تستمد الضرائب شرعيتها من حقيقة كونها تقوم بتمويل ثلاث جيوب رئيسية داخل الدولة، الوظيفة الأولى هي أنها تقوم بضمان إنتاج السلع اللازمة وتحقيق التنمية والتماسك الاجتماعي للبلاد (التعليم، البحث العلمي، الأمن، الصحة، البنية التحتية…)، الوظيفة الثانية هي كون الضريبة تقوم بإعادة توزيع الدخل من أجل تصحيح الفوارق الاجتماعية واللامساواة داخل المجتمع (المنافع الاجتماعية)، وضمان ضد المخاطر الاجتماعية (التقاعد، التأمين الصحي …). والوظيفة الثالثة والأخيرة تكمن في زيادة النشاط الاقتصادي، ومنع الركود الذي قد يصيب الاقتصاد الوطني.
لذلك، فالسؤال الرئيسي المرتبط بأي نظام ضريبي هو ارتباطه بوجود عدالة ضريبية، هذا المبدأ الذي يجد نفسه في كل من الفصول 39 و40 من دستور المملكة المغربية لسنة 2011. لكن، الواقع يؤكد عكس ذلك، فرغم دسترة مفهوم ومبدأ العدالة الضريبية، فالضريبة على الدخل مثلا ما يقارب 75% من الإيرادات الضريبية المتأتية من هذه الضريبة هي تلك المتحصلة من المنبع وهي الأجور والدخول المعتبرة في حكمها، أما فيما يخص الضريبة على الشركات ف 2% من الشركات تؤدي ما يقارب من 80% من إيرادات هذه الضريبة، أما الضريبة على القيمة المضافة فهي المورد الرئيسي لخزينة الدولة، في حين أن عبئها يتحمله الملزم.
فأسباب عدم وجود عدالة ضريبية في نظامنا الضريبي المغربي تجد أساسها في الاختيارات الخاطئة للسياسات الضريبية، وأيضا في طرق وأساليب احتساب وتصفية ووعاء وتدبير الضريبة، زيادة على عدم وجود تطبيق صحيح ومثالي لمخرجات المناظرة الوطنية الثانية حول الجبايات لسنة 2013، فلحد الساعة لم يتحقق أحد الأعمدة الأساسية لهذه المناظرة وهو سن تشريع جبائي يضمن العدالة الجبائية بين جميع الملزمين. لذلك وجب علينا في الأول من أجل تنوير القارئ المغربي على وجه عام، ودافعي الضرائب بشكل خاص، معرفة ما هي العدالة الضريبية؟ وكيف يمكن للضريبة أن تحقق العدالة الاجتماعية؟ وكيف يمكن لنظام ضريبي عادل أن يشكل مدخلا لتحقيق العدالة الاجتماعية؟
أولا: في مفهوم العدالة الضريبية
ينبغي التفريق بين مفهوم العدالة كهدف من أهداف الضريبة، وبين مفهوم العدالة كركن من أركان الضريبة، فالعدالة كركن من أركان الضريبة، يقصد به مساهمة أفراد المجتمع في أداء الضريبة بما يتناسب وقدرتهم المالية، فيجب على جميع الخاضعين للضريبة كأفراد أن يتحملوا عبئها ويخضعوا لها دون محاباة أو تفضيل. أما العدالة كهدف من أهداف الضريبة، فهي تعني إعادة توزيع الدخل والثروة ومنع تكتل الثروات بيد فئة معينة من المجتمع، وذلك من خلال فرض الضرائب على الثروات، أو تطبيق التصاعد بالضرائب.
لذلك، فمبدأ العدالة الضريبية له مؤشرات ناظمة وضابطة، من بينها أحقية الملزم في مراقبة تصحيح إقراراته، واللجوء إلى الطعون ضدا على قرارات الإدارة، وتبني أحكام وإجراءات وآجال وأحكام فنية خالية من الغموض والتعقيد النصي، تقوم على تشخيصية السعر والوعاء، وتعتمد على سهولة التحصيل المالي ووضوحه، إضافة لعمومية المادة الجبائية، وكأداة تدخلية لتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية والعمرانية.
فكما أن الضريبة يجب أن تكون وافرة في حصيلتها، يجب أن تكون عادلة في فرضها، لأن العدالة شرط أساسي لكل إصلاح يقوم على تحقيق العدالة الاجتماعية. لذلك فالضريبة تلعب دورا هاما في المجال الاقتصادي باعتبارها المورد الأساسي لخزينة الدولة، غير أنها لا تحقق أهدافها المتنوعة إلا إذا تم تحديدها وفرضها على أساس العدل والعدالة الضريبية المنصوص عليها دستوريا. وعلى ذلك، فقد سعى المشرع إلى وضع نصوص قانونية وتشريعية لتحقيق هذه العدالة، وحماية المكلف بالضريبة حين قيام الإدارة الجبائية بممارسة سلطاتها وخلال مختلف مراحل المواجهة.
وتبعا لذلك، فالضريبة يجب أن تكون عادلة يشترك في تأديتها كل المواطنين، بحسب قدرة كل منهم على الدفع، وذلك حسب منطوق الفصل 39 من دستور المملكة المغربية لسنة 2011، الذي ينص على أنه “على الجميع أن يتحمل كل قدر استطاعته التكاليف العمومية، التي للقانون وحده الصلاحية لإحداثها وتوزيعها، وفق الإجراءات المنصوص عليها في الدستور”. وأيضا الفصل 40 من نفس الدستور، الذي ينص على أنه “على الجميع أن يتحمل، بصفة تضامنية، وبشكل يتناسب مع الوسائل التي يتوفرون عليها، التكاليف التي تتطلبها تنمية البلاد، وكذا تلك الناتجة عن الأعباء الناجمة عن الآفات والكوارث الطبيعية التي تصيب البلاد”. كما يجب أن تكون الضريبة في باب العدالة، محددة على سبيل اليقين دون غموض في تحديد مقدارها ومواعيد دفعها وطرق جبايتها وإجراءات تحققها وتنفيذها. ويدخل في هذا الإطار استقرار النظام الضريبي وثباته، فلا يكون عرضة للتبدل والتغيير المستمر، إذ يجب أن يتعود المكلف على دفعها ولا يشعر بازدياد عبئها عليه، بحيث لا يتعارض ذلك مع المرونة، وأن تجبى بالطرق والأوقات الأكثر ملائمة للمكلف والإدارة معا.
ثانيا: العدالة الضريبية عقد اجتماعي
الضرائب غالبا ما تدمي قلب دافعيها، وأداء الضريبة دائما ما تكون له انعكاسات سلبية على نفسية المكلفين. في حين، بدون ضرائب، مجتمعنا سيصبح عاجزا عن العمل بشكل اعتيادي وصحيح. بدون ضرائب، ليس هناك خدمات اجتماعية كالمستشفيات، المدارس، الطرق السيارة، القطارات…، فبأداء الضريبة، الحكومة والملزم يوقعان عقدا اجتماعيا، الضرائب والرسوم يعاد توزيعها وبرمجتها لكي تصبح كمساعدات مختلفة تهم الجوانب المختلفة من حياة المواطنين.
فمن خلال الضرائب، الحكومة تستثمر شق كبير من ميزانيتها في الخدمات الاجتماعية الأساسية، وبواسطتها فحاجيات المواطنين والمواطنات ينبغي أن تتطور وترتقي كالصحة والتعليم على سبيل المثال. ولتسهيل تقسيم الثروات والتقليل من عدم المساواة، فمن الضروري أن يكون هناك نظام ضريبي عادل، نظام بواسطته يؤدي كل مواطن نصيبه من الضرائب حسب مقدرته التكليفية، في حين يساهم ذوي الثروات والأشخاص الأغنياء بنصيب وافر زيادة على ما يساهم به الفقراء. من جهة أخرى، يجب أن يكون هناك إدارة وتدبير شفاف خاضع للمساءلة طبقا لأحكام الفقرة الثانية من الفصل الأول من الدستور المغربي الذي ينص على أنه:” يقوم النظام الدستوري للمملكة على أساس فصل السلط، وتوازنها وتعاونها، والديمقراطية المواطنة والتشاركية، وعلى مبادئ الحكامة الجيدة، وربط المسؤولية بالمحاسبة”، وذلك من أجل الاستثمار بوعي في المصلحة العامة للبلاد والعباد. لكن مع حكومة فاسدة تتبع الغنيمة ولا يهمها مصلحة البلاد، العقد الاجتماعي الذي يربط دافع الضريبة (المواطن) والدولة هو عقد مكسور وباطل، الشيء الذي يؤدي إلى عدم ثقة المواطن في الدولة. وفي النهاية، فشيء طبيعي وواضح أن يتم استثمار الضرائب التي تم جبايتها في خدمات ذات منفعة عامة (الصحة، التعليم، الحماية الاجتماعية…).
بالمقابل، فالنظام الضريبي غير العادل يزيد في حدة وتفاقم ظاهرة عدم المساواة، كمثال على ذلك فالشركات المتعددة الجنسيات وأصحاب الثروات والأثرياء يرون في ثرواتهم وأرباحهم تزداد وتنمو بدون وجود أي عائق أو حاجز أو رادع، في حين ترى الدولة عائداتها الضريبية تقل وتختفي. زيادة على ذلك، نجد ما يصطلح عليه بالملاذات الضريبية (les paradis fiscaux)، وهي بصفة عامة شكل من أشكال التهرب الضريبي، والتي تساهم بشكل فعلي وقوي في زيادة التفاوتات الاجتماعية وعدم المساواة (inégalités). وبواسطته فالأغنياء وأصحاب الثروات والشركات المتعددة الجنسيات زادت في أرباحها وفي نسبة ثرواتها بواسطة هذه الملاذات الضريبية، وبسبب هذه الظاهرة فالعديد من الدول خسرت أكثر من 156 مليار أورو من المداخيل الضريبية، ويقدر بأن 30% من الموارد المالية لأفريقيا توجد بالخارج « offshore ».
بعبارة أخرى، فمبلغ 14 مليار دولار سنويا حسب بعض التقديرات يتم خسارتها، هذا المبلغ يكفي لدفع تكاليف علاج مجموعة كبيرة من الأشخاص، وإدماج العديد من الأشخاص في سوق الشغل، ولتطوير وبناء مجموعة من المدارس ذات جودة عالية. وبذلا من ذلك، 896 مليون شخص يعيشون في بلدان يوجد بها عدم مساواة وتفاوت كبير في طبقاتها لاجتماعية أكثر حدة منذ ما يزيد عن 30 سنة ماضية.
وفي تقرير لصندوق النقد الدولي المعروف اختصارا ب (FMI) حول الرضا الضريبي للشركات، أكد بأن البلدان في طور النمو تعاني من فقدان نسبة 1,75% من ناتجها الداخلي الخام (PIB). وهي ثلاث مرات أكثر من الدول الغنية. فالتهرب الضريبي للشركات بلغ سنويا 100 مليار دولار في الدول السائرة في طور النمو حسب تقرير صادر عن منظمة مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (UNCTAD). لذلك، فالفضائح العالمية التي تم نشرها مؤخرا حول (Luxleaks) و (Panamapapers) ليست سوى غيض من فيض، وتلك الثروات التي تم رصدها في هذه الفضائح، والتي تشمل ما يزيد عن 214.488 شركة قائمة خارج الدولة (extraterritoriale)، وست رؤساء دول متورطين بشكل مباشر في هذه القضية. هذه الثروات كان يمكن لها أن تساهم في تثبيت ووضع نظام ضريبي عادل في جميع أنحاء العالم، والتقليل جزئيا من عدم المساواة والتفاوت الطبقي المهول. لذلك، يجب العمل على إنهاء هذه الملاذات الضريبية.
فالبلدان في طريق النمو تخسر كل سنة ما يقل عن 170 مليار دولار من المداخيل الضريبية، كون أن أصحاب الثروات والشركات متعددة الجنسيات تخفي مبالغ خيالية داخل هذه الملاذات الضريبية، وهو على مرتين 2x المبلغ الضروري والكافي للقضاء على الفقر بالعالم.
إن خير دليل على أن النظام الضريبي المغربي نظام غير عادل، هو تأكيد المناظرتين الوطنيتين، سواء الأولى التي انعقدت في أواخر سنة 1999، أو المناظرة الثانية حول الجبايات التي انعقدت بالصخيرات سنة 2013، على ضرورة سن تشريع جبائي يضمن العدالة الجبائية بين جميع الملزمين، وذلك من خلال التدابير التالية:
- خلق توازن بين الضرائب غير المباشرة التي تشكل حوالي 3/2 من المداخيل الجبائية والضرائب المباشرة التي تراعي وتتماشى مع مبدأ وأهداف العدالة الجبائيى؛
- سن نظام ضريبي يراعي المقدرة التكليفية للملزمين.
مسألة أخرى أساسية تدخل في نطاق العقد الاجتماعي الذي يجب أن يجمع دافع الضريبة بالإدارة، هي مسألة القبول بالضريبة، في كل دولة ديمقراطية يجب قبول الضريبة، هذا القبول إما أن يكون مباشرا أو نصف مباشر، أي أن يكون إما عن طريق الملزمين أو عن طريق من يمثل هؤلاء الملزمين؛ الملاحظ أن الأمر يتوازى حينما نتكلم عن الديمقراطية، فنقول ديمقراطية مباشرة وديمقراطية نصف مباشرة..الخ. في سويسرا مثلا، نجد الكانطونات، فالكانطون هو كل مواطن يصوت لصالح أو ضد التعديلات المتعلقة بالضريبة، إذ هنا يتم القبول، بمعنى أن الناس يقبلون ذلك التعديل بشكل ديمقراطي عن طريق الأغلبية، هذا القبول بدون شك، يرتبط كذلك بحقوق الإنسان، فنجد أن الإعلان الفرنسي لحقوق الإنسان لسنة 1789 مثلا في بنده 14، يقول: “لكل مواطن الحق شخصيا أو بواسطة من يمثله في التأكد من ضرورة المساهمة العامة (أي الضريبة)، من قبولها بحرية ومن تتبع استعمالها، وتحديد مقدارها وأساسها وكيفية تفصيلها ومدتها” إذن فقبول المواطن بالضريبة من خلال هذا البند يرتبط بمختلف مراحلها منذ نشأتها إلى غاية تحصيلها ثم إنفاقها.
إن النقاش الدائر اليوم عن مدى وجود عدالة ضريبية في نظامنا الضريبي المغربي، وعن رهانات تحقيق المعادلة الكامنة في عدالة ضريبية تساوي عدالة اجتماعية، يجعلنا نتساءل بالضرورة عن مدى تطبيق مخرجات المناظرة الوطنية الثانية حول الجبايات التي نظمت بالصخيرات يومي 29 و30 أبريل 2013، وبالخصوص على مستوى البانيل الأول المعنون بالتشريع الضريبي والعدالة، ونحن اليوم بصدد تنظيم مناظرة وطنية ثالثة حول الجبايات ستقام يومي 3و4 ماي المقبل بالرباط، فما الجدوى من تنظيم مناظرة بكلفة مالية مرتفعة وبوسائل لوجيستيكية عالية، إن لم تنفذ توصياتها ونتائجها على أرض الواقع، بل والأدهى من ذلك أن المسؤولين على المناظرة ورغم الكلفة العالية التي نظموا بها هذه المناظرة، لم يكلفوا أنفسهم على الأقل بتشكيل لجنة مختصة من أجل تتبع التوصيات والنتائج ومخرجات هذه المناظرة، وذلك من خلال تطبيقها وتتبعها على مدى مدد زمنية متباينة سواء على 5 أو 10 سنوات على الأكثر، حتى يتم التطبيق الفعلي لجل مخرجاتها.
إلى جانب ذلك، هناك اللغة التي كتبت بها المدونة العامة للضرائب، والتي تعتبر معقدة حتى على الممارسين والمتخصصين في المجال، فما بالك بالمواطن العادي بأن يستوعبها ويعرف كيفية تقديرها واحتسابها. لذلك، وجب إعادة صياغة المدونة العامة للضرائب وفق أسلوب مبسط وسهل الاستيعاب من طرف الجميع.
فمن أجل إصلاح النظام الضريبي المغربي ليصبح نظاما عادلا ومتكاملا، يجب الشروع الآن وبشكل سريع، في تحليل ودراسة نظامنا الضريبي المغربي وفق طريقة تحليلية نقدية من أجل إستخراج نواقص ونقط الضعف الكامنة في هذا النظام، والعمل على إيجاد حلول بديلة من أجل إصلاح نظامنا الضريبي في شقه المتعلق بالعدالة الضريبية.
لأن أي إصلاح يرتبط بالعدالة فهو يمس بشكل أساسي مسألة غاية في الأهمية وهي العدالة الاجتماعية. لذلك، يجب إشراك الجميع في هذا المشروع وبالخصوص الباحثين في المجال وجمعيات المجتمع المدني، وكذا الأحزاب السياسية التي تغيب عنها الرؤى الشمولية للإصلاح الضريبي في جل برامجها الانتخابية والتي ينبغي عليها المشاركة الفعالة في هذا الورش.
منقول