فكرة النظام العام في القانون الدولي الخاص
نصادف في التشريعات الحديثة بصفة عامة الإشارة إلى النظام العام كمعيار في القانون الداخلي لعدم جواز الاتفاق على ما يخالفه، ولبطلان التصرفات التي تقع مخالفة له، غير أننا لا نجد من بين هذه التشريعات من عرف لنا هذه الفكرة تعريفا دقيقا واضحا أو وضع لها معيارا منضبطا، وحتى الشراح يكتفون فقط بمحاولة تقريبها من الأذهان بقولهم : أن النظام العام هو الأساس السياسي والاجتماعي والاقتصادي والخلقي الذي يقوم عليه كيان الدولة كما ترسمه القوانين النافذة فيها.
ومرد استعصاء هذه الفكرة عن التعريف والتحديد هو قابليتها للتغير بحسب الأزمنة والأمكنة والمذاهب والنظريات، فقد كانت إباحة الطلاق تعتبر من النظام العام في فرنسا عند صدور قانون نابليون سنة 1804، ثم على العكس من ذلك. وبعد صدور قانون 1811 أصبح تحريمه هو الذي يعتبر فيها من النظام العام، وعند صدور قانون 1884 الذي أباحه من جديد صارت إباحته مرة أخرى هي التي تعتبر من النظام العام، وبالنسبة للمكان، يختلف النظام العام في بلد معين عنه في بلد آخر، وأن اعتبار قوانين العمل مثلا في بعض البلدان من النظام العام، بينما لا تعتبر كذلك في بلدان أخرى، يظهر لنا جليا تغير الفكرة بتغير المكان، أما بالنسبة لتغيره بحسب المذاهب والنظريات، ففي روسيا تعتبر الشيوعية من النظام العام، بينما تعتبر في كثير من البلدان مخالفة له، وفي غالب البلاد الإسلامية يباح تعدد الزوجات، في حين يعتبر هذا التعدد مخالفا للنظام العام في أوربا، وهكذا نرى أن هذه الفكرة نسبية يرجع تكييفها إلى المجتمع الذي يرتبط بها.
وأن استعصاء وضع تعريف تام يضبط ويحدد هذه الفكرة، كثيرا ما يثير صعوبات عند تطبيقها، اعتبار بعض القواعد القانونية من النظام العام، أو عدم اعتبارها منه، هذا بالإضافة إلى أن المرونة التي تتميز بها هذه الفكرة تترك للقاضي حرية واسعة بكيفية يخشى معها أحيانا أن يتخذ منها أساسا لاعتبار كل تصرف موافقا أو مخالفا للنظام العام، تبعا لما إذا كان موافقا أو غير موافق لنظريته في المسائل الاجتماعية أو الأخلاقية أو الدينية. وبعبارة أخرى يخشى أن يؤدي ترك الأمر إلى تقدير القاضي إلى التحكم.
وجميع التشريعات الداخلية الحديثة تتضمن معايير لفظية كثيرة للحد من مبدأ سلطان الإرادة، فتشير بالنسبة لبعض القواعد إلى أنه يجوز أو لا يجوز الاتفاق على ما يخالفها. ومن أمثلة ذلك في القانون المغربي:
المادة 61 من قانون الالتزامات والعقود الناصة على أنه لا يجوز التنازل عن تركة إنسان على قيد الحياة، ولا إجراء أي تعامل فيها أو في شيء مما تشتمل عليه ولو حصل برضاه، وكل تصرف مما سبق يقع باطلا بطلانا مطلقا.
والمادة 77 منه التي تضمنت أن كل فعل ارتكبه الإنسان عن بيته واختيار، ومن غير أن يسمح له به القانون فأحدث ضررا ماديا أو معنويا للغير، ألزم مرتكبه بتعويض هذا الضرر إذا ثبت أن ذلك الفعل هو السبب المباشر في حصول الضرر، وكل شرط مخالف لذلك يكون عديم الأثر.
ومثل ذلك نراه في المواد 78-109-112-121 وغيرها.
غير أن الغالبية الكبرى من الشرائع الحديثة تأتي بمعيار معنوي للتفرقة بين ما يجوز الاتفاق على ما يخالفه من القواعد وما لا يجوز فيه ذلك، وهذا المعيار المعنوي هو النظام العام، فقد أوردت المادة 62 مثلا من قانون الالتزامات والعقود المغربي أن سبب الالتزام يكون غير مشروع إذا كان مخالفا للنظام العام. كما أوردت المادة 881 منه أن الوكالة تكون باطلة إذا كان محلها أعمالا مخالفة للنظام العام. وأوردت المادة 72 منه أنه يجوز استرداد ما دفع لسبب مخالف للقانون أو للنظام العام أو للأخلاق الحميدة.
هذا في القانون الداخلي، أم بالنسبة للقانون الدولي الخاص، فقد استعملت فكرة النظام العام كأداة لعدم قبول تطبيق قانون أجنبي، ومن المفيد هنا أن نشير إلى أن الفقهاء الهولانديين امتازوا بأنهم أول من قالوا بإمكان تطبيق القوانين الأجنبية على سبيل المجاملة الدولية، وكان لهؤلاء الفقهاء تأثير كبير على فقهاء الانجليز، ثم على الفقهاء الأمريكيين، ووضع القانون المدني الفرنسي في بدأ القرن التاسع عشر، ونص في مادته الثالثة على تنازع القوانين، ثم أخذت التشريعات المدنية التي وضعت منذ ذلك التاريخ تحذو حذو القانون المدني الفرنسي، واحتل القانون الدولي الخاص طائفة من نصوصها، وهكذا أصبح وجود هذا القانون حقيقة لا مراء فيها.
كما أنه من المفيد أن نشير إلى أن المراد بتنازع القوانين هو تزاحم قانونين أو أكثر لدولتين أو أكثر بشأن حكم علاقة قانونية تشتمل على عنصر أجنبي، فإذا كان أحد أشخاص العلاقة أجنبيا، أو كان موضوعها تم في بلد أجنبي، أو كان سببها وقع في أرض أجنبية، فإننا نكون بصدد مشكلة تنازع القوانين، أي أن قانونين أو أكثر تتنازع حكم العلاقة القانونية المعروضة ويجب البحث عن الفانون الواجب التطبيق.
ومسألة تنازع القوانين من المسائل المهمة التي يدرسها القانون الدولي الخاص، فلنتصور أن مواطنا مسلما من المغرب يتزوج اثنتين ويذهب إلى فرنسا، ثم يثور نزاع بينه وبين إحدى زوجته أمام المحاكم الفرنسية التي لا يبيح قانونها التزوج باثنتين، أو لنتصور فرنسيا يتوفى بالمغرب، وأحكام الشريعة في الميراث تجعل للذكر من الأولاد مثل حظ الأنثيين بينما القانون الفرنسي يسوي في الميراث بين الذكر والأنثى، لاشك أنه سوف تحدث أضرار بليغة لو لم تكن هناك قواعد قانونية تبحث عن القانون الواجب التطبيق على أمثال هذه المعاملات.
فعلى أي أساس يقبل تطبيق القانون الأجنبي؟
لقد هجرت اليوم نظرية الفقهاء الهولنديين التي كانت تقول بتطبيق القانون الأجنبي على سبيل المجاملة الدولية وأصبح الخلاف يدور حول إيجاد أساس أقرب إلى المنطق القانوني من هذه المجاملة، ففي البلاد الانجلوأمريكية سادت نظرية الحقوق المكتسبة ومقتضاها أن القاضي يتعين عليه تطبيق القانون الأجنبي على أساس الاحترام الواجب للحقوق المكتسبة طبقا لهذا القانون، وسادت في الفقه الإيطالي نظرية أخرى تسمى نظرية الاندماج أو الاستيعاب، وطبقا لهذه النظرية يطبق القاضي القانون الأجنبي على أساس أنه اندمج في قانونه، فحين تشير قاعدة الإسناد في قانون القاضي بتطبيق قانون أجنبي فإن قاعدة القانون الأجنبي تندمج في قانون القاضي، فتستوعبها قاعدة الإسناد الوطنية حتى تصبح كأنها قاعدة وطنية، وكان القاضي وهو يطبق القاعدة الأجنبية يطبق قاعدة الإسناد في قانونه هو.
وسادت في وقت ما نظرية ثالثة تقول بتطبيق القانون الأجنبي كما هو أي باعتباره قانونا أجنبيا ولم يندمج في قانون القاضي، وإنما يطبقه القاضي بمقتضى تفويض من المشرع الأجنبي أملته قاعدة الإسناد في قانون القاضي، كما ساد اليوم لدى الفقه الفرنسي، ولدى القضاء في كثير من البلاد رأى يقول بتطبيق القانون الأجنبي باعتباره واقعة لا باعتباره قاعدة قانونية، وهذا الرأي هو الذي سار عليه القضاء، سواء في أمريكا أو في انجلترا أو اسبانيا على الرغم من الانتقادات التي وجهت إليه.
فإلى أي مدى يمكن تطبيق القانون الأجنبي؟
هناك أحوال يطبق فيها القاضي قانونه دون القانون الأجنبي، أما لمصلحة الطرفين المتنازعين أو ضد مصلحتهما، وتندرج تحت طائفة الأولى حالة ما إذا لم يكن للأجنبي قانون يحكم أحواله الشخصية مثلا، وتندرج تحت الطائفة الثانية حالة الدفع بالنظام العام وهو الذي يهمنا في هذا البحث.
فما هي فكرة النظام العام في القانون الدولي الخاص؟
إن فكرة النظام العام في القانون الدولي الخاص لا تختلف عنها في القانون الداخلي من حيث الغموض والاستعصاء عن التعريف، فقد قيل أنها تحفظ تخضع له القواعد التي تقضي بتطبيق قوانين أجنبية، وقيل: أنها المبدأ الذي تستطيع السلطة الإقليمية بمقتضاه أن تطبق في كل وقت، وبالنسبة لكل الأشخاص المقيمين في إقليمها، ودون نظر لأية قوانين أخرى، جميع الأحكام التي ترى هذه السلطة إنها ضرورية للأمن والنظام والآداب في إقليمها.
وكما هو الحال بالنسبة للقانون الداخلي فإن هذا التعريف لفكرة النظام العام أو محاولة تقريبها من الأذهان لم يكن كافيا لوضع معيار تام يحدد نطاقها، وإنما يرسم إطارا مرنا لا يمكن أن يؤدى إلى التحديد، وعلى كل حال فقد اتخذت هذه الفكرة أساسا لاستبعاد تطبيق القانون الأجنبي، وهكذا يمكن لأية محكمة أن لا تقضي بقانون أجنبي اقتضته قاعدة الإسناد إلا إذا لم يكن في تطبيقه أعداء على النظام العام في الدولة التي تتبعها المحكمة، ومثال ذلك ما قضى به القضاء الفرنسي سنة 1928، وكان النزاع خاصا بتأميم روسيا للأساطيل التجارية الروسية، فقد لجأ أحد هذه الأساطيل إلى ميناء مرسيليا، وطالبت به روسيا باعتبار أن لها عليه حقا مكتسبا طبقا للقانون السوفياتي الذي تم كسب الحق طبقا له، فرفض القضاء الفرنسي طلب روسيا معللا رفضه بأن نزع الملكية بدون تعويض، يخالف النظام العام في فرنسا، وبالتالي لا يقبل الاعتراف بآثار هذا الحق المكتسب طبقا للقانون السوفياتي.
هذا ومن المسلم به الآن أن الأمر متروك للقاضي الذي يقدر في كل حالة على حدة ما إذا كان حكم القانون الأجنبي يتعارض مع النظام العام في دولته وقت نظر الدعوى وبالتالي بضر تطبيقه بالمصالح العليا فيها، ولا يلاءم الشعور العام للجماعة، كما لو كان يجيز الرق أو يمنع الزواج بسبب اختلاف اللون. غير أنه يجب أن تأخذ بعين الاعتبار أن ترك تقدير مقتضيات النظام العام للقاضي لا يعني أن يكون التقدير وفقا لآرائه الشخصية، بل وفقا للأفكار السائدة في الدولة أيا كانت وجهة نظره في هذه الأفكار أي يجب أن يكون التقدير موضوعيا لا شخصيا.
وبمقارنة فكرة النظام العام في القانون الداخلي معها في القانون الدولي الخاص، يتضح لنا أن بينهما اختلافا من النواحي الآتية :
أولا- تثار فكرة النظام العام في القانون الداخلي لصالح القواعد الآمرة أو الناهية التي لا يجوز للأفراد أن يخالفوها، بينما تثار هذه الفكرة في القانون الدولي الخاص ضد تطبيق قانون أجنبي تخالف فكرته فكرة قانون القاضي.
ثانيا- بينما تطبق فكرة النظام العام في القانون الداخلي على رعايا الدولة في علاقاتهم الداخلية، ففكرة النظام العام في القانون الدولي الخاص تطبق في علاقات تشتمل على عنصر أجنبي.
ثالثا- قد تكون المسألة متعلقة بالنظام العام في القانون الداخلي وغير متعلقة بالنظام العام في القانون الدولي الخاص، مثال ذلك الزواج بأكثر من واحدة، فهو مخالف للنظام العام في أوربا، ولكن لو أن مسلما متزوجا بأكثر من واحدة أقام في فرنسا ورفعت إحدى زوجاته دعوى نفقة مثلا فإن المحاكم الفرنسية تنظر في هذا النزاع وتعترف بصحة زوجية هذه الزوجة، وذلك لأن التمسك بالنظام العام يترتب عنه ما يسمى بالأثر المخفف، ويستعمل هذا الأثر في حالة ما إذا تعلق الأمر بآثار حق مكتسب في الخارج يخالف إنشاؤه النظام العام في بلد القاضي. ولكن لا تتعارض، أثاره مع مقتضيات النظام العام في هذا البلد. ففي هذه الحالة تحترم آثار هذا الحق في بلد القاضي، فالزواج بأكثر من واحدة يعتبر إنشاؤه في فرنسا مخالفا للنظام العام، ولكن التمسك بآثاره جائز فيها ما دام إنشاؤه قد تم في بلد يجيزه. غير أنه إذا كانت آثار الحق المكتسب في الخارج لا تلاؤم هي نفسها مقتضيات النظام العام في بلد القاضي جاز لهذا القاضي أن يتمسك بالنظام العام، كما سبق أن رأينا في قضية الأسطول الروسي.
فتبين من ذلك أن القاضي يتمتع بحرية واسعة لتقدير ما إذا كانت أحكام القانون الأجنبي الذي تسمح بتطبيقه قواعد الإسناد، مخالفة للنظام العام في بلد هذا القاضي، ومضرة بالمصالح العليا فيها فيستبعد تطبيقها أم هي غير مخالفة للنظام العام فيطبقها على النازلة المعروضة عليه.
ومن الجدير بالملاحظة أن استعباد تطبيق القانون الأجنبي يترتب عنه اما اثر سلبي و اما اثر ايجابي.فإذا استبعدنا تطبيق القانون الأجنبي و اقتصر الأمر على هذا الاستبعاد دون أن يطبق القاضي قانونه فيقال أن الأثر هنا سلبي .مثال ذلك أن تكون قاعدة النظام العام ناهية ،كان يتقدم فرنسي إلى محكمة ايطالية مطالبا بالطلاق من زوجته طبقا لقانون جنسيته أي القانون الفرنسي الذي يجيز الطلاق، فيما أن الطلاق مخالف للنظام العام في ايطاليا فان المحكمة الايطالية تستبعد تطبيق القانون الفرنسي و يقتصر الأمر على ذلك.
أما إذا امتد الأثر إلى ابعد من ذلك فاستبعد القاضي تطبيق القانون الأجنبي، و طبق قانون القاضي فيقال حينئذ أن الأثر ايجابي، وأشهر مثال لذلك ما حكمت به محكمة الصين في سنة 1930 في قضية أمريكي يسمى نيلسون موريس تزوج ممثلة فرنسية وكانت قد احتفظت بجنسيتها الفرنسية طبقا لقانون الجنسية الفرنسي الصادر سنة 1927. وعندما تزوجها اشترط عليها أن لا تعود إلى التمثيل، ولكنها خافت هذا الشرط وتعاقدت مع أحد أصحاب الملاهي بباريز على أن تقوم بالتمثيل، ونشر صاحب الملهى إعلانا بذلك وذكر على سبيل الدعاية أن هذه الممثلة ستقوم بالتمثيل على الرغم من إرادة زوجها، فرفع الزوج الأمريكي دعوى ضد صاحب الملهى مطالبا إياه بعدم التعاقد مع زوجته على التمثيل وبتعويض قدره 200 ألف فرنك فدفع صاحب الملهى هذه الدعوى بأن قانون جنسية الزوج، أي القانون الأمريكي الذي تعينه قاعدة الإسناد في قواعد التنازع الفرنسية يعطي للزوجة الحق في التمثيل دون إذن من زوجها، وليس للزوج أن يحتج بأن زوجته قد احتفظت بجنسيتها الفرنسية، لأن العبرة بقانون جنسية الزوج فرضت المحكمة دفع صاحب الملهى واستبعدت تطبيق القانون الأجنبي، وطبقت القانون الفرنسي، وقالت في حكمها أن خضوع المرأة لزوجها هو من النظام العام في فرنسا.
habous.gov.ma