دور القاضي في اعادة التوازن للتعويض الاتفاقي على ضوء القضاء المغربي و المقارن


  • من إعداد : إبراهيم البعلي  باحث في الشؤون القانونية والقضائية خريج الماستر المتخصص في المهن القانونية و القضائية.

مقدمة :

انطلاقا من الحرية التعاقدية التي للأفراد في إبرام العقود ازدادت أهمية الشروط المقترنة بالعقد، إذ أن كل فرد يقبل على تصرف قانوني معين إلا ويرغب في حماية مصالحه وأمواله مما يجعله يفرض شروطا لصالحه، ومن بين هذه الشروط نجد الشرط الجزائي: la clause pénale أو ما يسمى بالتعويض الاتفاقي، الذي يعرف بأنه تعويض يتفق عليه أطراف العلاقة التعاقدية في حالة عدم تنفيذ الإلتزام أو التأخر في تنفيذه، فالتعويض الإتفاقي بهذا المفهوم يعرف انتشارا واسعا في المجال التعاقدي، بحيث يرد على كافة العقود من بيع وكراء وقرض بفائدة ومقاولة وغيرها من العقود.

     وما هذا الإنتشار الواسع الذي عرفه إلا دليل على أهميته، غير أن الإشكال المطروح هو ما صاحب إنتشار هذا التعويض من تعسفات من خلال فرض مبالغ خيالية كجزاء عن عدم تنفيذ الالتزام أو التأخر في تنفيذه، وهو ما أدى إلى خلق هوة مرعبة بين المراكز الإقتصادية للأطراف، وخلخلة للنظام العقدي، الأمر الذي دفع القضاء المغربي –اقتداءا بالقضاء الفرنسي- إلى الإجتهاد بالإستناد على مبادئ العدل وقواعد الإنصاف من أجل نصرة الطرف الضعيف ضحية التعويضات الإتفاقية المبالغ فيها أو الشروط الجزائية التعسفية، مما جعل المشرع المغربي يتأثر بالإجتهاد القضائي ليصدر بعدها القانون رقم 27.95 المتعلق بتعديل الفصل 264 من ق.ل.ع.

     حيث اعترف المشرع المغربي بأحقية لجوء أطراف العلاقة التعاقدية إلى قضاء الموضوع لتعديل التعويض الإتفاقي، كلما كان ينطوي على تعسفات كأن يكون مبالغا فيه، أو كان هناك تنفيذ جزئي للالتزام وذلك من أجل التخفيض منه.

غير أنه يجب التنبيه إلى أن التعسف لا يعني دائما المبالغة، فقد يأخذ التعسف صورة تعويض اتفاقي زهيد وهو ما يتطلب الرفع منه من قبل القضاء، وبالرغم من خضوع التعويض الاتفاقي لمبدأ الرضائية فهذا لا ينفي أن يكون مجالا من مجالات تدخل القضاء، بحكم الدور الكبير الذي يلعبه هذا الأخير في خلق نوع من التوازن بين طرفي العلاقة التعاقدية، وذلك من خلال سلطته في مراجعة التعويض المذكور كلما كان مبالغا فيه[1] أو كان هناك تنفيذ جزئي للالتزام الأصلي ، كما يبقى له سلطة الرفع من قيمته إذا كان زهيدا في التشريع المغربي، أو كان هناك خطأ جسيم أو غش بالنسبة لبعض التشريعات العربية الأخرى.

من هنا نود معالجة بعض التساؤلات والتي يمكن إجمالها فيما يلي : كيف ساهم القضاء المغربي في الحفاظ على توازن وحيوية مؤسسة التعويض الإتفاقي ؟ و ما هي حدود سلطة قضاء الموضوع في مراجعة وتعديل التعويض الإتفاقي ؟

للإجابة عن هذه الأسئلة ارتأيت تناول الموضوع من خلال مطلبين:

  • المطلب الأول : الحفاظ على توازن التعويض الإتفاقي عن طريق التخفيض منه.
  • المطلب الثاني : إعادة التوازن للتعويض الإتفاقي من خلال الرفع من قيمته.

 المطلب الأول: الحفاظ على توازن التعويض الإتفاقي عن طريق التخفيض منه.

     يتضح من نص الفصل 264 من ق.ل.ع أن سلطة القاضي في مراجعة وتعديل التعويض الإتفاقي بالتخفيض منه مقيدة بوجود مبالغة في تقديره (الفقرة الأولى)، أو وجود تنفيذ جزئي للإلتزام الأصلي (الفقرة الثانية).

الفقرة الأولى: تخفيض التعويض الإتفاقي في حالة المبالغة في تقديره.

     من خلال الإطلاع على العمل القضائي المغربي والفرنسي، يتبين أن العقود في غالب الأحيان تتضمن تعويضات اتفاقية -شروطا جزائية- مبالغ فيها بشكل كبير، والمحاكم تقوم بتخفيضها إلى الحدود المعقولة، بتطبيق السلطة المخولة لها بموجب القانون المذكور.

     فإذا أثبت المدين أن تقدير التعويض في الشرط الجزائي كان مبالغا فيه لدرجة كبيرة، فخرج بهذا الشكل عن وظيفته فأصبح من قبيل التهديد المالي، فعندئد يجوز للقاضي أن يعدل التعويض الإتفاقي ليعيد التناسب بينه وبين الضرر[2].

     والعلة في التدخل هي المبالغة لأنه بالرجوع إلى الفقرة الثالثة من الفصل 264 نجد أن المشرع المغربي أطلق لفظ “مبالغا فيه” لتخفيض التعويض الإتفاقي، ومعظم القوانين متفقة على ذلك وإن اختلفت تعبيراتها، فالقانون الفلسطيني[3] إعتمد نفس تعبير المشرع المغربي، أما القانون المصري والقانون الإيطالي والقانون البولوني يجب لتدخل القاضي أن يكون التعويض الإتفاقي”مبالغا فيه إلى درجة كبيرة”[4]، وفي القانون العراقي والقانون الكويتي والقانون النمساوي يجب أن يكون التعويض “فادحا”، وفي قانون الموجبات والعقود اللبناني يجب أن يكون “فاحشا”، وفي القانون الأمريكي يجب أن يكون “كبيرا ومبالغا فيه”، وفي القانون الفرنسي يجب أن يكون “مفرطا”[5]، وفي القانون الألماني يجب أن يكون “مرتفعا بشكل مفرط”، وفي ق.ل.ع. السويسري يجب أن يكون “متجاوزا الحد”، وفي القانون الهولندي يجب أن “تستدعي العدالة ذلك بوضوح”[6].

     لكن ما تؤاخذ عليه جل هذه التشريعات أنها لم تحدد درجة المبالغة، لأن التعابير الموظفة بدورها في حاجة إلى تحديد، فلفظ المبالغة أو الفداحة أو الإفراط أو التجاوز هي مصطلحات لا تسعف القاضي في إعمال سلطته في المراجعة، فمسألة تقدير المبالغة وتحديد درجتها ونسبتها تبقى لقضاة الموضوع، تختلف من نازلة لأخرى حسب وقائع وظروف وملابسات كل قضية.

     من هنا نطرح التساؤل حول المعيار المعتمد في تقدير تحقق المبالغة من عدمها، حيث انقسمت المواقف إلى موقفين، الأول يرى الحل في الإعتماد على المعيار الشخصي، الذي يمكن القاضي من معرفة موقف المتعاقدين من التنفيذ، ومدى أهميته بالنسبة إليهما وظروف وملابسات كل قضية[7]، كالوضع الإقتصادي والخبرة الفنية والقانونية التي يتمتع بها الدائن، والتي تسمح بفرض شروط ترتب امتيازات لصالحه دون الطرف الآخر، فهذا ما يبرر القول بالأخذ بعين الإعتبار حسن أو سوء النية لإعمال السلطة في التخفيض، فمتى ما كان سوء نية المدين أو تدليسه سببا مبررا لدفع مبلغ إضافي فإن نفس الإعتبار يحول دون تمتع المدين بفوائد المراجعة احتراما لنفس المنطق[8].

     بينما اتجه الموقف الآخر إلى القول بضرورة الاعتماد على المعيار الموضوعي، الذي من شأن اعتماده أن يكون للقاضي قناعته حول تقدير درجة المبالغة في مقدار هذا التعويض، فإذا كان مرتفعا بشكل كبير مقارنة مع الضرر يلزم تخفيضه، أما إن كانت القيمة الفاصلة بين الضرر والتعويض لا تتصف بالمبالغة فلا مجال لإعمال سلطة التخفيض[9]، والمبالغة لا يمكن أن تقاس إلا بالأرقام أي عن طريق المقارنة بين مبلغ التعويض المتفق عليه وحجم الضرر، فتكون المبالغة متحققة إذا كان هناك اختلاف كبير بينهما، أو كان ذلك التعويض كبيرا بشكل واضح دون إجراء أي بحث.

     وبعيدا عن المعيارين الشخصي والموضوعي فقد حاول بعض الفقه[10] وضع معايير للمبالغة، فذهب إلى أن المبالغة هي كل مازاد عن الثلث قياسا على الغبن، وبالإضافة إلى شرط المبالغة فإن هناك شرط آخر لازم تحققه لمراجعة التعويض الإتفاقي بالتخفيض، والمتمثل في حسن نية[11] المدين من خلال القيام بالتزاماته التي يفرضها عليه العقد دون أي نية مسبقة في الإضرار بالدائن[12]، فلا يستفيد من التخفيض إلا المدين حسن النية، ومتى ثبت العكس لا يستفيد من التخفيض، حيث يعامل بنقيض قصده.

     والمحكمة في إطار إعمال سلطتها في التعديل والمراجعة، يجب أن تراعي الوظيفة المزدوجة لذلك النوع من التعويض، فإذا أثبت المدين أن التعويض الإتفاقي مبالغ فيه إلى درجة كبيرة وقام القاضي بتخفيضه، فإن هذا التخفيض يكون متناسبا وحجم الضرر ولا يتحتم أن يكون مساويا للضرر، فيبقى غالبا بعد تخفيضه سعة ينتفع بها الدائن[13].

     عموما يبقى المعيار المعتمد في إعمال المراجعة من طرف القضاء، هو مقارنة حجم الضرر مع قيمة التعويض، فمتى ما تبين للقضاء أن الإخلال نتج عنه ضرر لا يتناسب حجمه مع قيمة التعويض الإتفاقي بشكل واضح[14]، إلا وقام بتخفيضه إلى حدود معقولة ومقبولة لرفع الحيف والتعسف عن التعويض المتفق عليه، وهذا ما تبين لنا من خلال قرار محكمة الإستئناف بباريس إذ جاء فيه:

“أن الشرط الجزائي المطالب به مبالغ فيه مقارنة مع مدة إمتناع المدين عن تنفيذ التزامه، المدة التي تحتسب من 29 نونبر 2013 إلى 4 فبراير 2014 وتبعا لذلك يتعين تخفيضه إلى £ 7000 “[15].

     وعلى مستوى العمل القضائي المغربي، فقد عرضت قضايا تطلبت من المحاكم إجراء تخفيضات من التعويض الإتفاقي حتى تزيل عنه الطابع التعسفي، وهذا ما يمكن استنتاجه من بعض قرارات محكمة النقض المغربية، إذ جاء في قرار لها ما يلي:

“حيث يستفاد من أوراق الملف أن السيد أ.م. قدم بتاريخ 2008\02\19 مقالا إلى المحكمة الإبتدائية بسيدي قاسم عرض فيه أن المدعى عليه .ع.ش. يكتري منه المحل الكائن بعنوانه وامتنع من إفراغه في التاريخ المتفق عليه وهو 2006\9\30 طالبا الحكم عليه بمبلغ 240000 درهم تصفية الشرط الجزائي المتفق عليه في عقد الكراء عند عدم الإفراغ، والمحدد في 500 درهم عن كل يوم تأخير، وذلك من المدة من 30\9\2006 إلى تاريخ توصله بالإنذار…

فأجرت المحكمة الإبتدائية بحثا وأصدرت بتاريخ 2009\7\14 حكمها في الملف رقم 39\08 على المدعى عليه بأدائه مبلغ 120000 درهم تصفية الشرط الجزائي المنصوص عليه في عقد الكراء، استأنفه المحكوم عليه فأيدته محكمة الإستئناف بمقتضى قرارها المطعون فيه بالنقض…فإنه نتيجة لذلك يكون القرار معللا تعليلا كافيا ومرتكزا على أساس وما بالسبب غير جدير بالإعتبار”[16].

وفي قرار آخر جاء فيه:

“حيث يستفاد من مستندات الملف ومن القرار المطعون فيه الصادر عن محكمة الإستئناف التجارية بالدار البيضاء بتاريخ 2011\02\07 ادعاء الطاعن السيد أ.م. أنه أبرم مع شركة ع.1 وعدا ببيع فيلا للسكن في إطار الملكية المشتركة تحمل رقم …في إطار المشروع المسمى.. البالغة مساحتها الإجمالية 598 متر مربع بثمن إجمالي قدره 4000.000.00 درهم توصلت منه البائعة بمبلغ 1.000.000.00 درهم عند تحرير العقد المذكور، والتزمت بأن يكون التسليم النهائي للمبيع داخل أجل لا يتعدى 31 مارس 2007.

وقد نصت وثيقة الوعد بالبيع على أنه في حالة التأخير في تنفيذ الإلتزام المتفق عليه فإن البائعة تؤدي للمشتري تعويض قدره 1% من مبلغ البيع عن كل شهر تأخير دون أن يتجاوز 10 %سنويا، وأن الفيلا لم يتم الإنتهاء من بنائها وتسوية وضعيتها بالمحافة العقارية وتسليمها وإبرام عقدها النهائي إلا بتاريخ 2008\12\17 أي بعد حوالي 21 شهر من التاريخ المتفق عليه رغم إنذارها وأن هذا التأخير ثابت بمقتضى محضر المعاينة المنجز من طرف المفوض القضائي السيد ع.م. وكذا الخبير السيد أ.م.ن.

ملتمسا الحكم عليها بأدائها له مبلغ 760.000.00 درهم من قبل التعويض المنصوص عليه في عقد الوعد بالبيع، وأصدرت المحكمة التجارية حكما غيابيا قضى على الشركة بأداء مبلغ 160.000.00 درهم ورفض الباقي استأنفه الطرفان وقضت محكمة الإستئناف التجارية بإلغاء الحكم المستأنف والحكم من جديد برفض الطلب…قضت محكمة النقض بنقض القرار المطعون فيه وبإحالة القضية والأطراف على نفس المحكمة مصدرته لتبت فيه بهيئة أخرى..”[17].

     للإشارة فقرار محكمة الإستئناف ألغى الحكم الإبتدائي، بناءا على أن توقيع الطاعن على عقد البيع النهائي بمثابة تنازل عن باقي الشرط الجزائي الوارد في عقد الوعد بالبيع، هذا ما جعل قضاء النقض ينقض قرارها، لأنها وقعت في خلط بين شروط وآثار البيع الإبتدائي وشروط وآثار البيع النهائي، ولأن التنازل يجب أن يكون صريحا.

     وفي قرار آخر لنفس المحكمة جاء فيه:

” حيث يستفاد من أوراق الملف والقرار المطعون فيه أن السيد ل.ب. تقدم بمقال للمحكمة التجارية بأكادير مفاده أنه التزم بإفراغ محلين تجاريين مؤجرين للمطلوب ووضعهما رهن إشارته وتم الإتفاق على تحديد تاريخ انتهاء الأشغال هو 2010\08\04 تحت طائلة غرامة تهديدية قدرها 500 عن كل يوم تأخير عن التسليم الفعلي…

والتمس الحكم بتصفية الغرامة التهديدية المتفق عليها بناءا على عقد الإتفاق ابتداءا من 2011\08\17 إلى متم شهر نونبر 2011 وانطلاقا من الحكم المشار إليه أعلاه على أساس 500 درهم يوميا أي ما مجموعه 235.000.00 درهم وأجاب المدعى عليه أن المدعي سبق له أن تقدم بنفس الطلب فصدر حكم نهائي حدد التعويض انطلاقا من السلطة التقديرية للمحكمة في مبلغ 6000.00 درهم…”[18].

     يستفاد من هذه القرارات، أنه متى ما تقدم الطالب بدعوى يريد من خلالها الحكم له بتعويض اتفاقي[19]، فإن قضاء الموضوع يمارس سلطته في تصفيته، لأن هذا الأخير كتعويض في المسؤولية المدنية يجب أن يكون كاملا ومتناسبا مع حجم الضرر، ووظيفته إرجاع المدين إلى الحالة التي كان عليها قبل حدوث الضرر[20].

     ذلك أن القضاء سواء قضاء الموضوع الذي يقوم بالتعديل أو قضاء النقض الذي يمارس رقابته عليه، يعتمد معيار واحد وهو الضرر ذاته، ويختلف الأمر من واقعة لأخرى حسب ظروف وملابسات كل قضية، وبالتالي يبقى للقضاء سلطة تقديرية في تقدير ذلك التناسب الذي يجب أن يكون بين الضرر والتعويض المتفق عليه.

مقال قد يهمك :   موقف العمل القضائي من إثبات المساهمة في تنمية الأموال المكتسبة بعد الزواج

     لكن الملاحظ أن تدخل القضاء للتخفيض لا يقتصر على حالة وجود مبالغة، بل هناك حالة أخرى، وهي متى تم تنفيذ الإلتزام الأصلي بشكل جزئي، وهو ما سنراه من خلال النقطة الموالية.

الفقرة الثانية: تخفيض التعويض الإتفاقي في حالة التنفيذ الجزئي للإلتزام.

     جاء في الفقرة الثالثة من نص الفصل 264 ق.ل.ع

“… ولها أيضا (أي المحكمة) أن تخفض من التعويض المتفق عليه بنسبة النفع الذي عاد على الدائن من جراء التنفيذ الجزئي”.

     وذلك اقتداءا بالمشرع الفرنسي الذي نص على هذه الحالة في الفصل 1231\5[21] الفقرة الخامسة منه، على اعتبار أنه في حالة كان هناك تنفيذ جزئي للإلتزام، فإنه يمكن للقاضي أن ينقص من قيمة التعويض الإتفاقي بنسبة النفع الذي تحقق للدائن من جراء التنفيذ الجزئي، وقد سار المشرع المصري على نفس الخطى، حيث نظم هذه الحالة في المادة 224\2[22]، فإذا أثبت المدين أن الإلتزام قد نفذ في جزء منه، يقتضي أن يخفض القاضي قيمة التعويض المتفق عليه لأن الطرفين حددا قيمة التعويض لعدم التنفيذ كلية، وسبب التخفيض هنا هو أن الضرر الواقع على المدين سيكون أخف من الضرر لو لم ينفذ التزامه كاملا.

     فبالرغم من أن التنفيذ الجزئي لن يحقق أهداف المتعاقدين، لكنه يحقق نسبة معينة من الأهداف المرجوة من التعاقد، فليس من العدل إهدار هذا التنفيذ الجزئي، والعدالة تقتضي ألا يلزم المدين بكل الشرط الجزائي المتفق عليه، وبالتالي فللقاضي أن يعيد النظر في قيمة التعويض بتخفيضه إلى أن يتناسب مع الجزء المتبقي من الالتزام غير المنفذ.

 وهذا ما أكدته محكمة النقض المصرية في أحد قراراتها:

“إذا كان الثابت من وقائع النزاع أن البائع قد نفذ بعض الأعمال التي التزم بها، وتخلف عن توريد باقي الأقطان المتفق عليها للمشتري، فإن تقصيره في هذا الشأن يكون تقصيرا جزئيا، يبيح للقاضي أن ينقص التعويض المتفق عليه إلى الحد الذي يتناسب مع مقدار الضرر الحقيقي الذي لحق الدائن، مما يدخل في سلطات محكمة الموضوع”[23].

     فإذا كانت مختلف التشريعات قد منحت القضاء سلطة تخفيض التعويض المتفق عليه في حالة تنفيذ الالتزام من طرف المدين جزئيا، فإن تلك السلطة ليست مطلقة، بل لديها ضوابط وشروط، وحدود مرسومة لها لا ينبغي أن يتجاوزها القاضي، ويمكن تحديد هذه الشروط في 4 وهي:

  • 1: أن يكون التنفيذ الجزئي ممكنا[24]، فليست كل الالتزامات تقبل التنفيذ الجزئي، فهناك التزامات لا تنفذ إلا تنفيذا كليا، وبالتالي فمتى ما كان التنفيذ لا يمكن تجزئته[25] فلا يحق للقاضي أن يمارس سلطته في التخفيض؛
  • 2: أن يكون التنفيذ الجزئي مفيدا للدائن، وإذا ثبت أن ما أقدم عليه المدين من التنفيذ الجزئي لم يعد على الدائن بأي فائدة، فإن سلطة القاضي في التخفيض ليس لها ما يبررها، وهذا ما يستفاد من تعبير المشرع “بنسبة النفع” فإن لم يكن هناك أي نفع من التنفيذ الجزئي، فلا مجال لتدخل القضاء للتخفيض؛
  • 3: ألا يكون هناك اتفاق مسبق بين الأطراف على التنفيذ الجزئي: فإذا اتفق أطراف العلاقة التعاقدية مسبقا على مقدار يستحق في حالة التنفيذ الجزئي للالتزام، فلا دخل للقاضي في ذلك إذ يجب عليه احترام ارادتهما؛
  • 4: أن يقبل الدائن التنفيذ الجزئي: وذلك تطبيقا للفصل 259 من ق.ل.ع فللدائن الحقفي أن يقبل أو يرفض.

     فإذا كانت هذه هي الشروط الواجب تحققها لتدخل القضاء من أجل تخفيض التعويض الإتفاقي في حالة التنفيذ الجزئي، فإن الإشكال يطرح على مستوى كيفية تنزيل هذه الشروط، وتلك السلطة المخولة للقاضي على أرض الواقع وتطبيقها على النوازل المعروضة عليه.

     وبالتمعن في الفقرة الثالثة من الفصل 264 يتضح لنا أن تنزيلها مسألة شاقة ود معقدة، نظرا لكون الجزء الذي تم تنفيذه قد يكون نسبته من التنفيذ 50% في حين أن فائدته على المدين لا تساوي إلا 20 % والعكس، فقد تكون نسبة التنفيذ لا تساوي إلا 20% مثلا بينما تعود بنفع يبلغ 50 %، خصوصا أن النص يتحدث عن النفع والفائدة وليس الجهذ المبذول أو حجم التنفيذ، إذن فالأمر يختلف من عقد لآخر حسب طبيعة الإلتزام، وليس هناك معيار ونسبة محددة يمكن تطبيقها على جميع الحالات.

     فالقاضي ملزم بإجراء التخفيض بمقدار ما عاد على الدائن من نفع، وبالتالي فعليه أن يبدأ بالبحث عن مقدار الفائدة التي جناها الدائن من التنفيذ الجزئي، وهو لن يصل إلى ذلك إلا عن طريق مقارنة ما كان سيعود على الدائن من التنفيذ الكامل بما عاد عليه من التنفيذ الجزئي.

     فإذا قدر مثلا أن التنفيذ الجزئي عاد على الدائن بنفع في حدود ثلث الالتزام، فإن عليه أن يخفض مبلغ التعويض الإتفاقي بمقدار الثلث[26]، ويمكنه أن يستعين في ذلك بكل ما من شأنه أن يحقق الغاية المرجوة، خصوصا إذا تعلق الأمر بمسائل فنية لا يتقنها القاضي كاللجوء إلى الخبرة مثلا، وإلى جانب عنصري الضرر والفائدة فإن تقدير قيمة التنفيذ الجزئي يفرض على القاضي أن يراعي فيه حسن نية المدين، وفي حالة ما إذا ثبت سوء نيته فللقاضي أن لا يعتد بالتنفيذ الجزئي ويحكم بالتعويض المتفق عليه كاملا[27].

     وهو ما يعني أنه على القاضي ألا يقف عند مقدار التنفيذ الجزئي بل عند النفع الناتج عن ذلك التنفيذ الجزئي، كما قررت ذلك الفقرة الثالثة من الفصل 264 من ق.ل.ع.

     كما يتوجب عليه أن يبرر التخفيض، بحيث يظهر أنه تم بنسبة النفع الذي عاد على الدائن من التنفيذ الجزئي، فمحكمة النقض لها سلطة مراقبة التعليل الذي اعتمد عليه قاضي الموضوع، فإن لم يوضح ذلك بشكل جلي أمكن لقضاء النقض أن ينقض قرار أو حكم قضاء الموضوع، وقد سبق أن تقرر هذا في إحدى القضايا الحديثة، حيث جاء في قرار لمحكمة النقض المغربية ما يلي:

“…المحكمة عللت تخفيضها لقيمة الدين بكون الدائن استوفى أصل الدين وفوائد السنة، وهو ما حقق له نفعا يبرر التخفيض من الدين بنسبة 50% غير أنها لم تبين كيف تأتى لها أن تقدر النفع الذي عاد على الطالب بمجرد حصوله على أصل الدين وفوائد السنة، والحال أنه كان يجب عليها تبعا للفصل 264 من ق.ل.ع تقدير الخسارة اللاحقة به وما فاته من كسب، علما أنه لم يحصل على أصل الدين وفائدة سنة إلا بعد استهلاك مدة القرض بسنتين ونصف وبعد مرور اثني عشرة سنة ونصف على منح القرض، فكيف اقتنعت المحكمة بحصول الطالب على نفع يبيح لها التخفيض من دينه، ولم تبحث أولا عن الأضرار اللاحقة به.

 فتكون بما ذهبت إليه خارقة للنصوص المحتج بها وللفصول 109\110\117 من الدستور وعللت قرارها تعليلا فاسدا…”[28].

     الملاحظ من خلال هذا القرار أن محكمة النقض نقضت القرار الإستئنافي لأنه قام بعملية التخفيض بنسبة 50%، دون أن تعتمد على معايير دقيقة مما لم يسعفها في تعليل النتيجة التي توصلت إليها، وهذا ما عرضه للنقض، لهذا فإننا نؤكد من جانبنا على أن مسألة تعديل التعويض الإتفاقي في حالة التنفيذ الجزئي من أعقد الحالات الثلات التي يحق للقاضي فيها تعديله، فهي مسألة جد شاقة وتتطلب التدقيق لأنها مسألة أرقام وحساب.

     وبالتالي فمتى ما وقع خطأ في بداية الحساب والتقدير فسيكون هناك خطأ في النهاية واستخلاص النتائج وسيعرض المقرر للنقض، فبالرغم من أن تقدير التعويض من المسائل الواقعية التي يستقل قضاة الموضوع بها، إلا أن تعيين عناصر الضرر التي يجب أن تدخل في حساب التعويض هي من مسائل القانون التي يخضع فيها لرقابة محكمة النقض[29].

     فإذا كانت سلطة القضاء تجاه التعويض الإتفاقي في حالتي المبالغة والتنفيذ الجزئي لها حدود وغير مطلقة، فهل تخضع حالة الزيادة في قيمته  لنفس الحدود ؟ وهل يمكن تصور هذه الحالة في الواقع والممارسة العقدية أم أنها افتراض من المشرع ؟

المطلب الثاني : إعادة التوازن للتعويض الإتفاقي من خلال الرفع من قيمته.

أعطى المشرع المغربي للمحكمة أن ترفع من قيمة التعويض الإتفاقي كلما كان زهيدا (الفقرة الأولى)، وهذا خلاف بعض التشريعات العربية التي أجازت الرفع من قيمته في حالتي الغش والخطأ الجسيم (الفقرة الثانية).

 الفقرة الأولى: الزيادة في قيمته إذا كان زهيدا.

     يكون التعويض الإتفاقي زهيدا عندما يكون تافها أو ضئيلا، لا يتناسب أصلا مع قيمة الضرر الذي لحق الدائن، وبشكل يجعله أقرب ما يكون إلى العدم منه إلى الوجود[30].

     فلا يمكن اعتبار التعويض المتفق عليه زهيدا لمجرد أنه منخفض، وإنما لابد أن يكون مقداره عاجزا عن تغطية كل الضرر الحاصل للطرف الدائن، حتى يتمكن القاضي من التدخل والرفع منه ليخلق التناسب بينه وبين الضرر المتحقق، مع الأخذ بعين الإعتبار حسن أو سوء نية المدين[31].

     ويجد القضاء المغربي سلطته في مراجعة التعويض المذكور بالرفع منه، في مقتضيات الفقرة الثالثة من الفصل 264 من ق.ل.ع حيث جاء فيها:

   ” يمكن للمحكمة تخفيض التعويض المتفق عليه إذا كان مبالغا فيه أو الرفع من قيمته إذا كان زهيدا”.

     وتأسيسا على هذا المقتضى يمكن القول أن المشرع المغربي قد أنصف الدائن والمدين، وعاملهما بمبدأ المساواة، فكما منح المدين إمكانية التوجه للقضاء والمطالبة بتخفيض التعويض المبالغ فيه، فإنه لم يحرم الدائن من هذه الإمكانية إذا كان التعويض زهيدا.

     وكما سبقت الإشارة إلى أن لفظ المبالغة يتطلب التحديد فإن لفظ “زهيدا” أيضا بدوره يتطلب وضح حدود معينة، فهو ليس بمعيار يسعف القاضي في إعمال المراجعة، مما يبقى معه لقضاء الموضوع سلطة في تقدير درجة التفاهة التي وصل إليها التعويض المتفق عليه، ولن يحقق غائية اللجوء إلى القضاء إلا مقارنة قيمته مع حجم الضرر اللاحق بالدائن.

     وتجدر الإشارة إلى أن المشرع المغربي كان موفقا في نظرنا عند تحديده الحالات التي يمكن فيها للقضاء زيادة قيمة التعويض الإتفاقي، مقارنة مع بعض التشريعات.

     ونأخذ على سبيل المثال المشرع المصري، هذا الأخير الذي نظم هذه الحالة في المادة 225 من القانون المدني والتي جاء فيها:

“إذا جاوز الضرر قيمة التعويض الإتفاقي فلا يجوز للدائن أن يطالب بأكثر من هذه القيمة إلا إذا أثبت أن المدين قد ارتكب غشا أو خطئا جسيما”.

     نفس المقتضى قرره المشرع الجزائري في المادة 185 حيث جاء فيها:

” إذا جاوز الضرر قيمة التعويض المحدد في الإتفاق فلا يجوز للدائن أن يطالب بأكثر من هذه القيمة إلا إذا أثبت أن المدين قد ارتكب غشا أو خطئا جسيما”.

     بناءا على نص المادتين المذكورتين أعلاه لا يجوز للدائن أن يطلب زيادة التعويض الإتفاقي إلى ما يعادل التعويض الكامل المتناسب مع الضرر، إلا إذا أثبت أن المدين قد ارتكب غشا أو خطئا جسيما، والقاضي لا يمكنه الزيادة في التعويض بل يحكم به كما هو[32] هذا حسب المشرعين المصري والجزائري.

     أما بالنسبة للمشرع المغربي إذا تبين للقضاء أن قيمة التعويض الإتفاقي لا تقل عن حجم الضرر بشكل كبير، بمعنى في حدود يمكن أن يقبلها المتعاقد دون تعسف ظاهر، فإن التعويض في هذه الحالة يعتبر شرطا من شروط تخفيف المسؤولية العقدية[33]، والإتفاق على ذلك جائز في القانون المغربي في غير حالتي التدليس والخطأ الجسيم، وبالتبع يستلزم الأمر الحكم به كما هو، دون إجراء أي تعديل، بالرغم من الفارق اليسير بينه وحجم الضرر.

     ويمكن للقضاء في إطار قيامه بالتعديل الإعتماد على أي وسيلة من وسائل التحقيق المقررة في قانون المسطرة المدنية كالخبرة مثلا، لأنه في كثير من الأحيان تعرض على القاضي مسائل تقنية لا يمكن له أن يتقنها، وبالتالي يتعين عليه اللجوء إلى خبرة.

     وهذا ما تبين لنا من خلال قرار الغرفة المدنية لمحكمة النقض، حيث لجأت محكمة الاستئناف لإجراء خبرة وهكذا جاءت حيثيات القرار:

” حيث يستفاد من مستندات الملف… ومن ضمن بنود العقد أنه عند أي إخلال من أي طرف يتعرض لأداء ذعيرة للآخر كشرط جزائي قدرها 500 درهم عن كل شهر ابتداءا من متم يوليوز 1987 إلى التاريخ الفعلي لتسليم القطعة، ملتمستين الحكم على المدعى عليهم بأدائهم لهما تضامنا فيما بينهم مبلغ 113000 درهم كشرط جزائي.

مقال قد يهمك :   بوشعيب شاهي : دعوى التعويض و دور صندوق التأمين في النظام العقاري المغربي

 وأجاب المدعى عليهم بأن القطعة موضوع النزاع المستخرجة من تجزئة النجاح للرسم العقاري عدد 16 تم نزع ملكيتها لفائدة وزارة التربية الوطنية وتم بناء مدرسة في التجزئة ملتمسين الحكم بعدم قبول الطلب واحتياطيا رفضه مستدلين بشهادة من المحافة العقارية لإثبات ذلك.

 وعقبت المدعيتان بأن المدرسة أنجزت في جزء من التجزئة وهذا الجزء لا يساوي 1\5 مساحة التجزئة، وبعد تمام الإجراءات أصدرت المحكمة الإبتدائية بتاريخ 11\6\07 حكما بأداء المدعى عليهم للمدعيتين تضامنا فيما بينهم مبلغ 113000 درهم كتصفية للشرط الجزائي المبرم بين موروثهم والمدعين موضوع الوعد بالبيع المؤرخ في 14\11\86 والمصادق على صحة توقيعه في 20\11\86 وتحميلهم الصائر ورفض باقي الطلبات.

 استؤنف من طرف المحكوم عليهم وبعد إجراء خبرة في الموضوع وتمام الإجراءات قضت محكمة الإستئناف بتأييد الحكم المستأنف وذلك بمقتضى قرارها المطعون فيه بالنقض”[34].

     فالملاحظ من خلال هذا القرار أن الأمر كان يتوقف على إجراء خبرة فلجأت إليها المحكمة، ثم تبين لها أن الحكم المستأنف لما حكم بذلك المقدار من التعويض كان صائبا، لأن التعويض المتفق عليه متناسب وحجم الضرر، لكن لو تبين لها أن أنه  ضئيل مقارنة مع حجم الضرر بنسبة 40%  مثلا، فإنها كانت ستقوم بالرفع منه إلى حدود هذه النسبة، لأن الضرر والتعويض متباعدان إلى حد كبير.

     بناء على ما سبق يبقى لقضاء الموضوع كلما تبين له أن قيمة التعويض الإتفاقي لا تتناسب مع حجم الضرر اللاحق بالدائن بشكل غير مقبول، أن يتدخل للزيادة فيه حتى يؤدي الشرط الجزائي مهمته كتعويض، دون الزيادة فيه إلى درجة التهديد لأنه على القضاء في هذه الحالة أن يخلق ذلك التناسب بين الضرر والتعويض، وليس من حقه أن يرفعه بشكل يصبح معه التعويض الإتفاقي مؤديا لوظيفته التهديدية، وله في ذلك أن يلجأ إلى كل الوسائل التي تحقق هذا.

الفقرة الثانية : الرفع من قيمته في حالة التدليس والخطأ الجسيم.

     أول ما يجب التنبيه إليه هو أن هذه الحالة لم ترد في الفصل 264 من ق.ل.ع، ولكن يمكن اللجوء إليها في إطار القواعد العامة، وهذا ما يستفاد من الفصل 232 من ق.ل.ع حيث جاء فيه:

“لا يجوز أن يشترط مقدما عدم مسؤولية الشخص عن خطئه الجسيم أو تدليسه”

     وهذا خلاف باقي التشريعات العربية التي تبنت هذه الحالة، حيث منحت الدائن الحق في طلب الزيادة في مبلغ التعويض الإتفاقي، عندما يتمكن من إثبات ارتكاب المدين للغش أو الخطأ الجسيم، فبالنسبة للمشرع المصري نص على هذا في المادة 225:

 ” إذا جاوز الضرر قيمة التعويض الإتفاقي فلا يجوز للدائن أن يطالب بأكثر من هذه القيمة إلا إذا أثبت أن المدين قد ارتكب غشا أو خطأ جسيما”.

     بينما تناول المشرع الكويتي هذه الحالة في المادة 304:

” إذا جاوز الضرر قيمة التعويض المتفق عليه، فلا يجوز للدائن أن يطالب بأكثر من هذه القيمة إلا إذا أثبت أن المدين قد ارتكب غشا أو خطأ جسيما”.

     أما المشرع الجزائري فنص عليها في المادة 185 :

” إذا جاوز الضرر قيمة التعويض المحدد في الإتفاق فلا يجوز للدائن أن يطالب بأكثر من هذه القيمة إلا إذا أثبت أن المدين قد ارتكب غشا أو خطئا جسيما”.

     الواضح أنه قد تم إقرار اتفاق الإعفاء من المسؤولية وتم حظره عن الخطأ الجسيم أو التدليس، ورتب القول بصحته على الخطأ اليسير، فإذا كان ليس بإمكان الشخص أن يشترط مقدما عدم مسؤوليته عن خطئه الجسيم، فبمفهوم المخالفة يجوز له أن يشترط مقدما عدم مسؤوليته عن الخطأ اليسير[35].

     فتلك النصوص تستند على تصور أن العقود يجب أن تنفذ بحسن نية، كما يقر بذلك الفصل 231 من ق.ل.ع: “كل تعهد يجب تنفيذه بحسن نية…” فهذا المقتضى يقوم على اعتبارات أخلاقية عالية لمحاربة الغش والخديعة والإحتيال.

     والملاحظ أن المشرع المغربي استعمل لفظ “التدليس” بينما اعتمدت باقي التشريعات المشار إليها أعلاه لفظ “الغش” فما الفرق بينهما ؟ يرى أحد الباحثين[36] أن الغش مرادف للتدليس وهو الخطأ العمدي، أي الإمتناع عن تنفيذ الإلتزام الناشئ عن العقد، وليس بالضرورة أن يتوفر عنصر الإضرار فيه، بل يكفي الإمتناع عمدا عن التنفيذ من أجل تحقيق مصلحة شخصية.

     وبالرجوع إلى شروط استحقاق التعويض الإتفاقي، نجد عنصر الخطأ المتمثل في الإخلال بالإلتزام، فالخطأ الذي يثبت في جانب المدين قد يكون يسيرا وقد يكون جسيما، فإذا كان جسيما أو ثبت استعماله للتدليس فإنه لا يجوز له أن يتمسك بإعمال التعويض المتفق عليه كما هو، بل يبقى للدائن الحق في طلب الرفع من قيمته لأن الضرر الحاصل أكبر مما تم توقعه في العقد[37]، فإخلال المدين بالتزامه العقدي الراجع إلى خطئه الجسيم أو تدليسه، يبرر دفع تعويض إضافي يضاف إلى التعويض الإتفاقي، لأن الأطراف عند قيامهم بتحديد التعويض -الشرط الجزائي- لم يدخلوا في حسبانهم الإخلال الراجع إلى الخطأ الجسيم أو التدليس، وحتى لو أخذوه بعين الإعتبار فإنه يكون باطلا بنص الفصل 232، مما نستنتج معه أن العدالة تنادي بزيادة مبلغ التعويض الإتفاقي بما يتناسب مع الضرر الحاصل للدائن جراء تدليس المدين أو خطئه الجسيم.

     فالثابت من خلال نصوص التشريعات المذكورة دون المشرع المغربي، أن الدائن يفقد حقه في المطالبة بزيادة مبلغ التعويض الإتفاقي، إلا في حالة الخطأ الجسيم والتدليس.

     فالمشرع المغربي في اعتقادنا كان موفقا في تحديد الحالة التي يمكن فيها للقضاء زيادة مبلغ التعويض الإتفاقي، وكان أكثر إنصافا للدائن وسوى بينه وبين المدين، فكما خول للمدين الحق في المطالبة بالتخفيض من ذلك التعويض فإنه أعطى الدائن إمكانية التوجه للقضاء للمطالبة بالزيادة فيه، في حالة كان زهيدا، أما في حالة الخطأ الجسيم والتدليس هذه أسباب يمكن اللجوء إليها في إطار القواعد العامة[38].

     وبالتالي انتبه لها المشرع المغربي وتجاوزها لأنه إن نص عليها مرة أخرى، فإن ذلك سيكون تكرارا لما جاء في القواعد العامة، مما جعله يكتفي بالنص على حالة يمكن للقضاء أن يتوسع في التدخل عن طريقها متى بدا له أن هناك شرط جزائي تافه، مقابل ضرر جسيم سواء اقترن بتدليس المدين وخطئه الجسيم أم لا[39].

     لأن الرفع من قيمة التعويض الإتفاقي أساسه الزهادة وليس الخطأ الجسيم أو التدليس، خلاف ما يذهب إليه الكثير من الباحثين[40]، حيث يعتبرون أن الأساس هو الخطأ الجسيم أو التدليس، لكننا نقدم طرحا مخالفا مؤيدين في ذلك توجه أحد الباحثين[41]، وذلك باعتبار أن أساس الزيادة هو زهادة مبلغ التعويض المتفق عليه أما الخطأ الجسيم وتدليس المدين فيعتبران عاملان من عوامل الزيادة، أو ظرفان مشددان إن صح التعبير للرفع من قيمة التعويض المعني، فالأصل في هذه الحالة أن مبلغه زهيدا مقارنة مع الضرر الحاصل للدائن، وهذا فعلا ما يتماشى مع منطوق الفصل 264 الذي اكتفى بالنص على حالة وحيدة وهي زهادة مبلغ التعويض الإتفاقي.

     وبالتالي فمتى ما اقترنت الزهادة بالخطأ الجسيم والتدليس إلا واعتبرا هذان ظرفان مشددان، يقتضيان توفير حماية أكثر للدائن بالرفع من قيمة التعويض الإتفاقي، خاصة أمام موقف المشرع من الإشتراط مقدما على عدم مسؤولية الشخص عن خطئه الجسيم أو تدليسه بموجب الفصل 232، حيث منع على أطراف العلاقة التعاقدية أن تنحو هذا النحو، لأن المشرع كان واضحا في تحديد حالة تدخل القضاء للرفع من قيمة التعويض، وهي حالة واحدة ووحيدة تتلخص في زهادة مبلغ التعويض الإتفاقي، وما ارتباط التدليس والخطأ الجسيم بتلك الزهادة إلا من قبيل تشديد التعامل مع المدين باعتباره سيئ النية ويتطلب الأمر معاملته بنقيض قصده عقابا له، و بالتبع الحكم بتعويض إضافي للتعويض الإتفاقي.

     وعلى سبيل الختم نخلص أن قضاء الموضوع له سلطة مراجعة التعويض الإتفاقي بالتخفيض من قيمته إذا كان مبالغا فيه أو كان هناك تنفيذ جزئي، كما له إمكانية الزيادة فيه في حالة كان زهيدا ولا يبلغ قيمة الضرر اللاحق بالدائن، مما يحقق ذلك التوازن بين طرفي العلاقة التعاقدية، ويحافظ على النظام العقدي والمراكز الاقتصادية للأطراف، وكذا الحفاظ على حيوية مؤسسة التعويض الإتفاقي -الشرط الجزائي- البالغة الأهمية، ومما تجدر الإشارة إليه أن سلطة القضاء تجاه هذا النوع من التعويض تنحصر في تعديله، دون الحلول محل إرادة الأطراف أو إلغائه.

     غير أن سلطة القاضي تجاه التعويض المتفق عليه يجب أن تحاط بمجموعة من الضمانات والتي منها أن تكون هذه السلطة من النظام العام وذلك مقاومة للتعسف والاستغلال، ونصرة للطرف الضعيف الذي قد يكون غير عالم بحقه في المطالبة بالتعديل والمراجعة، حيث يجب منح القضاء سلطة رفع التعسفات التي تطبع الشروط الجزائية بشكل تلقائي دون حاجة لطلب الأطراف، محافظة على التوازن العقدي ومقاومة للتعسف والإستغلال، الأمر الذي يدفعنا لتقديم مقترح تعديل الفصل 264 من ق.ل.ع على أمل أن يتبناه المشرع المغربي، ليصبح بهذه الصيغة:

“الضرر هو ما لحق الدائن من خسارة وما فاته من كسب متى كانا ناتجين مباشرة عن عدم الوفاء بالالتزام، وتقدير الظروف الخاصة بكل حالة موكول لفطنة المحكمة، التي يجب أن تقدر التعويضات بكيفية مختلفة حسب خطأ المدين أو تدليسه.

يجوز للمتعاقدين أن يتفقا على التعويض عن الأضرار التي قد تلحق الدائن من جراء عدم الوفاء بالالتزام الأصلي كليا أو جزئيا أو التأخير في تنفيذه.

يمكن للمحكمة ودون طلب من الأطراف تخفيض التعويض المتفق عليه إذا كان مبالغا فيه إلى حد كبير أو الرفع من قيمته إذا كان زهيدا بشكل واضح مقارنة مع الضرر المتحقق، ولها أيضا أن تخفض من التعويض المتفق عليه بنسبة النفع الذي عاد على الدائن من جراء التنفيذ الجزئي، ولها أن تلجأ في سبيل ذلك إلى كل وسائل التحقيق المقررة في ق.م.م[42]

منقول


اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

x

‎قد يُعجبك أيضاً

التربية البيئية ودورها في حل قضايا البيئة

التربية البيئية ودورها في حل قضايا البيئة إن المحاولات والجهود التي تبذل في مجال حماية ...