مقدمة :
تجسد الإدارة مظهرا أساسيا لنشاط الدولة الرامي لتلبية الحاجات المختلفة للأفراد في شتى المجالات الادارية والاقتصادية والثقافية في اطار الجودة والفعالية.
وتبعا لذلك تشكل الادارة عنصرا أساسيا ضمن عناصر الحكامة الادارية، إذ تتطور وتتنامى حاجيات الأفراد وتتعدد الخدمات التي تتولاها الادارة، أضحى من الازم الارتقاء بأدائها وتطوير مقومات تسييرها حتى تستجيب بفعالية لمختلف الحاجيات في المجالات الضرورية .
فقد باتت الإدارة في الوقت الحالي مطالبة بالانصياع لمتطلبات التحديث، لاسيما في ظل التحولات العالمية الكبرى الاقتصادية والاجتماعية والآثار الاقتصادية الناتجة عن العولمة التي تهم الإنتاجية والتنافسية إذ بات مفروضا عليها أن تطور وتجدد أساليب اشتغالها ووسائل عملها حتى تستجيب لانتظارات المواطنين وتكون أداة محورية في خدمة التنمية.
تروم المقاربة الجديدة لتحديث التدبير العمومي عمليا إلى تحسن نوعية الأداء الإداري والمالي للإدارات العمومية، خصوصا في ما يتعلق بالخدمات الإدارية من خلال استعمال أدوات جديدة للتدبير.
كما يهدف إلى الحد من صلابة التنظيم الإداري وخلق مرونة في النظام التواصلي داخل الإدارة العمومية ومع محيطها الخارجي.
في زمن أصبح من المسلم به أن النهضة الاقتصادية والاجتماعية مرتبطة ارتباطا وثيقا بفعالية الإدارة وقدرتها على مسايرة التطورات المستجدة[1].
من هنا تبرز أهمية تحسين الادارة العمومية في علاقتها بتحديث التدبير العمومي، إذ أن ذلك سيمكن لا محالة من مواجهة مجموعة من الاختلالات والهفوات التي تشوب هياكل الادارة وطرق تسييرها.
لذلك فالإشكالية المحورية للموضوع تتمثل في مدى قدرة الاصلاحات القانونية والمؤسساتية في تفعيل مبادئ حسن الأداء في التدبير العمومي بالمغرب، في أفق وضع القطيعة مع كل الاختلالات التي شهدتها دواليب الإدارة العمومية.
من خلال هذا التقديم سيتم تسليط الضوء في هذا الموضوع على أهم الآليات التي اتخذتها الدولة من أجل تحسين التدبير العمومي سواء على المستوى الإداري أو المستوى المالي (المطلب الأول)، ثم الانتقال للحديث عن أهمية عقلنة تدبير الموارد البشرية في مستوى ثاني (المطلب الثاني).
المطلب الاول : تفعيل مبادئ حسن الأداء الإداري والمالي
هدف مبادئ التدبير العمومي الجديد إلى تغيير التدبير الداخلي للإدارات العمومية من أجل تحقيق أعلى درجات الفعالية، وذلك من خلال تعديل مؤسسات الدولة لطريقتها في خلق وتفعيل السياسات العمومية[2].
لذلك فتحديث دواليب الدولة لا يمكن أن يتأتى إلا باعتماد سياسات ترابية تروم تقريب الإدارة من المواطنين وكذا ترسيخ مبادئ الشفافية والمحاسبة ونجاعة الأداء المالي.
الفقرة الاولى : اللاتمركز الإداري كآلية لتحسين التدبير العمومي
يعد اللاتمركز الإداري الإطار الأنسب والمحدد الأساسي للرفع من مستوى التدبير الإداري حتى يواكب الخطوات التي قطعها نظام اللامركزية الإدارية، بحيث تقتضي تخويل موظفي الإدارات المركزية بالأقاليم أو بالعاصمة، سلطة اتخاذ بعض القرارات والبث في بعض الأمور الإدارية دون الرجوع إلى السلطة المركزية، مع الخضوع للتسلسل الإداري والسلطة الرئاسية.
من هنا أصبحت لسياسة اللاتركيز الإداري أبعاد تنموية تجسدت في الرسالة الملكية السامية الموجهة للوزير الأول في موضوع ” التدبير اللامتمركز للإستثمار”[3]، وما تضمنته هذه الرسالة من تفويض السلط لولاة الجهات في مجال الاستثمارات.
وقد كان إصدار الدستور 2011 تتويجا لهذا التوجه، حيث حمل في طياته مشروعا يهدف إلى إرساء تنظيم ترابي جديد قائم على أساس الجهوية المتقدمة عبر التنصيص في الباب التاسع منه على المعالم الكبرى لجهوية ذات اختصاصات وصلاحيات واسعة[4]، ذلك أن اللامركزية الجهوية أصبحت من الأدوات الأساسية لخوض معركة التنمية والتنمية المجالية[5] .
ومما لا شك فيه أن الجهوية المتقدمة تشكل فرصة حقيقية لإعادة الرؤية في التنظيم الإداري والترابي، خاصة في جانب سياسة اللاتمركز الإداري، فمع تمتيع الجهات والجماعات الترابية الأخرى بصلاحيات واختصاصات واسعة تستند على مبدأ التدبير الحر ومبدأ التفريع في توزيع الاختصاصات، تأتي ضرورة تنظيم الهيئات المركزية للدولة على المستوى الجهوي والإقليمي حتى تكون قريبة من المجالس المنتخبة وتساهم معها في تدبير أمور التنمية.
ذلك ما أكد عليه الملك في خطابه بمناسبة افتتاح الدورة التشريعية الأولى من السنة التشريعية الأولى من الولاية العاشرة للبرلمان يوم 13 أكتوبر 2017، على أن تحقيق الأهداف المتوخاة من الجهوية المتقدمة رهين بصدور ميثاق للاتمركز الإداري وتحديد برنامج زمني دقيق لتطبيقه.
وأمام هذا التأكيد على ضرورة إخراج هذه الوثيقة، تعكف الحكومة حاليا على إعداد هذا الميثاق فقد جاء في برنامجها لقانون المالية لسنة 2017، كما ينبغي العمل على التنزيل السريع للاتمركز الاداري بما يضمن الانسجام وفعالية تدخلات الدولة والجماعات الترابية ويساهم في توطيد دينامية انبثاق الأقطاب الجهوية وجعلها قاطرة للتنمية الاقتصادية والادماج الاجتماعي.
الفقرة الثانية: ترسيخ التدبير المرتكز على النتائج
لقد شكل إصلاح الميزانية أحد الركائز الأساسية لإصلاح حقيقي للإدارات العمومية، وتفعيل مبادئ الحكامة الجيدة، وهو ما أوجب تجاوز المقترب التقليدي الذي لا يوفر المرونة اللازمة في مجال المساطر المالية، واللجوء إلى أسلوب جديد يأخذ بعين الاعتبار التطورات المتسارعة التي يعرفها ميدان النفقات العمومية على المستوى القطاعي والجغرافي وذلك بشكل يضمن فعاليتها[6].
وهكذا فهذا الإصلاح جاء استجابة لمجموعة من المتطلبات الأساسية المتمثلة في تحقيق توازن الميزانية، وتوطيد الإطار الماكرواقتصادي كشرطين ضروريين لتحقيق التنمية المستدامة واشاعة ثقافة الشفافية وتأكيد مصداقية الميزانية اتجاه الرأي العام، ودعم مبادئ المسائلة والمحاسبة وكذا اعتماد تدبير يقوم على النتائج والفعالية مع تكييف مسلسل الميزانية مع اللاتمركز.
وقد تجسدت إرادة تفعيل هذا التصور من خلال منشور السيد الوزير الأول الصادر بتاريخ 25 دجنبر 2001 ، الذي يدعو فيه إلى مجموع الوزارات إلى ملائمة برمجة ميزانية الدولة وتنفيذها مع اللاتمركز[7].
من هنا فمضمون هذا الإصلاح اقتصر على بعض التدابير الحكومية والتي تشكل في مظهرها ملامحا لمراجعة المنهجية التقليدية للتدبير المالي وقد تمثلت أهم ملامح هذه الآليات في اعتماد مسطرة شمولية للاعتمادات والتعاقد بين الإدارة المركزية ومصالحها الخارجية.
يقصد بشمولية الاعتمادات إمكانيات الآمرين بالصرف في استعمال الاعتمادات المرخص لهم بها لأغراض أخرى غير تلك التي رصدت لها في الأصل، وذلك دون أي ترخيص مسبق، وبالفعل فإن هذه المساطر تمنح للآمرين بالصرف حرية أكبر للتصرف في الاعتمادات[8].
وهكذا فإن اعتماد هذه الآلية يتوخى منه تحسين نجاعة وفعالية الإدارة وترشيد النفقات العمومية وتقوية اللاتمركز باعتباره محورا أساسيا للإصلاح الإداري وتعزيز استقلالية المشرفين على المصالح اللاممركزة، واشعار الآمرين بالصرف بمسؤولية أكبر في تدبير النفقات العمومية واستفادة الفئات من النفقات العمومية بشكل أقوى[9].
وتفعيلا لمقتضيات الفصل 75 من دستور 2011 التي تنص على أن صدور قانون المالية يكون طبق الشروط المنصوص عليها في قانون تنظيمي يحدد طبيعة المعلومات والوثائق والمعطيات الضرورية لتعزيز المناقشة البرلمانية حول مشروع قانون المالية، تم إعداد وسن قانون تنظيمي للمالية يحمل رقم 130.13، حدد له واضعوه ثلاث أهداف أساسية تتمثل في تحسين تدبير المالية العمومية وتعزيز المبادئ والقواعد المالية وتقوية شفافية المالية العمومية، الى جانب تقوية الرقابة عليها .
وترسيخا لرقي النظام المالي للدولة تم اعتماد التعاقد كأداة ضرورية لتأطير العلاقات بين الإدارات المركزية ومصالحها الخارجية تعميقا لعملية اللاتركيز الإداري من خلال إدخال علاقات تدبيريه جديدة مرتكزة على تحسين الأداء والنتائج واللاتركيز، وتوسيع مجال مبادرات المدبرين من خلال ابرام عقد بين الإدارة المركزية والمصالح اللاممركزة التابعة لها، والتعاقد يتمثل في تحديد حقوق والتزامات الطرفين بموجب عقد يغطي عموما ثلاث سنوات وبموجب العقد تستفيد المصالح اللاممركزة من تفويض للسلطة في مجال التدبير[10].
تماشيا مع ذلك تم تفعيل البرمجة الثلاثية السنوات في إطار تنفيذ برامج إصلاح ودعم الإدارة العمومية، ويرمي هذا الإجراء إلى تحسين مسلسل برمجة الميزانية من خلال إضفاء مزيد من المرونة في توزيع الموارد وضبط التوقعات المتعلقة بتطور النفقات العمومية والتحكم في عجز الميزانية[11].
المطلب الثاني : التدبير المعقلن للموارد البشرية
يحتل تدبير الموارد البشرية ركيزة أساسية وحلقة لابد من الوقوف عندها في مسلسل الإصلاح الإداري وتحديث التدبير العمومي بالمغرب، وبذلك فعصرنة العنصر البشري تستقى أهميته من رغبة الادارة في الرقي بخدماتها، وذلك من خلال الاهتمام بالتكوين وتحسين مستويات الإتقان لدى الموظفين وتدبير توقعي أمثل للحاجيات من الموظفين والمؤهلات وتدابير تهدف إلى تشجيع إشراك الموظفين في برامج تحسين خدمات الإدارة، من أجل تحفيزهم وتعزيز تطبيق مناهج للعمل أكثر فعالية.
الفقرة الاولى : تطوير العنصر البشري
تنبني التوجهات الحديثة في تأهيل وتطوير أداء الموارد البشرية على مجموعة من المرتكزات والتي تم استلهامها من أساليب التدبير الخاصة في مجال تدبير الموارد البشرية، وتستند أساسا على التدبير التوقعي للموارد البشرية او الدليل المرجعي للوظائف والكفاءات.
فالتدبير التوقعي للموارد البشرية يقصد به عملية تشخيص ثم تقويم وتصحيح الفوارق والاختلالات ما بين الموارد الحالية المتاحة واسقاطاتها المستقبلية[12].
وتتمثل أهمية التدبير التوقعي في حاجة الإدارة العمومية إليه بسبب ما تواجهه من تغيرات متسارعة على المستوى الداخلي وفي محيطها الخارجي وما يواكب ذلك من تأثير على محتوى ونوع الوظائف والكفاءات والمؤهلات المطلوبة، فهناك وظائف تظهر ووظائف تختفي وأخرى يتغير محتواها.
ويعمل التدبير التوقعي على تهييئ الإدارة بشكل مسبق لهذه التغيرات وانعكاساتها لتكون الإدارة في منأى عن أية مخاطر ناجمة عن عدم استعدادها لمواجهة تحديات المستقبل فتبقى محافظة على جاهزيتها وفاعليتها[13].
ومن جهة ثانية، نجد في هذا الإطار الدليل المرجعي للوظائف والكفاءات الذي يعتبر الوسيلة الأساسية لتشخيص الاختلالات التي تعرفها الإدارة، وهو أساس كل سياسة تروم تدبير جيد وتوقعي للموارد البشرية.
ويعد تحفيز الموارد البشرية من أهم المواضيع التي تشكل تحدي للإدارة والمديرين، في مواجهة القوى الكامنة والمحركة لسلوكيات وتصرفات هذه الموارد أثناء تنفيذها للمهام والأعمال المنوطة.
هكذا فإن قدرة الادارة على إمكانية تحقيق التوازن بين الحوافز والمكافآت من جهة، والأداء المخطط من جهة أخرى، تستوجب إدراكهم لمفاهيم ورؤية الحوافز العادلة، وأهم من هذا وذلك هو قدرتهم على بعث الروح والثقة في نظام التحفيز والمكافآت، كي يتمكنوامن المحافظة على مواردهم البشرية ذات الكفاءة العالية .
الفقرة الثانية : تعزيز سياسة التتبع والتقييم
لمعرفة مدى نجاح واستقرار والسياسات العمومية في تحقيق الأهداف المسطرة لها في مجال من المجالات وفي كل مرحلة من مرحل الإنجاز، لابد من القيام بوقفة للتأمل في ما تم انجازه، وما لم يتم إنجازه وآفاق تحقيق الأهداف والنتائج المطلوبة.
وعلى هذا الأساس تعد مرحلة التتبع والتقييم معيار أساسي للوقوف على مواطن الضعف ومحاولة تجاوزها ثم تبيان مسوغات النجاح ومعرفة ما مدى التقدم أو التأخر في القيام بالمهام داخل الادارات العمومية في مجال إسداء مختلف الخدمات العمومية.
ويعتبر التتبع والتقييم من أهم الآليات التي تسمح بتحسين فعالية وفاعلية التدخلات العمومية من خلال تتبع مستويات الإنجازات المحققة بناء على مؤشرات مضبوطة وتحليل العلاقات السببية التي قادت إلى النتائج المحصلة، سواء كانت نتائج إيجابية تتوافق مع الأهداف المسطرة، أو نتائج عكسية[14].
يتمثل هدف تتبع حسن الأداء في التأكد من أن مختلف التدخلات التي تم القيام بها قد حققت النتائج المنتظرة، وأدت بالفعل إلى تحسين الخدمات المقدمة للعموم، وبذلك فهو عملية موجهة لقياس تقدم ومنجزات برنامج ما مقارنة مع النتائج المحققة بشكل يسمح بتحديد مستويات الأداء المنتظرة، وجمع المعطيات من أجل تتبع التطور المنجز وتقييم ما إذا كان
الأداء المنتظر قد تحقق أم لا مع تقديم الحساب إلى الحكومة والمنتخبين والمواطنين[15].
وعلى هذا الأساس فعملية تقييم الأداء، هو عملية قياس انجازات المؤسسة المحققة فعلا باستخدام مؤشرات أغلبها كمية ليصبح لدى المسير بالإضافة إلى المعلومات المعيارية معلومات حقيقية تعبر عن النتائج الفعلية للمؤسسة، مما يسمح بإصدار أحكام تقييمية بشأن أداء المؤسسة أو إحدى وظائفها[16].
وفي نفس الاتجاه لا بد من الاشارة الى تقرير المجلس الاعلى للحسابات بخصوص الوظيفة العمومية الصادر في اكتوبر 2017 ، الذي أكد على ضرورة ارساء آليات لتحسين جودة الخدمات العمومية من خلال إضفاء المصداقية على منظومة التقييم وربط الترقية بالاستحقاق مع مراجعة حكامة إصلاحات الوظيفة العمومية والتقيد بالإجراءات المعتمدة في تبسيط المساطر.
خاتمة:
ختاما لا بد من التأكيد على أن مقاربة موضوع التدبير العمومي بالمغرب تقتضي من الفاعل السياسي مسايرة مختلف المستجدات التي لحقت مختلف جوانب التنظيم داخل الدولة في اتجاه تغيير الإدارة العمومية لطريقة ونمط اشتغالها،
الأمر الذي دفع إلى التفكير في صياغة استراتيجية للإصلاح متكاملة تستند إلى الارتقاء بالتدبير العمومي إلى تدبير يرتكز على الفعالية وقواعد حسن الأداء، ويستجيب للتحديات الجديدة لمتطلبات الواقع الداخلي والخارجي.
ولإنجاح عملية التحديث هذه، فلابد من إدماج جميع العناصر السالفة الذكر، وتوفير المناخ الملائم لذلك، ولتحقيق هذا المبتغى يجب المزيد من الحزم والصرامة من جهة، والإدارة السياسية المفعمة بمبادئ القيم الاجتماعية الإنسانية، كالشفافية والنزاهة والمساواة في الحقوق والوجبات من جهة أخرى.
منقول