تمييز التحكيم عن غيره من الوسائل البديلة لحل المنازعات
إذا كان من غير المعقول تصور الحياة بدون نزاعات، كذلك لا يمكن تصور نزاع بدون حل وعلى هذا الأساس عمل الإنسان منذ الأزل على البحث عن أحسن السبل للفصل في هذه النزاعات مع مراعاة قواعد العدالة والإنصاف، وإذا كانت النزاعات تحل مبدئيا بواسطة السلطة القضائية بعد أن ولى عهد العدالة الخاصة إلى أن القانون لم يجعل سلوك طريق القضاء إلزاميا، على الخصوم للفصل في منازعاتهم، بل أجاز لهم قبل رفع الدعوى أو بعد رفعها أو أثناء السير فيها أمام أول أو ثاني درجة أو حتى أمام محكمة النقض , اللجوء إلى وسائل أخرى لحل المنازعات، حيث كان لتطور ظروف التجارة والاستثمار الداخلي والدولي، نشوء وسائل أخرى لحسم النزاع يطلق عليها بالوسائل البديلة أو الملائمة لحل المنازعات، تتمثل أهمها في التحكيم الذي تطور بدوره بتطور التجارة والتوظيفات الدولية سواء من حيث شكلياته التي صارت أشبه بكثير من المساطر المعمول بها أمام المحاكم الرسمية، التابعة للدولة .
وإذا كان مصطلح التحكيم قديم في نشوءه,إذ الخاتمة:
نستطيع أن نستخلص مما سلف إلى أن منازعات الأفراد لا تحل دائما بقوة السلطة العامة للدولة (القضاء) وإنما تحل سلميا بوسائل أخرى سواء عن طريق الصلح وهو حل رضائي للنزاع يقوم به الأفراد بأنفسهم عن طريق تنازلات متبادلة عن حقوقهم ولذا قيل” أن صلحا سيئا خير من قضية ناجحة” أو بأسلوب أخر وهو الوساطة حيث يتدخل طرف ثالث لتقريب وجهات النظر بين الطرفين ثم أسلوب ثالث لحل المنازعات لا يقوم على السلطة العامة مثل القضاء كما لا يتم ذاتيا برضاء الطرفين كالصلح، وإنما بنزول أطراف النزاع لرأي طرف ثالث يثقان في رأيه وهذا هو التحكيم فهو أداة سليمة لا تقوم على حل النزاع يفرض من أعلى بقوة السلطة العامة وإنما إلى
امتثال الأفراد لرأي الغير ولذلك قيل أيضا “احتكم ولا تتقاض”.
كما يتجلى لنا أن التحكيم ميزته عن بقية آليات التسوية تتمثل في وجوده كعقد أو اتفاق تحكيمي ويظهر ذلك بصدور حكم تحكيمي، يتمتع بالقطعية في جميع المسائل المعروضة على هيئة التحكيم بما في ذلك موضوع النزاع وكذا الحكم الذي يفصل في مسألة اختصاص هيأة التحكيم أو أي مسألة أخرى تتعلق بالمسطرة التحكيمية، وعلى العموم فكل حكم تصدره هيئة التحكيم وتصفه بأنه حكما تحكيما فإنه يعد كذلك.
وتكييف المقررات الصادرة عن الهيأة المشار إليها بأنه أحكام تحكيمية لها أهمية بالغة لما يترتب عن ذلك من آثار كالطعن بالبطلان أو التعرض الغير الخارج عن الخصومة، أو تذييلها بالصيغة التنفيذية بالإضافة إلى حيازتها بقوة الشيء المقضي به علاوة عن أن الحكم ألتحكيمي يضع حدا للنزاع بين الأطراف ويجعله غير قابل لعرضه من جديد على هيئة التحكيم أو على القضاء من أجل البث فيه من جديد.
إذن فالتحكيم يتميز بأنه قضاء خاص مصدره في الغالب الاتفاق لأنه ينشأ من حرية الأطراف ومن ثم تكون مهمة المحكم كمهمة القاضي، والقرار الذي يصدر عن المحكم مثل القرار الذي يصدر عن القاضي هذا من جهة ومن جهة أخرى لا تكون للتحكيم صفة القضاء العام الذي هو قضاء الدولة والقضاء العادي بل يعتبر قضاء خاصا.
ذلك أن المحكمين أفراد أتاح لهم القانون استثناء الاضطلاع بوظيفة تعود في الأصل إلى الدولة التي تمارسها بمقتضى السلطة العائدة لها، لكن التحكيم يكون خاضعا في إنشائه وتطبيقه لقواعد القانون الوضعي الذي يرخص به يحدد نطاق أعماله والوظيفة القضائية يختلف طابعها ونطاق سلطتها بين قاضي الدولة والمحكم.
عرفه القدماء في جميع الحقب الحضارية المتعاقبة .إلا أن الاهتمام به وتقنينه وتضمين نصوصه في قائمة التشريعات, لم يأتي إلا حديثا لما تميز به هذا النوع من آليات التسوية من سرعة وبساطة وعلى هذا الأساس جاءت المعاهدات الدولية والتشريعات لتحضنه وتحصن احكامه، بحيث لم يعد من المبالغة القول بأن التحكيم لم يعد وسيلة بديلة لحسم المنازعات المدنية والتجارية بل أصبح الوسيلة الأساسية لحسم المنازعات التجارية الدولية خاصة ما يتعلق بالتجارة الالكترونية، وبطبيعة الحال مع دور مهم كذلك لباقي آليات التسوية.
ولذلك وإذا كان التحكيم صاحب الصدارة من بين هذه الآليات فإنه لا يمكن إغفال أو تجاهل الدور الذي تملكه باقي الوسائل الأخرى البديلة خصوصا منها:الوساطة والصلح والتوفيق فهذه الأشكال من العدالة-أيضا-قديمة جدا وهي أقدم من عدالة الدول إلا أنها في السابق كانت تتم بشكل بسيط قائم على إصلاح ذات البين ونابعة من العادات والتقاليد السائدة في المجتمع خاصة المجتمع الإسلامي .ثم انتقل العمل بها في البلدان الأوربية والغربية في القرون القليلة الماضية هذا ما جعل هذه الوسائل، تأخذ طريقها لتصبح أيضا من وسائل حسم النزاعات .
وقد اتجهت المعاهدات والاتفاقيات الدولية في لتفعيل دور هذه الوسائل على المستوى الدولي، إذ وضعت اتفاقية المؤسسة العربية، لضمان الاستثمار,الوساطة والتوفيق والصلح وسائل لحسم النزاعات يرجع إليها لفض النزاع قبل اللجوء إلى التحكيم، وكذلك فعلت اتفاقية البنك الدولي بشأن تسوية منازعات للاستثمار، إضافة لنظام المصالحة والتحكيم التابع لغرفة التجارة الدولية والذي نص على نظام المصالحة الاختيارية وحدد مجموعة من الإجراءات له.وكذلك نص الاونسترال [لجنة الأمم المتحدة لقانون التجارة الدولية] على قواعد للتوفيق وقد كان لها وقع ايجابي في المنازعات الدولية وكذا أثر في نشر التوفيق كوسيلة لحسم المنازعات الدولية .
تنقسم قوانين الدول العربية في تنظيم أحكام التحكيم من حيث الشكل إلى قسمين: قسم نظم هذه الأحكام في قانون أصول المحاكمات المدنية (السوري، اللبناني، والإماراتي، والقطري…) وقسم أخر نظمها في قانون مستقل (المصري الأردني) .
أما المشرع المغربي فقد نظم التحكيم بقانون رقم 05-08- المتعلق بالتحكيم والوساطة الاتفاقية القاضي بنسخ وتعويض الباب الثامن من القسم الخامس من ق.م.م وإفراد له نوعين: الأول خاص بالتحكيم الداخل (الفصل-1306 إلى 37-327)وخصص الفرع الثاني للتحكيم الدولي من الفصل (39-327 إلى 54-327) اضافة الى انه في مختلف فروع تشريعاته يأخذ بعدة وسائل بديلة لحسم المنازعات، سواء في المدونات الكبرى أو في القوانين الخاصة أو في قوانين الموضوع في قوانين الشكل زيادة على القوانين المنظمة لبعض المؤسسات والمهن الحرة وسيرا على نهج غيره من الدول عمل المغرب على تفعيل دور هذه الوسائل وقد تجلى هذا الاهتمام بصورة فعلية في انتشار مركز التحكيم والتوفيق في عدة مدن مغربية ومبادرة عدة غرف تجارية إلى العمل على إنشاء هذا المراكز .
وارتباطا بموضوع العرض-تمييز التحكيم عن غيره من آليات التسوية-قيد الدراسة سنحاول الإحاطة بأهم نقاط الاختلاف، التي تميز التحكيم عن غيره باعتباره الوسيلة الأساس والبديل عن القضاء، وكذلك دور هذا الأخير في تطبيق هذه الآليات على المستوى العملي وضمان تحقيقها ونظرا لصعوبة الإحاطة بكل آليات التسوية-لأنها تختلف حسب الدول-سنعمل على البحث في أهم الآليات التي أخذ بها مشرعنا المغربي ضمن نصوصه التشريعية وإلى أي حد استطاع المشرع تحقيق و ترسيخ دور هذه الوسائل، ضمن قوانينه؟ هذا ما سنعمل على الخوض في مضامينه من خلال العرض وباعتمادنا على التصميم التالي :
المبحث الأول: تمييز التحكيم عن غيره من آليات التسوية الرسمية
المبحث الثاني: تمييز التحكيم عن غيره من آليات التسوية الغير الرسمية
المبحث الأول: تمييز التحكيم عن آليات التسوية الرسمية:
لا احد ينكر الدور المهم و الفعال للمؤسسة القضائية على مر العصور والأزمان,وبالمقابل لا يخفى على احد المعضلة الاساسية التي صار يواجهها القضاء في مختلف الانظمة القضائية في العالم,والتي تتجلى في تراكم القضايا.هذه المعضلة جعلت الدول تتجه بشكل اساسي نحو التحكيم كبديل عن القضاء.سنبحث فيما يلي ميزته عن القضاء بشكل عام وخصوصا القضاء العادي(المطلب الأول) وكذا ميزته عن القضاء ألاستعجالي أو المستعجل (المطلب الثاني).
المطلب الأول: القضاء العادي:
لم يعالج الفقه السائد هذا النوع من أنواع التمييز بصفة خاصة ويرجع ذلك إلى وضوحه واستخلاصه من موضوعات الدراسة في مسائل التحكيم فقهاء الدولة هو سلطة من السلطات العامة، يقوم عليها مرفق عام والقاضي موظف عام له ولاية قضائية دائمة يصدر أحكام قضائية باسم الدولة التابع لها.
أما التحكيم فهو اتفاق ينشأ بمقتضاه نظام إجرائي قضائي مؤقت قاصر على نزاع معين بنطاق محدد يقوم عليه شخص عادي له ولاية قضائية ومهمة مؤقتة تنتهي بإصدار الحكم المنوط به إصداره ثم يعود فردا عاديا .
هذا ويعرف التنظيم القانوني توعين من التحكيم يختلفان من حيث سلطة المحكم أو المحكمين عند الفصل في النزاع المراد عرضه على التحكيم وهما التحكيم بالقضاء ويسميه القانون المصري اختصارا “تحكيما عاديا” وقد يكون تحكيما مع التفويض بالصلح والفارق بين النوعين من التحكيم يكمن في سلطة المحكم أو المحكمين عند قيامهم بالفصل في النزاع المراد عرضه على التحكيم بدلا من عرضه على جهات القضاء العام في الدولة .
وإذا كان هذا شأن التحكيم فإن القضاء العادي مهمته أن يتولى أمر الرقابة على أعمال الإدارة من خلال تمتعه بالولاية والأشخاص من جهة ثانية، أو تلك التي تقوم بين الدولة والأشخاص العامة الأخرى بعضها مع البعض الآخر وسواء أكان العمل الصادر من الدولة والأشخاص العامة الأخرى محل النزاع متسما بمظاهر السلطة العامة أم لم يكن كذلك .
ويذهب جانب من الفقه إلا ترجيح الطبيعة القضائية لتحكيم عن أساس أن الأطراف عندما يختارون حل نزاعاتهم عن طريق الامتثال لأمر المحكم فإن ذلك يعني التنازل عن الالتجاء إلى القضاء العام مقابل الالتجاء إلى التحكيم الذي يعتبر المحكمين فيه بمثابة قضاة بحكم المهمة التي يقومون بها وهي الفصل في النزاع باستصدار مقرر تحكيمي يكتسي قوة الشئ المقضي به شأنه شأن الحكم القضائي .
فالتحكيم وسيلة أو أداة للفصل في المنازعات إلا أنه قد يختلط مع أفكار قانونية أخرى وقد تتشابه مع وسائل أخرى لتسوية النزاعات بغير الطريقة القضائية وأهم هذه الأفكار والوسائل: اتفاقيات التسوية وعقود الصلح أو المصالحة والوساطة .
إن التحكيم أصبح ظاهرة من مظاهر العصر الحديث ورغبة اللجوء إليه كنظام لحسم المنازعات لما يضمن من استقلالية وحياد لا يوفرها فضاء الدولة التي في غياب هذه التقنية يمكن اعتبارها خصما وحكما، فبدوره التحكيم لم يكن لكثير من عقود التجارة الدولية اثر ولا تطبيق.
وتزداد أهمية التحكيم في قانون العلاقات الاقتصادية لما يوفره من سرعة في البت في المنازعات وسرية تامة تجعل الأطراف يطمئنون إليه لكونه يحافظ على أسرارهم التجارية . وحسب مركز التحكيم المحلي والدولي التونسي الذي يرى أنه بالنظر إلى الصبغة الإدارية التي يقوم عليها عمل الموظفون العموميون وفق للقائمة الحصرية التي تمسكها وزارة العمل وحقوق الانسان. وخاصة منهم القضاة المجلسيون والإداريون وحتى بالنسبة لأعضاء نيابة الحق العمومية فإنهم يعتبرون من قبيل الوسائل المهنية الخاصة بهياكلها الحكومية لدى مختلف الدراجات القضائية أو بغيرها من تلك التي تعنى بشؤون الإدارة والتنظيم وبالتالي فإنه وبقدر الاستقلالية التي تقوم عليها ولاية وزارة العدل وحقوق الإنسان من سلطات على مختلف الهياكل المنضوية تحت لواها من الموظفين العموميين وكامل السيادة والاستقلالية فإن الأمريكيون على ذلك الشكل بالنسبة للهيئات التحكمية المنضوية تحت لواء مؤسسة التحكيم “والإنصاف” بصورة تسمح لها بممارسة نفس الصلاحيات المخولة لها إزاء مطلق الأطراف والكفاءات المنضوين تحت لوائها بكامل نفس السيادة والاستقلالية المتبعة لدى القضاء وهو ما لا يسمح لأي من كلا السلطتين القضائيتين التدخل في شؤون الأخرى أو مراقبة القضاة الراجعين لهذا وذلك سواء فيما يتعلق بنشاطاتهم المهنية أو الترقيات وما شابه ذلك لما لكليهما من استقلالية وسيادة تامة على الأخرى .
وإذا كان التحكيم ذو طبيعة قضائية فإن هذه الأخيرة في الدولة يتكون من جهتين مستقلتين جهة القضاء العادي ويكون اختصاصه النظر في جميع المنازعات أيا كان نوعها بين الإفراد أنفسهم وكذلك النظر في جميع المنازعات بين الأفراد من جهة والهيئات الإدارية من جهة أخرى حين تتصرف هذه الهيئات وفق أساليب القانون الخاص، وجهة القضاء الإداري ويكون اختصاصها بصورة عامة مقتصرا على الفصل في المنازعات الإدارية وبين الهيئات الإدارية ذاتها عندما تتصرف هذه الهيئات باعتبارها سلطة عامة ومتوسلة في تصرفاتها بأساليب السلطة العامة أو بأساليب القانون العام .
وتجدر الإشارة إلى أن ما قد يميز التحكيم عن القضاء بصورة عامة هو أنه طريق استثنائي لفض الخصومات قوامه الخروج عن طريق التقاضي العادي وما تكلفه من ضمانات ومن ثم فهو مقصور حتما على ما تتجه إرادة المحتكمين إلى عرضه على هيئة التحكيم لذا يجب ان تضم مشارطة التحكيم تعينا لموضوع النزاع حتى تحدد ولاية المحكمين ويتسنى رقابة مدى التزامهم حدود ولايتهم كما يمكن أن يتم ذلك التحديد أثناء المرافعة أمام هيئة التحكيم .
وأمام التمييز والفرق بين القضاء والتحكيم فإن سلوك طريق التحكيم أمر ينقسم ببساطة وعدم التعقيد ذلك أن طريقة إتباع إجراء خاص بنزاع ما موضوع أمام هيئة التحكيم لا يفصل فيه قاض محدد مقدما أو سلفا وإنما فردا أو هيئة قضائية تشكل خصيصا للفصل في هذا النزاع وحده بحيث تنتهي مهمتها بالفصل فيه ولا يتقيد بالإجراءات والأشكال المحددة وإنما يترك لأطراف النزاع موضوع الاتفاق على التحكيم. أو يترك لهيئة التحكيم المكلفة بحل النزاع إتباع الإجراءات التي يراها في نظر هذا الموضوع بشرط احترام الضمانات الأساسية للقاضي وأهمها احترام حقوق الدفاع لخصوم وأعمال مبدأ المواجهة في الإجراءات بينهم وهذا هو المقصود بالطريق الإجرائي الخصوصي للفصل في النزاع موضوع الاتفاق .
ولئن كان هناك تباين بين القضاء العادي والتحكيم بصفة عامة فإن هذا التباين ينطبق كذلك على التحكيم الحر والتحكيم المؤسساتي المنظم ذلك أن التحكيم النظامي يقوم على معايير إدارية متكاملة بصورة تجعله كفيلا بضمان جميع الحقوق القانونية والفعلية لأطراف خصومة التحكيم أو بعد توقيفها وتلقيها وحتى بعد الحسم فيها سواء من حيث الأصل أو فيما يتعلق بالقرارات الجزئية الأخرى .أيضا بالإضافة إلى التنظيم الإداري والمالي المتوفر لفائدة مصالح الخصوم فتلك التي عددها النظام التحيكمي المؤسساتي “الإنصاف” وخاصة منها المتعلقة بالخدمات الإدارية التي يسديها للأطراف بصفة مجانية
والواقع ان التمييز بين التحكيم وقضاء الدولة أمر واضح للعيان ويستطيع أي متأمل أن يصل إليه بسهولة.
ومن جهة أخرى فإن التحكيم يتميز بمعناه السابق عن الاتفاق على نقل الاختصاص القضائي بين محاكم جهات القضاء التابع للدولة وذلك في الحالات التي يسمح فيها القانون للأفراد بالاتفاق على نقل الاختصاص من محكمة مختصة إلى محكمة أخرى مختصة هي أيضا بالنظر للنزاع لأنه في هذه الحالة لا يوجد مجال للخلط حيث يتم انتقال النزاع بين محاكم تابعة لقضاء الدولة وهذا الوضع يختلف عن الحالة التي يتفق فيها الأطراف على اختيار قاض أو قضاة دائرة معينة كمحكمين في الحالات التي يسمح فيها القانون بذلك. في مثل هذه الحالات يتعلق الأمر بتحكيم بالمعنى الفني .
وعموما فالتحكيم يمتاز عن غيره من آليات التسوية وخصوصا القضاء -كمؤسسة تتميز بسلطة الدولة والسيادة-بالمميزات التالية التحكيم قانون توافقي وبذلك فهو قانون التراضي والتوافق-التحكيم يتسم ببساطة الإجراءات.-كما يتميز بالاقتصاد في المصاريف.
التحكيم يتميز بالسرعة في البث (ثلاثة إلى أربعة أشهركما يمنح المتقاضين السرية في الجلسات كما يشار أيضا بكفاءة وحنكة ودراية المحكمين في ميدان النزاع القائم بين الأطراف .
المطلب الثاني: القضاء ألاستعجالي
إذا كان نظام التحكيم هو وسيلة للفصل في المنازعات بين الأفراد والجماعات أو نظاما خاصا للتقاضي في منازعات معينة بموجبه تعترف الدولة الحديثة لأفراد عاديين او هيئات غير قضائية ليس لهم سلطة القضاء العام فإن نظام القضاء ألاستعجالي من الأنظمة الاكثر اهتماما من طرف المشرع والقضاء والفقه على حد سواء فهو مرتع خصب لرجال الفقه حيث تدفقت فيه أقلامهم بغزارة وسخاء وكان موضوع مناقشات حادة أمام منصات القضاء فدارت حوله مرافعات المحامين وتناولته أحكام القضاء بالتحليل المستفيض .
ولئن كان التحكيم لدى بعض فقهاء المسلمين له طبيعة تعاقدية فهو من باب الوكالة وهذا القول ينطبق على كل أنواع التحكيم لذا لا يشترطون في المحكم ما يشترط في القاضي وذهب إلى ذلك بعض الفقهاء من الفقه المالكي فقد ورد في المنتفي ما نصه:”قال سحنون في المجموعة وكتاب ابنه: لكل واحد منهم أن يرجع فيه ووجه القول الأول بأنه لا يلزم بالتحكيم وهو قول ابن القاسم ومن تابعة أنه عنده من باب الوكالة لوجهتين احدهما أنه حاكم أخاه والولاية عامة والثاني أن حكمه إنما يكون بإذن من يحكم له أو عليه وهذا معنى الوكالة ، وتمييز القضاء ألاستعجالي- وإن كان يدخل في إطار القضاء بشكل عام- عن التحكيم إلا أن الاستعجال –وإن كان يدخل في إطار اختصاصه قاضي الأمور المستعجلة فتدخل القضاء ألاستعجالي رهين بتحقيق ظروف الاستعجال في النازلة، ومن هنا فإن المشرع أحاط هذا النوع من جهة القضاء بالمرونة وبالحركة في كل حالة يلزم فيها تدخل القضاء بسرعة لوقف حالة مستجدة وفيها ضرر محقق لأحد الأطراف أو لأمر بإجراء عمل أو الكف عنه كلما تبين أن هذا الإجراء أو ذلك يجب أن يؤمن به .
وجدير بالذكر أن أهمية وغاية التحكيم الأساسية في نفس الوقت هي الوصول إلى فض النزاع بالشكل الذي يرضى الأطراف المتنازعة ولذلك فإن التحكيم لا يفرض بل يهدف إلى إيجاد الحل المناسب بطرق خاصة وهذا ما جعل أغلبية التشريعات تشير إلى الاعتراف للمحكم بالتفويض بالصلح وعدم تقييده بالقواعد المسطرية الجامدة والمعقدة والاكتفاء باحترام المسطرة المختزلة لما في ذلك من ربح للوقت والمال وبالتالي تحقيق الاستمرار في المعاملات التجارية وتخفيف العبء عن المحاكم .
وإذا كانت ميزة التحكيم عن القضاء بصفة عامة ما تمت الإشارة إليه فإن القضاء ألاستعجالي يشترط لانعقاده توافر شرط الاستعجال وعدم المساس بالموضوع لأنه من قبيل الاختصاص النوعي الذي يعتبر من النظام فإن توافر شرط الاستعجال وعدم المساس بأصل الحق يكون بدوره متعلقا بالنظام العام وترتيبا على ما تقدم يجوز للخصوم الدفع بعدم اختصاص القضاء المستعجل لتخلف شرط الاستعجال أو المساس بالموضوع-في أية حالة كانت عليها الدعوى كما يحق لقاضي المستعجلات أن يقضي بذلك من تلقاء نفسه وليس للخصوم أن يتفقوا على اختصاصه ,بمعنى أن اختصاصه لا يجوز أن يتولد من مجرد رغبة الخصوم في ذلك أو اتفاقهم صراحة على طرح المنازعة أمامه بل يتولد من طبيعة الإجراء المطلوب منه الحكم فيه والحقوق الواجب المحافظة عليها .
وإذا كان التحكيم ذو طبيعة تعاقدية عند أنصار هذه النظرية وطبيعته قضائية عند من يعتبرونه قضائية -كما أشرنا سابقا- فإن كلا من أنصار الطبيعة التعاقدية والقضائية للتحكيم لم يستطيعوا انكار الاتجاه الآخر الذي يتمثل في الطبيعة المختلطة للتحكيم وذلك لأن الإرادة عند الأطراف دور فيه ويجب احترام سلطان الارادة.كما أنه ينتهي بحكم تسبقه مجموعة من الإجراءات يرجع فيها إلى احكام التشريع في باب التحكيم لهذا قالوا أن التحكيم ذا طبيعة مركبة فالصفة التعاقدية مردها في التحكيم إلى تعاقد الأطراف على فض النزاع بواسطة المحكمين والصفة القضائية مردها حسم النزاع بواسطة المحكمين بحكم قضائي بدلا من حسمه بواسطة المحكمة المختصة .
ومن الملاحظ أن الميزة الحقيقة أو أوجه الاختلاف بين التحكيم والقضاء ألاستعجالي –بالرغم من اتفاقهما في السرعة وبساطة الإجراءات –تكمن في أن القضاء ألاستعجالي مؤسسة قضائية تتمتع بجهاز أو أجهزة الدولة التي تمنحها السلطة الكاملة. إلا أن الأساس الذي كان وراء ميلاد القضاء ألاستعجالي هو ألا يكون غير مكمل للقضاء العادي وأن لا يتناول البث في النزاعات التي تؤول إليه قانونا وبعبارة أخرى أن لا يحل محله ومحل اختصاصه بأي شكل من أشكال أخرى من النزاعات الجانبية التي لا تؤثر فيه أصلا. ولكن يكون من شأن اتخاذ قرارات في موضوعها أن يخدم تحقيق الحماية القضائية الواجبة له ويسهل أحيانا مأمورية القضاء بشأنها كذلك .
أما التحكيم فيعتبر أحد أهم وسائل الفصل في المنازعات بين الأطراف المعنية بواسطة شخص من الغير بعيد عن قضاء الدولة فهو إذن مسار قديم-جديد للفصل في المنازعات المدنية والتجارية إلى جانب مسار القضاء الرسمية وتعود مبررات اللجوء إلى ما يتميز به من مزايا كالسرعة والسرية والمرونة والحرية في اختيار المحكمين (قضاء التحكيم) والتخصص (التحكيم قضاء مخصص) والتحرر كذلك من القواعد القانونية المعقدة والعصية الفهم إلى جانب احترام حق الدفاع ومبدأ المساواة بين أطراف النزاع… .
ولما كان اللجوء إلى التحكيم حر ودون قيد وشرط بحيث أنه بإرادة الأطراف على ذلك فإن القضاء المستعجل قضاء استثنائي ووقتي.الهدف منه البث في النزاع دون المساس بأصل الحق فهو إجراء احترازي. فالاستعجال إذن هو الطريق الذي يوصل إلى القضاء المستعجل وهو المفتاح الذي تفتح به أبواب هذا القضاء ولأن بفضله وجد القضاء المستعجل كنوع آخر من أنواع التقاضي حيث أصبح يفرض نفسه بجانب القاضي العادي ”..وهو كذلك وبمفرده الدافع المبرر لإحالة كل طلب على قاضي المستعجلات بصرف النظر عن مقتضيات كل نص مانع للاختصاص لذا يتعين وبالضرورة أن تقابل سرعة تدخل القاضي صاحب الاختصاص .الاستعجال الذي هو أساس تقديم الطلب عدا,فيما يتعلق بالحالات المنصوص عليها قانونا وإلا فينتج عن غير ذلك تحريف لا مناط منه، ليروح هذا القضاء فتصاب من دون شك بالضرر مصالح المتقاضين ويحال دون تحقيق نوايا المشرع من هذا القضاء” .
وعلى الرغم من الصفة الوقتية التي يتصف بها القضاء ألاستعجالي وتميزه عن القضاء العادي. فإن له في مجال الحياة العملية أهمية كبرى للبث أو الفصل فيها يعرض عليه من النوازل بالعناية المطلوبة من غير أن تتأثر مصالح الأطراف المطلوب منه بالدرجة الأولى حمايتها قضائيا بأمر نهائي يرد الأمور إلى نصابها .
فإلى جانب القضاء الرسمي الذي أحاط به الدستور مهمة الفصل في النزاعات التي قد تحصل بين المتقاضين عموما توجد هناك موازاة معه طرق بديلة للتسوية… منها التحكيم كأداة فعالة معترف بها في جميع التشريعات السماوية كانت أم وضعية (حديثة).
وقد أنشأ المغرب غرفة التحكيم يتعلق أساسا بالتحكيم البحري وتبدو أهمية وضرورة غرفة التحكيم البحري هذه من خلال المكانة التي يتمتع بها القطاع البحري وعبارة أخرى فإن جميع المشاكل التي يعاني منها القطاع البحري تشكل أولويات الدولة المغربية منذ القدم فالملاحة البحرية كانت وما زالت تلعب دورا هاما ورائدا في انفتاح المغرب على مختلف حضارات دول العالم وبصفة عامة فإن العديد من الاتفاقيات والمعاهدات وحتى قبل دخول المستعمر كانت تكرس لمبادئ الحرية في التجارة والصناعة والملاحة خصوصا لتنمية التجارة والبحرية بين المغرب ومختلف دول البحر الأبيض المتوسط .
من خلال حديثنا على التمييز بين التحكيم والقضاء سواء كان القضاء العادي أو المستعجل نلاحظ أن هذا الأخير يرمي أحيانا إلى تجنب نزاع في المستقبل ويتشابه في هذا مع بعض العمال الولاية فإن هناك فارقا بينهما فالعمل الولائي ينشئ مركزا قانونيا جديدا. أما القضاء الوقائي أو المستعجل فيتعلق برابطة قانونية سابقة يحتمل وجودها ويرمى إلى ضمان حمايتها حماية وقتية كما يعتبر صورة من صور الحماية القضائية وإن كانت مؤقتة إلا أنه يتميز بحصانة
قد يختلط شيئا ما على اعتبار هذه الخصائص مع التحكيم كمؤسسة تحكيمية تخضع لإرادة الأطراف كوسيلة بديلة يلجأ إليها الأطراف بعيدا عن القضاء العادي عند نشوء خلاف أو نزاع بينهم وهي اليوم بانت قاب قوسين أو أدنى من أن تصبح وسيلة صلبة وليست بديلة نظرا لكثرة اللجوء إليها في عصرنا الحالي. ودون الخوض في تفاصيل أنواع هذه الآليات نذكر بعجالة أنها تشمل بقية الوسائل الغير الرسمية كالوساطة والتوفيق والصلح وذلك ما سنحاول معالجته في المبحث الثاني.
المبحث الثاني: تمييز التحكيم عن غير من آليات التسوية الغير الرسمية
إن الاختلاف والتعدد الذي تعرفه الوسائل البديلة لحل النزاعات يعطي لكل منها ميزة تجعلها تفضل عن غيرها من حيث الأسس والخصائص، مما يجعلها تنجح في مجال دون آخر. فإذا كان التحكيم -كوسيلة شبيهة بالقضاء -ينجح في أمور معينة، فلا شك أنه قد لا ينجح أو لا يفضل في جميع القضايا مما يفسح المجال لباقي الوسائل الحلول بدله لفض النزاع حسب طبيعة الموضوع ومن خلال ما سيعرض في هذا المطلب سنحاول، تحديد أهم نقاط الاختلاف بين التحكيم و الوساطة- المطلب الأول- ثم الصلح-المطلب الثاني.
المطلب الأول: الوساطة
ان المتفحص لنظامي التحكيم والوساطة، يجد أن هناك صلة بينهما، فالهدف من أن هو حسم النزاع بعيدا عن قاعات المحاكم ومنصات القضاة.
الوساطة هي: المساعي التي يقوم بها شخص محايد بين أطراف النزاع أو محاميهم من أجل الوصول إلى حل ودي لهذه الخصومة أو هي طريق ودي لفض المنازعات الناشئة بين الأطراف عن طريقه يقوم الخصوم أنفسهم أو بواسطة شخص من الغير بالاجتماع والتشاور للوصول لحل ينهي النزاع ويرضى عنه الأطراف وتكون إما قضائية إذ يحيل القاضي إلى وسيط معين ضمن قائمة أسماء الوسطاء وقد تكون كذلك قانونية وذلك حين يحيل النص التشريعي إلى اتباع طريق الوساطة قبل المرور إلى المحاكمة وبالمقابل قد تكون اتفاقية حين يتفق الأطراف على إحالة النزاع إلى الوسيط المتفق عليه اما في عقد سابق أو لاحق لنشوء النزاع.
ولكن رغم التشابه من حيث الهدف وطريقة الاتفاق، أي عبر التعاقد مسبقا. إلا أن الاختلاف يبقى واضحا بين التحكيم والوساطة من حيث الشكل والنتيجة. فالوسيط يقتصر على محاولة التسوية, بتقريب وجهات النظر وذلك دون الاستناد على قوة الزامية في مواجهة المتخاصمين بل أن القرار النهائي بتطبيق ما توصل إليه يبقى للأطراف أنفسهم وفي سبيل ذلك يكون للوسيط كافة الاصلاحيات من اجل فحص النزاع و الإلمام بعناصره وله على وجه الخصوص سماع الطرفين والاطلاع على ما يلزم من مستندات وعلى الطرفين تقديم ما يطلبه الوسيط من البيانات والمعلومات التي تعينه على مهمته ويبذل الوسيط مساعيه لتقريب وجهات النظر بين الطرفين .
وإذا كان سلطة الوسيط تقف عند هذا الحد فإن المحكم أعطي أكثر من ذلك، فإذا تم تعيين المحكم فإنه يباشر عمله التحكيمي وفقا للقواعد المنظمة لسير المحاكمة التي ذكرها أهل العلم بخصوص التحكيم والفصل في النزاع بالقواعد الموضحة في كتب القضاء فيتولى النظر في القضية بصفته حاكما وبذلك عليه أن يراعي ما نص عليه عقد التحكيم المحرر بين الأطراف وفقا لما هو مقرر في القواعد والإجراءات المنظمة للتحكيم وسير العمل به .
وبذلك يكون للمحكم سلطات أوسع وأشمل عما هي عليه لدى الوسيط الذي يبقى شخصا محايدا أولا يملك أي سلطة لإلزام الطرفين وإجبارهما على أي شيء ولكنه يقدم مساعدته لهما معا حتى يتمكن كل منهما من تقسيم مركزه القانوني والواقعي في النزاع فالأطراف هنا هم الذين يضعون النتيجة ووظيفة الوسيط تقتصر على التفاوض والتواصل بين الطرفين للتحكيم بينهم وينتج عن ذلك نتيجة هامة من الناحية العملية تتلخص في قابلية الاتفاقية الناشئة عن الوساطة للتطبيق من الأطراف، بشكل تلقائي.
كونهم هم الذين توصلوا إليها بمحض إرادتهم، ولم تفرض عليهم من الخارج .
كما يحدث في حالة التحكيم لكونه تنظيما قضائيا فإن الحكام يتبعون الآجال والإجراءات المقررة بالنسبة للمحاكم وذلك حفاظا على حقوق الأطراف، لكون هذه الإجراءات تتعلق بضمانات أساسية لا يجوز التنازل عنها إلا إذا اتفق الأطراف على خلاف ذلك فلهم كامل الصلاحية في ذلك ما داموا قد تنازلوا باختيارهم عن الضمانات التي وضعها المشرع تحت تصرفهم . وخلافا لاتفاق الوساطة فإن هذه الأحكام تكتسب قوة الحكم القضائي وتكون ملزمة للأطراف وقابلة للتنفيذ الجبري بشروط خاصة , وملزمة للخصوم ولها آثار محددة وما يميز هذه الأحكام كذلك أنها لا تقبل الطعن بأي حال من الأحوال طبقا للفصل 319 من قانون المسطرة المدنية.إلا ما ورد من حق طلب إعادة النظر أمام المحكمة التي تكون مختصة في القضية ولو لم يتم فيها التحكيم حسبما نص عليه الفصل 326 من نفس القانون.
فإذا كان للحكم التحكيمي هذه القيمة وهذه الحجية فلا عجب أنه قد حضي باهتمام أكثر من غيره من آليات التسوية، فالوساطة لا تعدوا أن تكون مجرد تقريب للأراء ووجهات النظر ولا يتوج هذا التوفيق إلا بتقرير غير ذا إلزامية للأطراف، يمكن الا يطبق أو يأخذ عين الاعتبار
كذلك مايشمله مجال التمييز بين النظامين هو نطاق التطبيق النوعي, فإذا كان حق اللجوء للتحكيم محصور بحدود معينة ونقصد هنا ان المشرع المغربي-كما سبق التنصيص عليه في قانون التحكيم القديم-حدد مجالات لا يمكن ان يشملها التحكيم وهي ما يتعلق بالأحوال الشخصية للفرد,وكذا ما يتعلق بشؤون الدولة وما يندرج ضمن مفهوم النظام العام فان ميزة الوساطة بهذا الخصوص جاءت اشمل من ذلك واعم اذ أنها تكون في جميع المجالات باستثناء ما يشمله النظام العام بطبيعة الحال .
أما من الناحية التشريعية والاهتمام الدولي على بالوساطة كنظام قانوني مدرج ضمن قوانين وتشريعات دولية، فلا يمكن تجاهل ما صارت تحظى به هذه الوسيلة هي الأخرى من اهتمام على الصعيدين-الدولي والوطني -،واهم ما يسجل على هذا المستوى أنها شهدت ازدهار لم يكن منتظرا خصوصا بعد الأخذ بما في العديد من الاتفاقيات السالف ذكرها وهي اتفاقية المؤسسة العربية للاستثمار واتفاقية البنك الدولي وكذلك قواعد الاونسترال… .
أما على المستوى الوطني فقد جاء تنظيم الوساطة إلى جانب التحكيم وذلك ضمن قانون 05-08 في الفصول من 55 إلى 77 او 327 إلى 427 ، حيث ثم تنظيم الوساطة الاتفاقية، وأهم ما يلاحظ على هذا القانون أن المشرع المغربي لم يقيد بكثير من التشريعات الحديثة والمقارنة، والتي تفرض إجبارية اللجوء إلى الوساطة أو ما يعبر عنه بالوساطة الإجبارية في بعض أصناف النزاعات والتي لا تقبل الدعوى القضائية إلا بعد استنفاذ الوساطة وعدم نجاحها في تسوية النزاعات ونظرا لحداثة هذا القانون فإن نجاحه ونجاعته في حل النزاعات لم يظهر بعد،وهذا ما ستكشف عنه التطبيقات العملية لهذا القانون مستقبلا, بعد أن نجحت على المستوى الدولي حيث ان هناك حوالي %75 إلى 90% من الخلافات التي يتفق الأطراف على حلها، باستعمال هذه الآلية فهي الأساس الذي يقوم عليه، نظام الوسائل البديلة في التجارة الدولية إذ تعتبر الوسيلة الأكثر استعمالا في نصف العقود التجارية الدولية مثالها، عقود الإنشاءات الدولية.
ايضا ما يمكن ان يسجل بهذا الخصوص كما في التحكيم فإن القضاء يلعب دور الفاعل الأصلي كذلك, المحرك الأساسي لتحقيق العدالة، فقد تبين للمؤسسة القضائية بأن أسلوب العمل القضائي التقليدي لا يتيح لها الاستجابة لبعض القضايا بينما الوساطة، وما شابهها من وسائل بديلة, تستطيع ذلك مما يجعلها تقوم بدور رئيسي للحلول المتفاوض عليها .
المطلب الثاني: الصلح
كثيرة هي الطرق البديلة للتسوية النازعات التي يمكن تميزها عن التحكيم غير أنها كلها تهدف لحل النزاعات بشكل ودي أو بشكل آخر، وقد نظم المشرع المغربي بعض من هذه الوسائل في عدد من القوانين ومن ذلك لصلح.
وبعرف إجراء الصلح بأنه مرحلة أولية سابقة في بعض الدعاوي يقوم خلالها القاضي بمحاولة تسوية الخلاف وديا بين الطرفين متنازعين قبل الحسم في النزاع بحكم قضائي نهائي .
ويعد الصلح نظاما مترسخا في المجتمع المغربي,وفي المجتمع الاسلامي بصفة عامة فالأساس الذي نبع منه هذا النظام هو الشريعة الاسلامية,فعرف في الشؤون الاسرية والعائلية وفي كل الشؤون العملية .
وبالتالي فقد تم التنصيص على اجراء الصلح في العديد من القوانين المغربية وعلى هذا الأساس يعد الصلح إجراء مسطريا تم النص عليه في ق.م.م في نوع خاص من المنازعات وليس كلها من الفصول 197-180-277من ق.م.م يمكن تحديدها في العلاقات الكرائية,فيما يخص التعويض عن الافراغ وغيره…
اما الجديد الذي يعرفه الصلح على المستوى الجنائي انه قد تم التنصيص عليه ضمن المسطرة الجنائية بالمادة 41 ق.م.م. من خلال هذه المادة اعتبر الصلح آلية جديدة وحضارية لاستبدال العقوبة المالية للحرية لفض النزاع قبل تحريك الدعوى العمومية وتكمن إيجابيات هذه المسطرة في تخفيف العبء عن المحاكم وتجنب البطء في البث في القضايا خاصة ما يرتبط بحرية الأفراد ثم خفيف الاكتظاظ الذي تعاني منها السجون وتحقيق نوع من التوازن بشان حقوق الإنسان وحقوق المجتمع.
ويمكن موضوع الصلح القضائي في مراجعة أطراف النزاع بمحض إرادتهم أو باقتراح من النيابة العامة وكيل الملك أو نائبه لفض النزاع بشكل حبي مع توثيق الصلح بمحضر رسمي، ومن خلال هذه الإجراء يؤخذ العلاقات الإنسانية، يول إقامته الدعوى العمومية التي قد تنتهي بإدانة أحد الأطراف.
وكذلك قد ينص على نظام الصلح قانون خاص مثلا الفصول 28 29-30-32 من ظهير24 مايو المنظم للامركزية المعدة للاستغلال التجاري أو صناعي أو حرفي
ويعتبر رئيس المحكمة الابتدائية التي يوجد في دائرتها المحل التجاري أو من يقوم مقامه في قضاة هذه المحلة قاضي الصلح وبفصل في كل ما يتعلق بتحديد العقد من منازعات كما أن مهمته وجب الفصل 28 أن يصلح بين الفريقين وأن يحرر يقرر عن جلسة الصلح.
ونشير الى انه وقع خلاف بين الصلح باعتباره إجراء مسطري شكلي وبين الصلح
وهو عقد بمقتضاه الطرفان نزاعا قائما ويتجنبان قيامه وذلك بتنازل كل منهما للآخر عن جزء مما يدعيه لنفسه أو بإعطائه مالا معينا أو حقا وفق الفصل 1098 من ق.ل.ع قاعدة موضوعية وليس مسطرية وهذا الفرق راجع إلى الخلط الذي بشأنهما الكثير من الكتابات رغم هذا الاختلاف إلا أن بجمعهما أنهما حل لنزاع.
وإذا كان نظام إصلاح قديما وحديثا له مزايا عديدة يتجلى في حسم الطرفين المتعاقد بين النزاع قام وكذلك بتنازل كل منهما لأخر عن جزء ما يدعيه لنفسه أو بإعطائه
مالا معينا. أوحقا وكذا فوائد كثيرة أنه يساعد القضاء ويخفف عنه إلا أنه لا يلقي نجاحا على الصعيد العملي، ويمكن أن نرجع السبب في ذلك إلى القانون أو إلى القضاء إلى الدفاع أو إلى الأطراف أو يمكن أن تكون هذه العناصر مجتمعة.
يمكن إرجاعه إلى القانون مثل وعدم فعالية إجراءات التبليغ وعدم آجال معنية لتهئ القضية للحكم وانعدام الجزاءات المادية أو الإجراء للحد من المماطلة.
وكذلك من بين الاكراهات التي تحول دون اللجوء إلى الصلح الإكراه الضريبي حيث نلاحظ غياب حياد القانون الجنائي في مادة الشركات إذن لحل تنازل عن دين أو
إبراء منه من قبل شركة نتيجة إجراء الصلح يؤدي إلى تخفيض في الخصوم المستحقة الأداء ويترابط مع هذا إلى الزيادة في الأموال الصافية التي تعتبر واقعة موجهة لأداء الضرائب.
وكذلك أن الصلح قد يظهر كأجزاء محالف للمصالحة المشتركة مما قد يترجم من زاوية القانون الضريبي بمثابة نفقة غير مبررة أو تم التفويض في مبلغها.
يمكن لإدارة الضرائب أن تفرض احتمالات رسوما على نقل الحق إن ترتب عن إجراء الصلح تغيرات على صعيد الحيازة.
وبذلك يمكن أن يغير التحكيم وهو نظام قانوني اختياري بمثابة حل مجدي وفعال مقارنة بالصلح حيث لا يمكن أن يتعرض التحكيم هذه المخاطرة التي قد يتعرض لكون التحكيم لا يترك للمتنازعة سلطة واسعة وعريضة في مجال التنازلات التي هم مستعدون لها حيث لا كلمة تذكر للتنازل عن الدين أو للإجراء منه، بل الكلمة هي لقوة الشيء المقضي التي قد يتمتع بها المقرر التحكيمي بعد تذييله بالصيغة التنفيذية.
أما في الصلح ففيه ينتهي النزاع بمجرد التنازل المتبادل ويكون الاتفاق قابلا بذاته للتنفيذ كما تنفذ العقود وينطبق هذا الاتفاق على ما ينطبق على الاتفاقات الأخرى من
قواعد ومبادئ ومن أهمها قاعدة أن العقد شريعة المتعاقدين ولا يتولد عن الصلح أي حكم إلا إذا طعن في عقد الصلح وصدر حكم في دعوى بطلان أو نسخ هذا العقد من قضاء الدولة وف التحكيم يقوم الطرف الثالث أو المحكم بأعمال للقواعد القانونية على النزاع المعروف أمامه-فيمنح الحق لصاحبه وفق لهذه القواعد في الصلح فإن دوره الطرق الثالث وهو المصلح يقتصر لهته الأمور بين الطرفين ومحاولة تقريب وجهات النظر وإزالة أسباب النزاع وتحقيق حدة التوتر .
رغم هذا الاختلاف الحاصل بين نظام الصلح ونظام التحكيم وفاعلية هذا الأخير والتي برزت كثيرا بعد إصدار قانون 05-08 وجعل له مكانة خاصة بالمغرب إلا أنهما بهذا فإن إلى الجلوس على طاولة واحدة لفض النزاع بطرق سليمة وحبية وكذلك يهدفان إلى إنجاز مهمة نبيلة ألا وهي عدالة القرب.
الخاتمة:
نستطيع أن نستخلص مما سلف إلى أن منازعات الأفراد لا تحل دائما بقوة السلطة العامة للدولة (القضاء) وإنما تحل سلميا بوسائل أخرى سواء عن طريق الصلح وهو حل رضائي للنزاع يقوم به الأفراد بأنفسهم عن طريق تنازلات متبادلة عن حقوقهم ولذا قيل” أن صلحا سيئا خير من قضية ناجحة” أو بأسلوب أخر وهو الوساطة حيث يتدخل طرف ثالث لتقريب وجهات النظر بين الطرفين ثم أسلوب ثالث لحل المنازعات لا يقوم على السلطة العامة مثل القضاء كما لا يتم ذاتيا برضاء الطرفين كالصلح، وإنما بنزول أطراف النزاع لرأي طرف ثالث يثقان في رأيه وهذا هو التحكيم فهو أداة سليمة لا تقوم على حل النزاع يفرض من أعلى بقوة السلطة العامة وإنما إلى امتثال الأفراد لرأي الغير ولذلك قيل أيضا “احتكم ولا تتقاض”.
كما يتجلى لنا أن التحكيم ميزته عن بقية آليات التسوية تتمثل في وجوده كعقد أو اتفاق تحكيمي ويظهر ذلك بصدور حكم تحكيمي، يتمتع بالقطعية في جميع المسائل المعروضة على هيئة التحكيم بما في ذلك موضوع النزاع وكذا الحكم الذي يفصل في مسألة اختصاص هيأة التحكيم أو أي مسألة أخرى تتعلق بالمسطرة التحكيمية، وعلى العموم فكل حكم تصدره هيئة التحكيم وتصفه بأنه حكما تحكيما فإنه يعد كذلك.
وتكييف المقررات الصادرة عن الهيأة المشار إليها بأنه أحكام تحكيمية لها أهمية بالغة لما يترتب عن ذلك من آثار كالطعن بالبطلان أو التعرض الغير الخارج عن الخصومة، أو تذييلها بالصيغة التنفيذية بالإضافة إلى حيازتها بقوة الشيء المقضي به علاوة عن أن الحكم ألتحكيمي يضع حدا للنزاع بين الأطراف ويجعله غير قابل لعرضه من جديد على هيئة التحكيم أو على القضاء من أجل البث فيه من جديد.
إذن فالتحكيم يتميز بأنه قضاء خاص مصدره في الغالب الاتفاق لأنه ينشأ من حرية الأطراف ومن ثم تكون مهمة المحكم كمهمة القاضي، والقرار الذي يصدر عن المحكم مثل القرار الذي يصدر عن القاضي هذا من جهة ومن جهة أخرى لا تكون للتحكيم صفة القضاء العام الذي هو قضاء الدولة والقضاء العادي بل يعتبر قضاء خاصا.
ذلك أن المحكمين أفراد أتاح لهم القانون استثناء الاضطلاع بوظيفة تعود في الأصل إلى الدولة التي تمارسها بمقتضى السلطة العائدة لها، لكن التحكيم يكون خاضعا في إنشائه وتطبيقه لقواعد القانون الوضعي الذي يرخص به يحدد نطاق أعماله والوظيفة القضائية يختلف طابعها ونطاق سلطتها بين قاضي الدولة والمحكم. www.droitetentreprise.com