ربط المسؤولية بالمحاسبة
مقدمة:
اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علما، أما بعد.
يعتبر مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة من مقومات النظام الدستوري، نص عليه الفصل الأول من الدستور كمقوم رابع بعد الحكامة الجيدة، والديمقراطية المواطنة والتشاركية، وفصل السلط وتوازنها وتعاونها، كما يجد أسسه في الخطب الملكية السامية التي ما فتئت تؤكد على ضرورة ربط المسؤولية بالمحاسبة.
إن تكريس مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة يحيل لنا جليا إلى دولة القانون (خضوع الدولة للقانون) التي يسمو فيها القانون وتكون فيها السلطات مقيدة بالقانون في ممارسة سلطاتها، وتكون فيها المساواة أمام القانون، ويتم فيها الفصل بين السلطات والإعتراف بالحقوق والحريات. وملاحظ أن تقدم المجتمعات وتطورها رهين بربط المسؤولية بالمحاسبة، يعني أن جميع الدول الديمقراطية التي راكمت تجربة في هذا المجال عرفت تقدما في شتى المجالات.
في هذا الصدد قال جلالة الملك محمد السادس نصره الله في خطاب وجهه إلى الأمة بمناسبة الذكرى الثامنة عشرة لتربع جلالته على عرش أسلافه المنعمين، ” كما يطبق القانون على جميع المغاربة، يجب ان يطبق أولا على كل المسؤولين بدون إستثناء أو تمييز، وبكافة مناطق المملكة.”
كما قال جلالته ” إننا في مرحلة جديدة لا فرق فيها بين المسؤول والمواطن في حقوق وواجبات المواطنة، ولا مجال فيها للتهرب من المسؤولية أو الإفلات من العقاب.”
لتحليل هذا الموضوع المتواضع، سوف نقوم بتقسيمه إلى مطلبين، المطلب الأول سنخصصه للإطار القانوني لمبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة في حين سنعالج في المطلب الثاني الأجهزة المكلفة بتطبيق مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة.
المطلب الأول : الإطار القانوني لمبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة
مما لا ريب فيه أن تكريس الدستور لمبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة هو إعلان عن إنبثاق مفهوم دولة الحق والقانون وتجسيد لإرادة الدولة في إستكمال مسلسل الإصلاح الذي حملته على عاتقها منذ فجر الإستقلال، هذا الإصلاح يجب أن تتدخل فيه كل مكونات الدولة ليستجيب لتطلعات المواطنين وللمبادئ الدستورية الجديدة التي إعتبرت ربط المسؤولية بالمحاسبة قاعدة أساسية ومن الركائز الأساسية، مع تكريس قاعدة التلازم بين ممارسة المسؤوليات والوظائف العمومية بالمحاسبة.[1]
الفقرة الأول : التكريس الدستوري لمبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة.
ما من شك في أن المغرب من الدول التي قامت بدسترة الحكامة الجيدة أو بالأحرى أول دولة عربية تقوم بهذه الدسترة، واعتبرتها ركيزة من ركائزه الدستورية، و جاءت هذه الدسترة في سياق تاريخي وإجتماعي حافل بالمتغيرت الوطنية والإقليمية، تمت المطالبة من خلالها بإصلاحات سياسية وإقتصادية وإجتماعية، عجلت بخطاب ملكي في التاسع مارس من سنة 2011 برهن على التفاعل السريع مع إحتجاجات الشارع المغربي، وفتح المجال للإصلاح الدستوري.[2]
وبعودتنا للفصل الأول من الدستور نجده يحدد لنا معالم نظام الحكم بالمغرب بوصفه : ” نظام الحكم بالمغرب نظام ملكية دستورية، ديمقراطية برلمانية وإجتماعية.
يقوم النظام الدستوري للمملكة على أساس فصل السلط، وتوازنها وتعاونها، والديمقراطية المواطنة والتشاركية، وعلى مبادئ الحكامة الجيدة، وربط المسؤولية بالمحاسبة”.
وقد خصص الدستور الجديد للحكامة الجيدة بابا كاملا، الباب الثاني عشر،
ونص على المبادئ العامة للحكامة الجيدة. وأكد في الفصل 154 على أن ” المرافق العمومية تخضع لمعايير الجودة والشفافية والمحاسبة والمسؤولية، وتخضع في تسييرها للمبادئ والقيم الديمقراطية التي أفرزها الدستور.”
كما ينص نفس الفصل على أن تنظيم المرافق العمومية يتم على أساس المساواة بين المواطنين والمواطنات في الولوج إليها والإنصاف في تغطية التراب الوطني والإستمرارية في أداء الخدمات.
وبالتالي يشكل الدستور قطيعة مع كل أشكال الفساد التي تشوب العمل الإداري، وقد أحاط المسؤولية بمجموعة من الضوابط والقواعد، فأعوان المرافق العمومية يمارسون وظائفهم وفق مبادئ إحترام القانون والحياد والشفافية والنزاهة والمصلحة العامة، وبذلك تتوطد أسس الحكامة الإدارية الجيدة. وفي علاقتها بمرتفقيها، تتلقى المرافق العمومية ملاحظات مرتفقيها، كما أن تمكين المواطنين من تقديم ملاحظاتهم وإقتراحاتهم وتظلماتهم للإدارة من شأنه المساهمة في تخليق المرفق العام.
والفصل 156 ينص على أن المرافق العمومية تقدم الحساب عن تدبيرها للأموال العمومية، طبقا للقوانين الجاري بها العمل، وتخضع في هذا الشأن للمراقبة والتقييم. وعليه فكل شخص يمارس مسؤولية عمومية، منتخبا كان أو معينا، يجب أن يقدم طبقا للكيفيات المحددة في القانون تصريحا كتابيا بالممتلكات والأصول التي في حيازته، بصفة مباشرة أو غير مباشرة، بمجرد تسلمه لمهامه وخلال ممارستها وعند إنتهائها. مع تأكيد الفصل 159 أن الهيئات المكلفة بالحكامة الجيدة تكون مستقلة، وتستفيد من دعم أجهزة الدولة، ويمكن للقانون أن يُحدث عند الضرورة هيئات أخرى للضبط والحكامة.
ويلاحظ من خلال هذه الفصول أن مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة يشكل معيار من معايير الحكامة الجيدة، يعني أين ما وجدت الحكامة يوجد مبدأ ربط مسؤولية بالمحاسبة، فهما متلازمان ووجهان لعملة واحدة.[3]
الفقرة الثانية : تفعيل مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة
إن غياب المحاسبة والمساءلة له بطبيعة الحال تداعيات وخيمة على سمعة الدولة و صورتها على الصعيد الدولي، هذه التداعيات تتجلى في الفساد، وضعف الشعور بالمواطنة، وفقدان الثقة في المؤسسات. والافلات من العقاب الذي يتيحه غياب المحاسبة، يشجع على التمادي في إستغلال النفوذ، ونهب المال العام وتأخير عجلة التنمية في البلاد.
ودون شك، فإن تفعيل هذا المبدأ، سيدشن لا محالة لمرحلة جديدة، تجعل المسؤول ، حريصا على أداء مهامه، بكل مواظبة ومواطنة، وهو دائما يفكر في العواقب التي ستلحقه في حالة وجود هناك تقصير فيما كلف به.
وبالتالي فمبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة يجب أن يطبق في شتى المجالات بدون إستثناء، وأي شخص تبث في حقه تقصير أو إخلال في النهوض بمهامه يجب محاسبته طبقا للقوانين الجاري بها العمل.
وهذا ما أكد عليه جلالة الملك نصره الله في خطابه الذي وجهه إلى الأمة بمناسبة الذكرى ال18 لعيد العرش المجيد، “وهنا أشدد على ضرورة التطبيق الصارم لمقتضيات الفقرة الثانية، من الفصل الأول من الدستور التي تنص على ربط المسؤولية بالمحاسبة.لقد حان الوقت للتفعيل الكامل لهذا المبدأ”. ” … كما أؤكد أن الأمر يتعلق بمسؤولية جماعية تهم كل الفاعلين، حكومة وبرلمانا، وأحزابا، وكافة المؤسسات، كل في مجال اختصاصه”.
كان جلالة الملك واضحا في خطابه عندما أكد على ” أننا لن نقبل بأي تراجع عن المكاسب الديمقراطية. ولن نسمح بأي عرقلة لعمل المؤسسات. فالدستور والقانون واضحان، والإختصاصات لا تحتاج إلى تأويل”.
ومن أجل القيام بالمساءلة والمحاسبة على الوجه المطلوب يجب تبني المفهوم الجديد للسلطة الذي أعلن عنه جلالة الملك محمد السادس نصره الله سنة 1999، الذي قوامه الإلتزام بالقانون والشرعية.
فالمفهوم الجديد للسلطة يقول جلالته :” المفهوم الجديد للسلطة يعني المساءلة والمحاسبة ، التي تتم عبر آليات الضبط والمراقبة ، وتطبيق القانون. وبالنسبة للمنتخبين فإن ذلك يتم أيضا ، عن طريق الإنتخاب، وكسب ثقة المواطنين ؛ كما أن مفهومنا للسلطة يقوم على محاربة الفساد بكل أشكاله : في الإنتخابات والإدارة والقضاء ،وغيرها. وعدم القيام بالواجب ، هو نوع من أنواع الفساد”.
كما يجب التوفر على مجموعة من الشروط لكي يتجه هذا المبدأ نحو الطريق الصحيح، ومنها التوفر على موارد بشرية مؤهلة علميا وأخلاقيا ونزيهة وذات إلمام واسع بقضايا الإفتحاص والتدقيق وبكل الجوانب القانونية والإدارية والمهنية والإلتزام بالموضوعية والنزاهة، ويبقى هدفها الأساسي هو خدمة الوطن والمواطن، ويكون عملها خالصا وخاضعا لما يمليه عليهم القانون والضمير. وعلى مؤسسات رقابية تتمتع بالإستقلال التام والحياد، وتكون متوفرة على الوسائل الكافية للقيام بواجبها على أحسن وجه.
هذا بالإضافة إلى وضع الرجل مناسب في مكان المناسب وكفى من وضع الرجل غير المناسب في مكان المسؤولية، وذلك بإحترام المعايير الموضوعية التي يحددها القانون، تضمن تكافؤ الفرص وتكون الكفاءة هي وحدها السبيل في تعيين المسؤولين وإسناد المناصب، ويجب ضرب بيد من حديد مسألة المحسوبية والزبونية التي تؤدي إلى تسرب عدد من الفاسدين لمواقع المسؤولية مما يؤدي في أخر المطاف إلى تعطيل وتعثر السير العادي للمرافق العمومية وللتنمية، وإهدار ونهب المال العام.[4]
المطلب الثاني: الأجهزة المتدخلة في مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة
الفقرة الأولى : الجهات المختصة في تفعيل هذا المبدأ:
سلطات الملك المتعلقة بالإعفاء:
بالرجوع إلى مقتضيات الدستور، نجد الفصل 47 منه ينص على أنه “… للملك، بمبادرة منه، بعد استشارة رئيس الحكومة، أن يعفي عضوا او اكثر من اعضاء الحكومة من مهامهم .
ولرئيس الحكومة ان يطلب من الملك إعفاء عضو أو أكثر من أعضاء الحكومة .
ولرئيس الحكومة أن يطلب من الملك إعفاء عضو أو أكثر من أعضاء الحكومة ، بناء على استقالتهم، الفردية أو الجماعية .
…..”.
انطلاقا من هذا الفصل نستشف أن للملك صلاحية إعفاء عضو أو اكثر من أعضاء الحكومة من مهامهم في حالة إذا لم يقوموا بواجباتهم، أو إذا طلب ذلك رئيس الحكومة.
هذا ما رأيناه على أرض الواقع حين أصدر جلالة الملك قراراته الحكيمة بإقالة وإعفاء عدد كبير من المسؤولين بسبب تقصير في مهامهم، فضلاً عن معاقبة آخرين بعدم شغل أية مناصب مستقبلاً. وبالتالي وبفضل القرارات الملكية أصبح المغرب يخطوا بخطى ثابتة نحو مغرب ديمقراطي يسوده القانون.
المجلس الأعلى للحسابات :
يعد المجلس الأعلى للحسابات أعلى هيئة لمراقبة المالية العامة للدولة، فقد ثم الإرتقاء به إلى مؤسسة دستورية مستقلة عن السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية، والدستور هو ضامن إستقلاليته، كما خصص له بابا خاصا به، وهو الباب العاشر، ومنحه إختصاصات جديدة لم تكن متضمنة في ظل الدستور السابق.
هنا بطبيعة الحال لا مناص من الرجوع إلى مقتضيات الدستور، حيث ينص الفصل 147 على :” يمارس المجلس الأعلى للحسابات مهمة تدعيم وحماية مبادئ وقيم الحكامة الرشيدة والشفافية والمساءلة، بالنسبة للدولة والمالية العمومية.
كما ينص نفس الفصل على : “يتولى المجلس الأعلى للحسابات ممارسة المراقبة العليا على تنفيذ قوانين المالية. ويتحقق من سلامة العمليات، المتعلقة بمداخيل ومصاريف الأجهزة الخاضعة لمراقبته بمقتضى القانون، ويقيم كيفية تدبيرها لشؤونها، ويتخذ، عند الاقتضاء، عقوبات عن كل إخلال بالقواعد السارية على العمليات المذكورة.
تُناط بالمجلس الأعلى للحسابات مهمة مراقبة وتتبع التصريح بالممتلكات، وتدقيق حسابات الأحزاب السياسية، وفحص النفقات المتعلقة بالعمليات الانتخابية.”
وينص الفصل 148 على مايلي: “يقدم المجلس الأعلى للحسابات مساعدته للبرلمان في المجالات المتعلقة بمراقبة المالية العامة ؛ويجيب عن الأسئلة والاستشارات المرتبطة بوظائف البرلمان في التشريع والمراقبة والتقييم المتعلقة بالمالية العامة.
يقدم المجلس الأعلى للحسابات مساعدته للهيئات القضائية.
يقدم المجلس الأعلى للحسابات مساعدته للحكومة، في الميادين التي تدخل في نطاق اختصاصاته بمقتضى القانون.
ينشر المجلس الأعلى للحسابات جميع أعماله، بما فيها التقارير الخاصة والمقررات القضائية.
يرفع المجلس الأعلى للحسابات للملك تقريرا سنويا، يتضمن بيانا عن جميع أعماله،
ويوجهه أيضا إلى رئيس الحكومة،وإلى رئيسي مجلسي البرلمان، وينشر بالجريدة الرسمية للمملكة.
يُقدم الرئيس الأول للمجلس عرضا عن أعمال المجلس الأعلى للحسابات أمام البرلمان، ويكون متبوعا بمناقشة.”
وفي هذا الصدد، نجد المجالس الجهوية للحسابات وطبقا لمقتضيات الفصل 149 من دستور 2011، تتولى مراقبة حسابات الجهات والجماعات الترابية وهيآتها وكيفية قيامها بتدبير شؤونها. ولا شك أن إحداث المجالس الجهوية يدخل ضمن إطار مسلسل تقوية سياسة اللامركزية واللاتركيز الإداري.
فالرقابة التي تمارسها المجالس الجهوية للحسابات تتجلى في الفحص والتحقق من العمليات المالية للجماعات الترابية، وبالتالي فعملها يقتصر على النطاق المحلي.
ومن خلال إستقراء هذه النصوص يتبين لنا أن المغرب دخل مرحلة تاريخية في إقرار الرقابة القضائية الحقيقية على التدبير المالي العمومي، من خلال ضمان استقلالية وفعالية وشفافية ومسؤولية المجلس الأعلى للحسابات، وتفعيل الوظيفة القضائية للمجلس الأعلى للحسابات الذي أصبح ملزما بنشر أحكامه القضائية، بخاصة في ميدان التأديب المالي، والبت في الحسابات، ومن خلال تقديم عرض أمام البرلمان حول أنشطة المجلس الأعلى للحسابات تتلوه مناقشة عامة. [5]
ناهيك عن تكريس الاختصاص العقابي للمجلس الأعلى للحسابات حيث أصبح بإمكانه أن يعاقب -عند الاقتضاء- عن كل إخلال بالقواعد السارية على العمليات المتعلقة بمداخيل ومصاريف الأجهزة الخاضعة لمراقبته بمقتضى القانون.
المفتشية العامة لوزارة المالية :
جهازا ساميا للرقابة على المال العام، تابعة لوزارة الإقتصاد والمالية، تقوم بمراقبة مالية الدولة والجماعات الترابية وفق القوانين والأنظمة المعمول بها، بمعنى أن مهام المفتشية العامة للمالية واسعة النطاق والاختصاص تشمل الإدارات العمومية والمرافق والمؤسسات والمنشآت العامة والجماعات الترابية.
وبالرغم من تمتعها بسلطات واسعة في مجال التفتيش على كل الإدارات والمصالح العمومية، إلا أن واقع الحال يؤكد على أدائها المتواضع وضعف مردوديتها، لكونها تعاني من خصاص في الموارد البشرية.
المفتشية العامة لإدارة الترابية:
تناط بها مهمة المراقبة و التحقق من السير الإداري و التقني و المحاسبي للمصالح التابعة لوزارة الداخلية و الجماعات الترابية وهيئاتها .
الفرقة الوطنية للشرطة القضائية :
فرقة تابعة للمديرية العامة للأمن الوطني تعمل بجميع التراب الوطني تحت إشراف النيابة العامة المختصة، خول لها القانون صلاحيات واسعة من أجل منع كل تلاعب أو هدر للمال العام.
وقد فتحت الفرقة الوطنية للشرطة القضائية تحقيقا معمقا عدة مرات مع عدد من المواطنين والمسؤولين ورجال الأعمال والسياسيين وكبار رجال الأمن والإدارات العمومية.
وعموما، فقد لعبت هيئات الرقابة دورا مهما في تخليق الحياة العامة.
الفقرة الثانية : الأجهزة الجديدة المختصة في تفعيل مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة
من أهم المستجدات التي جاءت بها الوثيقة الدستورية، إستحداث هيئات جديدة تشكلا جيلا جديدا من أشكال الرقابة، يتعلق الأمر هنا بالمؤسسات والهيئات العاملة على تفعيل مبادئ الحكامة الجيدة، التي تشكل قفزة نوعية في مجال تكريس الديمقراطية، ومنح الحريات والحقوق الأساسية،والشفافية، والجودة، وربط المسؤولية بالمحاسبة في العمل العمومي، ومدخلا لتخليق الحياة العامة من كل الأساليب والممارسات السلبية، من فساد ورشوة وإختلاس ..الخ، بالإدارات والمؤسسات العمومية.
هذا ما جعل المشرع الدستوري يخصص للحكامة الجيدة بابا كاملا، وهو الباب الثاني عشر، وإنتقل بهذه المؤسسات من مجرد هيئات إستشارية إلى هيئات تقريرية ضبطية، تساهم في تجويد التدبير العمومي، والتأسيس لدولة القانون والمؤسسات.
وتعتبر الحكامة الجيدة من أقوى المفاهيم التي جاء بها الدستور، ومن الأساليب الحديثة لمعرفة أسلوب وكيفية ممارسة السلطة، وهي آلية تمكن من ضبط العمل العمومي، عبر آليات ومؤسسات عمل الدستور على دسترتها من أجل تحقيق أهدافها ومزاولة رقابتها على العمل العمومي، قوامها الشفافية والجودة في التدبير العمومي، وركيزتها ربط المسؤولية بالمحاسبة. [6]
وبالرجوع إلى الباب الثاني عشر من الدستور نجد أن المشرع حدد لنا هذه الهيئات والمؤسسات، فهناك هيئات حماية الحقوق والحريات والنهوض بها، وهيئات النهوض بالتنمية البشرية والمستدامة والديمقراطية التشاركية، وهيئات أخرى للحكامة الجيدة والتقنين.
وتتمثل بصفة عامة مؤسسات وهيئات حماية الحقوق والحريات والنهوض بها في المجلس الوطني لحقوق الإنسان، الذي يتولى النظر في القضايا المتعلقة بالدفاع عن حقوق الإنسان والحريات وحمايتها، وبضمان ممارستها الكاملة، والنهوض بها وبصيانة كرامة وحقوق وحريات المواطنات والمواطنين، أفرادا وجماعات، وذلك في نطاق الحرص التام على إحترام المرجعيات الوطنية والكونية في هذا المجال ( الفصل 161). علاوة على مؤسسة الوسيط ومهمتها الدفاع عن الحقوق في نطاق العلاقات بين الإدارة والمرتفقين، والإسهام في ترسيخ سيادة القانون، وإشاعة مبادئ العدل والإنصاف، وقيم التخليق والشفافية في تدبير الإدارات والمؤسسات العمومية والجماعات الترابية والهيئات التي تمارس صلاحيات السلطة العمومية( الفصل 162). إضافة إلى مجلس الجالية المغربية بالخارج الذي يتولى على الخصوص، إبداء آرائه حول توجهات السياسات العمومية التي تمكن المغاربة المقيمين بالخارج من تأمين الحفاظ على علاقات متينة مع هويتهم المغربية، وضمان حقوقهم وصيانة مصالحهم، وكذا المساهمة في التنمية البشرية والمستدامة في وطنهم المغرب وتقدمه (الفصل 163). والهيأة المكلفة بالمناصفة ومحاربة جميع أشكال التمييز التي تسهر بصفة خاصة، على احترام الحقوق والحريات، مع مراعاة الاختصاصات المسندة للمجلس الوطني لحقوق الإنسان. (الفصل 164)
وسيرا على نفس المنوال، نص الدستور على هيئات النهوض بالتنمية البشرية والمستدامة والديمقراطية التشاركية، من خلال تكريس المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي، ومهمته إبداء الآراء حول كل السياسات العمومية، والقضايا الوطنية التي تهم التعليم والتكوين والبحث العلمي، وكذا حول أهداف المرافق العمومية المكلفة بهذه الميادين وتسييرها. كما يساهم في تقييم السياسات والبرامج العمومية في هذا المجال ( الفصل 168 ).
المجلس الإستشاري للأسرة والطفولة الذي يتولى مهمة تأمين تتبع وضعية الأسرة والطفولة، وإبداء آراء حول المخططات الوطنية المتعلقة بهذه الميادين، وتنشيط النقاش العمومي حول السياسة العمومية في مجال الأسرة، وضمان تتبع وإنجاز البرامج الوطنية، المقدمة من قبل مختلف القطاعات، والهياكل والأجهزة المختصة (الفصل 169). ناهيك عن المجلس الإستشاري للشباب والعمل الجمعوي، كهيئة إستشارية في ميادين حماية الشباب والنهوض بتطوير الحياة الجمعوية، فهو مكلف بدراسة وتتبع المسائل التي تهم هذه الميادين، وتقديم اقتراحات حول كل موضوع اقتصادي واجتماعي وثقافي، يهم مباشرة النهوض بأوضاع الشباب والعمل الجمعوي، وتنمية طاقاتهم الإبداعية، وتحفيزهم على الانخراط في الحياة الوطنية، بروح المواطنة المسؤولة. ( الفصل 170 ).
وهناك ثلاث هيئات دستورية مهمة تسمى «هيئات الحكامة الجيدة والتقنين»، التي تتجلي فيما يلي :
الهيئة العليا للإتصال السمعي البصري، التي تكمن أهدافها في السهر على إحترام التعبير التعددي لتيارات الرأي والفكر، والحق في المعلومة في الميدان السمعي البصري، وذلك في إطار احترام القيم الحضارية الأساسية وقوانين المملكة (الفصل 165 من الدستور). بالإضاقة إلى مجلس المنافسة باعتباره إحدى الوسائل التي تعمل على تخليق الحياة الإقتصادية من كافة الأعمال الضارة بالعملية الاقتصادية، ومكلف في إطار تنظيم منافسة حرة ومشروعة بضمان الشفافية والإنصاف في العلاقات الاقتصادية، بخاصة من خلال تحليل وضبط وضعية المنافسة في الأسواق، ومراقبة الممارسات المنافية لها والممارسات التجارية غير المشروعة وعمليات التركيز الاقتصادي والاحتكار (الفصل 166 من الدستور).
ومن بين الهيئات التي نص عليها الدستور، الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها، والتي تتولى مهام المبادرة والتنسيق والإشراف وضمان تتبع تنفيذ سياسات محاربة الفساد، تساهم في تخليق الحياة العامة، وترسيخ مبادئ الحكامة الجيدة، وثقافة المرفق العام، وقيم المواطنة المسؤولة (الفصل 167 من الدستور).
في ذات السياق، فقد تم إشراك المجتمع المدني في عملية الحكامة المؤسساتية، نظرًا لما أصبحت تلعبه هذه الفئة من أدوار أساسية وحاسمة داخل المجتمع كقوة اإقتراحية وكمكون فعال على مستوى تفعيل السياسات العمومية، وتنفيذها، ومتابعتها، وتقييمها، وتقديم ملتمسات في مجال التشريع، وتقديم عرائض.وكذلك لقربها من شريحة عريضة من المواطنين، وقد خصصت كل من الفصول 12، 13، 14، 15، و139 من الدستور للآليات المنوحة لهذه الفئة في إطار الديمقراطية التشاركية المساهمة في إعداد قرارات ومشاريع لدى المؤسسات المنتخبة والسلطات العمومية.
من هنا أمكن القول أن هذه المؤسسات و الهيئات أتت من أجل تكريس المبدأ الذي تقوم عليه الحكامة الجيدة الا وهو ربط المسؤولية بالمحاسبة، وبالتالي فهي تعتبر مكسبا حقيقيا للمملكة كآليات لتخليق المرفق العمومي وتكريس دولة الحق والقانون وهيئات لتوطيد الديمقراطية التشاركية.
خاتمة :
صفوة القول لا يمكن أن يكون هناك تقدم وتطور دون محاربة الفساد وربط المسؤولية بالمحاسبة.
إذ نرى أن جلالة الملك محمد السادس نصره الله يشدد دائما في خطاباته السامية على ضرورة التطبيق الصارم لمبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة، الذي ينص عليه الدستور، داعيا المسؤولين على كافة المستويات إلى تحمل مسؤولياتهم أو تقديم إستقالاتهم.
أريد أن أختم بما قاله صاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله : “كفى، وإتقوا الله في وطنكم… إما أن تقوموا بمهامكم كاملة، وإما أن تنسحبوا”.
المراجع المعتمدة :
- عرض للطالب علي الحدودي بسلك الماستر تحت عنوان “الحكامة وربط المسؤولية بالمحاسبة” : ماستر التدبير للموارد البشرية والمالية للإدارة العمومية، السنة الجامعية 2016\2017.
- حسن طارق ” الدستور المغربي : المستجدات وحصيلة التفعيل 2011- 2017 ، دراسة على ضوء : حقوق الإنسان، المعارضة، القضاء الدستوري واللامركزية. ص 7
- نفس المرجع ، ” الحكامة وربط المسؤولية بالمحاسبة”.
- عبدالقادر العلمي : ربط المسؤولية بالمحاسبة، أنظر الموقع التالي : elalami.net
- المجلس الأعلى للحسابات أمام محك تفعيل ربط المسؤولية المالية بالمحاسبة ، نشر في التجديد يوم 20 – 07 – 2011
- يونس مليح : الحكامة الجيدة في التدبير العمومي وربط المسؤولية بالمحاسبة. مقال نشر على الموقع التالي :