مقدمة
يتبين من تشخيص حالة القانون الجنائي في الحقبة المعاصرة أن التطور الذي يشهده هذا القانون يسير في اتجاه التوسع المتزايد باستمرار في نطاق تدخله والتحول العميق في بنائه الداخلي والذي بلغ حداً أصبح معه الحديث سائغاً عن “التغيير في النموذج الإرشادي” بالمعنى المحدد لهذه العبارة في حقل تحليل بنيات الثورات العلمية.
ولعل أبرز ملامح هذا التغيير هي التي أمكن رصدها انطلاقا من الزوايا الثلاثة الآتية: ظهور نماذج جديدة لتبرير مشروعية هذا القانون من جهة، وصياغة جديدة لجملة من المفاهيم الكلية والمبادئ الأساسية من جهة ثانية، ورسم حدود جديدة للسياسة الجنائية التي ينبغي لهدا القانون أن يعمل في إطارها من جهة ثالثة.
صحيح أن القضايا والإشكلات المثارة في هذا النطاق تمتاز بالتباين والاختلاف، إلا أننا نشاطر الرأي الذي يقول بأن الخيط الرابط فيما بينها إنما يتمثل في النقاش الدائر حول “مبدأ تقييد التدخل الجنائي بالحد الأدنى وإحاطته بأكبر قدر من الضمانات القانونية”.
في خضم هذا النقاش، وفي إطار استشراف آفاق تطور القانون الجنائي في المستقبل المنظور، تترسخ لدى اتجاه عريض من الفقه المعاصر قناعة مفادها أن ثمة انشطاراً حقيقياً تشهده منظومة هذا القانون: فلئن كانت النواة المركزية تسودها الضمانات القانونية التقليدية بجوانبها الموضوعية والإجرائية معاً وتخضع للتقييد بالحد الأدنى كمبدأ موجه للسياسة الجنائية، فإن أطرافها المحيطة التي تجسدها الاتجاهات التجريمية الجديدة يحكمها منطق مضاد قوامه التدخل بالحد الأقصى والسعي نحو ابتداع تقنيات وأنماط غير مسبوقة رعاية لمصالح معينة لا تمت إلا بأوهن الصلات إلى فئة المصالح الفردية والاجتماعية التقليدية.
وعليه لا يختلف اثنان في كون أن المسؤولية الجنائية[1] هي ذلك الأثر القانوني المترتب عن الجريمة كواقعة قانونية والتي لا تقوم إلا على أساس تحمل الفاعل للجزاء
الجنائي الذي تفرضه هذه القواعد القانونية عند خرق مقتضياتها، وما هي في حقيقة الأمر إلا تدابير الدولة القسرية التي تنطوي على مصادرة الحرية الشخصية أو الإنقاص من الذمة المالية بموجب حكم قضائي ولهذا فهي التزام مرتكب الجريمة بتحمل العقاب عند تحقق كل عناصر هذه الأخيرة[2].
هذا ويمكن القول على أن من هو في وضعية الخضوع للمسؤولية الجنائية قد يكون شخصا طبيعيا –ذاتيا- وقد يكون شخصا معنويا –اعتباريا-، بحيث مضى الزمن الذي كان فيه ارتكاب الجريمة مقتصرا على الأشخاص الطبيعية وحدها، من منطلق حرية إدراكها وتمييزها، إلا أن النظرة الصحيحة للجريمة أصبحت تفرض ذاتها أمام كثرة الأشخاص المعنوية وتشتتها على أكثر من مجال علمي ومصلحي[3] ساهمت فيه بشكل كبير التطورات الاقتصادية والصناعية والتجارية والخدماتية، والتي تتعارض مصالحها وترى في الاعتداء على الغير مصلحة لها وهو ما يشكل في ثناياه مجموعة من الأفعال الجرمية[4]، خصوصا إذا علمنا أن الأشخاص المعنوية في بلادنا عرفت نموا وتطورا كبيرين إن على المستوى الكمي أو النوعي.
وجدير بلفت الانتباه إلى أن الأشخاص المعنوية أو الاعتبارية ما هي إلا مجموعة من الأشخاص أو مجموعة من الأموال والتي ترمي إلى تحقيق غرض معين ويعترف لها القانون بالشخصية القانونية باعتبارها شهادة الميلاد، ولها كيان مستقل عن شخصية المكونين لها أو الناطقين باسمها أو لمصلحتها ويضيف الفقيه الفرنسي ميشو في هذا الإطار: “إن الأشخاص المعنوية هي أشخاص ليست بكائنات إنسانية ورغم ذلك تتوفر على الأهلية القانونية والتي مفادها القدرة على الحيازة وتحمل الالتزامات نتيجة كل تصرفاتها المشروعة أو غير المشروعة[5].
ومن ثمة فإنه إذا ما خالف الشخص المعنوي الغاية والغرض الذي أنشأ من أجله وكان الغرض غير مشروع أو مخالف للنظام العام أو الآداب العامة تقوم معه المسؤولية الجنائية لهذا الأخير.
ومن ثمة تأتي لنا مشروعية التساؤل حول ماهية المسؤولية الجنائية للأشخاص المعنوية بصفة عامة؟
وما هو موقف الفقه والتشريعات من المسؤولية الجنائية للأشخاص المعنوية؟
وما هي القواعد الخاصة وشروط قيام مسائلة الأشخاص المعنوية جنائيا؟
وما هي الجزاءات المترتبة عن قيام المسؤولية الجنائية للأشخاص المعنوية؟
وهذه وتلكم للنقاش تدور رحاها في فلك الموضوع، ولمحاولة الإجابة عنها لابد أن نتناول بالتحليل المبسط عناصر التصميم التالي:
المبحث الأول:الجدل الفقهي والتشريعي حول المسؤولية الجنائية للأشخاص المعنوية
المطلب الأول:موقف الفقه من المسؤولية الجنائية للأشخاص المعنوية
الفقرة الأولى:الاتجاه المعارض لمسؤولية الأشخاص المعنوية جنائيا
أولا: في مجال التجريم
ثانيا: في مجال العقاب
الفقرة الثانية: الاتجاه المؤيد لمسؤولية الأشخاص المعنوية جنائيا
أولا: الرد على حجج الرأي المعارض
ثانيا: مبررات تقرير المسؤولية الجنائية للأشخاص المعنوية
المطلب الثاني: موقف التشريعات من المسؤولية الجنائية للأشخاص المعنوية
الفقرة الأولى: موقف بعض القوانين الأجنبية من المسؤولية الجنائية للأشخاص المعنوية
أولا: التشريع الفرنسي والبلجيكي
ثانيا: التشريع المصري والعراقي
الفقرة الثانية:موقف المشرع المغربي من المسؤولية الجنائية للأشخاص المعنوية
أولا: مسؤولية الشخص المعنوي جنائيا في المجموعة الجنائية
ثانيا: مسؤولية الشخص المعنوي جنائيا في بعض القوانين الخاصة
المبحث الثاني: قواعد تنظيم المسؤولية الجنائية للأشخاص المعنوية
المطلب الأول: القواعد المتعلقة بمسؤولية الأشخاص المعنوية جنائيا
الفقرة الأولى: مجال تطبيق المسؤولية الجنائية للأشخاص المعنوية
أولا: الأشخاص المعنوية المسؤولة جنائيا
ثانيا: الجرائم التي يسأل عنها الشخص المعنوي جنائيا
الفقرة الثانية: شروط قيام المسؤولية الجنائية للأشخاص المعنوية
أولا: ارتكاب الجريمة من شخص طبيعي ممثل للشخص المعنوي
ثانيا: ارتكاب الجريمة لحساب الشخص المعنوي
المطلب الثاني: الجزاءات التي تقع على الأشخاص المعنوية
الفقرة الأولى: الجزاءات المطبقة على الأشخاص المعنوية في التشريعات المقارنة
أولا: في فرنسا
ثانيا: في بعض التشريعات العربية
الفقرة الثانية: الجزاءات المطبقة على الأشخاص المعنوية في التشريع المغربي
أولا: العقوبات المالية والإضافية
ثانيا: التدابير الوقائية العينية
المبحث الأول:الجدل الفقهي والتشريعي حول المسؤولية الجنائية
للأشخاص المعنوية
إذا كان الاعتراف بوجود الأشخاص المعنوية قد أصبح أمرا واقعيا ومسلما به في مختلف القوانين المقارنة إلا أن فكرة المسؤولية الجنائية للأشخاص المعنوية خضعت لجدال فقهي كبير من حيث قبول هذه المسؤولية أو رفضها ومنطلق ذلك هو محاولة الجواب عن السؤال الفلسفي لماذا يسأل الشخص المعنوي جنائيا وهو لا يملك حرية الاختيار والتمييز والإدراك؟
المطلب الأول:موقف الفقه من المسؤولية الجنائية
للأشخاص المعنوية
يعتبر الفقه القانوني هو مجموعة من الآراء التي تضم أبحاث ودراسات الفقهاء في مختلف الميادين ومنها الجنائية بطبيعة الحال والتي تسهل الطريق أمام كل باحث بالحقل القانوني، لذلك فقد كان موضوع المسؤولية الجنائية للأشخاص المعنوية من ضمن المواضيع التي شكلت رقعة خصبة للجدل الفقهي من خلال الآراء المتعددة والمتباينة سواء بنفي أو تقرير هذه النوع من المسؤولية والتي يمكن أن نجملها في اتجاهين احدهما يعارض قبول فكرة المسؤولية الجنائية للأشخاص المعنوية واتجاه آخر يؤيد قبولها.
الفقرة الأولى:الاتجاه المعارض لمسؤولية الأشخاص المعنوية جنائيا
يرفض هذا الاتجاه بشكل قطعي فكرة المسؤولية الجنائية للأشخاص المعنوية والمدافعون عن هذا الرأي هم أصحاب الاتجاه الكلاسيكي ويستندون في تدعيم موقفهم إلى عدة مبررات يمكن حصرها في مجالين.
أولا: بالنسبة لمجال التجريم
إن المسؤولية الجنائية بحسب هذا الاتجاه تقوم من قبل الأشخاص الطبيعيين ممن لهم الإرادة والتمييز ما يجعلها قادرة على ارتكاب الجريمة في حين أن الأشخاص المعنوية هي مجرد افتراض قانوني وجدت لهدف تحقيق أغراض معينة وليس لها الإرادة اللازمة التي تتجه للارتكاب الأفعال المجرمة التي ينص عليها القانون وعليه تكمن مبررات هذا الاتجاه في رفض المسؤولية الجنائية للأشخاص المعنوية في مجال التجريم على ما يلي:
طبيعة الشخص المعنوي
يشكل هذا الاعتراض حجر الزاوية في رفض المسؤولية الجنائية للأشخاص المعنوية لاستحالة استناد الجريمة إلى شخص طبيعته القانونية مبنية على افتراض والمجاز فالشخص المعنوي غير موجود في الحقيقة ومن ثم لا يمكن أن يسأل جنائيا لأن الإرادة لابد منها لقيام المسؤولية الجنائية[6].
ويقول في هذا الإطار الدكتور الجندي عبد المالك أن الشخص الاعتباري هو شخص خيالي لا يستطيع أن يعمل بنفسه ووجوده لا يظهر بواسطة الممثلين له، فكيف يعاقب شخص خيالي لا وجود له ولا إرادة له إلا ممن يمثله؟ وبعبارة أخرى كيف توقع عقوبة على غير ارتكاب الجريمة؟[7].
إذن فوجود الشخص المعنوي وأهليته محددان بالغرض الذي من أجله رخص القانون بوجوده وقيامه ومن الصعب قبول أن يكون الغرض هو ارتكاب أفعال أو امتناعات عن أفعال مخالفة للقانون الجنائي؟
وبالتالي فالقول بتحميل الأشخاص المعنوية المسؤولية الجنائية هو ضرب من ضروب الخيال والقانون الجنائي لا يبني أحكامه على الافتراض أو المجاز أو الخيال وإنما يبنيها على الحقيقة والواقع[8]، بحيث أن تقرير مبدأ المسؤولية الجنائية للشخص المعنوي ما هو إلا إهدار لمبدأ شخصية العقوبة لان العقوبة تنصب على الأشخاص الآدميين المكونين للشخص الاعتباري وقد يكون من بينهم من لم يشترك في الجريمة.
افتقاد الشخص المعنوي للإرادة
إن الشخص المعنوي غير قادر بحكم طبيعته المجازية على فهم ماهية سلوكه وتقديره ما يترتب عنه من نتائج كما لا يمكنه توجيه سلوكه إلى ارتكاب فعل مجرم بحد ذاته ولا يمكنه قبول عناصر الجريمة لأن مختلف هذه العناصر هي مرتبطة بذهن ونفسية مرتكبيها وهي من الخصائص المميزة للإنسان وحده دون غيره، وعليه فإن افتقار الشخص المعنوي للإرادة يجعل من المستحيل إسناد الجريمة إليه سواء من الناحية المادية أو المعنوية ولا يمكن أن يتصور ارتكاب الشخص المعنوي للركن المادي لأي جريمة باعتبار أن الإرادة يجب أن تكون هي سبب السلوك الإجرامي، كما انعدام الإرادة لدى الشخص المعنوي يجعل من غير المتصور توافر الركن المعنوي لديه سواء في صورة القصد العمد أو الخطأ، لأن هذا الركن يتطلب الإرادة ومنطلقنا في ذلك هو أن الركن ما هو إلا تلك العلاقة بين ماديات الجريمة ونفسية مرتكبيها، وهذه الأخيرة لا يمكن أن تتوفر إلا للأشخاص الطبيعيين[9].
مبدأ التخصص يحول دون مسائلة الشخص المعنوي جنائيا
يذهب هذا الاتجاه المعارض لمسؤولية الشخص المعنوي جنائيا في إسناده على هذه الحجة إلى القول بأن وجود هذا الشخص مرهون بغرض تحقيق وإنجاز أهداف معينة ومحددة بالإذن الذي منح من أجله الشخصية الاعتبارية لوجوده وقيامه حين لا يتصور وجوده خارج هذا النطاق المسطر له من طرف القانون.
وهو ما يعبر عنه بمبدأ التخصص بحيث ينعدم هذا الوجود إذا ما خالف الغرض من إنشائه فالشخص المعنوي تتحدد أهليته القانونية بالأنشطة التي تستهدف تحقيق أغراضه المشروعة وليس من بين هذه الأنشطة ارتكاب الجرائم فإذا ارتكب ممثلوه هذه الجريمة باسمه ولحسابه الخاص استحال نسبة هذه الجريمة إليه والقول بغير ذلك، معناه الاعتراف به في مجالات تخرج عن الغرض الذي تخصص فيه أو أنشئ من أجله[10].
ثانيا: في مجال العقاب
يرفض هذا الاتجاه تحميل المسؤولية الجنائية للأشخاص المعنوية وذلك لاستحالة تطبيق العقوبات الموجودة في القوانين الجنائية كونها عقوبات موجهة للأشخاص الطبيعية فضلا أن في تطبيق هذه العقوبات إهدار لمبدأ شخصية العقوبة.
طبيعة العقوبات الجنائية
هناك مجموعة من العقوبات المقررة في القوانين الجنائية التي لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تطبق على الأشخاص الاعتبارية من قبيل العقوبات السالبة للحرية سواء كانت مؤبدة أو محددة بالإضافة إلى عقوبة الإعدام، كذلك هي الأخرى لا يمكن أن تطبق على الأشخاص المعنوية لأن طبيعة هذه العقوبات تطبق فقط على الأشخاص الطبيعيين، وفقا لقواعد المنطق ورجوعا إلى نواميس الطبيعة، كما أنه في حالة إعسار الشخص المعنوي لا يمكن اللجوء في حقه إلى مسطرة الإكراه البدني[11].
وجدير بلفت الانتباه إلى أنه في حالة وجود العقوبات الحبسية والغرامات فإن القاعدة العامة هي أن القاضي له الاختيار بين العقوبات السالبة للحرية وبين الغرامة، إلا أن حقيقة الأمر في هذا الخيار ينعدم بالنسبة للشخص المعنوي لأن القاضي لا يمكنه اختيار تطبيق العقوبات السالبة للحرية ويكتفي فقط بالغرامة وهذا فيه إخلال بمبدأ المساواة في العقوبة[12].
الإخلال بقاعدة شخصية العقوبة
يرى المعارضون لمبدأ مسؤولية الأشخاص المعنوية جنائيا أن الاعتراف بهذه المسؤولية فيه إهدار لقاعدة أساسية في القانون الجنائي وهي قاعدة شخصية العقوبة والتي تتضمن وجوب حصر الجزاء الجنائي في الشخص المحكوم عليه دون سواه، مما يترتب عليه حضر ملاحقة أي شخص مهما كانت درجة قرابته بالمحكوم عليه ما لم يكن فاعلا أصليا للجريمة أو مساهما أو مشاركا فيها[13].
ويؤدي تحميل الشخص المعنوي مسؤولية الجرائم التي يرتكبها ممثلوه إلى توقيع العقوبات المقررة عليه وفي ذلك إخلال بمبدأ شخصية العقوبة، لأن العقوبات التي تقع على الشخص المعنوي لن يقتصر إيلامها على من ارتكب الأفعال غير المشروعة وإنما يمتد إلى غيرهم من الأشخاص الذين يكونون الشخص المعنوي أو تكون لهم مصالح فيه وهؤلاء لم يساهموا في ارتكاب الجريمة، وقد يكون من بينهم من عارض على ارتكابها دون أن يمكنه الظروف من منعها[14].
وعليه فإن هذه العقوبة ستصيب كل أعضاء الشخص المعنوي دون تمييز بين الذين أرادوا الفعل الغير المشروع والذين لم يريدوه، والذين كان لهم السلطة لمنعه والذين لم يكن لديهم تلك السلطة، وبالتالي فإن هذا الرأي يخلق نوع شاذ من المسؤولية الجنائية التي لا تتفق والمبادئ المقررة في القانون الجنائي في كون أن المسؤولية الجنائية هي مسؤولية شخصية[15].
عدم نفعية العقوبة بالنسبة للشخص المعنوي
يرى أنصار هذا الاتجاه أن تطبيق العقوبة على الشخص المعنوي هو أمر غير نافع وغير مجدي، وذلك لكونها لا تحقق أهم الأغراض العقوبة المتمثلة في إصلاح المحكوم عليه، في إعادة تأهيله وإعادة إدماجه داخل المجتمع فهذه الأغراض لا يمكن أن تحقق إلا بالنسبة للإنسان، لما يتمتع به من إرادة وضمير، وهو ما يجعل تطبيق العقوبات عليه أمرا نافعا في تقويمه و إصلاحه، في حين أن تطبيق العقوبات على الشخص المعنوي لا يتعدى نطاق الصورية، وحتى إذا سلمنا بأقصى العقوبات التي تطبق على الأشخاص المعنوية هي الحل، فإنه يستطيع إنشاء شخص معنوي آخر بدلا عنه تحت اسم آخر ما لم يقرر القانون خلاف ذلك، وهو ما لا يتوافق مع أغراض العقوبة والمتمثلة في الردع الخاص والردع العام[16].
وبالتالي فإن القول بمعاقبة الشخص المعنوي تؤدي إلى ردعه وتخويفه ودفعه إلى إتباع الطريق القويم فيه نوع من المبالغة والسخرية، ولذلك يذهب البعض إلى القول بأن الشخص المعنوي وإذا كان يمكنه ارتكاب الجرائم إلا أنه ليس أهلا لتوقيع عليه شأنه في ذلك شأن عديمي الأهلية.
الفقرة الثانية: الاتجاه المؤيد لمسؤولية الأشخاص المعنوية جنائيا
يتجه الفقه الحديث إلى المطالبة بتقرير المسؤولية الجنائية للأشخاص المعنوية مفندا مختلف حجج المعارضين، على أساس أنها حجج واهية وتقليدية تفتقد للدقة والموضوعية، سيما أمام كثرة الأشخاص المعنوية وازدياد خطرها على المجتمع.
أولا: الرد على حجج الرأي المعارض
يذهب هذا الاتجاه في الفقه الجنائي الحديث إلى الاعتراف بالمسؤولية الجنائية للأشخاص المعنوية وذلك من خلال مجموعة من الحجج نجملها فيما يلي:
الأشخاص المعنوية: هي حقيقة لا سبيل إلى إنكارها وأن حماية مصالح المجتمع من الاعتداء عليها من طرف هذه الفئة من الأشخاص القانونية يقتضي ضرورة الاعتراف بتلك المسؤولية الجنائية[17]، بحيث أن طبيعة الأشخاص المعنوية لا تتناقض مع تقرير مسؤوليته الجنائية، بحيث أن طبيعة الأشخاص المعنوية لا تتناقض مع تقرير مسؤوليته الجنائية انطلاقا من مصالحه الخاصة وذمته المالية لمستقلة، فالقانون اعترف لها بأهلية التعاقد وهذه الأهلية يستمدها من أهلية ممثليها القانونيين أي من إرادة الأشخاص الطبيعية المكونة للشخص المعنوي.
مبدأ التخصص لا يحول دون مساءلة الشخص المعنوي جنائيا: إن القول بأن الوجود القانوني للشخص المعنوي ينتفي في حالة قيامه بعمل يحيد عن الغاية التي أنشئ من أجلها قول غير صحيح، فكون ارتكاب الجرائم من طرف الأشخاص ليس مبررا لعدم مسائلتها جنائيا، فإذا ما ارتكب الشخص المعنوي فعل غير مشروع فإن هذا لا يؤدي إلى زوال وجوده القانوني بمفهوم المخالفة.
إن تطبيق العقوبات على الأشخاص المعنوية: هي أمر مسلم به ما دام أن هناك عقوبات بديلة تتناسب مع الشخص المعنوي كوقف النشاط أو الحل أو الغرامة.
أما القول بأن العقوبات السالبة للحرية لا تطبق على الأشخاص المعنوية، فكذلك هو الحال، إذ لا تطبق عقوبة الحل أو وقف النشاط على الأشخاص الطبيعية، فالأمر والحالة مرتبط ارتباطا عضويا بطبيعة العقوبة ومدى ملائمتها للشخص المطبقة عليه لا أقل ولا أكثر.
عدم وجود أي تعارض بين المسؤولية الجنائية للشخص المعنوي ومبدأ شخصية العقوبة: إن تقرير المسؤولية الجنائية للشخص المعنوي ليس فيه مساس بمبدأ شخصية العقوبة، ذلك أن العقوبة لا تطبق على الشخص الذي لم يرتكب الجريمة إلا إذا كان فاعلا أو شريكا أو مساهما، وفي هذه الحالة فإن المسؤولية الجنائية توقع مباشرة على الشخص المعنوي، وإذا ما تعددت آثارها على أعضاءه الطبيعيين فإن هذا يعتبر أمرا واقعيا نتيجة للواقعة المجرمة وليس بنص القانون[18]، وحيث أن هذه الآثار لا تتولد عن العقوبة نفسها وإنما تتولد عن العلاقات القائمة بين من وقعت العقوبة عليه ومن تعددت إليهم آثارها.
و بالتالي فإن انصراف أثر العقوبة التي توقع على الشخص المعنوي بطريقة مباشرة إلى المساهمين فيه، يحقق مصلحة اجتماعية لأن هذه العقوبة تجعلهم أكثر حرصا على مراقبة الشخص المعنوي.
ثانيا: مبررات تقرير المسؤولية الجنائية للأشخاص المعنوية
إن المبررات التي عليها المسؤولية الجنائية للأشخاص المعنوية تقوم على مبررين أساسيين في نظرنا أحدهما المبررات النفعية لتقرير هذه المسؤولية، وثانيهما مبررات قانونية محضة.
المبررات القانونية:
نميز فيها بين اعتبارات العدالة ومبدأ شخصية العقوبة:
فبالنسبة الاعتبارات العدالة فتتجلى في أن عدم تقرير المسؤولية الجنائية للأشخاص المعنوية يشكل إهدارا لمبدأ العدالة وعدم المساواة بين الأشخاص التي ارتكبت نفس الجريمة، ذلك أن استبعاد المسؤولية الجنائية للأشخاص المعنوية معناه أن المسؤولية سيتحملها ممثله من الأشخاص الطبيعيين، وهذا يجعل العقوبة عديمة الجدوى في كونها لم تحقق أحد أغراضها وهي العدالة بين الخصوم، وكان هذا الاعتبار ضمن الاعتبارات التي استند إليها في وضع المسؤولية الجنائية للأشخاص المعنوية في قانون العقوبات الفرنسي لسنة 1992[19].
أما من ناحية شخصية العقوبة فالشخص المعنوي باعتباره شخصا من الأشخاص القانونية مخاطبا بأحكام المسؤولية الجنائية شأنه في ذلك شأن الشخص الطبيعي.
المبررات النفعية:
إن في تقرير المسؤولية الجنائية للأشخاص المعنوية نفع كبير يبرز من قسمين: أولا عدم كفاية هذه المسؤولية التي تقع على ممثلي الشخص المعنوي، ذلك أن ضآلة هذه العقوبات تبرر عدم جدواها وفعاليتها مقارنة مع ما يمكن أن تلحقه هذه الأشخاص من ضرر جسيم بالمجتمع، تفوق في أحايين كثيرة ما تحدثه الجرائم المرتكبة من طرف الأشخاص العاديين.
بالإضافة إلى الفكرة الثانية والمتمثلة في ضمان تحقيق الدفاع الاجتماعي والفردي، فالأصل في الأشخاص المعنوية أنها ذات مصالح مشروعة، إلا أنه في بعض الحالات تكون هذه الأشخاص مصدر خطر على المجتمع من خلال ممارستها لأعمال غير مشروعة تستوجب تقرير مسؤوليتها الجنائية، منعا لها من تحقيق أي نوع من التهديد أو المساس باستقرار وكيان الأفراد والمجتمع وهذا فيه ما فيه من تحقيق الدفاع الاجتماعي والفردي داخل الجماعة الاجتماعية.
المطلب الثاني: موقف التشريعات من المسؤولية الجنائية
للأشخاص المعنوية
انقسمت التشريعات الحديثة من حيث موقفها من المسؤولية الجنائية للشخص المعنوي إلى مجموعتين: الأولى تقر هذه المسؤولية وبالتالي تأخذ بالاتجاه الحديث، والمجموعة الأخرى تتمسك بالمذهب التقليدي الذي ينفي المسؤولية الجنائية للشخص المعنوي.
الفقرة الأولى: موقف بعض القوانين الأجنبية من المسؤولية الجنائية للأشخاص المعنوية
رغم أن العديد من التشريعات الجنائية قد أخذت بمبدأ معاقبة هذا الشخص، إلا أنها اختلفت من حيث نطاق المسؤولية الجنائية للشخص المعنوي، ومن بين هذه التشريعات، القانون البلجيكي، القانون الفرنسي، وكذا القانون العراقي.
كما تأخذ بعض التشريعات بالمذهب التقليدي الذي يرفض الاعتراف بالمسؤولية الجنائية للأشخاص المعنوية، وكمثال للدراسة سنقتصر على القانون المصري.
أولا: التشريع الفرنسي والبلجيكي
1-التشريع الفرنسي:
فيما يتعلق بالتشريع الفرنسي، فيتعين علينا أن نعالج المسؤولية الجنائية للشخص المعنوي من خلال نقطتين أساسيتين هما: قبل صدور قانون العقوبات الجديد، ثم في ظل هذا القانون الجديد.
أ-في ظل نظام القانون القديم:
في ظل هذا النظام القانوني الفرنسي، كان المشرع قد أقر بالمسؤولية الجنائية للأشخاص المعنوية، ويتبن ذلك من خلال الأمر الملكي الصادر سنة 1670، كما أن الشخص المعنوي المسؤول جنائيا يتمثل في الجماعات، المقاطعات، القرى ثم الشركات وغيرها…
كما حدد هذا الأمر الجزاءات التي يجب أن تطبق في حق الشخص المعنوي الذي ارتكب مخالفة من مخالفات، وتتجلى في الغرامة والمصادرة.
لكن مع مجيء مدونة نابوليون سنة 1810، أتت خالية من أي نص يقر المسؤولية الجنائية للأشخاص المعنوية، وأمام هذا الصمت الذي فرضه هذا القانون فإن القضاء الفرنسي، وتحت ضغط الظروف العملية حاول التخفيف من وطأة هذا المبدأ وأقر المسؤولية الجنائية للأشخاص المعنوية.
غير أنه بالرغم من أن تقنين نابليون لم يقرر المسؤولية الجنائية للأشخاص المعنوية، إلا أنه لا يمنع بعض النصوص الخاصة لإقرار هذه المسؤولية، ومنها المادة 20[20] في الفقرة 3 من قانون توزيع المنتجات الصناعية، حيث تنص على أنه: “إذا كان الشخص الطبيعي قد ارتكب جريمة لحساب الشخص المعنوي فإنه يمكن للمحاكم الحكم على الشخص المعنوي بالحرمان مؤقتا أو نهائيا من مزاولة نشاطه الذي وقعت الجريمة بمناسبته.
أيضا المادة 428 من قانون العقوبات الفرنسي الصادر سنة 1957 التي أجازت توقيع الغرامات المالية ذات طبيعة جزائية على الجمعيات الفنية التي تثبت مسؤوليتها عند تقديم أعمال مسرحية مخالفة للقوانين.
أيضا النصوص الخاصة التي أقرت المسؤولية الجنائية للأشخاص المعنوية، النصوص المتعلقة بالجرائم الاقتصادية وفق قانون 1945 الملغى بموجب مرسوم 1986 وغيرها…
ب-فيما يتعلق بالقانون الجديد
أمام ارتفاع الجرائم في المجال الاقتصادي والتجاري والمالي من طرف الشركات أو الجمعيات وحتى أشخاص طبيعيين تحت غطاء الأشخاص المعنوية، تعالت صيحات وأصوات تنادي بضرورة إقرار المسؤولية الجنائية للأشخاص المعنوية، وفعلا هذا ما تأتى من طرف المشرع في ظل القانون الجديد الفرنسي للعقوبات، إذ نصت صراحة على أن الشخص المعنوي، كيفما كان نوعه، باستثناء الدولة يسأل جنائيا عن الأفعال والسلوكات الصادرة منه، والتي تشكل جرائم وذلك طبقا للمادة 121 في فقرته الثانية، إلى غاية الفقرة السابعة منه[21].
2-القانون البلجيكي
القاعدة العامة التي كانت تسود في القانون البلجيكي قبل سنة 1999هي عدم جواز مساءلة الأشخاص المعنوية جنائيا، حيث أن قانون 1867 البلجيكي لم يتضمن ما يشير صراحة إلى تطبيق المسؤولية الجنائية للأشخاص المعنوية، والفقه آنذاك يرى أن الأشخاص الطبيعية هي وحدها التي تكون مسؤولة جنائيا دون غيرها على أساس أن القانون الجنائي يعرف هذه المسؤولية بالخطأ، والخطأ لا يمكن إسناده إلا إذا انصرف الشخص عن إدراك واختيار[22]، وبالتالي فلا يمكن أن تتماشى هذه المسؤولية مع الشخص المعنوي لأن هذا الأخير يعجز عن التعبير في نظرهم، حيث تبقى مسؤولية مدنية، حتى لو تعلق الأمر بالجنايات ضد أمن الدولة، إذ نصت المادة 123 على ما يلي: “الشركات تكون مسؤولة مدنيا عن الأحكام الصادرة بالتعويض المدني والغرامات والمصاريف والمصادرة والجزاءات المدنية أيا كانت ضد أجهزتها أو تابعيها”.
لكن مع صدور قانون 5 ماي 1999، فإنه أقر بذلك المسؤولية الجنائية للأشخاص المعنوية، وبذلك انقسم شراح القانون الجنائي إلى اتجاهين:
اتجاه يبدي تخوفهم إزاء تلك المسؤولية بحكم أنه لم يتخط بعد بعض الاعتراضات، لاسيما فيما يتعلق بكيفية إسناد التهمة إلى الشخص المعنوي.
أما الاتجاه الآخر فيعتبرون ذلك تقدما ملحوظا بالنسبة للقانون البلجيكي، خصوصا وأن المشرع اتجه إلى تحقيق المساواة بين الشخص الطبيعي والمعنوي.
ثانيا: التشريع المصري والعراقي
1-التشريع المصري
عـلى مستوى التشريع المصري لا يـوجد في قانون العقوبات المصري أي نــص يقرر المسؤولية الجنائية لـلأشخاص المعنوية، حــيث أن المــشرع لـم يعترف بهذا النوع مــن المسؤولية.
وهكذا إذا كانت القاعدة العامة هي غياب التنصيص على المسؤولية الجنائية للأشخاص المعنوية، فإن ذلك لا يمنع من إقرارها في بعض النصوص الخاصة كاستثناء.
إذ بفعل الضغوط والظروف الاقتصادية والاجتماعية، فإن المشرع المصري اتجه إلى إقرار المسؤولية الجنائية لبعض الجرائم فقط، لاسيما تلك التي تتعلق بالجرائم الاقتصادية وفي هذا الإطار نجد بعض النصوص التي عالجت المسؤولية الجنائية لشخص المعنوي:
المادة 104 من القانون رقم 26 لسنة 1945 في شأن الأحكام الخاصة (الملغى بقانون 1981) حيث نصت هذه المادة على ما يلي: “يعاقب بغرامة لا تقل عن مائة جنيه ولا تتجاوز خمسمائة جنيه كل شركة تخالف الأحكام المقررة في شأن نسبة المصريين في مجالس إدارتها أو نسبتهم من المستخدمين أو العمال وكل عضو منتدب للإدارة أو مدير فيها”.
أيضا أن هناك نصوص أخرى تجيز للقاضي أن يحكم بإغلاق الجمعية أو المؤسسة أو احد فروعها وذلك إما مؤقتا أو نهائيا طبقا للمادة 174 من القانون 1956 المتعلق بالجمعيات والمؤسسات الخاصة، وغيرها من النصوص الاستثنائية.
أيضا هناك نصوص أخرى لا تقرر المسؤولية الجنائية للأشخاص المعنوية مباشرة، ولكن يكتفي بالتنصيص على تضامنه مع المتهم في الوفاء بالعقوبات المالية التي قد يحكم بها.
كما هو الحال بالنسبة للمادة 68 من قانون 1992 حول إصدار قانون سوق رأس المال، حيث ينص على ما يلي: يعاقب المسؤول عن الإدارة الفعلية بالشركة، بالعقوبات المقررة عن الأفعال التي ترتكب بالمخالفة لأحكام هذا القانون، وتكون أموال الشركة ضامنة في جميع الأحوال للوفاء بما حكم به من غرامات مالية”.
غير أن المشرع المصري وعيا منه بخطورة بعض الجرائم التي ترتكب من طرف الشخص المعنوي، لاسيما في مجال الغش التجاري، الذي يكون في أماكن التصنيع والإنتاج…
بفعل ذلك يرى أنه لا مفر من الاعتراف بهذه المسؤولية، وفعلا هذا ما قام به إذ نص في المادة 6 مكرر من قانون 1941 والمعدل بقانون 1994 والمتعلق بقمع التدليس والغش على ما يلي: “دون الإخلال بمسؤولية الشخص الطبيعي المنصوص عليها في هذا القانون يسأل الشخص المعنوي جنائيا عن الجرائم المنصوص عليها في هذا القانون إذا وقعت لحسابه أو باسمه…”
لذلك فلقيام المسؤولية الجنائية للأشخاص المعنوية لابد من العناصر التالية:
الشخص المعنوي يسأل عن جميع الجرائم المنصوص عليها في قانون قمع الغش والتدليس.
مسؤولية الأشخاص المعنوية لا تؤدي إلى استبعاد مسؤولية الأشخاص الطبيعية.
ثم إن المسؤولية الجنائية للشخص المعنوي تستند الخطأ من هذا الشخص ما دامت هذه الجريمة وقعت بحسابه أو باسمه من أحد الأشخاص الطبيعيين.
ب-التشريع العراقي
بالنسبة للمشرع العراقي فقد كان سباقا إلى إقرار المسؤولية الجنائية للأشخاص المعنوية وذلك منذ القانون الصادر سنة 1969، إذ نصت المادة 80 على ما يلي: إن الأشخاص المعنوية ما عدا مصالح الحكومة ودوائرها الرسمية وشبه الرسمية مسؤولة جنائيا عن الجرائم التي يرتكبها ممثلوها أو وكلاؤها لحسابها أو باسمها…”.
يتبين من خلال النص أن المشرع العراقي يقرر المسؤولية الجنائية بصورة مباشرة وليس تضامنية، بمعنى أن الشخص المعنوي هو المسؤول عن كل الأفعال التي ترتكب من طرف ممثله، وليس مسؤولية تضامنية، ولذلك فإن المسؤولية الجنائية للشخص المعنوي لقيامها لابد أن تكون هناك ضوابط أربعة وهي:
- تحديد الأشخاص المعنوية المسؤولة جنائيا، وهذا التحديد يستند إلى تقسيم الأشخاص إلى أشخاص معنوية عامة وأخري خاصة، وبالتالي فنستثني من المسؤولية كما سبق ذكره مصالح الحكومة والمؤسسات التابعة لها.
- أيضا أن الأشخاص المعنوية تكون مسؤولة جنائيا عن الجرائم التي يرتكبها ممثلوها أو وكلاءها باسمها أو لحسابها.
- يسأل ممثل الشخص المعنوي شخصيا عن الجريمة التي ارتكبها، لمصلحة الشخص المعنوي يعني أن مساءلة الأشخاص المعنوية لا يبعد مسؤولية الأشخاص الطبيعية.
- يعاقب الشخص المعنوي عن الجرائم المسندة إليه إما بالغرامة أو المصادرة والتدابير الاحترازية وإذا كانت عقوبة غير ملائمة، كالحبس مثلا تستبدل بالغرامة
الفقرة الثانية:موقف المشرع المغربي من المسؤولية الجنائية للأشخاص المعنوية
لقد استقر قضاء المجلس الأعلى قبل صدور القانون الجنائي الحالي على رفع المسؤولية الجنائية عن الشخص المعنوي، وأكده في قرار له تحت عدد 659 صادر بتاريخ 2 يونيو1960، وبصدور القانون الجنائي سنة1962 أقر المشرع مبدأ مساءلة الشخص المعنوي جنائيا في الفصل 127 من هذا القانون كما أقرها في بعض النصوص الخاصة.
أولا: مسؤولية الشخص المعنوي جنائيا في المجموعة الجنائية
سبق القول أن هناك اتجاهين في الفقه أحدهما معارض للمسؤولية الجنائية للشخص المعنوي، والثاني مؤيد لها، وبين هذا وذاك تباينت المواقف التشريعية المقارنة على النحو الذي تعرضنا إليه في السابق، ولذلك فإن السؤال الذي يثور حول موقف المشرع المغربي بصدد مسؤولية الأشخاص المعنوية جنائيا يكمن في بأي اتجاه أخذ المشرع المغربي؟ هل أخذ بالاتجاه التقليدي أم الاتجاه الحديث؟ بمعنى آخر ما موقع مسؤولية هذه الأشخاص جنائيا من القانون الجنائي المغربي؟
المشرع المغربي سار على نهج التشريعات التي أقرت المسؤولية الجنائية للأشخاص المعنوية،فقال بها بموجب الفصل 127 من القانون الجنائي الذي ينص على ما يلي: “لا يمكن أن يحكم على الأشخاص المعنوية إلا بالعقوبات المالية والعقوبات الإضافية في الأرقام 5 و 6 و 7 من الفصل 36، ويجوز أيضا أن يحكم عليها بالتدابير الوقائية العينية الواردة في الفصل 62”.
وانطلاقا من هذا النص فإن المشرع لم ينص صراحة على مسؤولية الأشخاص المعنوية كما هو الشأن بالنسبة للتشريع الفرنسي والعراقي اللذان استعملا كلمتي “يسأل جنائيا” في حين أن المشرع المغربي حدد فقط أهم الجزاءات التي تطبق في حق الشخص المعنوي المرتكب للجريمة، غير أن الإشكال المطروح هو هل المشرع المغربي يسند المسؤولية الجنائية للأشخاص المعنوية الخاصة أم تمتد هذه المسؤولية حتى إلى الأشخاص المعنوية العامة.
هذا من جهة، أما من جهة ثانية فيمكن القول أن الفصل الأول من القانون الجنائي يسند الأفعال والعقوبات إلى الشخص الطبيعي أي الإنسان فقط دون غيره[23]، ولذلك فإن الفصل 127 من القانون الجنائي المغربي ما هو إلا قاعدة عامة للمسؤولية الجنائية للأشخاص المعنوية.
ثانيا: مسؤولية الشخص المعنوي جنائيا في بعض القوانين الخاصة
تعد الجرائم الاقتصادية المجال الخصب من أجل مساءلة الشخص المعنوي جنائيا، وخصوصا في مجال التجاري والصناعي، وهذه المسؤولية نجدها منظمة بنصوص أخرى تعتبر أحكام مكملة للأحكام الواردة في القانون الجنائي المغربي، وانطلاقا من هذا سنتطرق إلى بعض النصوص الخاصة التي تناولت المسؤولية الجنائية للأشخاص المعنوية، ومنها ما يلي:
- في ما يتعلق بظهير الصرف 1941/10/14
الفصل 13 من هذا الظهير ينص على أن إذا ارتكبت المخالفات المتعلقة بضبط الصرف، وذلك من طرف مدير الشخص المعنوي، فإنه يمكن متابعة الشخص المعنوي نفسه مع صدور في حقه الذعائر المنصوص عليها في هذا الظهير المذكور
- بالنسبة لمدونة الجمارك 1977/10/09
هو الآخر أقر بمسؤولية الشخص المعنوي، ويتبين ذلك من خلال الفصل 222 منه الذي جاء فيه ما يلي: ” المسؤول جنائيا هم: موقعوا التصريحات فيما يخص الإغفالات والبيانات والمخالفات الأخرى الملاحظة في التصريحات علما أن التوقيع كعمل مادي لا يكون إلا من شخص طبيعي، وما تصرف هذا الأخير باسم الشركة فيبقى هو المسؤول جنائيا”.
أيضا الفصل 227 منه ينص على ما يلي: ” عندما ترتكب مخالفات جمركية من طرف المتصرفين المسيرين لشخص معنوي أو من طرف أحدهم العامل باسم الشخص المعنوي، فإن المتابعة تكون ضد الشخص المعنوي نفسه وتطبق عليها العقوبات المالية.
- ظهير 1971/10/12 المتعلق بالأثمان ومراقبتها وشروط إمساك المنتوجات والبضائع وبيعها
المادة 17 منه تنص على المسؤولية التي تطال أي عضو في الشخص المعنوي يسأل شخصيا عن كل ما يرتكب من مخالفات، وذلك بالحكم عليه بالغرامات التي تثقل كاهله، ونص المشرع في الأخير على أن الشركة أو المقاولة أو الجمعية أو الجماعة تكون مسؤولة –على وجه التضامن- على أداء الغرامات، وصوائر المسطرة المحكوم بها على المخالفين.
المبحث الثاني: قواعد تنظيم المسؤولية الجنائية
للأشخاص المعنوية
أن الاتجاه الحديث في الفقه والتشريع والقضاء أصبح يعترف بمبدأ المسؤولية الجنائية للشخص المعنوي، الأمر الذي يعني أن هذه المسؤولية قد تجاوزت مرحلة الجدل الفقهي حول مدى ملائمة الأخذ بها من عدمه، وأصبحت بذلك تمثل حقيقة فقهية تبنتها جل التشريعات وأقرتها كذلك الاجتهادات القضائية، فما هو الشخص المعنوي الذي يمكن مسائلته جنائيا؟ ونوعية الجرائم التي يسأل عنها؟ وأين تتجلى شروط قيام المسؤولية الجنائية للأشخاص المعنوية؟
المطلب الأول: القواعد المتعلقة بمسؤولية
الأشخاص المعنوية جنائيا
كما هو معلوم فالاتجاه التشريعي الحديث جله يميل إلى الإقرار بالمسؤولية الجنائية للشخص المعنوي لضرورات عملية دفعت بعض المشرعين إلى تجاوز الجدل الفقهي، ففي التشريعات الحديثة نجد أن الأشخاص المعنوية عموما تنقسم إلى نوعين: الأشخاص المعنوية العامة، وهي التي تخضع لقواعد القانون العام،ثم الأشخاص المعنوية الخاصة وتسري عليها قواعد القانون الخاص.
الفقرة الأولى: مجال تطبيق المسؤولية الجنائية للأشخاص المعنوية
اختلفت التشريعات المقارنة في ما يتعلق بإخضاع الأشخاص المعنوية العامة للمسؤولية الجنائية، وعلى ذلك فإن تحديد الشخص المعنوي الذي يسأل جنائيا يقتضي أن نميز بين الأشخاص المعنوية الخاصة باعتبارها مخاطبة أصلا بالقواعد القانونية المتعلقة بتلك المسؤولية، ولنبين بعد ذلك مدى جواز المسؤولية الجنائية للأشخاص المعنوية العامة.
أولا: الأشخاص المعنوية المسؤولة جنائيا
إن جل التشريعات التي أقرت المسؤولية الجنائية للشخص المعنوي تسندها إلى جميع الأشخاص المعنوية الخاصة أيا كان الشكل الذي تتخذه وأيا كان الغرض من إنشائها سواء أكانت تهدف إلى تحقيق الربح كالشركات التجارية والمدنية أو لا تهدف إلى تحقيق ربح مادي كالجمعيات والأحزاب السياسية، وبغض النظر عن جنسية الشخص المعنوية مرتكب الجريمة وطنيا كان أو أجنبيا يمارس نشاطا في إقليم الدولة.
فلتبرير إخضاع جميع الأشخاص المعنوية الخاصة للمسؤولية الجنائية ذهب جانب من الفقه إلى إن هذه القاعدة تعتبر نتيجة منطقية لمبدأ المساواة لإزالة الفوارق بين الأشخاص المعنوية الخاصة والأشخاص الطبيعيين في ما يتعلق بضرورة احترام القانون، ولا بد من الإشارة إلى نقطة مهمة في هذا الصدد، حيث أن الأفعال الإجرامية في نطاق أعمال شخص معنوي في مرحلة الإنشاء لحسابه لا تنسب إليه إذا لم يكتسب الشخصية المعنوية بعد، ففي التشريع المغربي لا تكتسب الشركة التجارية الشخصية المعنوية إلا بالتسجيل في السجل التجاري والتالي فكل الأعمال التي تقوم بها الشركة حتى ولو كانت إجرامية لا تسال عنها عندما تكون قد ارتكبت في فترة ما قبل اكتساب الشخصية المعنوية وإنما يسال عنها فقط المؤسسون الذين ارتكبوها أي الأشخاص الطبيعيون، ما عدا في الحالة التي تكون فيها الجريمة مستمرة وقائمة إلى ما بعد اكتساب الشخصية المعنوية فهنا تسال المؤسسة عن الجريمة المرتكبة بصفتها شخصا معنويا.
كما يرى بعض الفقه إمكانية معاقبة الشركة خلال فترة التصفية عن الجرائم المرتكبة لحسابها على أن الشركة في هذه الحالة تظل رغم حلها متمتعة بالشخصية المعنوية في الحدود التي تتطلبها عملية التصفية.
أما الأشخاص المعنوية العامة فيمكن تقسيمها إلى نوعين: هناك الأشخاص المعنوية العامة الإقليمية كالدولة والمحافظات والمدن والقرى وهناك الأشخاص المعنوية العامة المصلحية أو المرفقية كالهيئات والمؤسسات العامة، لكن السؤال المطروح هو هل من الملائم إقرار المسؤولية الجنائية للأشخاص المعنوية؟
وكإجابة لهذا السؤال فنجد بعض التشريعات المقارنة تنص على عدم جواز مسائلة الأشخاص المعنوية جنائيا كقانون العقوبات العراقي الصادر سنة 1969 في المادة 80 منه ” حيث أن الأشخاص المعوية فيما عدت مصالح الحكومة ودوائرها الرسمية وشبه الرسمية مسئولة جنائيا”.
كذلك الأمر لقانون العقوبات الاتحادي لدولة الإمارات العربية المتحدة رقم 3 لسنة 1983 في المادة (65) منه، بينما هناك تشريعات أخرى تعترف بالمسؤولية الجنائية للأشخاص المعنوية العامة كقانون العقوبات الانجليزي والهولندي شريطة أن لا تكون الجريمة مرتبطة بأعمال السلطة العامة، إذ لا مجال للمساءلة، وبالنسبة للتشريع المغربي فالملاحظ أن المشرع لم ينص على استثناء الأشخاص المعنوية العامة من المسؤولية الجنائية وإنما جاءت عبارة الشخص المعنوي عامة في الفصل 127 من القانون الجنائي وبالتالي فمن المفروض أن العبارة تشمل الأشخاص المعنوية العامة والخاصة مادام أن التشريع المطلق يسري على إطلاقه لكن في الواقع نجد أن الأشخاص المعنوية العامة المغربية لا تعاقب على الجرائم التي ترتكبها خاصة فيا يتعلق بأعمال السلطة والسيادة.
ثانيا: الجرائم التي يسأل عنها الشخص المعنوي جنائيا
تختلف مواقف التشريعات التي أقرت المسؤولية الجنائية لأشخاص المعنوية فيما يتعلق بتحديد الجرائم التي يجوز أن تسال عنها تلك الأشخاص، فهناك اتجاهين في هذا الشأن: الأول يقرر مساءلة الأشخاص المعنوية على جميع الجرائم أي انه يأخذ بمبدأ العمومية، أما الاتجاه الثاني فيقصر المسؤولية الجنائية للأشخاص المعنوية على جرائم معينة أي يأخذ بمبدأ التخصيص، فتبعا للاتجاه الأول قررت جواز مساءلة الأشخاص المعنوية على جميع الجرائم كالقانون الانجليزي وفانون العقوبات الهولندي وبعض التشريعات العربية، ففي القانون الانجليزي نجد انه قد تم التنصيص صراحة في القانون الصادر سنة 1889 على إمكان مساءلة الأشخاص المعنوية جنائيا فجاءت بذلك العبارة العتمة تشمل جميع الجرائم المنصوص عليها قانونا ما لم يوجد نص خاص يقرر استبعاد هذا الشخص من نطاق تطبيقه، ومع ذلك فقد وضع الفقه والقضاء في انجلترا نوعين من القيود والضوابط لتطبيق هذا المبدأ التشريعي الذي يتسم مضمونه بالعمومية أولهما يتعلق بنوع الجريمة إذ هناك بعض الجرائم بحسب طبيعتها لا يمكن أن ترتكب من طرف الشخص المعنوي مثلا جريمة الاغتصاب وشهادة الزور والخيانة الزوجية… وإن كان ليس هناك ما يحول دون معاقبة الشخص المعنوي كالشريك في إحدى الجرائم، أما القيد الثاني فيتعلق بنوع العقوبة المقررة للجريمة إذ يكون من المستحيل توقيعها على الشخص المعنوي كعقوبة الإعدام والسجن المؤبد.
ويأخذ قانون العقوبات الهولندي كذلك بهذا المبدأ في الفصل 51 منه الذي ينص على أن الجرائم عموما يمكن أن ترتكب من طرف الأشخاص الطبيعيين أو المعنويين، كذلك تأخذ بعض التشريعات العربية بمبدأ المساءلة على جميع الجرائم ماعدا الحالات التي لا يتصور فيها فعلا أن ترتكب الجريمة من طرف شخص معنوي ومن أمثلة هذه التشريعات قانون العقوبات السوري في المادة 209/2 وقانون العقوبات اللبناني في المادة 210/3 وقانون العقوبات العراقي الماد 80، وعلى العكس من الاتجاه الذي يأخذ بمبدأ عمومية المساءلة الجنائية للأشخاص المعنوية على جميع الجرائم يأخذ جانب أخر من التشريعات بمبدأ التخصيص أي قصر المسؤولية على الجرائم معينة بنصوص قانونية صريحة أهمها التشريع المصري والفرنسي، فالمشرع المصري يقصر المسؤولية الجنائية المباشرة للشخص المعنوي على جرائم الغش والتدليس المنصوص عليها في القانون رقم 48 لسنة 1941 بشان قمع الغش والتدليس المعدل بالقانون رقم لسنة 1994 المادة 6 منه.
أما قانون العقوبات الفرنسي فقد كان ينص في المادة 121 على أن الأشخاص المعنوية تسال فقط في الحالات المنصوص عليها في القانون واللائحة، وعلى ذلك فبخلاف الأشخاص الطبيعيين الذين يتصور أن يرتكبوا أية جريمة فان الأشخاص المعنوية لا تعاقب إلا عن الجرائم التي نص المشرع صراحة على جواز المعاقبة عنها، إلا أن المشرع الفرنسي عدل المادة 2/121 بموجب القانون رقم 204 الصادر بتاريخ 9 مارس 2004 التي تنص على أن الأشخاص المعنوية باستثناء الدولة تكون مسئولة جنائيا طبقا للمقتضيات الواردة في الفقرات من 121/4 إلى 7/121 عن الجرائم المرتكبة لحسابها من طرف أعضائها أو ممثليها وبذلك أصبح التشريع الفرنسي يخضع لمبدأ عمومية المساءلة الجنائية.
الفقرة الثانية: شروط قيام المسؤولية الجنائية للأشخاص المعنوية
إن الشخص المعنوي بحكم طبيعته لا يمكن أن يرتكب الجريمة بنفسه، وإنما يتصرف عن طريق شخص طبيعي يعبر عن إرادته( أولا)، أو تكون الجريمة قد وقعت لحسابه (ثانيا).
أولا: ارتكاب الجريمة من شخص طبيعي ممثل للشخص المعنوي
لا يمكن للشخص المعنوي أن يرتكب جريمة بنفسه وإنما يرتكبها عن طريق شخص طبعي معين أو عدة أشخاص طبيعيين يملكون حق التعبير عن إرادته ويمثلونه، وبالتالي فمتى ارتكب الشخص المعنوي جريمة فان القاضي عند بحثه لمدى قيام المسؤولية الجنائية يجب عليه إثبات أن الجريمة قد ارتكبت من طرف شخص طبيعي له علاقة بالشخص المعنوي ثم يبين من ناحية ثانية فيما إذا كانت الظروف التي ارتكبت فيها الجريمة تسمح بإسنادها إلى الشخص المعنوي، وهذا يتطلب بطبيعة الحال معرفة الشخص الطبيعي الذي ارتكب الجريمة وما إذا كان يملك حق التصرف باسم الشخص المعنوي، ففي إطار تحديد الشخص الطبيعي الذي يمثل الشخص المعنوي نجد أن هناك اتجاهين في التشريع المقارن: احدهما يشترط أن تكون الجريمة قد وقعت من طرف شخص طبيعي يحتل وظيفة هامة لدى الشخص المعنوي، أما الاتجاه الثاني فيكتفي لإمكان معاقبة الشخص المعنوي مجرد وقوع الجريمة من احد العاملين لديه دون تفرقة بين الموظف البسيط والذي يقوم بدور رئيسي في إدارة أعمال الشخص المعنوي والرقابة على سيرها.
كما يثار التساؤل حول حكم تجاوز ممثل الشخص المعنوي حدود اختصاصاته، هل يجوز مساءلة الشخص الطبيعي في هذا الفعل؟ أم يجب إسناد المسؤولية إلى شخص معنوي بذاته؟ في هذا السياق يسود في القانون الانجليزي اتجاه يعتبر انه يجب لمساءلة الشخص المعنوي جنائيا أن يكون الشخص الطبيعي قد تصرف في حدود وظيفته وفقا للنظام الأساسي للشخص المعنوي ذاته، وبعكس الاتجاه المذكور قررت التوصية الصادرة عن المجلس الوزاري للدول الأعضاء في الوحدة الأوربية رقم 18-88 في سنة 1988 انه يجب أن يسال الشخص المعنوي جنائيا ولو كانت الجريمة لا تدخل في نطاق الاختصاص العملي بالنسبة لممثله القانوني، ومن تم فان تجاوز الشخص الطبيعي لحدود اختصاصاته لا يحول دون مساءلة الشخص المعنوي عن الجريمة التي ارتكبت بسبب هذا التجاوز، وبعنبر الرأي الأخير هو الأجدر بالتأييد خاصة عند ارتكاب الجريمة غالبا ما يكون ممثل الشخص المعنوي قد تجاوز حدود سلطاته.
ثانيا: ارتكاب الجريمة لحساب الشخص المعنوي
يجب لقيام المسؤولية الجنائية للشخص المعنوي أن تكون الجريمة قد وقعت لحسابه وقد نصت على هذا الشرط صراحة اغلب التشريعات التي أقرت المسؤولية الجنائية للخص المعنوي، ومن أمثلتها قانون المرافعات الفرنسي والقانون المصري ثم قانون العقوبات العراقي، إذ تعتبر سلطة الشخص المعنوي على العامل لديه وقبوله سلوك هذا العامل معيارا لتحديد الأشخاص الطبيعيين الذين تسند أفعالهم على الشخص المعنوي.
ويقصد بعبارة ” لحساب الشخص المعنوي ” أن تكون الجريمة قد ارتكبت بهدف تحقيق مصلحة له كتحقيق ربح أو تجنب إلحاق ضرر به، ويستوي أن تكون المصلحة مادية أو معنوية مباشرة أو غير مباشرة، محققة أو احتمالية، أي يكفي أن تكون الأفعال الإجرامية ارتكبت بهدف ضمان تنظيم أو حسن سير أعمال الشخص المعنوي أو تحقيق أغراضه حتى ولو لم يحصل هذا الشخص في النهاية على أية فائدة.
المطلب الثاني: الجزاءات التي تقع على الأشخاص المعنوية
تتعدد العقوبات والتدابير التي يمكن أن توقع على الأشخاص المعنوية، ويختلف نطاقها من تشريع لأخر، فكيف عالج المشرع المغربي وباقي التشريعات الأجنبية هذا الموضوع المتعلق بالجزاءات المقررة على الأشخاص المعنوية؟ هذا ما سوف نبحثه من خلال تقسيم هذا المطلب إلى فقرتين:
الفقرة الأولى: الجزاءات المطبقة على الأشخاص المعنوية في التشريعات المقارنة
الفقرة الثانية: الجزاءات المطبقة على الأشخاص المعنوية في التشريع المغربي
الفقرة الأولى: الجزاءات المطبقة على الأشخاص المعنوية في التشريعات المقارنة
يترتب على قيام المسؤولية الجنائية للأشخاص المعنوية خضوعها للجزاء المقرر قانوننا بموجب حكم قضائي، فقد كان من بين أسباب الاعتراض على إقرار مسؤولية الأشخاص المعنوية جنائيا هو عدم إمكانية خضوعها لبعض العقوبات المقررة التي تطبق على الأشخاص الطبيعيين خصوصا العقوبات السالبة للحرة، إلا أن هذا الاعتراض قد تجاوزته الكثير من التشريعات الحديثة من خلال توسيع نطاق تطبيق العقوبات المالية مع ابتكار عقوبات جديدة تتلاءم مع طبيعة الشخص المعنوي كما هو الشأن بالنسبة لقانون العقوبات الفرنسي، حيث يعد من أهم القوانين التي تضمنت أحكاما تفصيلية بشان العقوبات التي توقع على الأشخاص المعنوية سواء من حيث أنواعها أو كيفية تطبيقها.
وعموما فالقوانين التي تقر بمبدأ المسؤولية الجنائية للأشخاص المعنوية في وضعها للجزاءات التي تطبق على هذه الأشخاص؟؟؟ إلا أن مدى تنوعها وكيفية تطبيقها يختلف من تشريع إلى آخر، وعليه سنحاول التعرف على هذه الجزاءات من خلال بعض القوانين سواء ما يتعلق منها بالقانون الفرنسي في شق أول، أما في الشق الثاني فسنخصصه على وجه التحديد لدراسة بعض العقوبات الطبقة في القوانين العربية .
أولا: في فرنسا
لقد كان القانون الفرنسي القديم قبل الثورة الفرنسة، يقرر المسؤولية الجنائية للأشخاص المعنوية المتمثلة في الجماعات والمقاطعات والمدن والقرى والشركات، وكان الأمر الملكي الصادر سنة 1670 ينص على الإجراءات التي تتبع في المحاكمة.
وأمام تكرار النصوص الخاصة بالمسؤولية الجنائية للشخص المعنوي في قوانين متعاقبة، استجابة للضرورات العملية في المجالات الاقتصادية والاجتماعية فقد حسم قانون العقوبات الفرنسي الجديد الخلاف حول المسؤولية الجنائية للأشخاص المعنوية بنص صريح، اعترف فيه بمسؤولية جميع الأشخاص المعنوية باستثناء الدولة، هكذا فيعد إقرار المسؤولية الجنائية للشخص المعنوي على النحو الذي جاءت به في المادة 121/2 بموجب قانون رقم 2004-204 الصادر بتاريخ 9 مارس 2004، من أهم المبادئ القانونية التي استخدمها القانون الفرنسي الجديد حيث نصت المادة 121/2 على أن الأشخاص المعنوية باستثناء الدولة تكون مسؤولة جنائيا طبقا للمقتضيات الواردة في الفقرات من 121/4 إلى 121/7 في الجرائم المرتكبة لحسابها من طرف أعضائها أو ممثليها، ويعني هذا أن القانون الفرنسي قد أقر صراحة عدم مساءلة الدولة جنائيا، وأقر مبدأ ازدواجية المسؤولية الجنائية عن الفعل الواحد، كما نجد أن المشرع الفرنسي قد نظم العقوبات المطبقة على الشخص المعنوي في باب خاص عنونه ب « les sanctions applicables aux personnes morales »
من الفقرة 37 إلى الفقرة 49 في المادة 131 وميز فيها بين عقوبات الجنايات والجنح وعقوبة المخالفات،فالمادة 131/37 تنص على العقوبات المطبقة على الشخص المعنوي في حالة الجنايات والجنح وهي : الغرامة حيث نجد أنها تضاعفت 5 مرات بالمقارنة مع الشخص الطبيعي لنفس الفعل، وتضاعف كذلك 10 مرات في حالة العود.
كما تطبق كذلك العقوبات المبينة في المادة 131/39 وتتلخص في:
1- حل الشخص المعنوي la dissolution.
2- حظر مزاولة نشاط واحد أو أكثر من الأنشطة المهنية أو الاجتماعية سواء بطريقة مباشرة أو غير مباشرة بصفة نهائية أو لمدة 5 سنوات على الأكثر.
3- الوضع تحت الرقابة القضائية لمدة 5 سنوات على الأكثر.
4- غلق المؤسسات أو واحد أو أكثر من فروع المشروع الذي استخدم في ارتكاب الجريمة نهائيا أو بصفة مؤقتة لمدة 5 سنوات على الأكثر، ويترتب على الوقف النهائي سحب الترخيص، أما الوقف المؤقت فلا يترتب عليه سوى وقف الترخيص.
5- الاستبعاد من الأسواق العامة.
6- الحرمان من دعوى الجمهور للادخار (الاكتتاب) ويكون هذا المنع إما بصفة نهائية أو لمدة لا تتجاوز 5 سنوات على الأكثر.
7- المنع من إصدار الشيكات، ما عدا تلك التي تمكن الساحب من استرداد أمواله أو تلك المعتمدة وحضر استعمال بطاقات الوفاء لمدة لا تزيد على 5 سنوات.
8- المصادرة حيث جاء في المادة 131/39 ثلاثة أنواع من المصادرة:
أولا : مصادرة الأشياء التي استعملت أو كانت معدة لاستعمالها في الجريمة أو الأشياء المتحصلة منها.
ثانيا: مصادرة الحيوان الذي استعمل في ارتكاب الجريمة، أو الذي ارتكبت ضده.
ثالثا: مصادرة الحيوان المحتفظ به لمدة 5 سنوات على الأكثر.
والمصادرة قد تكون جزئية أو كلية، غير أن هذه الأخيرة لا يحكم بها إلا إذا كانت عقوبة الحبس تتعدى سنة باستثناء جرائم الصحافة.
9- نشر حكم الإدانة وذلك بأي وسيلة من وسائل الإعلام العمومي، سواء بواسطة الصحافة المكتوبة أو بالطرق الالكترونية الحديثة، ويكون هذا النشر على نفقة المكوم عليه شرط أن لا تزيد على الحد الأقصى المقرر لعقوبة الغرامة.
أما المخالفات فعقوبتها قد نصت عليها المادة 131/40 كذلك، وتتمثل أساسا في الغرامة، العقوبات السالبة أو المقيدة للحقوق الواردة في المادة 131/42، وكما هو الحال في غرامات الجنايات والجنح، فان عقوبة الغرامة في المخالفات تصل إلى 5 أضعاف الغرامة المحددة قانونا، وتضاعف إلى 10 مرات في حالة العود، بل تشدد في المخالفات من الدرجة الخامسة إلى 15 ضعف في الحالات التي تحددها اللائحة.
وقد أعطى المشرع الفرنسي مسطرة خاصة لهذا النوع من المخالفات، فقد أجاز للمحكمة أن تطبق عليه بدلا من الغرامة العقوبات التالية، والتي أطلق عليها عبارة العقوبات السالبة أو المقيدة للحقوق وهي:
- المنع من إصدار الشيكات لمدة سنة غير تلك التي تمكن الساحب من استرداد مواله، كذا الشيكات المعتمدة ومنع استعمال بطاقات الوفاء.
- مصادرة الأشياء التي استعملت أو كانت ستستعمل في ارتكاب الجريمة التي تحصلت منها.
ثانيا: في بعض التشريعات العربية
تنص القوانين سواء بالنسبة لقانون العقوبات والقوانين الخاصة في عدد من الدول العربية على إمكان إنزال عقوبات جنائية تلائم الشخص المعنوي، حيث تضمنت قوانين العقوبات لكل من لبنان وسوريا والأردن نفس الإحكام بشان الجزاءات الجنائية التي توقع على الأشخاص المعنوية سواء أكانت في صورة عقوبة أم تدبير احترازي فمثلا تقرر المادة 210 من قانون العقوبات اللبناني وتقابلها المادة 209 من قانون العقوبات السوري والمادة 74 من قانون العقوبات الأردني على انه لا يمكن الحكم عليها أي أشخاص المعنوية إلا بالغرامة أو المصادرة ونشر الحكم، وإذا كان القانون ينص على عقوبة أصلية غير الغرامة أبدلت أي الغرامة محل العقوبة المذكورة في الحدود المعينة.
كما يجيز قانون العقوبات اللبناني اتخاذ التدابير الاحترازية ضد الشخص المعنوي بغرض مواجهة الخطورة الإجرامية التي يمكن أن تشكلها الهيئات بموجب المادة 211 المتعلقة بتطبيق التدابير الاحترازية العينية وذلك طبقا للمادة 73، وتشمل المصادرة العينية وإغلاق المحل ووفق الهيئة المعنوية عن العمل أو حلها، كما نصت كل من المادة 108 و 109 من قانون العقوبات اللبناني على تدبيري الوقف والحل. وعموما فالمشرع اللبناني قد تبنى الاتجاه الحديث الذي يقضي بتقرير المسؤولية الجنائية للأشخاص المعنوية حيث أصبحت مبدأ عاما في قانون العقوبات من خلال المادة 210/2 التي تنص على أن الهيئات المعنوية مسئولة جنائيا عن أعمال مديرها وأعضاء إدارتها وممثلها وعمالها عندما يأتون هذه الأعمال باسم الهيئات المذكورة أو بإحدى وسائلها.
القانون المصري:
لم يتضمن قانون العقوبات المصري نصا عاما يقرر المسؤولية الجنائية للأشخاص المعنوية واستقر القضاء على انه في غير الأحوال الاستثنائية المنصوص عليها قانونا لا يجوز مساءلة الشخص المعنوي جنائيا، وإنما هذه المسؤولية تقتصر فقط على الأشخاص الطبيعيين الداخلين في تكوينه، وان كانت القاعدة العامة في القانون المصري هي عدم الاعتراف بالمسؤولية الجنائية للأشخاص المعنوية، إلا أن ذلك لا يمنع من تقرير هذه المسؤولية على سبيل الاستثناء حيث اتجه المشرع المصري تحت ضغط الظروف الاقتصادية والاجتماعية إلى تقرير هذه المسؤولية بالنسبة لبعض الجرائم حيث أن الشخص المعنوي يسال عن جميع الجرائم المنصوص عليها في القانون رقم 48 التعلق بقمع التدليس والغش المعدل بقانون رقم 281 لسنة 1994. كما أن مسؤولية الأشخاص المعنوية لا تؤدي إلى استبعاد مسؤولية الأشخاص الطبيعية وهذا ما قررته المادة بقولها ” دون إخلال بمسؤولية الشخص الطبيعي “. فالمشرع المصري نص على جزاءات لا تقل أهمية عن تلك المنصوص عليها في التشريعات العربية، لكن هذه المسؤولية الجنائية وحسب هذا القانون ضيق النطاق، وكما سبق الذكر لا تتعلق سوى بالمخالفات المتعلقة بالغش و التدليس، مع ملاحظة أن العقوبة المفروضة على الشخص الطبيعي قد حددتها المادة 6 من القانون التكميلي المعدل سنة 1994 و تتمثل في :
1- غرامة تعادل الغرامة المعاقب بها عن الجريمة التي وقعت.
2- وقف نشاط الشخص المعنوي لمدة لا تزيد عن سنة، وفي حالة لعودة لمدة لا تزيد عن 5 سنوات أو إلغاء الترخيص النهائي.
الفقرة الثانية: الجزاءات المطبقة على الأشخاص المعنوية في التشريع المغربي
إن الملاحظ بهذا الخصوص، هو أن المشرع المغربي وإن كان يقر صراحة بمسؤولية الشخص المعنوي جنائيا بنص صريح يسد من خلاله باب المناقشة حول إقرار المسؤولية الجنائية للأشخاص المعنوية[24]،من خلال الفصل 127 من القانون الجنائي المغربي، الشيء الذي يمكن أن تفهم معه أن المشرع الجنائي المغربي سوى بين الأشخاص الطبيعيين والمعنويين فيم يخص إمكانية ارتكاب الجرائم، إلا أنه لم يكلف نفسه عناء تنظيم وضبط أحكام هذه المسؤولية، حيث تبقى الكثير من جوانبها غير محددة، فهذا الفصل ينص على العقوبات المحكوم بها دونما تحديد للأعمال التي يمكن أن يسائل عنها الشخص المعنوي بشكل صريح، ودونما تحديد لنوع للشخص المعنوي موضوع المسائلة الجنائية، هل يشمل أيضا الأشخاص المعنوية العامة، سواء كانت إقليمية أو مرفقية؟ أم فقط المقصود في هذا الفصل الأشخاص المعنوية الخاصة التي لا تتمتع بصفة السيادة والسلطان؟ وهذا عكس ما جاء في المادة 1-121 من القانون الفرنسي التي استثنت الدولة وحدها من المسؤولية الجنائية، كما أن المشرع الفرنسي عمد إلى تحديد الجرائم التي يمكن أن يتابع بشأنها الشخص المعنوي وهي :
- جرائم الاتجار بالمخدرات وتبييض الأموال المستخلصة منها.
- الجرائم المرتكبة ضد الإنسانية.
- المس بالمصالح الأساسية للمواطن.
- إجراء تجارب طبية بطرق غير مشروعة.
ورجوعا إلى الفصل 127 من المجموعة الجنائية الذي نص على أنه لا يحكم على الأشخاص المعنوية إلا بالعقوبات المالية والعقوبات الإضافية الواردة في الأرقام 5 و6 و7 من الفصل 36 ويجوز أيضا أن يحكم عليها بالتدابير الوقائية العينية الواردة في الفصل 62.
أولا: العقوبات المالية والإضافية
إن لفض العقوبات المالية الواردة في المادة 127 مرادف لكلمة الغرامة ولا كلمة ترادفها دون هذا المعنى المنصوص عليه في المادة 35 من مجموعة القانون الجنائي، والغرامة ما هي إلا التزام المحكوم عليه بأن يؤدي لفائدة الخزينة العامة للدولة مبلغا من النقود بالعملة المتداولة قانونا في المملكة.
والغرامة من العقوبات الأصلية في الجنح والمخالفات بحسب مفهوم الفصول 17 و18 من القانون الجنائي، وأن كان أن ما يميزها هو قيمة 1200 درهم، فإن تجاوزت هذا المبلغ فهي عقوبة أصلية في الجنح، أما إذا كان مقدارها ما بين 30 درهم و1200 درهم فهي عقوبة أصلية، فبالنسبة للمخالفات ما يمكننا معه القول على أن هذه العقوبات المالية تطرح إشكالات تتعلق بالاختصاص النوعي.
فرجوعا إلى الفصل 16 الذي يحدد العقوبات الجنائية الأصلية في 5 عقوبات على سبيل الحصر، وهي الإعدام، السجن المؤبد، السجن المؤقت من 5 سنوات إلى 30 سنة، الإقامة الإجبارية، التجريد من الحقوق الوطنية.
وحسب هذا الفصل فان العقوبات المالية وحدا كعقوبة أصلية غير واردة كعقوبة مخصصة للجنايات، مما يتعين معه القول على أن اختصاص تحريك الدعوى العمومية بشأن الجرائم التي يرتكبها الأشخاص المعنوية، خاضعة لسلطة ملائمة وكيل الملك والجهة المختصة في البت في هذه الجرائم هي المحكمة الابتدائية بصفة دائمة، ومادام الأمر يتعلق بجنح فقط بالاعتماد على الفصل 16.
ويمكن القول أيضا في هذا الإطار، أن المشرع المغربي لم يحدد قيمة الغرامة ولم يحدد لها حد أدنى وحد أقصى بالنسبة لمختلف الجرائم التي يمكن أن يرتكبها الشخص المعنوي وإنما يترك الباب مفتوح لإعمال السلطة التقديرية لقضاة الموضوع اللهم ما استثني في بعض القوانين الخاصة.
إن الثابت في التشريع الجنائي المغربي هو أن العقوبات الإضافية التي يحكم بها على الشخص المعنوي، لا يحكم بها بأكملها وإنما فقط الواردة منها في الأرقام 5 و 6 و 7 من الفصل، وهي:
- المصادرة للأشياء المملوكة للمحكوم عليه بصرف النظر عن المصادرة كتدبير وقائي (الفصل 89).
- حل الشخص المعنوي.
- نشر الحكم الصادر بالإدانة.
وبالرغم من وضوح هذه النقطة إلا أن هناك إشكالية لابد أن نثيرها في هذا الإطار وهي إمكانية الحكم بعقوبة إضافية دون وجود عقوبة أصلية فإن الفصل 127 قد جاء بهذه المسألة على سبيل الاستثناء لأن الفصل 14 من المجموعة الجنائية العقوبات إما أصلية أو إضافية.
فتكون أصلية عندما يصوغ الحكم بها وحدها دون أن تضاف إليها عقوبة أخرى وتكون إضافية عندما لا يسوغ الحكم بها وحدها أو عندما يكون ناتجة عن الحكم بعقوبة أصلية، ولذلك يمكن للمحكمة أن تصدر حكما على الشخص المعنوي بعقوبة إضافية وحدها إذا كان النص القانوني يعاقب على الجريمة المرتكبة من طرفه بعقوبة أصلية أخرى غير الغرامة.
وسنتناول هذه العقوبات الإضافية الواحدة تلوا الأخرى:
المصادرة
بالرجوع إلى الفصل 42 من مجموعة القانون الجنائي الذي يعبر فيها بأنها تمليك الدولة جزءا من أملاك المحكوم عليه أو بعض أملاكه، ونميز فيها بين حالتين: حالة ما إذا كان الحكم بالمؤاخذة عن فعل يعد جناية، وحالة ما إذا كان الحكم بالمؤاخذة عن فعل يعد جنحة أو مخالفة.
فالأولى حسب الفصل 43 يجوز فيها للقاضي أن يحكم بأن يصادر لفائدة الدولة مع حفظ حقوق الغير الأدوات أو الأشياء التي استعملت أو كانت ستستعمل في ارتكاب الجريمة أو التي تحصلت منها، وكذلك المنح وغيرها من الفوائد التي كوفئ بها مرتكب الجريمة أو كانت معدة لمكافئته.
أما الحالة الثانية فلا يجوز الحكم بالمصادرة إلا في الأحوال التي يوجد فيها نص قانوني صريح، بحسب مفهوم الفصل 44 من القانون الجنائي.
وما دام أن الأفعال التي يرتكبها الشخص المعنوي تدخل في دائرة الجنح مادامت العقوبة الأصلية هي الغرامة، وأن الغرامة لا تدخل في العقوبات الأصلية الجنائية، فنستنتج أن المصادرة كعقوبة إضافية بالنسبة للأشخاص المعنوية، لا يتم تطبيقها إلا في حالة ما وجد نص صريح مما يعني معه أن القاضي لا يمكنه بحسب الفصل 44 أن يطبق المصادرة إضافية على الشخص المعنوي إلا إذا كان هناك نص صريح ينص على ذلك.
وجدير بلفت الانتباه أن المصادرة لا تمس إلا الأشياء المملوكة للمحكوم عليه، وإذا كان المال محل المصادرة مملوكا على الشياع بين المحكوم عليه وغيره، فإن المصدرة لا تنصب إلا على نصيب المحكوم عليه ويترتب عنها حتما القسمة أو التصفية عن طريق المزايدة وأن تفويت الأموال المصادرة يباشر من طرف إدارة الأملاك المخزنية حسب الإجراءات المقررة كافلة في حدود قيمتها للديون المشروعة السابقة لصدور الحكم (حسب النصوص 45 و 46 من المجموعة).
حل الشخص المعنوي
لقد نص المشرع الجنائي على هذه العقوبات الإضافية في الفصل 47 من القانون الجنائي، والحل ما هو إلا منع الشخص المعنوي من مواصلة النشاط الاجتماعي الذي أنشئ من أجله ولو تحت اسم آخر وبإشراف مديرين أو مسيرين أو متصرفين آخرين، ويترتب عنه تصفية أملاك الشخص المعنوي ولا يحكم به ألا في الأحوال التي يحددها القانون وبنص صريح في منطوق الحكم بالإدانة.
هذا ويمكن القول إن عقوبة حل الشخص المعنوي تماثل عقوبة الإعدام بالنسبة للشخص الطبيعي، ونظرا لخطورة هذه العقوبة لا يمكن تطبيقها على الأشخاص المعنوية الإقليمية كمثل الدول أو المدن أو حتى الأشخاص المعنوية العامة المرفقية المصلحية كالمستشفيات ومفوضات الشرطة، ومما لا شك فيه أن هذه العقوبة تتناسب إلى حد كبير مع طبيعة الأشخاص المعنوية الخاصة.
نشر الحكم الصادر بالإدانة
نشر الحكم الصادر بالإدانة كعقوبة إضافية على الأشخاص المعنوية مفادها إعلان وإذاعة ونشر الحكم بحيث يصل إلى علم عدد كاف من الناس، وتشكل هذه العقوبة تهديدا فعليا للشخص المعنوي وتمس مكانته والثقة فيه أمام الجمهور، مما قد يؤثر على نشاطه في المستقبل، وحسب الفصل 48 من القانون الجنائي فللمحكمة في الأحوال التي يحددها القانون أن تأمر بنشر الحكم الصادر عنها بالإدانة كل أو بعضا في صحته أو عدة صحف أو تعلقه في أماكن على نفقة المحكوم عليه، من غير أن تتعدى صوائر النشر ما قدرته المحكمة لذلك ولا تتجاوز مدة هذا التعليق شهرا واحدا.
ويكون هذا التعليق إما على الجدران أو بنشره في الجريدة الرسمية أو في الصحف المكتوبة أو في المحطات الإذاعية.
ثانيا: التدابير الوقائية العينية
بالرجوع إلى الفصل 127 من القانون الجنائي نجده نص على أنه “… يجوز أيضا أن يحكم عليها بالتدابير الوقائية العينية الواردة في الفصل 62” وهذه التدابير الوقائية العينية تتمثل في المصادرة والإغلاق.
المصادرة
بالنسبة للمصادرة فإنها تتخذ شكلين أساسيين هما: كونها عقوبة إضافية وهي المنصوص عليها في الفصل 36 من القانون الجنائي، وهي العقوبة التي لا يمكن الحكم بها وحدها.
وما يهمنا في هذا الإطار هو المصادرة كتدبير وقائي عيني الذي يتم تطبيقه في حق الشخص المعنوي، متى اقترف سلوك مخالف للقانون الجنائي وهكذا فإن المصادرة هنا تنصب على الأشياء والأدوات المحجوزة التي يكون صنعها أو استعمالها أو بيعها جريمة[25].
الإغلاق
إن الإغلاق كتدبير وقائي عيني الذي يطبق في حق الشخص المعنوي جاء عبارة عامة، وبالتالي فهذا التدبير قد يصدر في حق الشخص المعنوي دون التمييز بينهم حيث يمكن أن يكون ضد المؤسسة كيفما كان غرضها الاجتماعي، أي سواء كان تجاريا أو صناعيا أو فلاحيا.
وإن الفصل 90 من القانون الجنائي في فقرته الأولى، قصد هذا التدبير في حق المؤسسات الصناعية أو التجارية أو أي مؤسسة أخرى في الأحوال التي يجيزها القانون.
والإغلاق الذي يجب أن يطبق في حق الشخص المعنوي يجب أن يكون وفق الشروط الأساسية، تستشف من خلال الفصل 90 من القانون الجنائي، وهي:
- يجب أن يكون المحل قد استعمل في ارتكاب جريمة معينة، سواء كانت جناية، جنحة أو مخالفة.
- إساءة استغلال الرخصة أو الإذن المحصل عليه أو عدم مراعاة النظم الإدارية.
أما الآثار التي قد تنتج عن الإغلاق كتدبير وقائي وعيني، يكمن في منع المحكوم عليه (الشخص المعنوي) من مزاولة نفس المهام داخل المحل الذي تم إغلاقه حيث أن إغلاق محل الشخص المعنوي كجمعية أو شركة يمنع على نفس الجمعية أو الشركة استغلاله في نفس المهنة ولو لم يكن المحل مستعملا من طرف الجمعية أو الشركة مباشرة قبل ارتكاب الجريمة مادام الجاني أحد أعضاء الشخص المعنوي أو يعمل لحسابه، كالمشرف على فرع أو حزب أو جمعية أو ممثل الشركة فإذا أغلق محل فرع جمعية بسبب ما ارتكبه أحد أعضائها منع على الجمعية إعادة فتح المحل ولو تحت إشراف عضو آخر.
وكذلك من يعمل لحساب الشخص المعنوي، مثلا كممثل دار النشر إذا أغلق محله بسبب العثور في هذا المحل على كتب أو نشرات تخل بالأمن، فإن هذا الإغلاق يسري على دار النشر التي يعمل لحسابها، ولو لم يمن عضوا من أعضائها.
خاتمة
لقد تبين من خلال دراستنا لموضوع المسؤولية الجنائية للشخص المعنوي، أن هذه المسؤولية قد تجاوزت بكثير مرحلة الجدل الفقهي بمعنى لم تعد محصورة في سياق الأخذ والرد بين الفقهاء حول مدى الأخذ بها من عدمه، وإنما أخذت بعدا واقعيا حيث أصبحت تمثل حقيقة تشريعية إذ نجد أن التشريعات الحديثة في عدد من الدول بدأت تتجه إلى الأخذ بمبدأ المسؤولية الجنائية للأشخاص المعنوية، وهو ما لمسناه بوضوح في القوانين المقارنة التي تناولناها والتي تبنت التطور الحقيقي والملموس في المواقف التشريعية بشأن هذه المسؤولية حيث ذهبت بعدها إلى تقرير هذه المسؤولية لمبدأ عام في قانون العقوبات، كالقانون الفرنسي وبعض التشريعات العربية منها القانون اللبناني، العراقي والسوري، في حين اتجهت تشريعات أخرى على تقرير المسؤولية الجنائية للأشخاص المعنوية بالنسبة لبعض الجرائم سيما الجرائم الاقتصادية كالقانون المصري، أما المشرع المغربي فيمكن القول على أنه خلق أزمة في الشرعية الجنائية عند سكوته في تحديد الجرائم التي يرتكبها الشخص المعنوي صراحة في نص منظم ووحيد، كما أنه لم يرسم قاعدة واضحة فيما يخص تحديد العقوبة التي قد تلحقه والمنصوص عليها في القسم الخاص من المجموعة الجنائية، الشيء الذي سيجعلنا نطرح التساؤل التالي: هل لدينا نظام جنائي قانوني متكامل خاص بالأشخاص المعنوية؟
لائحة المراجع
أولا: الكتب العامة
- جندي عبد المالك: الموسوعة الجنائية، المجلد الثالث، دار إحياء التراث العربي، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى بدون سنة الطبع.
- السريعني محمد: قضاء النيابة العامة، منشورات جمعية البحوث والدراسات القضائية 1982.
- سليمان عبد المنعم: النظرية العامة لقانون العقوبات، دار الجامعة الجديدة للنشر، الإسكندرية 2000.
- الشواربي عبد الحميد: الجرائم المالية والتجارية، منشأة المعارف، الإسكندرية 1989.
- عبد الله الشادلي فتوح: شرح قانون العقوبات-القسم العام “المسؤولية والجزاء”، دار المطبوعات الجامعية، الإسكندرية 1997.
- عوض محمد وزكي أبو عامر محمد: مبادئ علم الإجرام والعقاب، الدار الجامعية، بيروت 1992.
- مصطفى محمد أمين: النظرية العامة لقانون العقوبات الإداري (ظاهرة الحد من العقاب)، دار جامعة الجديدة للنشر، الإسكندرية 1996.
ثانيا: الكتب المتخصصة
- سلمان موسى محمود: المسؤولية الجنائية للشخص المعنوي في القانون الليبي والأجنبي، دراسة تفصيلية مقارنة، دار الجماهيرية للنشر والتوزيع والإعلان ليبيا، سنة 1985.
- عبد الله الشادلي فتوح: أساس المسؤولية الجنائية، دار المطبوعات الجامعية، الإسكندرية 2001.
- صالح عمر: المسؤولية الجنائية للأشخاص المعنوية وفقا لقانون العقوبات الفرنسي، دار النهضة العربية القاهرة، الطبعة الأولى 1995.
- شريف السيد كامل: المسؤولية الجنائية للأشخاص المعنوية، دراسة المقارنة، دار النهضة العربية القاهرة، الطبعة الأولى سنة 1977.
- علي صالح إبراهيم: المسؤولية الجنائية للأشخاص المعنوية، دار المعرفة، الطبعة الأولى بدون سنة طبع.
- كمال الدين إمام محمد: المسؤولية الجنائية وتطورها، دراسة المقارنة في القانون الوضعي والشريعة الإسلامية، المؤسسات الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، الطبعة الثانية 1991.
ثالثا: رسائل
- نشنوش عائشة: المسؤولية الجنائية للأشخاص المعنوية، رسالة ماستر نوقشت بكلية الحقوق بجامعة الجزائر 2001-2002.
رابعا: المقالات
- إدوارد بطرس غالي: المسؤولية الجنائية للأشخاص الاعتبارية، مجلة إدارة قضايا الحكومة، السنة الثانية، العدد 4 أكتوبر 1958.
- بنعجيبة محمد:
- المسؤولية الجنائية للأشخاص المعنوية في القانون الجنائي، مجلة الملف، عدد 17، أكتوبر 2010.
- المسؤولية الجنائية للأشخاص المعنوية في القانون الجنائي المغربي، المجلة القانونية للمحكمة الابتدائية بمكناس، العدد المزدوج 2 و 3 سنة 2009.
- العمراني نور الدين: سياسة التجريم والعقاب في إطار المجموعة الجنائية، أية ملائمة؟، نونبر 2009.
[1] العمراني نور الدين: سياسة التجريم والعقاب في إطار المجموعة الجنائية، أية ملائمة؟، مجلة الملف عدد 15 نونبر 2009، ص55.
[2] نشنوش عائشة: المسؤولية الجنائية للأشخاص المعنوية، رسالة ماستر نوقشت بكلية الحقوق بجامعة الجزائر.
[3] نظرا للأهمية العلمية والأعباء الجسيمة التي يعجز على القيام بها الأشخاص الطبيعيون.
[4] وما تحويه من تهديد على أمن المجتمع وسلامته وذلك بسبب طبيعة النشاط المنوط به لذلك كان من المحكمة والعقل ألا تقتصر المسؤولية الجنائية على الأفراد الطبيعيين فقط وإنما تمتد إلى الأشخاص المعنوية أيضا.
[5] علي صالح إبراهيم: المسؤولية الجنائية للأشخاص المعنوية، دار المعرفة، الطبعة الأولى بدون سنة طبع، ص29.
[6] بنعجيبة محمد: المسؤولية الجنائية للأشخاص المعنوية في القانون الجنائي، مجلة الملف، عدد 17، أكتوبر 2010.
[7] جندي عبد المالك: الموسوعة الجنائية، المجلد الثالث، دار إحياء التراث العربي، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى بدون سنة الطبع، ص566.
[8] مع العلم أن الشخص المعنوي ما هو إلا تحايل من القانون على الواقع مما يستحيل معه إسناد الجريمة ماديا ومعنويا إلى شخص يفتقد للوجود الحقيقي المماثل للأشخاص الطبيعية وليس الوجود الظاهر.
[9] جندي عبد المالك: م.س، ص57.
[10] شريف السيد كامل: المسؤولية الجنائية للأشخاص المعنوية، دراسة المقارنة، دار النهضة العربية القاهرة، الطبعة الأولى سنة 1977، ص 13 و 14.
[11] عبد الله الشادلي فتوح: شرح قانون العقوبات-القسم العام “المسؤولية والجزاء”، دار المطبوعات الجامعية، الإسكندرية 1997، ص 31.
[12] شريف السيد كامل، م.س، ص 16.
[13] إدوارد بطرس غالي: المسؤولية الجنائية للأشخاص الاعتبارية، مجلة إدارة قضايا الحكومة، السنة الثانية، العدد 4 أكتوبر 1958، ص 48 و 49.
[14] عوض محمد وزكي أبو عامر محمد: مبادئ علم الإجرام والعقاب، الدار الجامعية، بيروت 1992، ص 441.
وأنظر أيضا: سليمان عبد المنعم: النظرية العامة لقانون العقوبات، دار الجامعة الجديدة للنشر، الإسكندرية 2000، ص 702 و 703.
[15] فتوح عبد الله الشادلي، م.س، ص 32.
[16] مصطفى محمد أمين: النظرية العامة لقانون العقوبات الإداري (ظاهرة الحد من العقاب)، دار جامعة الجديدة للنشر، الإسكندرية 1996، ص 86.
[17] فتوح عبد الله الشادلي، م.س، ص 34.
[18] سلمان موسى محمود: المسؤولية الجنائية للشخص المعنوي في القانون الليبي والأجنبي، دراسة تفصيلية مقارنة، دار الجماهيرية للنشر والتوزيع والإعلان ليبيا، سنة 1985، ص 150.
[19] السريعني محمد: قضاء النيابة العامة، منشورات جمعية البحوث والدراسات القضائية 1982.
[20] قانون توزيع المنتجات الصناعية الفرنسي الصادر في 1867.
[21] حسب قانون العقوبات الفرنسي الصادر سنة 1994 المعدل سنة 2004.
[22] نشنوش عائشة: المسؤولية الجنائية للأشخاص المعنوية، رسالة ماستر نوقشت بكلية الحقوق بجامعة الجزائر 2001-2002.
[23] كما أن الفصل 126 من القانون الجنائي ينص على ما يلي: “تطبق العقوبات والتدابير الوقائية المقررة في هذه المجموعة على الأشخاص الذاتيين”.
[24] الشواربي عبد الحميد،الجرائم المالية والتجارية،منشأة المعارف بالإسكندرية سنة 1989،ص 35.
[25] الفصل 89 من القانون الجنائي المغربي لسنة 1962.