تدعيم النزاهة في قطاع العدل بين متطلبات الدستور وخصوصيات الممارسة


تدعيم النزاهة في قطاع العدل بين متطلبات الدستور وخصوصيات الممارسة

 

شهدت سنة 2011 نشاطا تشريعيا مكثفا توج في شهر يوليوز بحدث وطني حمل معه فيضا من المتغيرات التي ستدشن لمرحلة جديدة في مسار الإنجازات التي أنتجتها على امتدادها الفترة ما بعد 23 يوليوز 1999 إلى يومنا هذا، فترة حكم الملك محمد السادس، التي تسمو بحمولتها كما وكيفا على كل محاولة قد يتهيأ لها سهولة اختزالها في عمل من بضع صفحات، بل إنها بالأحرى حقيقة تاريخية راسخة في الذاكرة الوطنية وموثقة في شهادات المنتظم الدولي.
وعلى العموم، وفي هذا السياق المغمور بمساعي جلالته المتواصلة ومجهوداته الدؤوبة التي تعتزم الإقلاع بهذا البلد إلى مدارج أفضل، وخصوصا على إثر فتح أوراش الإصلاح والتحديث المؤسسي والتنموي في السنوات الأخيرة في عدد من القطاعات، في مقدمتها قطاع العدل الذي جعله جلالته في صلب انشغالاته، بحيث رصد له مخططا يجسد العمق الاستراتيجي لإصلاحه، عرضه على أنظار شعبه عبر خطاب 20 غشت 2009 المخلد للذكرى السادسة والخمسين لثورة الملك والشعب؛ وبعد الخطاب الذي ألقاه في 9 مارس 2011 معلنا فيه عن إطلاق مبادرة إصلاح دستوري جوهري، دخل المغرب عهدا جديدا أسفر عن ميلاد الدستور الحالي.
وبعيدا عن الخوض في تقييم حصيلة الممارسة الميدانية التي راكمها الدستور المراجع بموجب استفتاء 13 شتنبر 1996، الذي نسخت مقتضياته بدخول دستور فاتح يوليوز 2011 حيز التنفيذ – مع مراعاة بعض الأحكام الانتقالية- وبمنأى عن تبني أي موقف متهافت بشأن هذا الأخير، إيمانا منا بأن كلمة الفصل ستكون في المستقبل لنتائج التنزيل التطبيقي له، والتي هي رهينة بمدى قوة ومصداقية انخراط الجميع في حسن تفعيل وتدبير مضامينه، فإننا من غير تطفل على أهل التخصص في المادة الدستورية، ولكن من موقعنا فحسب كمواطنة مهتمة بالأوضاع في بلادها، وعاشت هذه التجربة عن كثب بكل حيثياتها أولا، وثانيا كباحثة أكاديمية تجرها أكثر ميولاتها الثقافية إلى تتبع  تطورات الشأن القضائي، وددنا أن نشارك بهذا القسط المتواضع الذي يروم ملامسة المعطيات الجديدة التي خص بها دستور فاتح يوليوز 2011 القضاء، وهي نقطة انطلاق توجد وراءها عزيمة قوية من طرفنا في العطاء أكثر في هذا الباب، أبينا إلا أن نترجمها في كتاب سيصدر لنا قريبا تحت عنوان:
«التحديات الكبرى للدستور المغربي الجديد في مجال القضاء وأوجه تطبيقاتها في مادة التنظيم القضائي للمملكة»: دراسة تحليلية وفق آخر المستجدات:
الدستور الجديد الصادر في 29 يوليوز 2011.
قوانين جديدة.
مشاريع قوانين.
الطبعة الأولى سنة 2011-2012.
وفي انتظار ذلك، نكتفي بالإشارة هنا، إلى أن دستور صيف 2011، وعلى مستوى الشكل، جاء مشتملا على مائة وثمانين فصلا وزعت على أربعة عشر بابا، استهلت بتصدير يحتوي على مجموعة من المبادئ التي تتمحور إجمالا – حسب رؤيتنا الشخصية لها- حول خيارات مركزية استقرت عليها المملكة المغربية، والتزامات ثابتة تعهدت باحترامها والتشبث بها على الصعيد الدولي، ومقومات أساسية للهوية المغربية.
أما بالنسبة لمضمون كل باب من الأبواب المذكورة، وبالأسلوب الذي نسجت به معطياته، فإنه يؤلف بدون منازع مادة غنية من شأنها أن تفجر الكثير من المبادرات قراءة وتحليلا وتعليقا، بدءا من الباب الأول الذي افتتح بالتنصيص على فصل مرن للسلط كأساس أصبح يقوم عليه النظام الدستوري في بلادنا – خلافا لما كان عليه الأمر في العهود السالفة حيث كان المغرب يعرف تمركزا للسلط وتوزيعا للوظائف- وعلى مبادئ الحكامة الجيدة كمرجعية لترسيخ ثقافة جديدة قوامها ربط ممارسة المسؤولية بالمحاسبة، وعلى الجهوية الموسعة كتنظيم ترابي، انتهاء بالباب الأخير الذي تفرد بالأحكام الانتقالية والختامية.

أولا : الارتقاء بالقضاء إلى مصاف السلطة وتكريس الضمانات الأساسية لاستقلاليتها
فيما يتعلق بموضوع مقالتنا، الذي يحتل الباب السابع  من الدستور – أي الفصول من 107 إلى 128- بعنوان: «السلطة القضائية»، نرى أن هذه التسمية تعتبر تغييرا مهما يستجيب لمطلب ملح ويضع حدا لإشكالية لطالما تجاذبت أطرافها مناقشات وطرحت بشأنها تساؤلات عن طبيعة القضاء، لأنه صيغ في الدساتير السابقة مجرد من أي نعت. أما اليوم، فإن هذه التسمية تنم عن الارتقاء بهذا الأخير إلى مصاف السلطة على غرار الجهازين التشريعي والتنفيذي، ناهيك عن أنه اعترف لها بالاستقلال عنهما، مؤكدا بأن الملك هو الضامن لذلك، مما يحمل على القول إن القضاء يندرج في وظائف إمارة المؤمنين، وبالتالي، فإن الملك هو المؤتمن على ضمان استقلال السلطة القضائية.
غير أن استقلال القاضي، يكفله أيضا الميثاق القائم بينه وبين ضميره، الذي يعد السياج الواقي من تحكم أي مؤثرات أو إغراءات فيه أثناء أداء رسالته التي تفترض في شخصه، إلى جانب الاقتدار المهني والاحترافية الكافية، قيما أدبية – منها النزاهة والحياد- تجعله يمتثل لسلطان القانون ويهتدي بما تمليه عليه مقتضيات العدالة والإنصاف.
ومع التسليم بهذا المبدإ، ألا وهو وضع القضاء موضع السلطة، مثلما هو الحال بالنسبة للسلطتين التشريعية والتنفيذية، إلا أنه ينبغي طبعا استحضار خصوصيات كل واحدة على حدة واختصاصاتها، دون تغييب عنصر حيوي يكمن في ضرورة التعاون فيما بينهما.
هذا، ولدعم ضمانات استقلال السلطة القضائية، نص الدستور علاوة على ما كان قد كرسه سابقه من عدم قابلية قضاة الأحكام للعزل والنقل إلا بمقتضى القانون، على منع كل تدخل بدون وجه حق في ما يعد أصلا من صميم أعمالهم، أو إصدار أوامر إليهم، أو ممارسة ضغوطات عليهم، بل ومعاقبة  كل محاولة للتأثير عليهم.
وفي المقابل، فإنه فرض عليهم أن يصرحوا كتابة بالممتلكات والأصول التي في حيازتهم بصفة مباشرة أو غير مباشرة – وهو مقتضى أكده فيما قبل كل من النظام الأساسي لرجال القضاء ومجموعة القانون الجنائي- واعتبر كل إخلال من طرفهم بواجب الاستقلال خطأ مهنيا جسيما يعرضهم للمساءلة، لأن الاستقلال ليس مجرد امتياز يحجبهم عن كل محاسبة، وإنما هو قاعدة ديمقراطية تخدم حسن سير العدالة، وضمانة دستورية، وغطاء حمائي للمتقاضين.
وفي هذا الصدد، يصرح الدستور بإحداث «هيئة وطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها» تتولى على الخصوص مهام المبادرة والتنسيق والإشراف وضمان تتبع تنفيذ سياسات محاربة الفساد وتلقي ونشر المعلومات في هذا المجال والمساهمة في تخليق الحياة العامة وترسيخ مبادئ الحكامة الجيدة وثقافة المرفق العام وقيم المواطنة المسؤولة.
ولتحقيق نفس الغاية، أقر لهم حرية التعبير عن آرائهم البناءة داخل إطار مؤسسي يصون استقلالهم وتجردهم – كالمجلس الأعلى للسلطة القضائية، والودادية الحسنية للقضاة، والمؤسسة المحمدية للأعمال الاجتماعية لقضاة وموظفي العدل- في رحابه يتسنى لهم ممارسة تلك الحرية في التزام تام بقانون وأخلاقيات رسالتهم النبيلة، ورخص لهم كذلك القيام بالنشاط الجمعوي انخراطا أو تأسيسا، دون نظيره السياسي- الذي يمنعه نظامهم الأساسي- والحزبي.
أضف إلى ما ذكرناه، أن المجلس الأعلى للسلطة القضائية، الذي يرأسه الملك، والذي تغيرت تشكيلته حاليا وتوسعت اختصاصاته بإسناد رئاسته المنتدبة للرئيس الأول لمحكمة النقض بدلا من وزير العدل، وتدعيم تمثيلية النساء القاضيات، وانفتاحه على شخصيات خارج أسرة القضاء مشهود لها بالكفاءة والنزاهة والعطاء في مجال تعزيز استقلال القضاء، يظل الهيئة الوحيدة التي، زيادة على تدبير المسار المهني للقضاة، تنهض بمراقبة وتقييم وضعيتهم ووضعية القضاء عموما. ونغتنم الفرصة ما دامت سانحة، لنشير إلى أنه إذا كان قضاة الأحكام لا يلزمون – على حد تعبير الدستور- سوى بتطبيق القانون تطبيقا عادلا وإصدار الأحكام القضائية وفقا له، فإن قضاة النيابة العامة – الذين إلى جانب قضاة الأحكام، والقضاة الذين يزاولون مهامهم بوزارة العدل يشكلون هيئة واحدة تؤلف السلك القضائي بالمملكة – يلزمون أيضا بتطبيق القانون، لكن يتعين عليهم التقيد بالتعليمات الكتابية الصادرة – في حدود القانون- عن رؤسائهم الأعلين، وهي نقطة تجسد إحدى صور خاصية التسلسل التي يتميز بها جهاز النيابة العامة.

ثانيا: حضور حقوق المتقاضي داخل النص الدستوري الجديد
لما كان شخص المتقاضي يعتبر عنصرا جوهريا وحاسما في معادلة الإسهام في بناء قضاء قوي في دولة الحق والقانون، فإن الدستور الحالي، قبل أن يهتم به على أساس كونه كذلك، نجده قد التفت إليه كإنسان يجب أن تضمن وتحفظ له كرامته وحقوقه أيا كانت حالته الشخصية وكيفما كان وضعه، وكذا كمواطن سواء كان مقيما داخل المغرب أو خارجه، حيث ارتفع بالحريات والحقوق والواجبات التي سطرها له بين دفتيه، إلى مقتضيات دستورية مع ما تحمله هاته الكلمة من دلالات وأبعاد.
وفي هذا الباب، ينص الدستور على إحداث مؤسسة وطنية تعددية ومستقلة تدعى ”المجلس الوطني لحقوق الإنسان والحريات” التي تختص بالنظر في كافة القضايا المتعلقة بالدفاع عن حقوق الإنسان والحريات وحمايتها، وبضمان ممارستها الكاملة والنهوض بها، وبصيانة كرامة وحقوق وحريات المواطنات والمواطنين أفرادا وجماعات، وذلك في نطاق الحرص التام على احترام المرجعيات الوطنية والكونية في هذا المجال.
كما يقضي بإحداث ”مجلس الجالية المغربية بالخارج”، الذي تتلخص مهامه في إبداء آرائه حول توجهات السياسات العمومية التي تمكن المغاربة المقيمين بالخارج، من تأمين الحفاظ على علاقات متينة مع هويتهم المغربية وضمان حقوقهم وصيانة مصالحهم وكذا المساهمة في التنمية البشرية والمستدامة في وطنهم المغرب وتقدمه.
أما عن حقوق المتقاضي، فندرك أنها موضوع على قدر كبير من الأهمية، إذ يتطلب أن تعد له دراسة خاصة، لذا سنقتصر على ذكر ما يفي بالمطلوب في هذا النطاق.
وهكذا، فإن من حق المتقاضي أن يتكفل القضاء بتزويد حقوقه وحرياته بما يلزم من حماية قضائية سندها القانون، وحقه في التقاضي، أي اللجوء إلى المحاكم الوطنية دون أي عائق – وإلا فما جدوى تنصيب تلك المؤسسات بالبلد إذا لم يكن من السهل على المتظلم الوصول إليها للدفاع عن حقوقه ومصالحه المشروعة؟- وتمكينه عند استيفاء الشروط المطلوبة والتقيد بالقواعد المحددة قانونا، من رفع الدعاوى والتقدم بالدفوع التي يتعين عليها النظر فيها وإصدار أحكام بشأنها، وأن يمارس الطعون أمامها وأمام الهيئات المختصة، لاسيما وأنها تعد إحدى الضمانات الأساسية لعدالة جيدة لأن الحكمة من سنها تكمن في بسط رقابة على الأوامر والأحكام والقرارات القضائية من حيث سلامتها ومطابقتها للواقع والقانون، وبعث الطمأنينة في نفس المتظلم منها، هذا بصورة عامة، أما الدستور الجديد فأبى إلا أن يثير إمكانية الطعن في القرارات الإدارية –كانت فردية أم تنظيمية- أمام الهيئة الإدارية المختصة.
كما نص على حق المتقاضي في صدور الأحكام داخل آجال معقولة، وهو مقتضى نعتقد أنه سيسعف في معالجة إشكالية البطء في الإجراءات، وحتى إهمال إصدار الأحكام في القضايا الجاهزة التي حل دور تعيينها في الجلسة، على أن تكون ضوابط تلك الآجال محددة على ضوء طبيعة أنواع القضايا التي تعرض على أنظار المحاكم. وحقه في الدفاع أمامها، ذلك الحق الذي يمثل الثقل الوازن للعدالة الجيدة، كيف لا؟ وهو حق أصيل يتبوأ مكان الصدارة بين طائفة الحقوق الفردية العامة، ويشكل ضمانة ينبغي أن يتمتع بها المتقاضي في ساحة القضاء لتحقيق محاكمة تستوفي مقاييس وصفها بـ «العادلة» كإعطائه فرصة للإدلاء بأقواله وتخويله من الوقت ومن التسهيلات ما يكفيه لإعداد وسائله وتزويده بمحام مجانا في حالة احتياجه وما إلى ذلك.
أما عن حقه في تعويض تتحمله الدولة عن الضرر الذي يصيبه من جراء خطإ قضائي، فإنه يعد بحق مستجدا متطورا، بحيث سينتقل بالوضع الذي كان سائدا في بلادنا تشريعا وقضاء، والذي كان يتمثل في عدم تقرير مسؤولية الدولة عن أخطاء القضاة كقاعدة عامة، إلا في حالات استثنائية ضيقة وضمن نطاق معين –كما في مخاصمة القضاة المنصوص عليها في قانون المسطرة المدنية، ومراجعة الأحكام الواردة في قانون المسطرة الجنائية – إلى دسترة تقرير مسؤولية الدولة عن أخطاء القضاة، وهو من هذا المنطلق نهج يتماشى والمبادئ السامية للعدالة وقيم الديمقراطية وحقوق الإنسان. لكن، ما دامت صياغة النص الذي احتواه جاءت عامة، فإن فضولنا العلمي يدفعنا مع ذلك إلى التساؤل عن مدى وجود شروط ولو على قلتها تحكم هذا النوع من مسؤولية الدولة؟

ثالثا: دعم مرفق القضاء بمبادئ الحكامة الجيدة
بالإضافة إلى الموارد البشرية التي لاشك في مدى فعاليتها في إنجاح مشروع التأسيس لقضاء يواكب العصر الحديث في متطلباته وإكراهاته إذا ما توفر لها من الأسباب ما يمكنها من تحقيق ذلك –كتأهيلها تكوينا وأداء وتقويما وتحسين أوضاعها المادية والاجتماعية- يبرز من زاوية أخرى الإطار المؤسساتي كمكون لا غنى عنه، اعتبارا للدور الذي يضطلع به على مستوى المردودية القضائية التي تتوقف جودتها على تحديث الهياكل القضائية والإدارية، بنهج مثلا حكامة تعتمد على اللاتمركز والتخليق، وتحديث المنظومة القانونية من خلال مراجعة القوانين على نحو يجعلها توافق تطورات العصر، والرفع من النجاعة القضائية بالسعي الحثيث إلى التصدي للعوامل المساهمة في تعقد وبطء العدالة.
فهذه المردودية إذن رهينة بتحديث وتخليق مرفق القضاء وتدبيره وتسييره حسب القواعد التي تقتضيها الحكامة الجيدة.
وفي هذا الاتجاه، ينص الدستور الحالي، على أن مناط تنظيم المرافق العمومية –والقضاء من ضمنها – هو توزيعها على التراب الوطني وفق خريطة يراعى في تقطيعها الهندسي ضمان مبدإ تقريب المواطنات والمواطنين منها والمساواة بين هؤلاء في الولوج إليها والاستمرارية في أداء خدماتها أو مداومة عملها وخضوعها لمعايير الجودة والشفافية والمحاسبة، وكذا للمبادئ والقيم الديمقراطية التي أقرها الدستور في تسييرها؛ ناهيك عن أنه يفترض فيها أيضا أن تفتح أبوابها لتلقي ملاحظاتهم واقتراحاتهم وتظلماتهم على أن تؤمن تتبعها، وأن تمكنهم من حقهم في الحصول على المعلومات الموجودة بحوزتها، إلا لاعتبارات خاصة قيد القانون بموجبها هذا الحق، كما لو كان الأمر يستهدف مثلا حماية الحياة الخاصة للأفراد أو عدم المساس بالحقوق والحريات المكرسة في الدستور، وما إليها من القيود التي ساقها هذا الأخير.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإنه يسجل له كونه لم يفته أن يتطرق إلى قواعد ترتبط بسير العدالة بصفة خاصة، كعلانية الجلسات أي وجوب مناقشة القضية والنطق بالحكم فيها في جلسة مفتوحة للعموم مع إمكانية نقل ما راج فيها إلى الرأي العام عن طريق وسائل الإعلام، إلا إذا قضى القانون بسريتها على وجه الاستثناء شريطة أن يتم النطق بالحكم في جميع الأحوال في جلسة علنية؛ وتعليل أو تسبيب الأحكام، بمعنى بيان الأدلة الواقعية والحجج القانونية التي أسس عليها القاضي حكمه وصدورها وتنفيذها باسم الملك طبقا للقانون. أما فيما يتعلق بمجانية التقاضي التي صاغها الدستور كالآتي:
«يكون التقاضي مجانيا في الحالات المنصوص عليها قانونا لمن لا يتوفر على موارد كافية للتقاضي» فهي نقطة تدعونا إلى أن نتوقف عندها للتوضيح بأن مجانية القضاء: Gratuité de la justice La هي غير المساعدة القضائية assistance judiciaire L’ حيث تفيد الأولى أن من يلجأ إلى هذا الأخير لا يكلف بدفع نفقات الفصل في دعواه إلى القاضي الذي من واجبه أن ينظر في طلبات المتقاضين ويصدر أحكامه فيها دون أخذ مقابل منهم كونه يستخلص راتبه من الدولة.
وبمعنى آخر، فإنه يترتب على المجانية أن الدولة هي التي تتكفل بجميع نفقات تجهيز وتسيير القضاء، بما في ذلك أجور القضاة وموظفي المحاكم وغيرها، دون أن يتعارض مع هذه القاعدة العامة، فرض رسوم قضائية على المتقاضي –تحصلها الخزينة العامة ربما تكمن الغاية من وراء سنها في التقليل من الدعاوى الكيدية، ولم لا؟ إشراكه ولو رمزيا في تحمل تكاليف التقاضي.
غير أن المشرع أخذ بنظام المساعدة القضائية فآثر إعفاء مجموعة من الأشخاص من المصاريف القضائية – وهي مقابل الرسوم القضائية وصوائر أخرى- عن طريق منحها ما يسمى بالمساعدة القضائية، كتلك التي تكون بقوة القانون بالنسبة للعمال وذوي حقوقهم أو مشروطة لمن لا يتوفر على موارد كافية للتقاضي، إذ يجب الإدلاء بطلب يزكى بشهادة صحيحة من حيث الشكل – تسلمها الجهات المعنية- تثبت عسرهم وتتضمن وسائل عيشهم.
واعتبارا لما يشكله الامتناع عن تنفيذ الأحكام والقرارات القضائية من خروج سافر عن القانون ومساس بهيبة السلطة القضائية وبحقوق الأشخاص، ونظرا لعدم كفاية ونجاعة المقتضيات الواردة في قانون المسطرة المدنية التي تدعم مبدأ تنفيذ الأحكام القضائية من غير مماطلة أو تسويف، وتلك التي تعاقب على تحقير المقررات القضائية كما حددها القانون الجنائي، والحلول التي استنبطها القضاء الإداري من أجل تخطي الصعوبات الناجمة عن امتناع الإدارة عن تنفيذ أوامر العدالة، فإن الدستور الجديد، وعيا منه بخطورة هذه المعضلة التي يعرفها القضاء عموما والإداري على وجه الخصوص، اتخذ مبادرة قوامها إدراج تنفيذ هذه الأخيرة بين دفتيه، وأكد في أحد نصوصه على لزوم تنفيذ الأحكام النهائية الحائزة لقوة الشيء المقضي به من قبل الجميع – أي أيا كانت الجهة الصادرة في حقها- وبوجوب تقديم السلطات العمومية العون اللازم كلما طلب منه ذلك، سواء أثناء المحاكمة أو عند تنفيذ الأحكام.
وفي الختام، فإن من بين المستجدات التي لها علاقة بالمحاكم كإطار مؤسساتي، إحداث دستور 29 يوليوز 2011 للمحكمة الدستورية عوض المجلس الدستوري، وحذف المحكمة العليا بدليل إلغاء المقتضيات الخاصة بها والاقتصار على التنصيص على إخضاع أعضاء الحكومة في ما يرتكبونه من جنايات وجنح أثناء ممارستهم لمهامهم للمساءلة الجنائية أمام «محاكم المملكة».
وهكذا، وبعد أن حذفت محكمة العدل الخاصة هي الأخرى منذ سنة 2004، لم يبق من المحاكم الاستثنائية الزجرية سوى المحكمة العسكرية الدائمة للقوات المسلحة الملكية، التي لحد الآن لا توجد إشارات يمكن أن يستشف منها التخطيط لحذفها، علما بأن الدستور رخص بإحداث المحاكم العادية والمتخصصة دون المحاكم الاستثنائية. وبتعبير أدق، إذا كان القانون يختص بالإضافة إلى المواد المسندة إليه صراحة بفصول أخرى من الدستور، بالتشريع في عدة ميادين منها التنظيم القضائي وإحداث أصناف جديدة من المحاكم، فإن نشاطه في هذا المضمار لا يمكن أن يشمل مستقبلا إحداث محاكم استثنائية.
كذلك في ظل هذه الموجة المتلاحقة من التغيير في خريطة التنظيم القضائي -التي أسفرت عن حلول قضاء القرب محل محاكم الجماعات والمقاطعات، ودخول المحاكم الابتدائية تجربة التصنيف حسب نوعية القضايا- إلى جانب المقتضيات التي جاء بها الدستور الجديد،  يثور في ذهننا تساؤل آخر بشأن الاستراتيجية التي تفكر وزارة العدل في سلوكها والإجراءات التي تعتزم اتخاذها بالنسبة لكيفية إدماج اللغة الأمازيغية في مجال التقاضي في السنوات المقبلة، علما بأن المغرب سيخوض تجربة ترسيمها وفق مسار متدرج ينطلق ابتداء من التعليم وميادين أخرى ذات أولوية في الحياة العامة؟


اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

x

‎قد يُعجبك أيضاً

 أمين البقالي: ماهية الحريات العامة 

ماهية الحريات العامة   أمين البقالي طالب باحث في العلوم القانونية بكلية الحقوق اكدال مقدمـــــة: موضوع ...