دور القضاء التجاري في تشجيع الاستثمار وصون حقوق المستثمرين
يعتبر الاستثمار دعامة أساسية للتنمية، لكونه يشكل إضافة إلى الطاقة الإنتاجية، الزيادة في الثروات لما لذلك من أثر في إشباع الحاجات وتوفير الخدمات، كما أنه يحتاج إلى مناخ يجلبه، ولاشك أن تحقيق الأمن القانوني والقضائي يساهم إيجابيا في ذلك، فالمستثمر -سواء كان وطنيا أو أجنبيا- ومهما كانت المبادرات التشجيعية المنصوص عليها في التشريعات والأنظمة، فإنه لا يغامر إلا إذا تحقق من وجود قضاء مستقل وفعال يترجم النصوص بما يحقق العدل والمساواة.
إن الأمن القانوني يعني توفير المناخ القانوني السليم للاستثمار وإيجاد الآليات القانونية المحفزة على الاستثمار، وسيادة دولة القانون في ميدان الأعمال.
وإذا كان المستثمر الوطني أو الأجنبي يبحث دائما عن الفعالية والسرعة والأمن والثقة في كون المعاملات التجارية التي ستنفذ بوضوح وأنه في حالة وقوع نزاع بشأنها فإن هناك آليات قانونية تضمن حماية حقوقه، وعليه فإن المستثمر قبل القيام بأي مبادرة بشأن الاستثمار يبحث عن المعطيات الآتية:
– الضمانات القانونية والقضائية الممنوحة للمستثمر.
– القوانين المنظمة لقطاع الاستثمار
– الضمانات القانونية التي تنظم الشراكة بين الفاعلين الاقتصاديين المغاربة والأجانب.
– مدى انخراط المغرب في الاتفاقات الدولية المتعلقة بالاستثمار
– الامتيازات التي يمنحها قانون الاستثمار للمستثمرين الأجانب سواء من حيث الإعفاءات الضريبية أو الجمركية أو رسوم التسجيل.
– قانون الصرف وما يخوله للمستثمر الأجنبي من إمكانية تحويل الأموال المستثمرة والأرباح الناتجة عنها إلى الخارج.
– التسهيلات التي تمنحها الدولة من أجل الاستفادة من الأراضي الواقعة في المناطق الصناعية.
إن القضاء التجاري أصبح من أي وقت مضى مطالبا بالانفتاح على محيطه الخارجي والاطلاع على تجارب قضائية وثقافات قانونية أخرى ، رغبة في تطوير واستيعاب ميكانيزمات العمل التجاري حتى يصبح قادرا على إيجاد الحلول المناسبة لما قد يعرض عليه من منازعات تجارية تهم مجال الاستثمار ومن تم يكون فاعلا أساسيا في خلق مناخ سليم يسوده الاطمئنان والثقة والاستقرار ويشكل دعامة قوية لعملية التنمية وتشجيع الاستثمار، وحتى يقوم القضاء التجاري المتخصص بالدور المنوط به لاسيما في التحفيز على الاستثمار والمساهمة في خلق النشاطات الاقتصادية عليه أن يضمن أمن المستثمرين ويصون حقوقهم في ظل سيادة القانون واستقلال القضاء، سواء كانوا وطنين أو أجانب، إذ لا استثمار بدون ضمانات قضائية واضحة وقد عبر عن ذلك المغفور له الحسن الثاني قدس الله روحه حينما قال :”لا يمكن للمغرب أن يفتح أبوابه للمال الأجنبي، إذ ا لم يكن ذلك المال الأجنبي عارفا أنه في مأمن من الشطط أو سوء الفهم ولا أقول دائما الشطط وإنما سوء الفهم، فالقضاء أصبح أمرا ضروريا للنماء..” .
إن التحديات التي يتعين على القاضي التجاري أن يأخذها يعين الاعتبار هو ضرورة انفتاحه على المحيط الخارجي وعدم الاكتفاء بالتكوين القانوني وإنما الاهتمام بمسائل الاقتصاد والمحاسبة والشؤون المالية والتجارة الدولية والإعلاميات وبالتالي فإنه لا يمكن لهذا القاضي أن يقوم بذلك إلا بتمكينه من جميع الوسائل العلمية والتكنولوجيا في مجال الاتصال قصد البحث في القانون الأجنبي والاجتهاد القضائي المقارن لمسايرة التطورات والاتفاقيات الدولية حتى يلعب القضاء المغربي دورا مهما في بلورة اجتهاد قضائي وطني مستقل وإيجاد حلول عملية وواقعية بدلا من التشبث بحرفية النص.
وإلى جانب القضاء التجاري هناك التحكيم التجاري -سواء كان على الصعيد الوطني أو الدولي- من أهم الوسائل المطمئنة للمستثمر، وعلى هذا الأساس تم تعديل المقتضيات المتعلقة بالتحكيم الواردة في ق.م.م. بمقتضى القانون رقم 05-08 المتعلق بالتحكيم بمقتضيات جديدة لاسيما فيما يخص التحكيم الدولي. إذ بواسطته يتمكن الأطراف من اختيار حكم ومكان التحكيم والقاعدة القانونية المطبقة أو دون التقيد بها مما يدل على أن المغرب كرس قاعدة الوسائل البديلة لحل المنازعات التجارية عندما نظم التحكيم الدولي والوساطة الاتفاقية.
بعد هذا العرض التقديمي للموضوع نرى لزاما أن نتناوله وفق المنهجية التالية:
الفصل الأول: الإطار القانوني والمؤسساتي لتشجيع لاستثمار.
الفصل الثاني: ضمانات القضاء التجاري والوسائل البديلة في حماية الاستثمار والمستثمرين.
الفصل الأول: الإطار القانوني والمؤسساتي لتشجيع الاستثمار
إن المنازعات الناتجة عن عقود الاستثمار تعتبر ناتجا بالضرورة عما يواكب بالضرورة نمو اقتصاد السوق، يستوجب فض المنازعات توفير الآليات الضرورية، وكما سبقت الإشارة إلى ذلك فإنه يتعين التشجيع على الوسائل البديلة لما فيها من تخفيف العبء على القضاء التجاري ومن آثار إيجابية على توفير المناخ الملائم للاستثمار وتوفير الأمن القضائي في ميدان الاستثمار.
وفي هذا الإطار اتخذت عدة تدابير تهدف إلى إصلاح الإطار القانوني والمؤسساتي للاستثمار وتشجيع المبادرة للمستثمرين المغاربة والأجانب حيث تم العمل على تحسين فرص جاذبية الاستثمار من خلال اتخاذ إجراءات اقتصادية وقانونية ومؤسساتية.
وعليه، سنعالج هذه التدابير من خلال المطلب الثاني على أساس أن نبحث في المطلب الأول عن تحديد مفهوم الاستثمار وعلاقته بالقضاء.
المطلب الأول: مفهوم الاستثمار وأهميته وعلاقته بالقضاء
نتناول في هذا المطلب تعريف الاستثمار سواء من الناحية الاقتصادية أو القانونية وموقف الاتفاقات الدولية والثنائية والقوانين الداخلية لنعالج فيما بعد أهمية الاستثمار في المغرب.
أولا : تعريف الاستثمار
إن مفهوم الاستثمار يعد مفهوما واسعا، لأنه يشمل العديد من الأنشطة المرتبطة بالجوانب الاقتصادية، والتي لا يمكن أن تتحدد طبيعتها الاستثمارية بالنظر إلى مجموعة من المعايير الأساسية، كمدة استمرار النشاط ودورية الأرباح والنتائج ومدى وجود مخاطر اقتصادية والتزامات مهمة، فضلا عن أهمية المشروع في تحقيق التنمية والتطور في الدولة المستقبلة للاستثمار.
وهكذا يعتبر الاستثمار في نظر رجال الاقتصاد عملية من عمليات استغلال رأس المال بهدف تحقيق عائد أو فائض مالي، وقد اختلفوا في وضع تعريف له، حيث يذهب جانب منهم إلى أن الاستثمار هو صافي الإضافة الحاصلة إلى مجمل ثروة المجتمع التي تتحقق إذا لم يستهلك الدخل الجاري بأكمله، فالاستثمار الرأسمالي هو النقود التي تنفق على خلق أصول إنتاجية ثابتة جديدة وتجديد وتوسيع الأصول الثابتة القائمة، بينما يذهب جانب آخر من الاقتصاديين إلى وضع تعريف له حيث يبقى في نظرهم سوى الخلـق أوالبناء أو شراء الأموال والتجهيزات الصناعية والمواد والأشياء الأخرى المماثلة، وبعبارة أخرى فإن الاستثمارات تميل إلى زيادة رأس المال الثابت للمشروع.
ويذهب “كينز” إلى أن الاستثمار هو زيادة في المعدات الرأسمالية حيث إن هذه الزيادة تحمل على رأس المال الثابت ورأس المال الدائر أو رأس المال السائل.
والملاحظ أن التعريفات المختلفة للاستثمار في نظر رجال الاقتصاد تدور حول الهدف من عملية الاستثمار.
أما من وجهة نظر القانونيين، فإن جل التعريفات للاستثمار وبالخصوص الاستثمار الأجنبي تركزت على تحرك رؤوس الأموال من بلد إلى بلد بغير تنظيم مباشر، وقد ركز البعض منهم على عنصر الربح واعتبروه ركنا أساسيا في أي تعريف غير أن هناك فريق آخر ارتأى أن بعض الاستثمارات الأجنبية قد لا تستهدف الربح مباشرة أو الربح بذاته وإنما تساعد في إنشاء وتشغيل مشروعات في البلد المستفيد “المستثمر فيه” وهذه المشروعات هي التي تحقق الربح.
تعريف الاستثمار على ضوء الاتفاقات الدولية وكذا الثنائية:
ذهبت الاتفاقية الموحدة لاستثمار رؤوس الأموال العربية في الدول العربية الموقعة في تونس 1982 إلى تعريف الاستثمار بأنه استخدم رأس المال العربي في إحدى مجالات التنمية الاقتصادية بهدف تحقيق عائد في إقليم دولة طرف في الاتفاقية.
أما مشروع اتفاقية المؤسسة العربية لضمان الاستثمار فقد عنت الاستثمارات المباشرة بما في ذلك المشروعات وفروعها ووكالاتها وملكية الحصص والعقارات والاستثمارات الحافظة بما في ذلك ملكية الأسهم والسندات وكذلك القروض التي يتجاوز أصلها ثلاث سنوات أو القروض ذات الأجل القصير التي يقرر المجلس على سبيل الاستثناء صلاحيتها للتأمين.
وبالنسبة لاتفاقية واشنطن ، فإن الهدف الأساسي من وجودها هو المساعدة على تحقيق التنمية والتطور الاقتصاديين بحيث جاءت من أجل توفير مناخ للاستثمارات الدولية ووفقا للمادة الثالثة من القسم الثاني من اتفاقية البنك الدولي بإنشاء الوكالة الدولية لضمان الاستثمار تشمل عبارة الاستثمار المساهمة في الأصول سواء أكانت مساهمة نقدية أو غير نقدية وإعادة استثمار الأرباح.
وبالنسبة للمغرب، فقد أصدر المشرع سنة 1995 مدونة الاستثمارات أقر من خلالها المبادئ الأساسية للامتيازات الضريبية والإدارية المقدمة للمستثمرين المحليين والأجانب، وفتح عبرها المجال اللجوء إلى التحكيم في إطار اتفاقيات الاستثمار التي توقعها الحكومة المغربية.
فبالإضافة إلى الضمانات الخاصة بالتشريع الوطني تمنح الدول الراغبة في جلب الاستثمارات الأجنبية للمستثمرين ضمانات قانونية دولية أهمها الاتفاقيات الثنائية للاستثمار التي تتضمن مقتضيات موضوعية وإجرائية لحماية المستثمرين والتي يفوق عددها على الصعيد العالمي 2200 اتفاقية.
ثانيا: أهمية الاستثمار في التنمية الاقتصادية وعلاقته بالقضاء
1) أهمية الاستثمار في التنمية الاقتصادية
إن دور الاستثمار لا يقتصر على المساهمة في إيجاد قاعدة إنتاجية في البلد المستثمر فيه، بل أن له دور ملحوظ في مكافحة البطالة وإيجاد الفرض لتشغيل اليد العاملة والمشاركة في حل ما قد يتعرض له البلد من أزمة السكن، وذلك من خلال نشاط التعمير، علاوة على ما يحققه من توفير السلع والخدمات الأمر الذي من شأنه دفع حركة التجارة وتشجيع الصادرات، وهو ما يكسب بدوره البلد نقدا أجنبيا يعاد استثماره في التوسع في المشروعات القائمة او إنشاء مشروعات جديدة.
وعموما، فإن الاستثمار يشكل ركيزة أساسية للتنمية، لأنه يشكل إضافة إلى الطاقة الانتاجية وزيادة في الثروات بما لذلك من أثر بليغ في إشباع الحاجات وتوفير الخدمات.
ففي إطار العولمة، وما يعرفه العالم من تحولات سياسية واقتصادية وتكنولوجيا سريعة تحكمها قوانين العولمة الاقتصادية وضوابط التنافسية الحادة، يعتبر الاستثمار الوطني والأجنبي الرافعة الأساسية للاقلاع الاقتصادي والاجتماعي والدعامة الفعالة للتنمية البشرية.
2)علاقة القضاء بالاستثمار
إن علاقة القضاء بالاستثمار واسعة ومتشعبة تشمل جل فروعه ولا تقتصر على القضاء التجاري فحسب، وإذا كان ارتباط الاستثمار بالقضاء التجاري أساسي ووثيق، فإنه مرتبط كذلك بالقضاء في المادة الإدارية، ولاسيما ما تعلق منها بالضرائب والجبايات ومرتبط أيضا بالمادة العقارية، لأن الوعاء العقاري هو مناط كل استثمار ومرتبط بالمادة الاجتماعية فيما يتعلق بقضايا الشغل وعلاقة الأجراء مع أرباب العمل ونفس الأمر بالنسبة للقضاء الجنائي فيما يتعلق بالجرائم المالية والتدابير المتعلقة بحماية المعاملات.
وتعتبر السياسة الجبائية إحدى الآليات المعتمدة لتحقيق هذه الغاية، فالضريبة ليست فقط موردا أساسيا بالنسبة لميزانية الدولة بل هي أيضا أداة لتوجيه الاستثمار وتوسيع مردوديته وتحفيز الادخار .
المطلب الثاني: التدابير القانونية والاقتصادية والمؤسساتية المتعلقة بالاستثمار
إن التحولات الاجتماعية والاقتصادية التي يعرفها العالم، وسرعة تحرك رؤوس الأموال، تفرض على القضاء تحديد رؤيا مستقبلية تساير هذه التطورات السريعة، التي لا مناص من مواكبتها، بالبحث عن سبل جديدة لفض النزاعات التجارية ذات الارتباط الوثيق بالاستثمار، وتكون متسمة بالفاعلية والسرعة التي يتطلع إليها الفاعلون الاقتصاديون.
وعلى هذا الأساس اتخذ المغرب مجموعة من التدابير الرامية إلى إصلاح الإطار القانوني والمؤسساتي للاستثمار وتشجيع المبادرة الحرة للمستثمرين المغاربة والأجانب.
وقبل الحديث عن هذه التدابير لابد من التطرق إلى السياسة الملكية بخصوص توفير متطلبات المناخ الملائم للاستثمار وتطوير مستواه.
أولا: السياسة الملكية بخصوص توفير متطلبات المناخ الملائم للاستثمار وتطوير مستواه:
إن التوجيهات الملكية السامية لصاحب الجلالة الملك محمد السادس في ميدان توفير متطلبات المناخ الملائم للاستثمار وتطوير مستواه تتمثل فيما يلي:
1. الرسالة الملكية السامية الموجهة إلى الوزير الأول في موضوع التدبير اللامتمركز للاستثمار المؤرخة في 9 يناير 2002، حيث جاء في إحدى فقراتها: “وإذا كانت هذه المساطر والإجراءات التشريعية أو التنظيمية غالبا ما تكون ضرورية لأن حرية المبادرة الخاصة التي كرسها الدستور تقتضي إيجاد إطار قانوني ملزم كفيل وحده بطمأنة المستثمر وضمان مساواة الجميع أمام القانون وكذا تهييئ مناخ ملائم للمنافسة وتقليصها والحرص على أن يتم العمل بها بأكثر ما يمكن من القرب من المستثمرين…”
2. الخطاب الملكي السامي بمناسبة افتتاح السنة القضائية بتاريخ 29 يناير 2003 بأكادير الرامي إلى التشجيع على المساطر التوافقية لحل المنازعات التجارية، حيث أكد جلالة الملك محمد السادس على ضرورة “مراجعة مساطر التسوية التوافقية لما قد ينشأ من منازعات بين التجار، وذلك من خلال الإعداد السريع لمشروع قانون التحكيم التجاري الوطني والدولي ليستجيب نظامنا القضائي لمتطلبات عولمة الاقتصاد وتنافسيته ويسهم في جلب الاستثمار الأجنبي” .
ثانيا: الإجراءات القانونية والاقتصادية والمؤسساتية المتخذة من أجل تشجيع الاستثمار
لقد تبين بوضوح في السنوات الأخيرة، أن رهان جلب الاستثمارات الأجنبية المباشرة أصبح مرتبطا في عصر العولمة بمدى توافر مجموعة من المعطيات العالمية، الإقليمية والوطنية لكون الرأسمال يحتاج إلى من يحميه، لذا تبقى السياسات العامة هي العامل الرئيسي وراء جذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة ويقصد بذلك وجود تشريعات وقوانين ونظم وآليات تسهل مأمورية المستثمر تزيح عنه وأمامه كل العراقيل.
1. على الصعيد الاقتصادي:
اتخذت الدولة المغربية مجموعة من الإصلاحات التي تروم تعزيز الاستقرار الماكرو-اقتصادي، وتقوية انفتاح الاقتصاد المغربي من خلال التوقيع على العديد من اتفاقيات التبادل الحر والشراكة وكذا تعزيز إجراءات التدبير اللامتمركز للاستثمار عن طريق خلق مراكز جهوية للاستثمار، وتبسيط المساطر المتعلقة بالاستثمار من خلال إحداث الشباك الوحيد.
2. على الصعيد القانوني:
من أجل مواكبة التشريع الوطني المرتبط بمجال المال والأعمال عموما، والاستثمار خصوصا، فقد أقدم المشرع المغربي على إحداث ترسانة قانونية تروم تحديث النصوص القانونية وتشجيع الاستثمار، وهكذا قد تم اعتماد مدونة للاستثمار بغية تجميع مختلف القوانين القطاعية المعمول بها وكذا ميثاق للاستثمارات بمقتضى القانون الإطار رقم 95-19 يهدف إلى تحسين مناخ الاستثمار بالمغرب والرفع من جاذبيته، بالإضافة إلى مدونة جديدة للتجارة وإحداث المحاكم التجارية وقوانين الشركات التجارية، قانون المجموعات ذات النفع الاقتصادي، قانون حرية الأسعار والمنافسة، قوانين حماية الملكية الفكرية والأدبية والصناعية وقانون رقم 05-08 المتعلق بالتحكيم والوساطة الاتفاقية، مدونة الشغل، قانون المحاكم المالية، وكذا إعداد ميثاق للمقاولات الصغرى والمتوسطة، كما صدرت عدة قوانين ونصوص تهم الاستثمار في عدة ميادين كالجوانب الجبائية والجمركية والبنكية بمقتضى القانون رقم 03-34 المتعلق بمؤسسات الائتمان والهيئات المعتبرة في حكمها.
هذا، فضلا عن الاهتمام الكبير الذي حظيت به بعض قطاعات الاستثمار الحيوية كالمواد الطاقية والسياحة والنقل والملاحة.
3. على الصعيد المؤسساتي:
لقد تم العمل في هذا الصدد على إحداث لجنة وزارية لدى الوزير الأول مكلفة بمشاريع الاستثمار، وتحول صندوق الحسن الثاني للتنمية الاقتصادية والاجتماعية إلى أداة قوية لدعم الاستثمار في المغرب، كما أحدثت عدة مراكز جهوية للاستثمار، وكذا الوكالة الوطنية للتحفيظ العقاري، وغير ذلك من المؤسسات التي تهدف إلى تشجيع الاستثمار وتحفيزه.
إن كل هذه المجهودات سواء على الصعيد الاقتصادي أو القانوني أو المؤسساتي تهدف إلى توفير الإطار القانوني السليم لممارسة الأعمال وضمان المناخ الملائم للاستثمار وسيادة الأمن القانوني في الحياة التجارية.
الفصل الثاني: ضمانات القضاء التجاري والوسائل البديلة في حماية الاستثمار والمستثمرين
إن من أهم الضمانات القانونية لحماية الاستثمار الأجنبي والوطني، هو توفير قضاء متخصص وسريع لحل المنازعات المرتبطة بالاستثمار، بالإضافة إلى ضرورة وجود وسائل بديلة لحل هاته المنازعات ويأتي في مقدمتها التحكيم التجاري والوساطة الاتفاقية.
وعلى هذا الأساس، سنتطرق في هذا الفصل إلى دور المحاكم التجارية في قضايا الاستثمار ومجالات اختصاصها وكذا دور محكمة النقض -المجلس الأعلى سابقا- من خلال الغرفة التجارية في توحيد الاجتهاد القضائي المتعلق بقضايا الاستثمار، لنخلص إلى الحديث عن دور التحكيم التجاري في تشجيع المستثمرين على الاستثمار.
المطلب الأول: دور المحاكم التجارية في قضايا الاستثمار
لقد تم اعتماد مبدأ التخصص في القضايا التجارية بمقتضى القانون رقم 96-53 المتعلق بإحداث المحاكم التجارية وقد كان الهدف من إنشاء نظام قضائي متخصص هو تحقيق عدالة سريعة وفعالة تشكل دعامة قوية لعملية التنمية وتشجيع الاستثمار، لذلك نرى لزاما أن نتحدث عن تجربة المحاكم التجارية في المنازعات التجارية من خلال خصوصياتها ومجالات تدخلها.
الفقرة الأولى: دور المحاكم التجارية في المنازعات التجارية
إن من أهم التدابير المتخذة من أجل تشجيع الاستثمار وحمايته هو إيجاد هيآت قضائية متخصصة للبت في المنازعات التجارية، ومنذ إحداثها قامت بدور هام في مجال البت في تلك المنازعات سواء من حيث السرعة أو من حيث مستوى الأحكام الصادرة بشأنها ويدل على أهمية هذه المحاكم نشاطها المتزايد وارتفاع نسبة عدد القضايا المسجلة بالمحكمة التجارية بالدار البيضاء مثلا.
وكما هو معلوم، فإن المحاكم التجارية أصبحت لها -بمقتضى الكتاب الخامس من مدونة التجارة المتعلق بصعوبات المقاولة- صلاحيات اقتصادية هامة، تتعدى دورها الكلاسيكي في مجرد الحكم بالأداء لتشمل البت في مصير المقاولة.
إن من جملة القضايا التي لها علاقة بميدان الاستثمار نجد قضايا حماية الملكية الصناعية والتجارية، وقضايا النقل البحري الدولي للبضائع وقضايا الاعتماد المستندي والتي تبرز بحق أهمية هاته المحاكم في تحقيق الأمن القضائي.
ومن أهم خصوصيات المسطرة أمام المحاكم التجارية ما يلي:
– إحالة الملف على القاضي المقرر المعين من طرف رئيس المحكمة داخل أجل محدد (24 ساعة)، ووجوب تحديد تاريخ النطق بالحكم وتحريره كاملا قبل النطق به.
– تقصير أجل استئناف الأحكام الصادرة عن المحكمة التجارية وحصره في 15 يوما وإحالة الملف على محكمة الاستئناف التجارية خلال أجل أقصاه خمسة عشر يوما ابتداء من تاريخ تقديم المقال الاسئنافي.
– أصبح القاضي المقرر ملزما عند تطبيق مسطرة المقرر بإحالة القضية من جديد إلى الجلسة داخل أجل لا يتعدى ثلاثة أشهر.
– تحديد آجال قصيرة للطعن في المقررات الصادرة في معالجة صعوبات المقاولة.
– إمكانية منح تعويض مسبق من طرف المحكمة إذا كان الدين ثابتا مقابل ضمانات عينية أو شخصية كافية.
– استئناف الأوامر بالأداء لا يوقف التنفيذ.
– منحت المادة 21 من القانون رقم 95-53 صلاحيات واسعة لرئيس المحكمة التجارية بصفته قاضي المستعجلات لاتخاذ التدابير التحفظية ولو كانت هناك منازعة جدية بين الأطراف.
وإلى جانب هاته الخصوصيات، فقد أولى القانون رقم 95-53 أهمية خاصة لتنفيذ الأحكام تتمثل في حصر إجراءات التبليغ والتنفيذ داخل آجال قصيرة ومعقولة وتخويل رئيس المحكمة التجارية وباقتراح من الجمعية العمومية للمحكمة تعيين قاض مكلف بمتابعة إجراءات التنفيذ وهي إجراءات الهدف منها تحقيق عدالة حقيقية وسريعة، إذ لا يمكن تصور قضاء قوي دون أن يكون فعالا، فلا فائدة ترجى من حكم يصدر يبقى بدون تنفيذ.
وهكذا يتضح من خلال سرد الخصوصيات أعلاه أهمية المحاكم التجارية للبت في المسائل التجارية بالسرعة والفعالية المطلوبتين في ميدان الأعمال التجارية وقضايا الاستثمار.
الفقرة الثانية: دور محكمة النقض –المجلس الأعلى سابقا- في تشجيع الاستثمار وحمايته.
إن محكمة النقض –المجلس الأعلى سابقا- على مستوى الغرفة التجارية مختصة للنظر في القضايا التجارية وقضايا الاستثمار والتحكيم التجاري الدولي، وبتتبع مسار الغرفة التجارية لمحكمة النقض بخصوص القضايا التي لها علاقة بالاستثمار نجد ما يلي:
إن القضاء المغربي على مستوى محكمة النقض -المجلس الأعلى سابقا- دعمت من خلال اجتهاداتها التحكيم التجاري الدولي وطبق مقتضيات اتفاقية نيويورك لسنة 1958 ولو تعارضت مع القانون الوطني، كما خفف من العراقيل التي تقف مانعا دون منح الصيغة التنفيذية، حيث حصر مبدأ النظام العام في حدود ضيقة ومنع قاضي الصيغة التنفيذية من النظر في موضوع النزاع ولم يشترط أجلا لإيداع المقرر التحكيمي، وحرص بتوازن على التفسير الضيق للنظام العام دوليا كان أو وطنيا، وبنفس التوازن على خرق حقوق الدفاع أي أنه بقراراته الاجتهادية ساهم في تسهيل الولوج إلى التجارة الدولية والوطنية عبر فتح الأبواب لانسيابها بسهولة عبر الحدود في عصر يتجه نحو عولمة الاقتصاد وهو إذ يفعل ذلك فإنه يعرف مسبقا أن أول فرع في القضاء ستلحقه العولمة هو ذلك المتعلق بالتجارة والاستثمار، لذلك كانت اجتهاداته في ميدان التجارة الدولية تصب في تغليب القواعد الدولية على الوطنية، وهكذا فقد طبق مقتضيات اتفاقية هامبورغ لنقل البضائع بحرا لسنة 1978 في مواجهة القانون البحري لسنة 1919 عندما قضى بأن مسؤولية الناقل البحري تنتهي بتسليم البضاعة إلى مكتب استغلال الموانئ وليس إلى الوضع الفعلي رهن إشارة المرسل إليه كما تقضي بذلك مقتضيات القانون الوطني (الفصلان 221-262 من ق.ب.م) وكذلك الأمر بالنسبة لتنفيذ مقتضيات قواعد الفصلين 400 و500 المتعلقة بالاعتمادات المستندية ضدا على مقتضيات القانون الوطني خاصة قانون الالتزامات والعقود إلى غير ذلك من الاجتهادات الأخرى التي يرمي من ورائها تشجيع الاستثمار والتجارة الدولية .
وفي ميدان تسجيل وحماية العلامات التجارية الذي يشهد العديد من المنازعات بين أرباب الشركات حول حماية العلامات المذكورة وضمان المنافسة المشروعة، تبنى المجلس الأعلى سابقا- محكمة النقض حاليا- نظريات متطورة متجاوزا النظرية الكلاسيكية في هذا الباب المبنية على أن معيار التفرقة هو توافر أوجه الشبه لا تواجد أوجه الاختلاف حيث جاء في قرار المجلس الأعلى سابقا ما يلي:
“إن العلامة التجارية لكي تتوفر لها الحماية يجب أن تكون مميزة، وحتى تكون كذلك، يجب أن تكون مبتكرة وفيها جانب إبداعي، والمحكمة التي اعتبرت ان استعمال الطالب لعلامة المطلوب المكونة من الاسم العائلي لكل منهما يشكل تقليدا، دون إبراز خصائصها المميزة الكفيلة بمنحها الحماية، تكون قد جعلت قرارها ناقص التعليل الموازي لانعدامه وعرضته للنقض والإبطال”.
إن مجالات تدخل الغرفة التجارية بمحكمة النقض واسعة تشمل العمليات البنكية والاعتماد المستندي والكراء التجاري إلى غير ذلك من القضايا المرتبطة بالاستثمار وبالتالي تلعب محكمة النقض دورا مهما في توحيد الاجتهاد القضائي وإيجاد الحلول القانونية لتساهم في إشاعة الثقة واستقرار المعاملات والتحفيز على الاستثمار.
المطلب الثاني: دور الوسائل البديلة لحل المنازعات التجارية في تشجيع الاستثمار
يعتبر التحكيم من أهم آليات فض المنازعات المتعلقة بالأعمال والاستثمار عموما، وذلك بالنظر لما يتميز به التحكيم من فعالية وسرعة وسرية واقتصاد في التكاليف.
وبالنظر لأهمية التحكيم، فقد حث صاحب الجلالة محمد السادس في مناسبات عديدة على ضرورة “مراجعة مساطر التسوية التوافقية لما قد ينشأ من منازعات بين التجار، وذلك لتمكينهم من اللجوء أكثر ما يمكن إلى التحكيم” و”تنويع مساطر التسوية التوافقية لما قد ينشا من منازعات بين التجار وذلك من خلال الإعداد السريع لمشروع قانون التحكيم التجاري الوطني والدولي ليستجيب نظامنا القضائي لمتطلبات عولمة الاقتصاد وتنافسيته ويسهم في جلب الاستثمار الأجنبي” .
وإذا كان قانون المسطرة المدنية في إطار الفصول المخصصة للتحكيم قبل التعديل قد تناول تنظيم التحكيم الداخلي فقط دون التطرق إلى التحكيم الدولي، فإن المشرع المغربي قد تدارك هذا الفراغ من خلال القانون رقم 05-08 المتعلق بالتحكيم والوساطة الاتفاقية، وفي هذا الإطار فقد حدد مفهوم التحكيم الدولي بمقتضى الفصل 40-327 بنصه على أنه “يعتبر دوليا حسب مدلول هذا الفرع، التحكيم الذي يتعلق بمصالح التجارة الدولية والذي يكون لأحد أطرافه على الأقل موطن أو مقر بالخارج…”
وقد استجاب التشريع المغربي من خلال تحديثه للترسانة القانونية في مجال التحكيم والوساطة الاتفاقية للتحولات الاقتصادية والاجتماعية التي يعرفها المغرب الذي له ارتباط بالمجتمع الدولي وما تفرضه العولمة من مسايرة التشريعات ذات الصلة بالاستثمار .
وإلى جانب التحكيم بنوعيه الداخلي والدولي فقد نظم المشرع المغربي لأول مرة بمقتضى القانون رقم 05-08 الوساطة الاتفاقية مسايرا بذلك التطورات الحاصلة على مستويات المعاملات المدنية والتجارية وأيضا التقنيات الأجنبية.
ويعتبر مجال التجارة وعالم المال والأعمال والاستثمار، بما يحمله من روح المغامرة وتحفيز للمبادرة الحرة،وما قد يعتريه من صعوبات مالية وبنكية قد تأخذ أحيانا أبعادا اقتصادية واجتماعية لصعوبة التحكم في السوق وفي حجم المبادلات والمعاملات التجارية مجالا خصبا للوساطة بالنظر للمنازعات التي قد تثار بين التجار وما يتطلبه حلها، بحكم طبيعتها، من سرعة ومرونة وحفاظا على الأسرار بما يستجيب لمتطلبات التجارة ومناخها.
وعلى العموم، فقد أضحت الوسائل البديلة لحل المنازعات التجارية من وساطة وتحكيم وصلح وتوفيق من أهم متطلبات الفاعلين الاقتصاديين لما تلعبه من دور جوهري في توفير المناخ المناسب لتشجيع الاستثمار والمبادرة الحرة، والتشجيع على ثقافة التفاوض من أجل مواجهة متطلبات وإكراهات وتنافسية عولمة الاقتصاد وقد اعتمدت المقاولات المتوسطة والكبرى، سواء في الداخل أو في الخارج استراتيجية هامة في مجال التدبير وحل الخصومات وذلك باللجوء إلى الوساطة لحل منازعات الشغل وأيضا المنازعات التي قد تنشا في إطار علاقات التجارة والاستثمار .
الفقرة الأولى : ضمانات التحكيم التجاري الدولي الخاصة للمستثمر الأجنبي:
أصبحت العديد من الدول النامية تنهج سياسة التشجيع على جلب الاستثمار الأجنبي بتوفير مجموعة من الضمانات القانونية بمقتضى قوانين الاستثمار الداخلية للدولة التي يرغب في التعامل معها، لكن تلك الضمانات تبقى غير كافية في نظره لتأمين استثمار ضد المخاطر الغير التجارية ما لم تقترن بوسيلة قضائية بديلة عن القضاء الرسمي المتمثلة في التحكيم التجاري الدولي التي توفر له بالإضافة إلى الضمانات العامة التي يستفيد منها كل تاجر دولي أو مستثمر أجنبي سواء تعاقد مع الدولة المضيفة للاستثمار أو إحدى المؤسسات التابعة لها أم مع شخص آخر يخضع للقانون الخاص، ضمانات أخرى يستفيد منها المستثمر الأجنبي كلما تعاقد مع الدولة أو إحدى مؤسساتها العامة والمتمثلة في إمكانية مخاصمة الدولة والتمثيل ضدها.
وإذا كان التحكيم التجاري الدولي أصبح يفرض نفسه في قضايا الاستثمار، لم يبق لمختلف الدول بما فيها النامية وخاصة المغرب إلا ان تقر وتعترف للدولة بأهلية اللجوء إلى التحكيم التجاري الدولي التي تضمن للمستثمر الأجنبي إمكانية مقاضاتها في حالة نشوب نزاع وتنفيذ المقرر التحكيمي الصادر ضدها أمام جهات تحكيمية متخصصة للبت في المنازعات بين الدول المضيفة للاستثمار ورعايا الدول الأخرى.
الفقرة الثانية: التحكيم التجاري الدولي وأهميته في عقود الاستثمار الأجنبية:
يعتبر التحكيم التجاري الدولي عنصرا أساسيا في عقود الاستثمارات الأجنبية، فجميع هاته العقود تكاد تتضمن شرط إحالة جميع منازعاتها إلى التحكيم التجاري، فالمستثمر الأجنبي يصر دائما على إضافة شرط التحكيم نظرا للمزايا التي يوفرها التحكيم إليه، والدولة المضيفة للاستثمارات تجد نفسها دائما ملزمة بقبول شرط التحكيم، فبدون إضافة هذا الشرط، لا تتمكن من جذب عقود الاستثمارات الأجنبية .
ومهما يكن، فإنه تبقى الرقابة القضائية لضمان حسن سير التحكيم في تسوية المنازعات الناشئة عن عقود الاستثمارات قائمة بحيث يمنح الصيغة التنفيذية على الحكم التحكيمي بعد التأكد من سلامة العملية التحكيمية واحترامها للمقتضيات القانونية.
إن عملية منح الصيغة التنفيذية للمقررات التحكيمية الدولية تكتسب طابعا خاصا بالنظر إلى كونها تمس بمبدأ السيادة الوطنية وتتأثر بنظرة القاضي الوطني إليها، في حين ان منطق التجارة الدولية الحديث هو نتاج غربي بلوره نظام عالمي جديد يطمح إلى تفادي منطق الحواجز والحدود الاقتصادية بين الدول، كما يسعى إلى أن ترقى فيه مؤسسة التحكيم التجاري الدولي كأداة فاعلة، علما أن سبب الإقبال على الوسائل البديلة لحل المنازعات ذات الارتباط بالاستثمار هو تعقيد الأنظمة القانونية المختلفة لاسيما في ميدان تنازع القوانين، الأمر الذي لم يسمح للقانون الدولي الخاص بالرد على حاجيات التجارة الدولية ويزيد من حدة هذا القصور ثقل وطأة قانون القاضي سواء فيما يتعلق بالإجراءات وتحديد التكييف أو التعسف في استخدام الدفوع المتعلقة بالنظام العام.
وجدير بالذكر إلى أن المركز الدولي لتسوية منازعات الاستثمار المنشأ بموجب اتفاقية واشنطن لسنة 1965 تحت رعاية البنك الدولي للإنشاء والتعمير هو الجهة القانونية المختصة بتسوية منازعات الاستثمار التي تنشأ بين المستثمر الأجنبي والدولة المضيفة للاستثمار .
لقد أصبحت الوسائل البديلة وعلى رأسها التحكيم التجاري الدولي والوساطة الاتفاقية من أهم الآليات لفض المنازعات التجارية ودفع مجموعة من الدول إلى تغيير توجهها استجابة لضغوط المستثمرين الأجانب المدعمون من قبل الدول المتقدمة من أجل تحقيق نوع من التوازن في المراكز القانونية بين الدولة المضيفة للاستثمار أو إحدى مؤسساتها العامة التابعة لها كأشخاص معنوية والمستثمر الأجنبي.
الفقرة الثالثة: توجهات الغرفة التجارية لمحكمة النقض –المجلس الأعلى سابقا- بخصوص التحكيم في قضايا الاستثمار
لقد تبين من خلال مجموعة من القرارات الصادرة عن الغرفة التجارية لمحكمة النقض على صون وحماية حق المستثمر الراغب في اللجوء إلى التحكيم لفض النزاعات التي تعترضه، كما حاولت الحد من التوسع في مفهوم النظام العام الذي من خلال التوسع في فهمه قد تلجأ بعض المحاكم لرفض إعطاء الصيغة التنفيذية للمقررات التحكيمية.
وهكذا فقد عرضت على الغرفة التجارية بمحكمة النقض نازلة تتمثل وقائعها في أن المطلوبة في النقض وقعت مع الطالبة وشركة بلجيكية اتفاقية ترمي إلى إنشاء تجمع للدخول في المناقصة العمومية التي كانت الدولة المغربية في شخص مكتب استغلال الموانئ تعتزم تنظيمها لإنجاز أشغال تهييئ رصيف خاص بالحاويات في ميناء الدار البيضاء، وبعدما رسا المزاد على المجموعة ( س-ل-د) وتم الشروع في إنجاز الأشغال، ادعت الطالبة أن المطلوبة استحوذت على مقر المجموعة وأخذت تتفاوض مع الدولة المغربية بكيفية انفرادية واتخذت القرارات التي تشكل تغيير جوهريا لنظام الصفقة، وبدأت تلوح باللجوء إلى التحكيم استنادا إلى بند مدسوس لم تكن الطالبة لتنتبه إليه عند التوقيع الإجمالي، مع ما يتضمنه هذا من حرمان اللجوء إلى القاضي المغربي الوطني، فانتهت المنازعة بينهما إلى طريق مسدود أدى إلى لجوء المطلوبة في النقض إلى التحكيم وعرض موضوعه أمام المحكمة الدولية للتحكيم التابعة لغرفة التجارة الدولية بباريز التي أصدرت مقررا تحكيميا لفائدة هذه الأخيرة، قضى لها بمبالغ وفوائد ومعاينة المقاصة وتصفية مصاريف الخبرة والتحكيم، وقد قدمت المطلوبة مقالا إلى رئيس المحكمة الابتدائية عين الشق بالدار البيضاء ملتمسة تذييل المقرر التحكيمي بالصيغة التنفيذية طبقا للفصل 320 من قانون المسطرة المدنية، وبعد تداول المذكرات أصدر رئيس المحكمة أمرا قضى فيه بعدم الاختصاص، ألغي من طرف محكمة الاستئناف وحكمت من جديد بإعطاء الصيغة التنفيذية للمقرر التحكيمي، طعن فيه بالنقض، فنعت الطالبة على القرار عدم الاختصاص، وخرف الفصلين 320 و323 من ق.م.م بدعوى أن اتفاقية نيويورك لا تتضمن أي استثناء عن هذين الفصلين وأنه تبعا لذلك كان على المطعون ضدها أن تستصدر حكما يقضي بتذييل المقرر التحكيمي بالصيغة التنفيذية من محكمة باريس وأن تعمد بعد ذلك إلى طلب تذييل هذا الأخير بالصيغة التنفيذية أمام موطن العارضة في إطار الفصل 430 من ق.م.م. وأن القرار المطعون فيه يحمل في طياته تناقضا صريحا عندما استبعد المقررات التحكيمية الأجنبية من الخضوع لشروط المادة 320 من ق.م.م. فأجاب المجلس الأعلى عن الوسيلة في قرار حديث : “أن الفصل الثالث من اتفاقية الاعتراف بالمقررات التحكيمية الأجنبية وتنفيذها الصادر عن الأمم المتحدة بتاريخ 9/6/1958 المصادق عليها من المغرب بمقتضى ظهير 19/2/1960 يجعل تنفيذ المقرر التحكيمي الأجنبي عن طريق قواعد المسطرة المتبعة في التراب المستدل فيه بالمقرر دون أن تفرض شروطا مشددة غير مفروضة للاعتراف بالمقررات التحكيمية الوطنية أو بتنفيذها، مما يدل على أن الاختصاص مسند بمقتضى الاتفاقية التي تحيل على مقتضيات مسطرة التنفيذ في باب التحكيم للقانون الوطني موضوع الفصل 320 من ق.م.م. فلا مبرر للاستدلال بمقتضيات الفصلين 18 و430 من نفس القانون الذي يهم الأحكام القضائية، وأنه بالإضافة إلى أن طريقة رفع طلب الاعتراف والتنفيذ للمقرر التحكيمي الأجنبي منظمة بمقتضى الفصل الرابع من الاتفاقية الذي لا يجعل أجلا للإيداع، فإن أجل الفصل 320 من قانون المسطرة المدنية يهم التحكيم الداخلي ولا يترتب عن عدم مراعاته أي أثر على الأمر بالتنفيذ، وبذلك لم يخرق القرار المطعون فيه أي مقتضى والوسيلة على غير أساس”.
إن هذا القرار كغيره من القرارات الصادرة عن محكمة النقض –المجلس الأعلى سابقا- المتعلقة بالاستثمارات والتحكيم كثيرة ولاشك أن الغاية منها هي تكريس عدالة فعالة سريعة، مبسطة تكون حافزا للاستثمار ومشجعا له ومنسجما مع ما جاء في الرسالة الملكية لصاحب الجلالة الملك محمد السادس المؤرخة في 9 يناير 2002 الموجهة إلى السيد الوزير الأول في موضوع الاستثمار حين قال جلالته :
“فإنك تعلم مدى عزمنا الوثيق، وعملنا الدؤوب على إنعاش الاستثمار، والنهوض به، وباعتباره وسيلة فعالة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية، مؤكدين في عدة مناسبات على دوره الحيوي كمحفز أساسي للنمو، ولاسيما في دعم مشاريع المقاولات الصغرى والمتوسطة، كما ينبغي مواصلة الجهود لتحديث إدارة العدل ومراجعة مساطر التسوية التوفيقية لما قد ينشا من منازعات بين التجار، وذلك لتمكينهم من اللجوء أكثر ما يمكن إلى التحكيم”.
وفي ختام هذا البحث، لابد من الإشارة إلى أن كل هذه المجهودات سواء على صعيد القضاء أو على صعيد التحكيم وكذا الوساطة الاتفاقية تهدف إلى توفير الإطار القانوني السليم لممارسة الأعمال وضمان المناخ الملائم للاستثمار وسيادة الأمن القانوني في الحياة التجارية.
إعداد:الدكتور عبد الرحيم بحار
قاضي بالمحكمة التجارية بالدار البيضاء
أستاذ بكلية الحقوق بالدار البيضاء