حق الدفاع في نطاق التأديب الإداري
مقدمــة :
إن حق الدفاع بوجه عام هو من الحقوق المستقرة في معظم دساتير دول العالم والصكوك والمواثيق الدولية وإعلانات حقوق الإنسان باعتباره من الحقوق الشخصية، وحق الإنسان في الدفاع عن نفسه هو حق طبيعي لصيق بالصفة الإنسانية وقد تطور هذا المفهوم وخصوصاً على صعيد القانون الجنائي وأصبح من الركائز المهمة والضمانات الأساسية التي يجب أن يتمتع بها المتهم للحصول على محاكمة عادلة ويترتب على الإخلال بحق المتهم في الدفاع بطلان الإجراءات المشوبة بإخلال وانتهاك لهذا الحق.
وهذا يدفع الأجهزة المعنية بتطبيق القانون وإنفاذ العدالة باحترام هذا الحق لضمان سلامة إجراءاتها من البطلان، وقد انعكس هذا المبدأ وتطبيقاته على صعيد القانون الإداري وتحديداً في ميدان التأديب الإداري إذ أمسى حق الموظف في الدفاع نفسه من الحقوق الملازمة للموظف المحال إلى التحقيق الإداري وأمسى حق الدفاع أحد ضمانات التحقيق الإداري بوجه خاص وأحد ضمانات الموظف العام السابقة على فرض العقوبة التأديبية بوجه عام وسنحاول دراسة هذا المبدأ في المباحث الآتية :
المبحث الأول : التعريف بحث الدفاع وبيان خصائصه.
المبحث الثاني : نشأة حق الدفاع في نطاق التأديب الإداري وطبيعته القانونية.
المبحث الثالث : مقومات حق الدفاع.
المبحث الأول
التعريف بحق الدفاع وبيان خصائصه
سنتناول في هذا المبحث التعريف بحق الدفاع في مطلب أول وبيان خصائصه في مطلب ثانٍ.
المطلب الأول
تعريف حق الدفاع
لغرض تعريف حق الدفاع لغةً واصطلاحاً لابد من تحديد معنى الحق لغةً واصطلاحاً ومعنى كلمة الدفاع لغةً واصطلاحاً.
فالحق لغةً : من أسماء الله تعالى أو من صفاته، وهو الأمر المقضي وضد الباطل، العدل، المالك، الملك، الصدق وغيرها من المفردات( [1]).
والحق غلبة في الخصومة، وقد وردت كلمة (الحق) في القرآن الكريم في عدة مواضع كقوله تعالى في سورة النساء {وَعْدَ اللَّهِ حَقّاً} الآية (122) أي ثابتاً واقعاً لا محالة وقوله تعالى في سورة الأنفال الآية (7) {يُحِقَّ الْحَقَّ}، أي يظهر الأمر الثابت وقوله تعالى في سورة يونس الآية (8) {وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ}،
أي يثبته بحجته( [2]) والحق نقيض الباطل وهو يعني الثابت( [3]).
أما معنى الحق في الاصطلاح القانوني فإنه يختلف تبعاً للاتجاهات الفقهية التي عرفته، فأصحاب نظرية الإرادة عرفوا الحق بأنه قدرة أو مكنة أو سلطة إرادية يمنحها القانون لشخص ما( [4]). أما أصحاب نظرية المصلحة فقد عرفوا الحق بأنه مصلحة يحميها القانون( [5]). في حين ذهب جانب من الفقه إلى تعريف الحق بأنه (صلة أو رابطة قانونية واختصاص شخص من الأشخاص على سبيل الاستئثار بمركز قانوني ممتاز)( [6]). وعرفه البعض الآخر بأنه (الاستئثار بشيء أو بقيمة يحميه القانون)( [7]).
أما كلمة الدفاع فتعني لغةً : كثير الدفع والحماية ودفعه دفعاً : نحاه بقوة وأزاله، ودافع عنه : دفع عنه السوء والأذى وحماه منه، وقوله تعالى {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} الحج (38) أي يكفيهم شر أعدائهم ويحميهم( [8])، والمدافعة : المماطلة والدفع، وسيدٌ غير مُدافَع بفتح الفاء : غير مزاحم، واسْتدَفعَ الله الأسْواءَ : طلب أن يدفعها عنه، وتدافعوا في الحرب : دفع بعضهم بعضاً( [9]).
أما تعريف حق الدفاع بالاصطلاح القانوني : فقد أورد الفقه تعريفات كثيرة لحق الدفاع، فقد عرفه البعض بأنه (حق المتهم في محاكمة عادلة مؤسسة على إجراءات مشروعة)( [10])، وعرفه الآخرون بأنه (مجموعة من الأنشطة التي يباشرها المتهم بنفسه أو بواسطة محاميه، لتأكيد وجهة نظره بشأن الإدعاء المقام عليه)( [11]).
وعرفه جانب آخر من الفقه بأنه (تمكين المتهم من أن يعرض على قاضيه حقيقة ما يراه في الواقعة المسندة إليه، ويستوي أن يكون في هذا الصدد منكراً مقارفته للجريمة المسندة إليه أو معترفاً بها….)( [12]).
في حين ذهب جانب من الفقه إلى اعتبار حقوق الدفاع بأنها مجموعة المكنات المستقاة من طبيعة العلائق البشرية وإن إقرار الشرع لهذه المكنات نابع من رغبته في تحقيق التوازن بين حقوق الأفراد وحرياتهم وبين مصالح الدولة وهذه المكنات متبادلة، فكما هي متاحة للخصم في إثبات إدعاءاته القانونية أمام القضاء دفاعاً عن نفسه فهي متاحة أيضاً أمام الطرف الآخر من الخصومة بالرد كدفاع مضاد وكل هذا يجري في ظل محاكمة عادلة يكفلها القانون( [13]).
وعرفه جانب آخر من الفقه بأنه (المكنات المتاحة لكل خصم بعرض طلباته وأسانيدها، والرد على طلبات خصمه وتفنيدها، إثباتاً لحق أو نفياً لتهمة على نحو يمكن المحكمة من بلوغ الحقيقة وحسم النزاع المعروض عليها بعدالة)( [14]).
ومما لا شك فيه بأن التعاريف آنفة الذكر تتفق في كون حق الدفاع هو مجموعة المكنات التي خولها النظام القانوني للشخص الذي يكون محل إتهام بصرف النظر عن صفة ذلك الشخص سواء أكان فرداً عادياً أو موظفاً عاماً، هذه المكنات تتيح له الدفاع عن نفسه أما برد الإتهام الموجه إليه وإثبات براءته، أو لإثبات حق غمطه خصمه عليه من خلال تفنيد أسانيده.
ومما تقدم نستطيع أن نعرف حق الدفاع بأنه (مجموعة المكنات التي يقررها النظام القانوني ويباشرها المتهم بنفسه أو بواسطة محاميه للدفاع عن نفسه ورد التهم الموجهة إليه من خلال تفنيد أسانيدها، أو إثبات براءته من خلال إقامة الدليل على نقيضها وصولاً لكشف الحقيقة وتحقيق العدالة)، ومن هنا كانت أهمية حق الدفاع التي لا تقتصر على منع إدانة المتهم البريء وإنما تكمن في مصلحة المجتمع في عدم معاقبة غير الفاعل الحقيقي، لذا كان حق الدفاع عنصراً مهماً من عناصر المنظومة القضائية ووسيلة يتوسل بها القضاء وصولاً للحقيقة وإحقاق الحق ولهذا نجد أن بعض البلدان حرصت في تشريعاتها على إنشاء أجهزة رسمية تضطلع بمهام الدفاع عن المتهمين أمام القضاء مجاناً للسبب آنف الذكر( [15]).
ويذهب جانب من الفقه إلى استجلاء مفهوم حق الدفاع بكونه مجموعة من الضمانات أو الامتيازات التي تضمن لكل إنسان في حالة تعرضه لتهديد في حياته أو شرفه أو ماله أو حريته أو سمعته الوظيفية بسبب ارتكاب جريمة أو مخالفة تأديبية تستوجب العقاب الجنائي أو التأديبي أن يباشر بنفسه أو بواسطة محامي الإجراءات والنشاطات الكفيلة بإثبات براءته ورد التهمة الموجهة إليه( [16]).
المطلب الثاني
خصائص حق الدفاع
ومما تقدم نستطيع أن نحصي خصائص وسمات حق الدفاع في النقاط الآتية :
1- إن حق الدفاع : هو حق أساسه مصلحة المتهم في أن يتلقى إجراءات ومحاكمة عادلة ومستقلة ومحايدة بشأن التهمة المسندة إليه وهذا ينسحب على الإجراءات التي تتخذها الإدارة بحق الموظف المخالف قبيل فرض العقوبة التأديبية بحقه إذ يجب أن يخضع الموظف لإجراءات محايدة ومستقلة وعادلة تضمن للموظف الدفاع عن نفسه أمام هيئة التحقيق أو المحاكمة التأديبية، فإذا كانت الإدارة صاحبة المصلحة في ضمان سير المرافق العامة بإطراد واستمرار تحقيقاً للمصلحة العامة من خلال إيقاع العقاب التأديبي على الموظف العام عند اقترافه فعل يبرر مجازاته تأديبياً فإن للموظف في الجانب الأخر مصلحة في أن يتم إتخاذ الإجراءات القانونية التي نص عليها القانون بصورة محايدة ومستقلة وعادلة من خلال تمكين الموظف محل الاتهام أو المجازاة في الدفاع عن نفسه ورد الإتهام التأديبي الموجه له وخصوصاً عندما نعلم أن الإدارة هي الطرف الأقوى في العلاقة التنظيمية التي تربط بين الموظف والدولة ولما تتمتع به الإدارة من سطوة ومكنة بموجب مركزها المتميز عن مركز الموظفين باعتبارها هي من تضع القواعد واللوائح والتعليمات وهي المسؤولة عن تحديد المخالفات ومسؤولة عن الإتهام وإيقاع الجزاء التأديبي في العديد من أنظمة التأديب في العالم، وهذا يقتضي تمكين الموظف من مباشرة كافة الأنشطة الإجرائية لضمان تحقيق هذا الدفاع سواء في مرحلة التحقيق الإداري أو في مرحلة المحاكمة التأديبية وهذا يستوجب توفير ضمانات سابقة ومعاصرة ولاحقة على فرض العقوبة التأديبية بحقه كإجراء التحقيق الإداري وتوجيه الإتهام من الجهة المختصة بذلك وإعلام الموظف بالمخالفة المنسوبة إليه وحقه في الإطلاع على الملف التأديبي، وحقه في توكيل محامٍ للدفاع عنه وحقه في التظلم والطعن وغيرها من الضمانات التي تعتبر من مقومات حق الدفاع في مجال التأديب الإداري وهذا ما سيتم تناوله بشيء من التفصيل في المبحث الثالث.
ونتيجة لما تقدم فإن الإخلال بهذه الضمانات ومكنات الدفاع تشكل عدوان على حق الموظف في إجراءات ومحاكمة تأديبية عادلة.
2- إن حق الدفاع : هو حق طبيعي لصيق بالإنسان سواء كان فرداً عادياً
أو موظفاً حكومياً وإن الدولة تقره وتنظمه وتحميه لا توجده هي
أو تمنحه للآخرين، فحق الدفاع هو من الحقوق الفطرية الذي يولد مع ولادة الإنسان، وحيث أن الأفراد متساوون في التمتع بالحقوق فإن ذلك
يقتضي المساواة في التمتع بهذا الحق، ويقع على عاتق الدولة حماية
هذه الحقوق وفي ذلك يقول جون لوك (Joon Locke) في كتابه الحكومة المدنية (Treatires on civil Government) (إن الناس يعملون في هذا الكون الذي صنعه الخالق وأتى بهم إليه بمشيئته وهو مالكهم الذي يوجههم كيفما يشاء ورائدهم فيما يفعلونه، ولذا فهم يجتمعون ويتقاسمون ما تمنحه لهم الطبيعة)( [17]).
ومن هنا وجد مبدأ (المشروعية)، ومقتضى هذا المبدأ هو أن تتوافق تصرفات الهيئات العامة في الدولة مع قواعد القانون الوضعي، والمقصود بالقانون هنا هو القانون بمعناه الواسع شاملاً لأغلب القواعد متى ما كانت عامة ومجردة وأياً كان مصدرها دستورياً أو تشريعياً أو عرفياً أو قضائياً، وهذا المبدأ أمسى يمثل في الوقت الحاضر الضمانة الأساسية لحقوق الإنسان وحرياته بما في ذلك حق الإنسان في الدفاع عن نفسه( [18])، ويترتب على كون حق الدفاع من الحقوق اللصيقة بالإنسان عدم قابلية هذا الحق للانتقاص إذ أن أي انتقاص في هذا الحق يشكل خرقاً لمبدأ المشروعية.
3- إن حق الدفاع : حق شخصي عام ومقتضى هذه المزية أن حق الدفاع وإن كان يستهدف حماية مصلحة (المتهم) أو الموظف المخالف من خلال تمكينه من استيفاء كافة ضمانات الدفاع بالشكل الذي يضمن تحقيقه إلاّ أنه في ذات الوقت يستهدف تحقيق مصلحة المجتمع وهي مصلحة عامة تتمثل في كشف الحقيقة وضمان إيقاع العقاب الاجتماعي بحق الفاعل، وضمان استمرار سير المرافق العامة بانتظام واستمرار وهي غاية الإدارة في فرض الجزاء التأديبي.
وقد تصدى جانب من الفقه لفكرة الحقوق الشخصية كعلاقة قانونية تربط بين الأفراد والدولة باعتبار أن الدولة صاحبه حق ذاتي في السيادة وهذا يمنحها السلطة لتفعل ما تريد، وبالتالي يرى هذا الفقه أن من غير المعقول أن يكون القانون الذي هو من صنيع الدولة مصدراً لالتزام الدولة قبل الأفراد الذين تمارس عليهم تحكماً يصل إلى درجة السحق( [19])، والحقيقة أن هذا الاتجاه يمكن الرد عليه (بمبدأ المشروعية) ذاته الذي سبق الإشارة إليه، فالدولة وإن كانت هي من وضعت القوانين إلاّ أن تصرفاتها يجب أن تكون محكومة بالقوانين التي تضعها، فالقانون يرتب الحقوق والالتزامات المتبادلة بين طرفي العلاقة التي ينظمها القانون (الدولة والأفراد)، ولا مناص أمام الدولة إلا أن تحترم الحقوق التي تقررها القوانين للأفراد طالما هي لا تخلق هذه الحقوق وإنما تقررها وتحميها وإن مقتضيات المصلحة العامة تستوجب حماية هذا الحق ويترتب على خرق هذا الحق أو الإخلال به بطلان الإجراءات، فالدولة ترتب الحقوق والواجبات للموظف العام كما تحدد الجزاءات التأديبية لإخلال الموظف بواجباته مما يقتضي وفقاً للعلاقة الثنائية المتبادلة بين الدولة والموظف أحترام الدولة للحقوق التي أقرتها له وبضمنها حق الدفاع وضمانات تحقيقه سواء في مرحلة التحقيق الإداري أو في مرحلة المحاكمة التأديبية وفي مرحلة ما بعد صدور القرار بفرض الجزاء التأديبي بحقه، وإن مفترضات هذا الحق وموجباته تشكل التزاماً واقعا على كاهل الدولة لا يمكنها خرقه أو انتهاكه وإلاّ كانت منتهكة لمبدأ المشروعية.
4- إن حق الدفاع : حق يستهدف تحقيق العدالة، إن تمتع الموظف بالضمانات الكافية لتحقيق دفاعه اتجاه الاتهامات الموجهة له من قبل الإدارة بصورة متوازنة وفعالة لهو كفيل بتحقيق العدالة، فإتاحة الفرصة للموظف للدفاع عن نفسه هو حق له وهو الطرف الذي يقع على نقيضه التزام الإدارة بحماية هذا الحق بمعنى آخر أن حق الدفاع يحقق التوازن في الرابطة الإجرائية التي تعطي للإدارة الحق في توجيه الإتهام وفرض العقوبة التأديبية على الموظف وبين حق الموظف في رد التهم الموجهة إليه بما يضمن تحقيق فكرة العدالة بمعناها العام( [20]).
ولقد أكدت الشريعة الإسلامية الغراء على مبدأ العدالة وإحقاق الحق بين المتخاصمين، وإن من أهم المبادئ المقررة لتحقيق العدالة هو تخويل المتهم الحق في الدفاع عن نفسه أما بنفسه أو بواسطة وكيله ونجد مشروعية حق الإنسان في الدفاع عن نفسه واردة في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، إذ يقول سبحانه وتعالى مؤكداً مبدأ العدالة {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ}( [21])، وقوله تعالى {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ}( [22])، وقوله تعالى {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ}( [23]).
أما في السنة النبوية فقد روي عن علي (رضي الله عنه) انه قال : بعثني رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إلى اليمن قاضياً فقلت : يا رسول الله ترسلني وأنا حديث السن ولا علم لي بالقضاء؟، فقال : إن الله يهدي قلبك ويثبت لسانك فإذا جلسَ بَيَن يديك الخصمان فلا تقضين حتى تسمع من الآخر كما سمعت من الأول فإنه أحرى أن يتبين لك القضاء( [24])، وهذه الرواية تدل على وجوب سماع الطرف الأخر قبل إصدار الأحكام وهو أساس حق المتهم في الدفاع عن نفسه بنفسه وذلك من خلال إدلائه بأقواله ودفع التهمة عنه ويترتب على إهمال هذا الحق –أي حق الدفاع- بطلان كافة الإجراءات المتخذة إذ أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) قد نهى عن إصدار الأحكام قبل سماع أقوال الخصم الثاني ولأن الأصل في النهي يفيد فساد المنهي عنه.
5- حق الدفاع ذو صفة عالمية : إن حق الدفاع يتسم بنزعته العالمية حيث كفلت المواثيق والصكوك الدولية حق الدفاع بوجه عام إذ نصَ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر في (10/كانون الأول/ 1948) على الحق المذكور في الفقرة (1) من المادة (11) فيه والتي جاء فيها (كل شخص متهم بجريمة يعتبر بريئاً إلى أن تثبت إدانته قانوناً بمحاكمة علنية تؤمن فيها الضمانات الضرورية للدفاع عنه).
كذلك نصت الاتفاقية الأوربية لحقوق الإنسان أو ما تسمى باتفاقية حماية حقوق الإنسان في نطاق مجلس أوربا الصادرة في (4/نوفمبر/1950) على حق الدفاع في المادة (6) الفقرة (3) فيها حيث جاء فيها (لكل شخص متهم في جريمة الحقوق الآتية :
أ- إخطاره فوراً وبلغة يفهمها بالتفصيل بطبيعة الإتهام الموجه ضده وسببه.
ب- منحه الوقت الكافي والتسهيلات المناسبة لإعداد دفاعه.
ج- تقديم الدفاع بنفسه أو بمساعدة محام يختاره هو، وإذا لم تكن لديه إمكانيات كافية لدفع تكاليف هذه المساعدة القانونية يجب توفيرها له مجاناً كلما تطلبت العدالة ذلك.
د- توجيه الأسئلة لشهود الإثبات وتمكينه من استدعاء شهود نفي وتوجيه الأسئلة إليهم في ظل ذات القواعد كشهود الإثبات.
هـ- مساعدته بمترجم مجاناً إذا كان لا يفهم أو لا يتكلم اللغة المستعملة في المحكمة).
كذلك كفل العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية الصادرة عام (1966) الكثير من الضمانات التي تكفل حماية حق الدفاع ومن هذه الضمانات حق المتهم في حضور الإجراءات المتخذة بحقه والدفاع عن نفسه أصالةً أو بالاستعانة بمحام يختاره وألزم العهد المحكمة المختصة بتنبيه المتهم إلى هذا الحق – أي حق الاستعانة بمدافع أو محامٍ- وإذا تعذر على المتهم تأمين محام للدفاع عنه فتكون المحكمة ملزمة بتوفير محامٍ له دون أن يكون مكلفاً بدفع أجوره إذا كان لا يملك دفع هذه الأجرة وهذا ما أشار إليه العهد صراحة في المادة (14/3/د)، وكذلك منع العهد إكراه أي أحد على الشهادة ضد نفسه أو على الاعتراف بذنب وهذا ما نص عليه في المادة (14/3/ز)، كما يجوز لكل متهم أثناء محاكمته أن يناقش الإتهام بنفسه أو بواسطة محاميه وأن يفسح له المجال للاستعانة بشهود النفي
(م 14/3/هـ).
وأيضاً فعل الميثاق الأفريقي لحقوق الإنسان والشعوب الذي كفل لكل شخص الحق في الدفاع بما في ذلك الحق في اختياره مدافع عنه (م 7/1).
أما مشروع ميثاق حقوق الإنسان والشعب في الوطن العربي فقد نصَ على وجوب توافر الضمانات اللازمة للمتهم للدفاع عن نفسه بشخصه أو بواسطة محام يختاره في محاكمة علنية وعلى المحكمة أن تزوده بمحام في حالة عجزه عن ذلك (م 5/3).
أما الاتفاقية الأمريكية لحقوق الإنسان الصادرة عام (1969) فقد توسعت في تحديد مفهوم الحق في الدفاع وتحديد حالات الإخلال بهذا الحق ومن أهم المبادئ التي جاءت بها هذه الاتفاقية هي :
أ- إخطار المتهم مسبقاً وبالتفصيل بالتهم الموجهة إليه (م 8/2/ ب).
ب- الحق في الحصول على الوقت الكافي والوسائل المناسبة لإعداد دفاعه (م 8/2/ج).
ج- الحق في الدفاع عن نفسه شخصياً أو بواسطة محام يختاره بنفسه وحقه في الاتصال بمحاميه بحرية وسراً (م 8/2/ د).
د- الحق في وجوب قيام الدولة بتوفير محامٍ له إذا لم يدافع عن نفسه أو إذا لم يحضر محاميه (م 8/2/هـ).
هـ- حق الدفاع في استجواب الشهود الموجودين في المحكمة واستحضار الشهود والخبراء وغيرهم (م 8/2/ و).
و- حق المتهم في أن لا يجبر أن يكون شاهداً ضد نفسه (م 8/ 2/ ز).
ز- عدم جواز إكراه المتهم على الاعتراف (م 8/ 3).
كما تضمنت الكثير من الضمانات الإجرائية والموضوعية الضرورية لحماية المتهم من حين القبض على المتهم في مرحلة التحقيق الأولي أو الابتدائي، أو ما يسمى – بمرحلة الاستدلال – ولحين المحاكمة لا مجال لذكرها في هذا المبحث.
أما على صعيد المؤتمرات الدولية فنلاحظ أن مؤتمر الأمم المتحدة لمنع الجريمة ومعاملة المجرمين السابع المنعقد في (ميلانو عام 1985) فقد أكد على ضرورة توفير الحماية اللازمة للمحامين من قبل الدول الأعضاء أثناء أدائهم لواجباتهم الدفاعية عن المتهمين بالشكل الذي يمنع من ممارسة الضغوط عليهم في أداء هذه المهام أو فرض القيود التي لا مبرر لها والتي تعيق قيامهم بهذه المهمة المقدسة.
أما مؤتمر الأمم المتحدة لمنع الجريمة ومعاملة المجرمين الثامن المعقود في (هافانا – وكوبا عام 1990) فقد أقر جملة من المبادئ المهمة التي تكفل حق الدفاع، حيث أقر الحق لكل شخص في طلب المساعدة من محام يختاره لحماية حقوقه والدفاع عنه في جميع مراحل الإجراءات الجنائية وألزم وجوب استجابة الدول لتوفير محام للمتهمين وتوفير التخصيصات المالية له، وتتيح الاستعانة بالمحامين لغرض الدفاع على كافة المتهمين المتواجدين على أراضيها دون تمييز بما في ذلك توفير الخدمات القانونية للفقراء والمحرومين والعاجزين عن دفع تكاليف الاستعانة بمحامٍ للدفاع عنهم، كما كفل حق الأشخاص في الحصول على المشورة القانونية بالسرعة اللازمة وبدون إبطاء والمساعدة في توكيل المحامي الذي يختارونه وإفساح المجال للمحامي في زيارة موكله والتكلم معه وإمداده بالاستشارة القانونية دون مراقبة وبسرية كاملة.
وقد أكدت على هذه المضامين التي سبق ذكرها الكثير من المؤتمرات العالمية كمؤتمر (باجيو وسانتياكو) ومؤتمر (أثينا لسنة 1955)( [25]).
مما تقدم نلاحظ أن حق الدفاع بسبب طبيعته الفطرية اللصيقة بالإنسان أمسى مبدأ عالمياً اعتمدته مواثيق حقوق الإنسان والإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عن الأمم المتحدة عام (1948) والكثير من المؤتمرات الدولية كما سبق وأن فصلنا( [26]).
6- حق الدفاع حق دستوري : سبق وأن بينا بأن حق الدفاع هو من المبادئ العالمية المعتمدة كضمان من ضمانات المتهم اتجاه الإجراءات المتخذة ضده على المستوى الجنائي حيث أمسى حق الدفاع مبدأ مسلماً به لا مجال للحيدة عنه ويترتب على إغفاله الإخلال بحق المتهم بالدفاع عن نفسه وبطلان كافة هذه الإجراءات وقد انعكس هذا المبدأ جلياً على التشريعات الدستورية حيث أن غالبية الدساتير الحديثة قد نصت على حق المتهم في الدفاع والحق في محاكمة عادلة وبإجراءات قانونية متخذة بحقه على قدم المساواة مع الآخرين (المساواة في الخصومة) ودون الإخلال بأي ضمان من الضمانات التي يكفلها حق الدفاع ونحن بهذا الصدد لن نحصي عدد الدساتير التي نصت أو أوردت هذا الحق ضمن نصوصها وإنما نورد بعض النصوص على سبيل المثال لا الحصر إذ نستطيع القول بأنه لا يوجد دستور من دساتير العالم خالٍ من النص على هذا المبدأ سواء ورد النص عليه صراحةً أم ضمناً، إذ أن مبدأ الدفاع يقتضي المساواة بين الخصوم حتى لو كانت الإدارة أحدهم وهذا لايمكن تحقيقه إلاّ من خلال إجراءات محايدة تضمن هذه المساواة وصولاً لتحقيق مفهوم العدالة باعتبارها خدمة عامة تكفل للمواطنين المعاملة على قدم المساواة وخصوصاً إذا ما كانت الإدارة طرفاً في هذه الخصومة لما تتمتع به الإدارة من امتيازات مقررة لها بموجب القانون يجعلها في موقع يعلو على موقع الموظف مما يخل بموازين الخصومة التي تنشأ بين الطرفين.
وعود على بدء، نقول أن غالبية الدساتير قد كفلت حق الدفاع كالدستور المصري والكويتي والفرنسي والعراقي حيث نصت الفقرة (رابعاً) من المادة (19) من دستور جمهرية العراق لسنة (2005) على أن (حق الدفاع مقدس ومكفول في جميع مراحل التحقيق والمحاكمة)، وكذلك نصت الفقرة (سادساً) من نفس المادة على أن (لكل فرد أن يعامل معاملة عادلة في الإجراءات القضائية والإدارية).
أما الدستور المصري فقد نص في المادة (69) منه على أن (حق الدفاع أصالة أو بالوكالة مكفول، ويكفل القانون لغير القادرين مالياً وسائل الالتجاء إلى القضاء والدفاع عن حقوقهم).
7- إن حق الدفاع هو مبدأ قانوني عام : وهو مبدأ واجب التطبيق حتى وإن لم يتم النص عليه، وإن عدم أحترام حق الدفاع يشكل خرقاً للمشروعية الإدارية التي تكون ملزمة للإدارة ويجب عليها مراعاتها في جميع قراراتها بما في ذلك، القرارات الصادرة بفرض العقوبات التأديبية وسنرى لاحقاً كيف استطاع مجلس الدولة الفرنسي من استجلاء هذا المبدأ من النصوص الجزئية المتناثرة في القوانين كنص المادة (65) الواردة في القانون رقم (12/نيسان/1905) واعتبار هذه النصوص كاشفة لحق الدفاع لا منشئة له ويبرز ذلك من الأحكام الصادرة من مجلس الدولة الفرنسي ومفوضي الحكومة( [27]).
8- إن حق الدفاع هو حق يتسم بالعمومية والدوام : فبالنسبة لصفة العمومية فهي ترجع إلى الدور التاريخي الذي لعبه مجلس الدولة الفرنسي في استخلاص هذا المبدأ من النصوص التطبيقية التي كشفت عن المبدأ المذكور في نطاق المسؤولية التأديبية للموظف العام، فما استخلصه مجلس الدولة من نصوص جزئية لمعالجة حالة مطروحة أمامه، لا تقتصر على معالجة هذه الحالة وإنما تتعداها لتشمل تطبيقات أعم وأوسع من هذه النصوص الجزئية ولحالات جديدة لا تدخل في نطاق هذه النصوص الكاشفة لحق الدفاع وهذا بدوره يتطلب أن يكون المبدأ مستقراً عبر الزمن وقابلاً للتطبيق من الناحية الزمنية بغض النظر عن التقلبات السياسية والاقتصادية والقانونية التي قد تعصف في خلفيات المبادئ القانونية ومنها مبدأ حق الدفاع وهذا يعطي للمبدأ صفة الدوام والاستقرار وخير مثال على ذلك ما جرى في فرنسا إبان صدور قرارات التطهير الإداري التي لم تعطِ للموظف الضمانات الجدية الأساسية بما يضمن احترام حق الدفاع حيث انبرى مجلس الدولة الفرنسي للإعلان صراحة ومن خلال سلسلة من الأحكام الصادرة عنه بوجوب احترام الإجراءات الخاصة بالتطهير الإداري لحق الدفاع وكانت ضمانات في دور التحقيق ومقومات كحق الموظف في المواجهة والإطلاع على التهمة الموجهة، والإطلاع على الملف التأديبي والاستعانة بمدافع (محامي)… الخ من الضمانات.
9- إن حق الدفاع يمكن أن ترد عليه الاستثناءات : سبق وأن بينا أن حق الدفاع من المبادئ القانونية العامة ويتصف بالعمومية والدوام والاستقرار إلاّ أن ذلك لا يمنع من أن يرد على هذا المبدأ استثناءاً، وهذا الاستثناء قد يرد بموجب نصوص قانونية أو بسبب اجتهاد قضائي ومن الأمثلة على الاستثناء بموجب نص قانوني هو ما ورد في المادة (8) من المرسوم (28/نوفمبر/1983) التي أشارت إلى عدم جواز إصدار القرارات الإدارية الواجب تسببها طبقاً لقانون (11/Juillet/1979) إلاّ بعد إخطار صاحب العلاقة لتقديم ملاحظاته باستثناء حالة الاستعجال والظروف الاستثنائية، وكذلك ضرورات النظام العام وسير العلاقات الدولية، حيث صدرت في فرنسا أبان الحرب العالمية الأولى والثانية مراسيم تنظم تأديب الموظفين دون ضمان حق الدفاع وإن مجلس الدولة الفرنسي قد أقر شرعية هذه المراسيم بسبب الظروف الاستثنائية التي تمر بها فرنسا إلاّ أن هذه الاستثناءات مؤقتة وغير دائمة تزول بزوال سبب صدور مثل هذه المراسيم وبالفعل تم إعادة ضمانات الموظف التأديبية بموجب المرسوم الصادر بالأمر (19/تشرين أول/1945).
وكذلك من الأمثلة على الاستثناءات الواردة على هذا المبدأ هو قانون التطهير الإداري في لبنان رقم (54/65) الصادر في (12/1/ 1965) الذي تضمن أحكاماً تتعلق بإنهاء علاقة الموظفين وصرفهم أو إحالتهم على التقاعد وملئ المراكز الوظيفية التي شغرت بسبب هذا الإجراء مع إنشاء مجلس تأديبي عام للموظفين مع تضمن المادة (11) من هذا القانون حكماً يقضي بمنع الموظفين بمراجعة أي طريقة من طرق الطعن بما في ذلك الطعن بسبب تجاوز حد السلطة أمام مجلس شورى الدولة اللبناني وهذا النص يشكل خرقاً لحق التقاضي والدفاع في آن واحد.
أما الاستثناءات الواردة بموجب الاجتهادات القضائية منها ما يتعلق بالضبط الإداري وتدابير الشرطة أو التدابير التي تفرضها السلطات العامة ويكون لهذه التدابير طبيعة زجرية أو تأديبية قد تلحق بالموظف أو الأفراد الضرر كالإجراءات المتعلقة بالمحافظة على الصحة العامة والأمن العام والسلامة العامة والحقيقة نرى أن مثل هذه الإجراءات هي ذات طبيعة وقائية وليست تأديبية وبالتالي لا مجال للتذرع باحترام حق الدفاع كما أن مثل هذه الإجراءات تتخذ من السلطة العامة ليس بقصد الإضرار بالموظف أو بفرد معين وإنما أتخذت هذه الإجراءات لمبررات المصلحة العامة أو الأمن العام أوالأداب العامة وهذا هو اتجاه مجلس الدولة الفرنسي حيث يذهب في أحد أحكامه الصادرة إلى (أن التدابير التي تتخذها الإدارة في نطاق الضابطة الإدارية في المحافظة على الصحة العامة والسلامة العامة أو ما شابههما لا تعتبر من عداد العقوبات ولا تستوجب بالتالي تطبيق مبدأ حق الدفاع) إذ غالباً ما تكون إجراءات الشرطة وقائية سابقة بينما تكون الإجراءات التأديبية أو الزجرية الماسة بالموظف لاحقة لوقوع المخالفة التأديبية الهدف منها محاسبة فاعلها على اقتراف مثل هذه المخالفة إلاّ أن هذا لا يمنع من التداخل بين هذه الإجراءات عندما تنحرف عن هدفها وهو تحقق المصلحة العامة لتعاقب فرداً أو موظفاً بداعي تحقيق المصلحة العامة( [28]).
إلا أنه يجب عدم إنكار دور مجلس الدولة الفرنسي في التضييق من نطاق الاستثناءات الواردة على مبدأ أحترام حق الدفاع حيث ركن مجلس الدولة الفرنسي إلى إعمال حق الدفاع في حالة الموظفين المضربين عن العمل، فبعد أن كان الاتجاه السائد للمجلس يذهب إلى اعتبار الموظف المضرب قد وضع نفسه خارج نطاق النظام أو اللائحة التي تنظم علاقته بالوظيفة، وبالتالي يكون خارجاً عن القانون وهذا لا يسمح له بالتمسك بحق الدفاع الممنوح للموظف الذي يقع مركزه داخل الإطار التنظيمي والذي تم تجاوزه بالإضراب وبعد صدور دستور (1946) الذي اعتبر الإضراب حقا دستوريا أخذ مجلس الدولة الفرنسي يأخذ منحى آخر في أعمال هذا المبدأ والسماح للموظفين المضربين بالتذرع به بعد أن أصبح الإضراب حقاً دستورياً في ضوء القيود التشريعية التي تنظمه في حين أن قانون العقوبات اللبناني والمصري أعتبر الإضراب عن العمل جريمة( [29]).
المبحث الثاني
نشأة حق الدفاع في نطاق التأديب الإداري
وطبيعته القانونية
سنتناول في هذا المبحث نشأة حق الدفاع في نطاق التأديب الإداري في مطلب أول وسنبحث في طبيعة هذا الحق في مطلبٍ ثانٍ.
المطلب الأول
نشأة حق الدفاع وتطوره في نطاق التأديب الإداري
إن تبلور حق الدفاع في نطاق التأديب الإداري هو أمرمرتبط ارتباطاً وثيقاً بالقضاء الإداري الذي من أهم سماته هو كونه قضاءاً حديث النشأة وكونه قضاءاً إنشائياً، وإن البحث في نشأة أو ظهور حق الدفاع على مستوى التأديب يجرنا إلى البحث عن مصدر وجوده وهو القضاء الإداري الذي رسخ هذا المبدأ في مجال التأديب الإداري، فحق الدفاع كما بينا سابقاً هو حق فطري وجد مع وجود الخليقة الإنسانية وتطور مع تطور المجتمعات الإنسانية والأنظمة القانونية وخصوصاً في نطاق القانون الجنائي لارتباط فكرة الدفاع مع فكرة الإتهام وأمسى حق الدفاع ضمانة لازمة لا غنى عنها لوصف الإجراءات الجنائية سواء في مرحلة التحقيق أو المحاكمة بأنها مطابقة للوصف أو الشكل القانوني المطلوب ليتسنى خلع وصف الشرعية على هذه الإجراءات، وهذا طبعاً انعكس جلياً على المنازعات التي بدأ القضاء الإداري بنظرها مما دفعه إلى خلق وإيجاد مبادئ عامة واجبة التطبيق وإن لم ينص عليها القانون الإداري كحق الدفاع، ومن هنا بدأ يتبلور هذا المبدأ ويسري للظهور كضمانة أساسية من ضمانات الموظف العام اتجاه إجراءات الإدارة، فالقضاء الإداري لم يخلق أو يبتدع هذا الحق – أي حق الدفاع – من العدم لأنه حق موجود، بل يقرن البعض من أنصار مذهب القانون الطبيعي وجود هذا الحق مع وجود الإنسان إلاّ أن القضاء الإداري قد أخذ يعكس هذا المبدأ في تطبيقات ومنازعات القضاء الإداري ومنها ما يتعلق بتأديب الموظفين.
إذ بسبب حداثة نشأة القانون الإداري نسبياً لم تتكامل نصوصه بشكل يسمح بمعالجة مختلف الوقائع، وهذا دفع القضاء الإداري إلى لعبِ دورا مهما في بناء صرح المشروعية الإدارية من خلال إنشاء نظرية (المبادئ العامة للقانون) لتكون مصدراً مهماً ومستقلاً عن القانون بالشكل الذي يضمن التصدي للإدارة وما تتمتع به من امتيازات ومن بين هذه المبادئ مبدأ أحترام حق الدفاع، وقد كان لمجلس الدولة الفرنسي اليد الطولى في تثبيت دعائم هذا المبدأ مبرراً ذلك بأنه إذا كان للإدارة سلطة إتخاذ القرارات والتدابير بإرادتها المنفردة لتحقيق المصلحة العامة دون أن تكون ملزمة بإطلاع الأفراد أو الموظفين على القرارات المتعلقة بهم إلا أن هذه السلطة غير مطلقة من كل قيد لأن إطلاقها سيؤدي إلى تعسف الإدارة وتجاوزها لحدود سلطاتها وبذلك يتوجب على الإدارة إذا ما قررت إتخاذ قرارات أو تدابير تمس بالمركر الوظيفي أو المالي للموظف أن تطلعه على هذه الإجراءات وبيان ماهية الأفعال المنسوبة إليه وإفساح المجال له للدفاع عن نفسه تحجيماً من سطوة الإدارة التي قد يصل إلى حد الاستبداد.
فاستطاع مجلس الدولة الفرنسي من خلال دوره الإنشائي الخلاق من ترسيخ مبدأ الدفاع وكما أسلفنا أن حق الدفاع لم يوجده مجلس الدولة من العدم وإنما قد استوحاه ووضعه من إعلان حقوق الإنسان الفرنسي لسنة (1789) ومقدمة دساتير الجمهورية الفرنسية لسنة (1958 و1946) إضافة لذلك فإن إقرار هذا المبدأ قد جاء استجابة لمتطلبات العدالة والإنصاف وتطور مفهوم الوظيفة العامة وضرورة إيجاد الموازنة بين ضمانات الموظف العام وسلطات الإدارة.
وقد أصر مجلس الدولة الفرنسي على تطبيق هذا المبدأ بالرغم من عدم وجود نص مكتوب في نطاق القانون الإداري منطلقاً بذلك من القوة الذاتية للمبادئ العامة للقانون التي لا تحتاج إلى نص للتطبيق طالما أن الهدف من وراء تطبيقه هو احترام مبدأ المشروعية ومن هنا أصبح من المسلم به أن القضاء الإداري مصدر رسمي من مصادر القانون الإداري، فاعتمد مجلس الدولة الفرنسي أسلوب التعميم ابتداءً من نصوص جزئية مبعثرة في ثنايا التشريعات في استخلاص مبدأ حق الدفاع والتي توجب أحترام حق الموظف في جوانب معينة وحقه في تقديم دفاعه قبل توقيع الجزاء التأديبي بحقه( [30]).
المطلب الثاني
الطبيعة القانونية لحق الدفاع
لقد وسع القضاء الإداري من نطاق وظيفته الرقابية على الإدارة من خلال ابتداع نظرية المبادئ العامة التي بمقتضاها أخضع كل قرار أو لائحة تصدر من الإدارة بشكل مستقل لا يخضع للقانون إلى المبادئ العامة التي لا يجوز للقرارات الإدارية واللوائح مخالفتها بما في ذلك القرارات الإدارية الصادرة بفرض العقوبات التأديبية بحق الموظفين، فقد استطاع القضاء الإداري من احتواء النقص في النصوص التشريعية التأديبية التي أغفلت النص صراحة على حق الدفاع من خلال اجتهاد هذا القضاء في اعتبار حق الدفاع مبدأ قانونياً عاماً يحمل نفس الخصائص التي تتميز بها المبادئ العامة، إن حق الدفاع باعتباره من المبادئ القانونية العامة لم يكن يثير مشكلة على صعيد الفقه والقضاء الإداري في فرنسا قبل صدور الدستور الفرنسي الحالي لعام (1958) حيث كان الرأي السائد بأن حق الدفاع كمبدأ قانوني عام له قيمة التشريع العادي الوضعي، إلا أن الاتجاهات الفقهية بعد صدور الدستور الفرنسي أخذت منحاً أخراً وسنحاول إيجاز هذه الاتجاهات في يأتي :
أولاً : الاتجاه الفقهي الذي يضفي على مبدأ حق الدفاع القيمة الدستورية :
ويذهب أصحاب هذا الاتجاه إلى أن مبدأ الدفاع باعتباره من المبادئ العامة يتمتع بالقيمة الدستورية وهذا هو اتجاه فقهاء القانون العام ومفوضي الحكومة الفرنسية ابتداءً من عام (1958) مستندين في ذلك إلى أن إضفاء القيمة الدستورية لهذا المبدأ ضرورة لرقابة اللوائح المستقلة التي نص عليها الدستور الفرنسي في المادة (37) لضمان رقابة موضوعية وفعالة من مجلس الدولة على هذه اللوائح وهذا لا يتحقق طالما أن المبادئ العامة للقانون لا زالت في مستوى التشريع العادي مما دفع جانب من الفقه
منقول