرع المغربي أهمية لهدا المبدأ من خلال جعله قاعدة دستورية تماشيا مع العديد من التشريعات الجنائية المعاصرة وجملة من الدساتير الحديثة ومع الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي جاء فيه ” لا يدان أي شخص من جراء فعل أو ترك، إلا إذا كان ذلك يعتبر جرما وفقا للقانون الوطني أو الدولي، وقت إرتكابه، وكذلك لا توقع عقوبة أشد من تلك التي كان يجب توقيعها وقت إرتكاب الجرم”.

من خلال كل ما سبق ذكره، نستشف أن السلوك مهما كان ضارا بالمجتمع لا يمكن إخضاعه لجزاء جنائي، ما لم يكون هناك نص صريح يجرمه ويحدد العقوبة المقررة له، لذا وجب على القاضي أن يحكم بالبراءة مهما كانت قيمة الفعل، يعني لا يكمن للقاضي أن يجرم أفعالا لم يجرمها القانون ولا يمكنه أن يعاقب بعقوبات لم يحددها القانون [10].

المطلب الثاني :الضمانات الدستورية للمحاكمة العادلة

يقصد بضمانات المحاكمة العادلة وضع مجموعة من الإجراءات المسطرية تعطي للمتهم وسائل كفيلة للحفاظ على حريته وعدم المساس بكرامته، وذلك لمقاومة الوسائل التي هي بيد رجال السلطة.[11]

في هذا الإطار أقرالمشرع الدستوري مجموعة من الضمانات، منها ما هو قانوني )الفقرة الأولى (ومنها ماهو قضائي )الفقرة الثانية(

الفقرة الأولى : الضمانات القانونية

لعل أهم الضمانات القانونية التي يتضمنها الدستور المغربي للمحاكمة العادلة نجدها في صلب تصديره الذي يشكل جزءا لا يتجزأ من الدستور، حيث تم إقرار ولأول مرة سمو المواثيق الدولية على القوانين الوطنية، من خلال : ” جعل الإتفاقيات الدولية، كما صادق عليها المغرب، وفي نطاق أحكام الدستور، وقوانين المملكة وهويتها الوطنية الراسخة، تسمو، فور نشرها، على التشريعات الوطنية، والعمل على ملائمة هذه التشريعات، مع ما تتطلبه تلك المصادقة”. يعني هذا أن أي حق منصوص عليه في المواثيق الدولية ويشكل تعارضا مع ما سبقت الإشارة إليه سوف لن يتم إعتماده.

كما جاء في تصديره على ما يلي : “وإدراكا منها لضرورة تقوية الدور الذي تضطلع به على الصعيد الدولي ، فإن المملكة المغربية العضو العامل النشيط في المنظمات الدولية ، تتعهد بالتزام ما تقتضيه مواثيقها من مبادئ وحقوق وواجبات ، وتؤكد تشبثها بحقوق الإنسان كما هي متعارف عليها عالميا” .

على هذا الأساس وفي نطاق أحكام الدستور، وقوانين المملكة وهويتها الوطنية الراسخة، أفرد المشرع الدستوري بابا خاصا للحقوق والحريات الأساسية، والتي تتضمن المساواة بين الرجل والمرأة في الحقوق والحريات المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية، والسعي نحو تحقيق المناصفة بين الرجل والمرأة ،والحق في الحياة الذي يعتبر أول حق لكل إنسان، وكذا الحق لكل فرد في سلامة شخصه وأقربائه وحماية ممتلكاته وعدم المس بسلامته الجسدية أو المعنوية، تجريم التعذيب والمعاملة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة، والإعتقال التعسفي أو السري أو الإختفاء القسري، وعدم إلقاء القبض أو إعتقال أي الشخص إلا وفق ما ينص عليه القانون، وإخبار أي شخص تم إعتقاله، بدواعي إعتقاله وحقوقه، منها الحق في إلتزام الصمت والإستفادة من المساعدة القانونية … [12]

والفصل السادس من الدستور بدوره أتى بضمانات مهمة في المحاكمة العادلة، حيث أقر بصريح العبارة على ” أن القانون يعتبر أسمى تعبير عن الأمة والجميع أشخاص ذاتيين أو إعتباريين بما فيهم السلطات العمومية متساوون أمامه وملزمون بالامتثال له” .

وعليه، فإذا كان القانون هو أسمى تعبير عن إرادة الأمة، فإنه وجب على الجميع من أشخاص ذاتيين أو إعتباريين، الإلتزام بمضامينه والإمتثال له. وعلى السلطات العمومية توفيرالظروف التي تمكن من تعميم الطابع الفعلي لحرية المواطنات والمواطنين، والمساواة بينهم، ومن مشاركتهم في الحياة السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية. كما يجب إحترام الإختيار الديمقراطي لأنه أصبح ثابتا من الثوابت الجامعة للأمة.

ويؤكد الفصل أعلاه في فقرته الأخيرة على أنه “تعتبر دستورية القواعد القانونية، وتراتبيتها، ووجوب نشرها، مبادئ ملزمة وليس للقانون أثر رجعي”.

الفقرة الثانية : الضمانات القضائية

تعتبر السلطة القضائية جزء لا يتجزأ من مكونات مؤسسات الدولة نظرا للأهمية الكبرى التي تكتسيها بفعل ضمانها سيادة القانون على الجميع، بمعنى أن السلطة القضائية هي المعول عليها لتوفير ضمانات المحاكمة العادلة والتي خول لها المشرع  حق البت في مصير الإنسان الإجتماعي ،وعليه كان من الضروري تكريس قضاء مسؤول و مستقل لكي تستقر الأوضاع الإنسانية وبهذا جاء في إعلان القاهرة المنبثق عن المؤتمر الثاني للعدالة العربية توضيح ذلك في التالي :” إن النظام القضائي المستقل يشكل الدعامة الرئيسية لدعم الحريات المدنية وحقوق الإنسان، وعمليات التطوير الشاملة، وبناء المؤسسات الديمقراطية.” [13]

إن إستقلال القضاء من أولويات سياسة صاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله، وقد دعا جلالته في أول خطاب للعرش سنة 1999 إلى ترسيخ دعائم دولة القانون وجعل إصلاح منظومة العدالة من بين أولويات ورش الإصلاح الشمولي للبلاد، وكان جلالته في كل مناسبة يركز على ضرورة إصلاح القضاء وجعله فعلا رافعة للنمو الإقتصادي والإجتماعي بالمملكة.

فلا شك أن الدستور المغربي، وإنطلاقا من مرجعياته، قد نص على إستقلالية القضاء مع إعترافه ولأول مرة بالسلطة القضائية كسلطة مستقلة عن باقي السلط حيث ثم الإرتقاء بالسلطة القضائية إلى سلطة قائمة الذات، مستقلة عن السلطتين التشريعية والتنفيذية، والملك هو الضامن لإستقلال السلطة القضائية كما جاء في الفصل 107.

ترتيبا على ذلك، فمن بين الضمانات القضائية التي جاء بها الدستور هو الإعتراف للسلطة القضائية بالإستقلال، حيث عزز هذا الإستقلال بالضمانة الملكية، وضمنت الطبيعة الدستورية للقواعد القانونية الخاصة بالسلطة القضائية إستقلال القضاة في ممارسة عملهم دون الخضوع لأي جهة أخرى، كما جاء في الفصل 109 من الدستور، ومنع إصدار الأوامر أو التعليمات للقاضي بخصوص القضايا المعروضة عليه، وأن يكون عمله خالصا وخاضعا لما يمليه عليه القانون والضمير دون أي تدخل أو ضغط من شأنه أن يعرقل أو يعترض عن أحكامه أو المساس بالاختصاص الأصلي للقضاء ألا وهو الفصل في المنازعات.

كما ينص الفصل109 من الدستورعلى أن القاضي يجب عليه إشعار المجلس الأعلى للسلطة القضائية بكل ما يهدد إستقلاله، كما يعد كل إخلال من القاضي بواجب الإستقلال والتجرد خطأ مهنيا جسيما، بصرف النظر عن الصفة الجرمية التي يمكن أن يتصف بها ، وكان الدستور واضحا حين نص في الفقرة الأخيرة من نفس الفصل على أنه يعاقب القانون كل من حاول التأثير على القاضي بكيفية غير مشروعة.

ومن الضمانات كذلك توسيع إختصاصات المجلس الأعلى السلطة القضائية من خلال إنفراد المجلس بالسهر على تطبيق جميع الضمانات الممنوحة للقضاة ولا سيما فيما يتعلق بالإستقلال والتعيين والترقية والتقاعد والتأديب، وخول له المشرع حق إصدار التوصيات الملائمة لوضعية القضاء ومنظومة العدالة بصورة تلقائية مع جعل منه جهة إستشارية بخصوص كل مسألة تتعلق بالعدالة كلما طلب ذلك جلالة الملك أو الحكومة أو البرلمان.

وتنوع تشكيلته ليشمل شخصيات قضائية وحقوقية، وقضاة منتخبين، وحسب الفصل 115 من الدستور يتألف المجلس من عشرين عضوا، على الشكل التالي :

الرئيس الأول لمحكمة النقض، رئيسا منتدبا

والوكيل العام للملك لدى محكمة النقض

رئيس الغرفة الأولى بمحكمة النقض

أربعة ممثلين لقضاة محاكم الإستئناف

ستة ممثلين لقضاة محاكم أول درجة

ويجب ضمان تمثيلية النساء القاضيات من بين الأعضاء العشرة المنتخبين

الوسيط، رئيس المجلس الوطني لحقوق الإنسان، وخمس شخصيات يعينها الملك، مشهود لها بالكفاءة والتجرد والنزاهة، والعطاء المتميز في سبيل استقلال القضاء وسيادة القانون، من بينهم عضو يقترحه الأمين العام للمجلس العلمي الأعلى.

هنا بطبيعة الحال لا مناص من الرجوع إلى مقتضيات الدستور، حيث ينص الفصل110  على أنه: ” لا يلزم قضاة الأحكام إلا بتطبيق القانون ولا تصدر أحكام القضاء إلا على أساس التطبيق العادل للقانون .

يجب على قضاة النيابة العامة تطبيق القانون. كما يتعين عليهم الالتزام بالتعليمات الكتابية القانونية الصادرة عن السلطة التي يتبعون لها  “.

ومن خلال إستقراء النص يجب أن يتم الفصل في كل النوازل المعروضة على السلطة القضائية التي تطبق القانون من خلال الأحكام التي يصدرها القضاة في المحاكم، وفقا للقانون ودون أي تقييدات أو تأثيرات أو أي ضغوطات أو تهديدات أو تدخلات من أية جهة أو لأي سبب من الأسباب وبأية وسيلة من الوسائل. وبالتالي فإذا كان القضاء هدفه هو تحقيق العدالة فإن إستقلاله هو عماد وجوده.

ولمزيد من الإيضاح فإستقلال المحكمة يتجلى في أمرين إثنين: أولا إستقلال القضاء كسلطة عن سلطات الدولة الثلاث، حيث لا تسمح لأية جهة كيفما كان نوعها في التدخل في شؤونها، سواء عن طريق إصدار أوامر أو إعطاء تعليمات أو وضع مقترحات تتعلق بتنظيمها، ثانيا تمتع القضاة كأفراد موكولة اليهم أمر البث في الملفات التي تعرض عليهم بنوع من الحياد والإستقلال وعدم التأثر أو الخضوع لأية جهة كيفما كانت، وأن يكون خضوعهم لسلطة القانون فقط، لكون عمل القاضي يسير في سبيل إقرار الحق و العدل خاضعا لما يمليه عليه القانون و ضميره،[14] لأن القاضي كما جاء في الفصل 117 من الدستور يتولى حماية حقوق الأشخاص والجماعات وحرياتهم وأمنهم القضائي، وتطبيق القانون.

علاوة على ذلك، وتفعيلا للمقتضيات الدستورية المتعلقة بالإستقلال المؤسساتي للسلطة القضائية فقد تم نقل سلطة رئاسة النيابة العامة من وزارة العدل المنتمية للسلطة التنفيذية إلى الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض التي تنتمي للسلطة القضائية. وقد شكل هذا الإنتقال دعامة أساسية لإستقلال السلطة الفضائية وضمانا لتحقيق العدل والإنصاف والمساواة، وغايته المثلى هو إبعاد كل تأثير على القضاة من شأنه المس بالتطبيق السليم للقانون ومبادئ العدالة.

ويبقى أهم ضمانة قضائية مخولة للمتهم هي تحمل الدولة التعويض لكل متضرر عن الأخطاء القضائية التي قد ترتكب في حقه، كما نص على ذلك الدستور في الفصل 122 .وخدمة للمحاكمة العادلة، فقد أصبحت المحكمة الدستورية تنظر في كل دفع متعلق بعدم دستورية قانون أثير أثناء محاكمة ما، بخاصة عندما يتعلق الأمر بالمس بالحقوق والحريات التي يضمنها الدستور، كما جاء في الفصل 133 من الدستور.

المطلب الثالث : دور التشريع الجنائي المسطري في توفير المحاكمة العادلة

يعتبر الحق في المحاكمة العادلة من الحقوق الأساسية للإنسان، تقوم على توافر مجموعة من الإجراءات التي تتم بها الخصومة الجنائية في إطار حماية الشخص من كل ما من شأنه المس بحريته و كرامته و شخصيته، فقد تم التنصيص عليه في قانون المسطرة الجنائية بهدف حماية المتهم من كل التجاوزات اللاقانونية وتمتيعه بكافة الضمانات قبل بداية المحاكمة (الفقرة الأولى )، وأثناء المحاكمة وبعدها (الفقرة الثانية).

الفقرة الأولى : ضمانات المحاكمة العادلة قبل المحاكمة

سبق وأن قلنا أن المحاكمة العادلة كضمانة قانونية تخص جميع المراحل سواء تعلق الأمر بالبحث التمهيدي الذي يتم من طرف الشرطة القضائية، أو بالإستنطاق أمام النيابة العامة أوأثناء التحقيق الإعدادي.

ويقصد بالبحث التمهيدي مرحلة التثبت من وقوع الجريمة وجمع الأدلة عنها والبحث عن مرتكبيها وهي مرحلة تسبق التحقيق والمحاكمة [15]، ينجز من طرف الشرطة القضائية، بناءا على تعليمات النيابة العامة أو تلقائيا.

وعليه يمكن تعريف البحث التمهيدي بأنه البحث الذي تقوم به الشرطة القضائية في غير الحالات المنصوص عليها في المادة 56 من ق.م.ج[16]، تبقى الكلمة فيه لضباط الشرطة القضائية ومساعديهم وللنيابة العامة ولقاضي التحقيق.

وجاءت المادة 66 من ق.م.ج التي إستمدت روحها من الفصل 23 من دستور 2011 بمجموعة من الضمانات، بحيث أصبح ضباط الشرطة ملزمين بالتقيد بها، ومنها إطلاع المتهم وإشعاره بكيفية يفهمها، على دواعي وأسباب إعتقاله والأفعال المنسوبة إليه، وعلى حقوقه ومنها :

الحق في الإتصال بأحد أقربائه.

الحق في معاملة إنسانية وعدم اللجوء إلى تعذيبه أثناء إستنطاقه تمهيديا.

الحق في التزام الصمت والإستعانة بمترجم إذا كان يتحدث لغة أو لهجة لا يحسنها ض ش ق أو الإستعانة بكل شخص يحسن التخاطب مع المعني بالأمر إذا كان أصما أو أبكما.

الحق في إتصال بالمحامي أو طلب تعيينه في إطار المساعدة القضائية.

الحق بالعلم بجميع أدلة الإثبات القائمة ضده ومناقشتها.

الحق في الإطلاع على المحضر وقراءته قبل التوقيع عليه.

الحق في الإستعانة بالشهود، وعدم تفتيش منزله إلا وفق ما ينص عليه القانون، ناهيك عن حقه في عرضه على طبيب لإجراء فحص طبي إذا كان يحمل جروحا أو تظهر عليه آثار العنف على جسده أو تبدوا عليه أعراض مرضية.

وبما أن النيابة العامة تعتبرركنا أساسيا من أركان السلطة القضائة التي أوكل إليها المشرع مهمة التطبيق السليم للقانون والدفاع عن مصالح المجتمع، فإنها ملزمة بتوفير جميع الضمانات القانونية عند مثول المتهم أو المشتبه فيه أمامها ، وذلك بعدم اللجوء إلى إيداعه بالسجن إلا عند الضرورة القصوى، يعني إلا إذا تعلق الأمر بمجرم خطير قام بفعل من شأنه المس بالمجتمع،  كما يجب على ممثل النيابة العامة عرض المتهم على الطبيب، كلما تطلب الأمر ذلك، وإلزامية مؤازرة المحامي.

إلى جانب الضابطة القضائية والنيابة العامة المكلفين بالتحري عن الجرائم نجد قاضي التحقيق باعتباره السلطة الثالثة المكلف بالتحري عن الجرائم، وتسمي هذه المرحلة بالتحقيق الإعدادي التي تتوسط البحث التمهيدي ومرحلة المحاكمة، ومن ضماناتها نذكر:

حق المتهم في عدم الإدلاء بأي تصريح عند مثوله أول مرة أمام قاضي التحقيق إلا بحضور محاميه، وذلك لتجنب إنتزاع الاعتراف بالضغط و الإكراه.
الحق في إختيار محام لمؤازرته أو إختياره في إطار المساعدة القضائية، والإتصال به بكل حرية.

الحق في التعرف على الأفعال المنسوبة إليه، وألا يستمع إليه ولا يواجه بالطرف المدني إلا بحضور المحامي.

الحق في أن يوضع ملف قضيته رهن إشارة محاميه في أجل معقول.

 الحق في طلب سحب قضيته من قاضي التحقيق المسندة إليه وإحالتها على الغرفة الجنحية بمحكمة الإستئناف، مع إعتبار الإعتقال الإحتياطي تدبيرا إستثنائيا.

الفقرة الثانية : ضمانات المحاكمة العادلة أثناء المحاكمة وبعدها

مما لاريب فيه أن المشرع المغربي منح للمتهم ضمانات كثيرة ومتعددة أثناء المحاكمة، حفاظا على حقوقه وحرياته الأساسية وسعيا للوصول الى محاكمة عادلة تراعى فيها كافة الشروط المنصوص عليها قانونيا، ومن أبرزها تسريع إحالة المتهم على هيئة الحكم، ومحاكمته أمام محكمة مختصة مستقلة ونزيهة، تصدر حكما عادلا يوافق أحكام القانون الذي يقر حقوق الإنسان و حرياته مع توفير الضمانات له في الحق في الدفاع التي تعد من المطالب الأساسية في المحاكمة العادلة.

ولا ننسى الحق في محاكمة علنية بتمكين الجميع من حضور جلسات المحاكمة وسماع ما يدور فيها من نقاشات و مرافعات، ومن أجل تزكية هذه الضمانات، كان إلزاما أن تتم إجراءات المحاكمة بشكل شفوي تمكن للمتهم من الإلمام بالأدلة المقدمة ضده.

ويضاف إلى ما سبق، أن يتم الإستماع للشهود داخل المحكمة وأمام هيئة الحكم ناهيك عن الإستعانة بالترجمة إذا كان لا يدرك لغة العمل في المحكمة.

وأهم شيء هو أن المحكمة إذا رأت وسائل الإثبات غير قائمة ألزمها القانون بعدم الإدانة و الحكم بالبراءة على المتهم الذي كان متابع من قبلها.

كما أن المتهم ترافقه مجموعة من الضمانات حتى بعد المحاكمة، من خلال الإمكانية المخولة له وللنيابة العامة والمطالب بالحق المدني في الطعن في الحكم الصادر ضده بالطرق العادية وغير العادية ، والحق في التمتع بظروف التخفيف بالآخد بعين الإعتبار الظروف الإجتماعية وعدم سوابقه القضائية.

لا بد من التذكير هنا أن المشرع أوكل للنيابة العامة صلاحيات السهر على تنفيذ العقوبات الجنائية وخول لها إلى جانب قاضي تنفيذ العقوبة، قاضي التحقيق، ورئيس الغرفة الجنحية بزيارة المؤسسات السجنية لمراقبة ظروف الإعتقال وظروف تنفيذ العقوبات السالبة للحرية، من أجل حماية وصيانة كرامة الإنسان.[17]

وللنهوض بفئة السجناء التي شاءت الأقدار أن تجعلهم داخل أسوار السجون، تم إحداث مؤسسة محمد السادس لإعادة إدماج السجناء بتعليمات ملكية، التي منذ إحداثها وهي تقوم بالدور المنوط بها المتمثل في حماية وإحترام حقوق السجناء وصون كرامتهم وتسهيل إندماجهم داخل المجتمع بعد الإفراج عنهم. وقد أعطت هذه المؤسسة أكلها لا سيما في ميادين التربية والتكوين المهني والصحة والأنشطة الثقافية والرياضية.

بموازاة مع ذلك، قال صاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله بمناسبة إفتتاح السنة القضائية 29 يناير 2003 بأكادير « إن ما نوليه من رعاية شاملة للبعد الاجتماعي في مجال العدالة لا يكتمل إلا بما نوفره من الكرامة الإنسانية للمواطنين السجناء التي لا تجردهم منها الأحكام القضائية السالبة للحرية.
… بموازاة مع الإصلاح المتقدم الذي شمل قانون السجون و برنامج العمل الطموح الذي نسهر على أن تنهض به مؤسسة محمد السادس إعادة إدماج نزلاء المؤسسات السجنية فقد أصدرنا تعليماتنا قصد الإسراع ببناء مركبات سجنية عصرية مدنية و فلاحية و الإعتناء بالظروف المادية و المعنوية للسجناء. »

وتجسد هذه المبادرات رؤية جلالة الملك محمد السادس نصره الله الرامية إلى تعزيز أمن المجتمع ومحاربة الإنحراف، وحرص جلالته على إحترام قيم العدالة وحقوق الإنسان.

 

خاتمة :

فالذي لا شك فيه أن المغرب قد ساير إلى حد بعيد المواثيق و المعاهدات و الإتفاقيات الدولية من خلال جعل السلطة القضائية سلطة قائمة الذات مستقلة عن السلطتين التنفيذية والتشريعية، تتولى مهمة أمر تطبيق القانون، والقيام بتنزيل الحق في المحاكمة العادلة على مستوى التشريع الأساسي (الدستور)والتشريع الجنائي الشكلي (قانون المسطرة الجنائية)، وتعزيز منظومة حقوق الإنسان كما هي متعارف عليها دوليا، وضمان التمتع بهذه الحقوق والحريات الفردية والجماعية في أجواء أمنة وعادلة، سواء تعلق الأمر بالجيل الأول من هذه الحقوق والمتمثل في الحقوق المدنية والسياسية أو الجيل الثاني المتمثل فيه الحقوق الإقتصادية والإجتماعية والثقافية أو الجيل الثالث الذي يهم العيش في بيئة سليمة، مع وضعه مجموعة من المبادئ لتأطير مفهوم المحاكمة العادلة وعمل على تقويتها بمجموعة من الضمانات حتى لا يتم خرقها أوإنتهاكها.

droitetentreprise.com


اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

x

‎قد يُعجبك أيضاً

الحكم الجنائـي عدد 788 س 13

         الحكم الجنائـي عدد 788 س 13 الصادر في 4 يونيو 1970 ...