قيود حق الملكية.
مقدمة:
اقتضى اعتماد الإنسان في إشباع حاجاته على ما يقع تحت إدراكه من أشياء، وعلى جهده وجهد أفراد المجتمع ما أدى إلى وضع نظام قانوني لهذه الأشياء يحدد موقف الفرد إزاء مكونات المجتمع منها، تحديدا تتحقق به الكفاية في الإنتاج والعدالة في التوزيع. هذا النظام هو نظام الأموال بصفة عامة والملكية بصفة خاصة[1].
وقد مر نظام الملكية في أطوار عديدة، وعرف تقلبات كثيرة، واعتبره كثير من الباحثين أفضل الأنظمة وأكثرها نفعا لبني الإنسان وأقوى عامل لرقي المجتمع. ذلك أنه يشجع الإنسان على العمل فيندفع إلى الكسب لأنه يعلم أنه يمكن أن يتأثر بما يكسبه ويكون له الحق في استعمال ما كسبه واستغلاله لمصلحته كما يحق له أن يتصرف فيه وأن يورثه لأبنائه من بعده. وعليه قيل أن لحق الملكية خصائص ثلاث فهو حق جامع، وهو حق مانع، وهو حق دائم.
وعليه فإن حق الملكية هو أول وأهم الحقوق العينية الأصلية « Droits réels principaux »، بل وأقواها وأشملها وأنه حق مطلق بمعنى أن من حق المالك أن يتصرف في المملوك التصرف الذي يراه. إلا أن هذا الإطلاق لم يعد يجد له مكانا في ظل تحول النظرية التقليدية لحق الملكية – في ظل القوانين الوضعية طبعا – إلى نظرية حديثة ارتكزت على أساس اقتصادي واجتماعي بالدرجة الأولى.
هذا المفهوم الجديد لحق الملكية وهو الذي يكاد يسود في كل مكان. ومن الملاحظ أن معظم الدساتير في العالم ولاسيما الحديثة منها تنص على أن القانون يعين كيفية حيازة الملكية الخاصة والتصرف بها بحيث تؤدي وظيفتها الاجتماعية[2].
وعليه، يكبل حق الملكية قيودا كثيرة تحد من سلطات المالك على الشيء، بل وتبيح تدخل الغير في ملكه، من ذلك ما يقرره القانون على الجيران من حقوق الشرب والمجرى والمسيل والمرور وغيرها… ومن ذلك جواز نزع الملكية جبرا على صاحبها للمنفعة العامة، وكذلك قيودا أخرى تتعلق بحق الشفعة والاسترداد،… وكذلك ما أعطي للمكترى سواء كان مكتريا للأماكن السكنية أو التجارية أو الحرفية أو الأراضي الفلاحية من حقوق واسعة تقيد من سلطات المالك المكري ويلزمه ألا يتجاوز في تحديد الوجبة الكرائية حدا معينا.
ولقد عرف المغرب نظام الملكية بمعناها الذي يستند إلى المذهب الفردي عند استلهامه لأنظمته القانونية من التشريع الفرنسي، فقد انتقلت إلى القانون نظرية الملكية الفردية كحق مطلق يسنده ويستند به مبدأ حرية المبادرة[3].
لكن تأثر المغرب بالقوانين الأجنبية، وإن كان قد باعد بينه وبين تاريخه الإسلامي إلى حد بعيد إلا أنه وصل بينه وبين ما يجري في العالم الحديث من تغيرات فكرية واقتصادية واجتماعية مختلفة أولا بأول. وقد كان من نتيجة ذلك أن تسللت التأثيرات الاشتراكية إليه، ومن أبرزها وضع قيود على سلطات المالك ضمانا لتوجيهها الوجهة التي تحقق صالح المجتمع.
غير أنه سرعان ما تولدت قناعة متمثلة في أن تحمل عبء الدولة الحديثة يقتضي الوصول إلى أكبر قدر مستطاع من الكفاية في الإنتاج ومن العدالة في توزيعه على أفراد المجتمع، كما أن تحقيق هذين الهدفين في بلد متخلف كالمغرب تنقصه رؤوس الأموال وروح الإقدام عند المشروعات الأساسية التي تدر ربحا عاجلا، يتطلب الأخذ بنظام للملكية فعال لوسائل الإنتاج. وهذا التصور هو الذي قامت عليه الملكية الفردية في الإسلام باعتبارها ليست حقا طبيعيا مطلقا وإنما هي استخلاف من الله عز وجل، فتتقيد بما يضعه من حدود، سواء ما تعلق منها بعدم الإضرار بالغير أو بإخراج الزكاة والنفقات الواجبة[4].
أما عن التأصيل القانوني لحق الملكية وقيودها في تشريعنا المغربي فنجده في نصوص تشريعية بلور فيها المشرع هذا المفهوم الجديد لحق الملكية. وأول هذه النصوص؛ الفصل 15 من دستور المملكة الذي نص على أن: “حق الملكية وحرية المبادرة الخاصة مضمونان وللقانون أن يحد من مداهما وممارستهما إن دعت إلى ذلك ضرورة النمو الاقتصادي والاجتماعي للبلاد، ولا يمكن نزع الملكية إلا في الأحوال وحسب الإجراءات المنصوص عليها في القانون”.
أما النص الثاني، فإن المشرع المغربي قد نص في الفصل التاسع من ظهير التاسع من يونيو 1915 على أن الملكية العقارية هي التمتع والتصرف في عقار بطبيعته أو بالتخصيص على أن لا يستعمل هذا الحق استعمالا تمنعه القوانين والأنظمة. وأضاف الفصل العاشر أنه لا يجبر أحد على التخلي عن ملكه إلا لأجل المصلحة العامة ووفق القوانين الجاري بها العمل في نزع الملكية.
ولقد بحث الفقه القيود التي ترد على حق الملكية – والذي يهمنا في هذا الموضوع هي قيود الملكية التي ترد على العقار – فاختلفت منهجيتهم في تبيانها، فمنهم من صاغها انطلاقا من التمييز بين القيود القانونية والقيود الاتفاقية. وباحثون درسوها انطلاقا من النبع الفياض للفقه الإسلامي الذي اهتم بدراسة كنه طبيعة الملكية العقارية في الإسلام وقيودها[5]. وآخرون فرعوها إلى قيود مقررة منعا لإساءة استعمال حق الملكية، وقيود مقررة في سبيل النفع العام، وأخرى مقررة رفعا لمضار الجوار، وأخيرا قيودا اتفاقية – الكزبري –، وفقه قسمها إلى قيود للمصلحة العامة وأخرى للمصلحة الخاصة – كالسنهوري –، وكذلك قسم بعض الفقه هاته القيود إلى قيود ترد على حق الملكية قبل قيامه وبعد قيامه…
كذلك تنتشر القيود التي تحد من حق الملكية في فصول ونصوص متناثرة منها ما يهم موضوع نظام المصادرة في القانون الجنائي، ومنها أيضا نظام الشفعة وكذا نظام الشفعة الضريبية، ونظام الاحتلال المؤقت ونزع الملكية للمنفعة العامة بعد تحقق شروطه وكل ذلك يدخل ضمن القانون الإداري… كذلك تعتبر الجبائية العقارية قيدا من قيود الملكية العقارية وإن كانت من أعمدة الاستثمار العقاري وحافزا مهما لتحقيقه[6].
كما نلمس تأثير قوانين الكراء خصوصا التجاري منه على حق الملكية، ويعتبر القانون المنظم للشركات ذات المسؤولية المحدودة أيضا قيدا على حق الملكية في حالة ما إذا قدمت كحصة عينية بحيث يتم تجميدها كأصول عامة ولا يجوز التصرف فيها… وغيرها من القيود التي يصعب حصرها.
وعليه نجد من الصعوبة بمكان تصنيف مختلف هذه القيود لتنوعها وتشعبها. ومن تم اعتمدنا على التصنيف الذي تبناه الفقيه القانوني مأمون الكزبري الذي عمل على تقسيم هذه القيود إلى فئات أربع، وهي تباعا القيود المقررة منعا لإساءة استعمال حق الملكية ثم المقررة في سبيل النفع العام فالمخصصة رفعا لمضار الجوار، وأخيرا القيود الاتفاقية.
لكن قبل ذلك، يثار إشكال في منتهى الأهمية تناوله فطاحل فقهاء القانون المدني بالدراسة والتمحيص، ويتمحور هذا الإشكال حول طبيعة هذه القيود وهل هي حقوق ارتفاق أم لا؟
وانطلاقا مما سبق سوف يتم تقسيم هذا الموضوع إلى مبحثين يتناول الأول طبيعة القيود التي ترد على حق الملكية، في حين يدرس الثاني أنواع هذه القيود.
المبحث الأول: الطبيعة القانونية للقيود التي ترد على حق الملكية
إن حق الارتفاق هو حق يتحقق على عقار لمصلحة عقار آخر[7]، فيخرج بكل من العقار المرتفق به والعقار المرتفق عن النظام المألوف لحق الملكية. إن الأصل أن يكون حق الملكية خاليا من القيود إلا تلك التي فرضها القانون. فما تقرر من قيد – غير القيود التي تعتبر هي التنظيم العام لحق الملكية – فخرج بالملكية عن حدود هذا التنظيم العام، فهو حق ارتفاق.
أما تلك القيود التي فرضها القانون سواء ما تقرر منها للمصلحة العامة، أو ما تقرر للمصلحة الخاصة كقيود الجوار والري والصرف بين الجيران من شرب ومجرى ومسيل ووضع الحدود بين الجيران المتلاصقين وحق المرور في أرض الجار وحق فتح المطلات والمناور على ملك الجار، هذه القيود والتي تمثل التنظيم العام المألوف لحق الملكية ليست بحقوق ارتفاق بالمعنى الدقيق. فقد قدمنا أن حق الارتفاق في معناه الصحيح هو خروج عن التنظيم العام المألوف لحق الملكية. في حين أن هذه القيود القانونية ليست خروجا عن التنظيم العام المألوف. بل هي ذاتها التنظيم العام المألوف لحق الملكية ]أوبري ورو[.
وينبني على أن هذه القيود القانونية ليست بحقوق ارتفاق ما يأتي:
أ- إن باع شخص عقارا مملوكا له، وضمن للمشتري خلوه من حقوق ارتفاق، ثم تبين أن هناك قيودا قانونية ترد على العقار المبيع من نحو حق شرب أو مجرى أو مسيل أو حق مرور، فإن هذه القيود لا يضمنها البائع لأنها ليست بحقوق ارتفاق كما قدمنا، بل هي التنظيم الطبيعي المألوف لحق الملكية. وكان على المشتري أن يدرك أن هذه القيود موجودة دون أن ينكرها له البائع، لأنها قيود قررها القانون لينظم تنظيما عاما حقوق الجيران بعضهم قبل بعض. ولم يقصد البائع من ضمانه خلو العقار من حقوق ارتفاق أن يضمن خلو العقار من هذه القيود. فهي قيود فرضها القانون وعلى المشتري أن يعرف ذلك. وإنما قصد البائع أن يضمن خلو العقار من حق ارتفاق فرضه الاتفاق لا القانون، وخرج به عن حدود التنظيم العام لحق الملكية ]كولان، كابيتان[.
ب- فإذا ضمن البائع خلو المبيع من حق ارتفاق للمطل، فهو لا يضمن بذلك خلو المبيع من حق المطل القانوني، إذ أن هذا ليس بحق ارتفاق بل هو قيد قانوني على الملكية. وإنما يضمن للمشتري خلو المبيع من حق ارتفاق المطل فرضه الاتفاق أو كسب للتقادم، وهو أن يفتح الجار مطلا على مسافة من المسافة القانونية ]كولان،…[.
ولا تزول هذه القيود القانونية بعدم الاستعمال، لأنها قيود دائمة ترد على حق الملكية وتدوم بدوام هذا الحق، ولو كانت هذه الحقوق حقوق ارتفاق حقيقية لزالت بعدم الاستعمال مدة 15 سنة. كذلك لا تكسب هذه القيود بالتقادم المكسب، لأن الإفادة منها تعتبر رخصة من المباحات فلا تصلح مبدأ لحيازة مكسبة لارتفاق بالتقادم. فإذا زال انحباس الأرض بعد 15 سنة لم يكن لمالك هذه الأرض أن يدعي أنه كسب حق المرور القانوني بالتقادم. ولو كان حق المرور اتفاقيا لملكه بالتقادم المكسب. على أن هذه المسألة قد اختلفت فيها الأنظار.
فمن الفقهاء في فرنسا من يذهب إلى أن هذه القيود هي حقوق ارتفاق قانونية، وإن كان يسلم بأن الأصل في حق الارتفاق أنه قيد يرد استثناء على حق الملكية على خلاف الوضع المألوف ]بودري وشوڤو، بلانيول..[.
ومن الفقهاء من يميز بين القيود المقررة للمصلحة العامة وهذه ليست حقوق ارتفاق وإنما هي قيود ترد على حق الملكية للمصلحة العامة، وبين القيود المقررة للمصلحة الخاصة. وفي هذه يفرق بين القيود المتعلقة بالمياه وبوضع الحدود والتحويط وبالحائط المشترك وهذه قيود وليست حقوق ارتفاق، وبين القيود الأخرى وبخاصة حق المرور وهي ذات طبيعة مختلطة بين معنى القيد ومعنى حق الارتفاق، والغالبية من الفقهاء يذهبون صراحة إلى أن كل هذه القيود إنما هي قيود ترد على حق الملكية، وليست بحقوق ارتفاق بالمعنى الصحيح.
والفقه المصري هو أيضا منقسم. ففي حين أن القلة من الفقهاء تذهب إلى أن هذه القيود القانونية هي حقوق ارتفاق حقيقية]شفيق شحاته[، أو أن بعض هذه القيود تعتبر حقوق ارتفاق حقيقية ]ارتفاقات المياه والمرور[. وبعضها ليس إلا مجرد قيود ترد على الملكية. فإن الكثرة من الفقهاء تأخذ بالرأي الصحيح وهو الرأي الذي سار عليه التقنين المدني المصري، فتعتبر أن هذه القيود جميعا إنما هي قيود ترد على حق الملكية وليست حقوق ارتفاق حقيقية.
أما بخصوص التقنين المغربي، وبالتحديد ظهير 19 رجب 1333 فإنه أهمل ذكر القيود المقررة، قانونا منعا لمالك العقار من أن يضر بجاره في سبيل استعمال ملكه أو استغلاله معتبرا مثل هذه القيود من قبيل الارتفاقات القانونية ومتناولا بالتالي عرضها في البحث الذي خصه لحقوق الارتفاق. وهو إن فعل ذلك يلتقي مع كل من القانون المدني الفرنسي والقانون المدني السوري اللذين هما أيضا عرضا لهذه القيود في معرض البحث عن الارتفاقات، ويبتعد عن القانون المدني المصري الذي أورد هذه القيود في البحث الذي خصه لقيود الملكية.
ومن الملاحظ أن مشرع ظهير 19 رجب 1333 أعلن في الفصل 115 أن “القانون يكلف المالكين بالتزامات مختلفة بعضهم تجاه بعض بصرف النظر عن كل اتفاقية”. ويمثل على هذه الالتزامات بالجدار أو الخندق المشترك والمطلا ت على ملك الجار، وميزاب السقوف، ويعتبر مع ذلك مثل هذه الالتزامات المترتبة على أصحاب العقارات بصورة متبادلة من قبيل الحقوق الارتفاقية المترتبة لمصلحة عقار مخدوم على عقار خادم ويبحثها مع هذه الحقوق[8].
المبحث الثاني: أنواع القيود الواردة على حق الملكية
إن المتأمل في المنتوجات الفقهية القانونية لفقهاء القانون المدني عند دراستهم لموضوع الملكية وقيودها، ليلاحظ مدى تنوع الاختلاف في تقسيم مختلف هذه القيود، بل الأكثر من ذلك أن معظم هؤلاء الباحثين ميزوا أثناء دراستهم هاته بين نطاق الملكية وقيودها، والواقع أنه عند التعمق في مضمون هذا النطاق سيستنتج لا محالة أن نطاق حق الملكية يندرج ضمن القيود، ذلك أن هذا النطاق يشمل عند دراسته كل من التفرعات والعلو والعمق، كالقيود الناجمة عن الأنظمة المتعلقة بالمناجم وبالتحف والآثار الفنية، وجلي أن كل هذه القيود تحيط بالملكية، وبالتالي كان من المنطقي دراسة نطاق حق الملكية ضمن قيود هذه الأخيرة وليس استقلالا عنها!
المطلب الأول: القيود المقررة منعا لإساءة استعمال حق الملكية
من المعروف أن الشريعة الإسلامية أقرت مبدأ منع المالك في التعسف في استعمال حقه. وهذا المبدأ يقتضي أنه لا يجوز لأي مالك – وعلى الأخص مالك العقار – أن يستعمل ملكه استعمالا يضر بغيره، ولو لم تتجه نية المالك إلى إحداث ذلك الضرر[9].
أما في القانون الوصفي، فإن معظم القوانين الحديثة أصبحت تأخذ بنظرية التعسف في استعمال الحق، وتمنع عن طريق تطبيقها كل مالك من أن يستعمل ملكه فيما يضر بالآخرين. كما أنها تعترف بحق كل شخص في أن يطالب برفع الضرر اللاحق به من جراء استعمال المالك لملكه استعمالا سيئا.
ومن ذلك ما نص عليه الفصل 906 من القانون المدني الألماني من أنه لا يجبر المالك على أن يتحمل في ملكه الغازات والأبخرة والروائح والدخان والهباب والحرارة والضوضاء والاهتزاز ونحوها إذا كان الضرر الناشئ عنها تافها زهيدا، أو إذا كانت ناشئة عن استعمال العقار استعمالا عاديا حسب عرف المكان.
كما نص الفصل 984 من القانون السويسري على ما يلي: “إن المالك ملزم عن استعمال حقه خصوصا عند استغلال الصناعي أن يمتنع عن كل إفراط يضر بملك الجار، فيمنع على الأخص الضوضاء والاهتزاز والتصاعدات التي ينشأ عنها ضرر والتي تزيد من المقدار الذي يتحمله الجوار.
وفي فرنسا التي لا ينص قانونها على هذه النظرية بصفة صريحة، يسير الاجتهاد على تطبيقها في الميدان العقاري، بالخصوص مستندا في ذلك إلى نظرية المسؤولية التقصيرية التي تعطي الحق لكل شخص تضرر من فعل قام به غيره أن يطلب تعويضا من هذا الغير بمقدار ذلك الضرر.
أما في التشريع المغربي فإن ظهير 19 رجب 1333 قد سكت عن نظرية إساءة استعمال الحق في الحقل العقاري ولم يتطرق إليها[10]. لا بل هو في معرض تعريف الملكية العقارية في الفصل التاسع منه، شدد على ما يمنحه حق الملكية من مكنة استعمال الشيء واستغلاله والتصرف فيه بصورة مطلقة، إن هو أطلق يد المالك في هذا السبيل على أوسع ما في كلمة الإطلاق من معنى.
ولكن قانون الالتزامات والعقود المغربي وردت فيه نصوص تسد النقص وتقر صراحة وجوب الأخذ بنظرية إساءة استعمال الحق في الحقل العقاري: فالقانون المذكور نص في الفصل 77 على أن: “كل عمل يرتكبه الإنسان… ويكون من شأنه أن يحدث ضررا بالغير يلزم مرتكبه بتعويض هذا الضرر”.
وهذه القاعدة هي التي وردت في الفصل 1382 من القانون المدني الفرنسي والتي استند إليها القضاء في فرنسا لإقرار نظرية إساءة استعمال الحق. ثم هو أقر صراحة في الفصل 91 حق الجار في أن يطلب من أصحاب المحلات المضرة بالصحة أو المقلقة للراحة، إما إزالة هذه المحلات، وإما إجراء ما يلزم فيها من التغيير للقضاء على الأضرار التي يتظلم منها، وأوضح أن الترخيص الصادر من السلطات المختصة لا يحول دون ذلك.
ثم إن قانون الالتزامات والعقود المغربي إن منع على الجار في الفصل 92 المطالبة بإزالة الأضرار الناشئة عن الالتزامات العادية للجوار كالدخان الذي يتسرب من المداخن وغيره من المضار التي لا يمكن تجنبها والتي لا تتجاوز الحد المألوف. يعتبر أنه قد منح صراحة للجار الحق في إلزام جاره بإزالة المضار التي تتجاوز الحد المألوف. وقد تبنى القضاء المغربي القاعدة التي تقضي بأن الضرر الذي يحكم برفعه هو الضرر الحال لا المحتمل.
ومن ذلك ما ورد في قرار للمجلس الأعلى عدد 21 بتاريخ 21 يناير 1976 والذي خلص إلى أن الضرر الذي يحق للشخص أن يطلب برفعه إذا توفرت إحدى حالات التعسف في استعمال الحق المنصوص عليها في الفصل 91، 92، 93 من ظهير الالتزامات والعقود هو الضرر المحقق. بأن يكون قد وقع فعلا أو وقعت أسبابه وترامت آثاره إلى المستقبل، أما الضرر الاحتمالي وهو المبني قد يقع وقد لا يقع في المستقبل. فهو ليس ضررا محققا لا يدخل في اعتبار القاضي ولا يصح للشخص أن يقاضي عنه الغير إلا إذا وقع بالفعل[11].
المطلب الثاني: القيود المقررة في سبيل النفع العام
ذكرنا أن القوانين الحديثة تعتبر الملكية نظاما إيجابيا يجب أن يحقق النفع العام إلى جانب تحقيقه لمصلحة صاحب هذا الحق… ولذلك فرضت هذه القوانين عدة قيود على حق الملكية لتحد من سلطة المالك على ملكه، وتمنعه من استعمال ملكه لما فيه مصلحته الخاصة عندما تتعارض مع المصلحة العامة. وما ذلك إلا لأن هذه القوانين أصبحت تعتبر أن المصلحة العامة أولى بالرعاية من المصلحة الخاصة، لأنها أهم وأعم. وبما أن هناك قاعدة تقول بأنه إذا اجتمع ضرران ارتكب أخفهما. فيتعين التضحية بالمصلحة الخاصة عندما تتعارض مع المصلحة العامة.
وبالرجوع إلى ظهير 19 رجب نجده ينص في الفصل التاسع على أن حق المالك في استعمال ملكه والتصرف فيه مقيد بأن لا يستعمل هذا الحق استعمالا تمنعه القوانين والأنظمة.
وهذا يعني أن هناك قوانين وأنظمة تقيد حق الملكية وتمنع المالك من استعمال ملكه فيما يتعارض مع المصلحة العامة، وهذه القيود هي:
أولا: القيود التي تحد من سلطة المالك على العلو الذي فوق أرضه، ليتأتى استغلال ذلك العلو لما فيه المصلحة العامة. ومن هذه القيود:
أ- القوانين والضوابط والتصاميم التي تتعلق بتنظيم المدن وتوسعتها وإنشاء الطرق العمومية بحيث إذا كانت هذه القوانين تمنع البناء في بقعة معينة، أو تحدد علوا معينا للبناء. فإن المالك يصبح حقه في الهواء مقيدا بما تفرضه هذه الأنظمة.
وهذا ما أشار إليه الفصل 15 من ظهير 19 رجب في فقرته الأولى بقوله: يجوز لمالك الأرض أن يقيم عليها جميع أنواع المغروسات والبناءات التي يرتئيها عدا الاستثناءات المنصوص عليها بالقسم التاسع من هذا الظهير وبالظهائر والضوابط الخاصة بالتخطيط وتصاميم توسعة المدن والطرق بوجه عام.
وكلنا يعلم أن هناك عددا من القوانين تتعلق بتخطيط المدن وتنظيم البناء فيها، حيث نجد بعضها يمنع البناء من ناحية معينة، وبعضها يحدد نوع البناء المسموح به في جهة معينة، ومنها ما يحدد عدد الطبقات المسموح بإقامتها، ومنها ما يفرض شكلا معينا للبناء في حي مخصوص.
ب- القوانين التي تنظم الملاحة الجوية، والتي تعطي الحق للمركبات الهوائية بالطيران فوق الأملاك الخاصة ضمن حدود معينة، الشيء الذي لم يبق معه الحق لملاك هذه العقارات في التعرض لأصحاب هذه المركبات، ومنعهم من استعمال هواء عقاراتهم، كما أن هذه الأنظمة تقرر على العقارات المجاورة للمطارات ارتفاقات تحد بمقتضاها حرية أصحاب هذه العقارات في أن يقيموا عليها ما يشاؤون من الأبنية، أو تجاوز حد معين في العلو. فيصبحون بذلك خاضعين لتلك الضوابط والقيود، ولا يبقى لهم الحق في أن يعلوا بناياتهم إلى ما يشاؤون.
وقد صدر في شأن هذه القيود الظهير المؤرخ في فاتح شعبان 1357 موافق 26 شتنبر 1938 عنوانه: إحداث وضبط الحرمات الخصوصية المدعوة الحرمات المفروضة على منفعة الملاحة الجوية. يهمنا منه ما يلي:
أولا: من أجل تسهيل سير الطيارات تحدث بعض الحرمات الخصوصية في جوار ميادين الطيران.
ثانيا: إن سعة هذه المناطق تعين لكل ميدان طيران (الفصل 1). بمقتضى خريطة ترسمها إدارة الأشغال العمومية وتكون قابلة للتغيير حسب هيأة الأماكن وميزان الرياح وغيرهما من الظروف المحلية التي يمكن أن تؤثر على سلامة الملاحة الجوية.
ثالثا: يمنع أن تحدث بداخل هذه المناطق الأشغال التالية إلا برخصة من طرف الأشغال العمومية:
1- إحداث أو صيانة أو الاحتفاظ بأغراس أو حواجز ثابتة يتجاوز علوها ستين سنتيمترا في منطقة عرضها عشرون مترا تحسب ابتداء من الحدود الخارجية لميدان الطيران.
2- إحداث أو صيانة أو الاحتفاظ بحواجز ثابتة أو أغراس يتعدى علوها مترين في منطقة ذات 480 مترا تبتدئ من الحد الخارجي للمنطقة المذكورة أعلاه.
3- إحداث حواجز ثابتة أو أغراس يتجاوز علوها 16 مترا في منطقة ذات مائة متر تبتدئ من الحد الخارجي للمنطقة المذكورة أعلاه.
4- إحداث حواجز ثابتة أو أغراس يتجاوز علوها 20 مترا في المنطقة الموالية للمذكورة أعلاه إلى غاية مائة متر أخرى.
5- إحداث حواجز ثابتة أو أغراس يتجاوز علوها 22 مترا في المنطقة الموالية إلى غاية مائة متر أخرى.
6- إحداث حواجز أو أغراس يتجاوز علوها 24 مترا في المنطقة الموالية إلى غاية مائة متر أخرى (الفصل 2).
رابعا: يمكن أن يؤمر بإسقاط أو تغيير البناءات التي أقيمت داخل المناطق المذكورة قبل إحداث ميدان الطيران إن كانت تتجاوز العلو المشار إليه. وذلك مقابل تعويض (الفصل 8).
خامسا: إذا تسبب إحداث حرمات لمنفعة الملاحة الجوية في ضرر للأملاك التي فرضت عليها هذه الحرمات فيحق لأصحابها ولجميع المستفيدين منها المطالبة بتعويض مناسب عن هذه الأضرار.
ويتعين على المتضرر أن يطالب بالتعويض المذكور داخل سنة من تاريخ نشر القرار الوزيري بالمصادقة على الخريطة التي تحدد هذه المناطق. فإن مضت سنة من غير أن يتوصل مالك الميدان أو المركز بهذا الطلب سقط الحق فيه (الفصل 9).
ج- القوانين التي تنظم حقوق الارتفاقات المقررة على الأملاك الخاصة لمصلحة الخطوط البرقية والهاتفية والتي تعطي الحق للدولة في وضع الأعمدة ومد الأسلاك فوق العقارات.
ظهير 9 شعبان 1332 موافق فاتح يوليوز 1914.
د- القوانين التي تمنع المالك من البناء قرب الأماكن الحربية أو السكك الحديدية.
ثانيا: القيود التي تحد من حق المالك في عمق أرضه. ومنها.
1- القانون الذي ينظم المقالع والمناجم:
ويخضع استثمار ذلك لعدة قواعد وأنظمة يتعين على المالك التقيد بها.
والمقصود بالمقالع: الأماكن التي توجد فيها مواد من غير المواد التي تعتبر مواد منجمية. وذلك كالمواد التي تستخدم في البناء من حجر ورمل ورخام. وكالمحلات التي تحتوي على الفحم النباتي الأصل.
أما المناجم فهي الأماكن التي توجد بها المواد لتي اعتبرها القانون مواد منجمية، وذكرها على سبيل الحصر.
ومنها: أ- الفحم الحجري. ب- المعادن. من حديد ونحاس وزنك وذهب وغيرها. ج- المواد الوقودية سائلة كانت أو غازية. د- الفوسفاط. هـ- الأسفلت.
وبالرغم من أن المواد التي توجد في المقالع تكون عادة بارزة على سطح الأرض. وليست مخبوءة في أعماقها. وهذا يقتضي أن تكون مملوكة لصاحب الأرض. فإن القانون نظم كيفية استغلالها، وبين القواعد التي تتبع في استخراجها. وذلك في ظهير 9 جمادى الثانية 1332 موافق 5 ماي 1914. كما وردت بعض هذه القواعد في ظهير 9 رجب 1370 موافق 16 أبريل 1951 المتعلق بالمناجم.
ونلقي نظرة وجيزة على أهم القواعد التي تطبق على المقالع والمناجم.
أ- ففيما يتعلق بالمقالع. نذكر القواعد التالية:
1- يتعين على كل من يرغب في فتح أو في استغلال مقلع يقع في أرض خاصة أن يقدم تصريحات بذلك إلى وزارة الأشغال العمومية. وكل من فتح أو استثمر مقلعا في أرضه أو أرض غيره من غير أن يتقدم بالتصريح المذكور يتعرض لغرامة نقدية تتراوح بين 25 و 300 فرنك وحبس تتراوح مدته بين ستة أيام وثلاثة أشهر. أو لإحدى هاتين العقوبتين.
2- لا يجوز فتح حفرة أو نفق الأرض إلا على بعد عشرة أمتار أفقية من الأبنية والمنشئات العمومية أو السواقي والغدران والمياه المعدة لاستعمال العموم. كما لا يجوز متابعة العمل في هذه الحفر أو الأنفاق إلى ما بعد المسافة المذكورة.
3- يجب التقيد بالتعليمات الكتابية والشفوية التي يتقدم بها الموظفون المكلفون بمراقبة المقالع.
ب- وفيما يتعلق بالمناجم. نسوق القواعد التالية من الظهير المتعلق بالمناجم.
1- إن المناجم تعتبر ملكا للدولة ولو كانت في أرض مملوكة للخواص. وهذا يعني أن ملكية المناجم مستقلة عن ملكية الأرض التي توجد فيها تلك المناجم (الفصل 5).
2- يحق للدولة وحدها أن تنقب عن الفوسفاط وأن تستثمره (الفصل 6).
3- لا يمكن لأي شخص التنقيب عن غير الفوسفاط إلا بعد الحصول على إجازة تخوله التنقيب (الفصل 8) وهذه الإجازة تعطى بناء على طلب يقدم لدائرة المناجم ويؤدى عنها رسم قانوني (الفصل 24 و 25) وتعين في هذا الإذن المادة المنجمية التي يخول للمأذون له الحق في التنقيب عنها. كما يحدد مكان التنقيب الذي لا يجوز أن يتعدى مربعا طول ضلعه أربعة كيلومترات. كما أن مدة الإجازة تحدد في ثلاث سنوات (الفصل 3) يمكن تجديدها لمدة أربع سنوات أخرى (الفصل 38).
4- يحق للمأذون له بالتنقيب أن يقوم بكل عملية يراها مفيدة لمعرفة المادة المنجمية التي يحث له التنقيب عنها، وكل ما ينفعه في دراستها.
5- لا يحق لهذا المأذون له أن يشرع في أي عمل من أعمال استثمار المادة التي منح الحق في التنقيب عنها إلا إذا حصل على ما يسمى بإجازة الاستثمار، أو ما يسمى بامتياز الاستثمار.
أ- فإجازة الاستثمار تمنح لمن حصل على إجازة التنقيب بناء على طلب يقدمه إلى دائرة المناجم قبل انقضاء مدة إجازة التنقيب. وبعد أن يؤدي الرسم العقاري (الفصل 37).
وهذه الإجازة تمتد أربع سنوات (الفصل 55) يمكن تجديدها لثلاث فترات متوالية، مدة كل فترة أربع سنوات (الفصل 56) وعند انتهاء هذه الفترات يمكن تمديد تلك الإجازة بمقتضى ظهير على أن لا تزيد مدة هذا التجديد على اثنتي عشرة سنة (الفصل 61).
ب- أما امتياز الاستثمار، فيعطى بمقتضى مرسوم ملكي ينشر في الجريدة الرسمية لمن كان قد حصل على إجازة التنقيب أو إجازة الاستثمار عندما يتقدم كل منهما بطلب لدائرة المناجم قبل أن تنتهي مدة إجازته، وبعد أن يؤدي الرسم القانوني (الفصل 75).
ومدة هذا الامتياز خمسون سنة بالنسبة للمواد الهيدروكربونية السائلة والغازية، والإسفلت. وخمس وسبعون سنة لما عداها. ويمكن تجديد هذه المدة عند انتهائها لخمس وعشرين سنة أخرى في الحالتين معا (الفصل 84).
ويتعين على من له حق الامتياز أن يدفع عائدات دورية في فاتح يناير من كل سنة.
6- يتعين على من حصل على إجازة الاستثمار أو امتياز الاستثمار أن ينظم إدارة فنية مقتدرة. كما يجب عليه أن يلتزم بالتوجيهات التي تصدر عن رئيس دائرة المناجم (الفصل 98).
7- يخضع التنقيب عن المواد المنجمية واستثمارها لرقابة الإدارة في كل ما يتعلق بالسلامة العامة، وبسلامة العمال وصحتهم، وبالمحافظة على المناجم، وحماية الينابيع والطرقات العامة والمباني (الفصل 97).
8- كل من نقل عن المواد المنجمية أو استثمرها بدون إجازة أو امتياز يعاقب بالحبس من شهر إلى سنة وغرامة من 12001 إلى 300.000 فرنك. أو بإحدى هاتين العقوبتين.
ولا بأس من التنبيه إلى أن المالكية ينصون على أن المعادن كالذهب والفضة والنحاس، والرصاص. والقزدير، والجوهر، والزرنيخ، والياقوت تعتبر ملكا للإمام (أي الدولة) ولو كانت في أرض مملوكة لشخص معين، وأن الإمام هو الذي يحق له التصرف فيها. إما بالإذن لشخص معين أو لأشخاص في الانتفاع بالمعدن مدة معينة أو غير معينة. وينتهي هذا الإذن بموت المأذون له. كما يمكن للإمام أن يدفع المعدن لمن يستخرجه مقابل نسبة مما يستخرجه منه.
2- القانون الذي ينظم التنقيب عن التحف والآثار الفنية:
ويقيد حق المالك لعقار في أن لا ينقب عن الآثار والتحف إلا ضمن شروط معينة. ويتمثل ذلك القانون في الظهير المؤرخ في 11 شعبان 1364 موافق 21 يوليوز 1945. الذي نستخلص منه القواعد التالية.
1- لا يجوز لأي شخص أن ينقب عن الآثار الفنية ولو في أرض يملكها إلا إذا حصل على ترخيص من وزارة التربية والتعليم (الفصل 37).
2- إذا اكتشفت تحف أو نقود أو آثار فنية صدفة أثناء عمليات الحفر، فيتعين على من قام بهذا الحفر أو من أمر به أن يخبر السلطة البلدية أو المجلس البلدي بهذا الاكتشاف، ويتعين على هذه السلطة أن تمكنه من وصل يثبت تصريحه هذا. كما يتعين عليها أن تخبر وزارة التربية والتعليم بهذا الاكتشاف (الفصل 38).
3- يحق لوزارة التربية والتعليم أن تتملك ما يكتشف من الآثار الفنية إذا طالبت بذلك خلال ستة أشهر من تاريخ إعلامها به. ويتعين عليها في هذه الحالة أن تدفع لمكتشفه تعويضا يحدد بالاتفاق بينهما إن أمكن، وإلا فعن طريق المحكمة (الفصل 42).
4- كل من خالف هذا القانون وخصوصا من قام بالتنقيب عن التحف والآثار الفنية بدون رخصة مسبقة يتعرض لعقوبة بغرامة تتراوح بين 10.000 و 100.000 فرنك.
أما الفقهاء فيعتبرون الآثار الفنية والتحف القديمة من الركاز والكنوز.
فالركاز هو ما عثر عليه في الأرض من المال المدفون قديما (أي قبل الإسلام) كالحلي والتماثيل والأعمدة الرخامية. ويرى هؤلاء الفقهاء أن الذي عثر على شيء من ذلك يملك أربعة أخماسه ويتعين عليه أن يدفع الخمس الآخر للإمام ليدفعه لمن يستحقه، إلا إذا احتاج استخراجه إلى نفقة أو كثير من الجهد والعمل فلا يلزمه حينئذ إلا أن يزكيه.
أما الكنز فهو ما يعثر عليه في الأرض مما دفن فيها بعد الإسلام. ووجدت عليه علامة تدل على ذلك. وحكمه حكم اللقطة. وهو أنه يعرف به سنة، بأن يعلن من عثر عليه بواسطة النداء فلي أبواب المساجد والأسواق. فإن طالب به شخص وأثبت ملكيته له ولو بإعطاء علامات تحدده دفعه له. ويمكنه أن يطالبه بما أنفق عليه في استخراجه وصيانته. وإن مضت السنة ولم يطلبه أحد أمكن لهذا الذي عثر عليه أن يتملكه[12].
ثالثا: القيود التي تحد من حق الملك في التصرف في عقاره حينا يكون هذا التصرف مضرا بالمصلحة العامة: ومن هذه القيود ما يلي:
1- القانون الذي يمنع صاحب بناء يعد من الأبنية الأثرية من إجراء أي إصلاح أو تغيير فيه إلا إذا حصل على الإذن من وزارة التعليم. ويشترط أن يجرى هذا الإصلاح تحت رقابة مفتشية الأبنية الأثرية. كما يمنعه من القيام بهدم البناء الأثري ولو جزئيا، إلا إذا حصل على رخصة بذلك من رئيس الوزراء مبنية على اقتراح من وزارة التربية والتعليم.
2- القانون الذي يقضي بنزع الملكية الجبري مقابل تعويض عادل للمالك. وذلك حينما يكون في نزع الملكية مصلحة عامة.
المطلب الثالث: القيود المقررة لرفع ضرر الجوار
إن ظهير 19 رجب 1333 في البحث الذي خصه لحق الملكية، أهمل ذكر القيود المقررة قانونا منعا لمالك العقار من أن يضر بجاره في سبيل استعمال ملكه أو استغلاله معتبرا مثل هذه القيود من قبيل الارتفاقات القانونية ومتناولا بالتالي عرضها في البحث الذي خصه لحقوق الارتفاق. وهو إذ فعل ذلك يلتقي مع كل من القانون المدني الفرنسي والقانون المدني السوري اللذين هما أيضا عرضا لهذه القيود في معرض البحث في الارتفاقات، ويبتعد عن القانون المدني المصري الذي أورد هذه القيود في البحث الذي خصه لقيود الملكية.
وهذه القيود ليست في حقيقتها من قبيل الارتفاقات، بل هي تشكل التزامات يخضع لها الملاك المجاورون على حد سواء وتؤلف أعباء تقع على أصحاب العقارات المجاورة بصورة متبادلة ينتفي معها وجود عقار خادم وعقار مخدوم كما يقتضيه مفهوم الارتفاق.
ومن الملاحظ أن مشرع ظهير 19 رجب 1333 أعلن في الفصل 115 أن “القانون يكلف المالكين بالتزامات مختلفة بعضهم تجاه بعض بصرف النظر عن كل اتفاقية” ويمثل هذه الالتزامات بالجدار أو الخندق المشترك، والمطلات على ملك الجار، وميزاب السقوف، ويعتبر مع ذلك مثل هذه الالتزامات المترتبة على أصحاب العقارات بصورة متبادلة من قبيل الحقوق الارتفاقية المترتبة لمصلحة عقار مخدوم على عقار خادم ويبحثها مع هذه الحقوق.
ونحن نرى انسجاما مع المبادئ الحقوقية السليمة، أن ننقل التزامات الجوار من إطار الارتفاقات إلى مكانها الطبيعي بين قيود الملكية ونبحث فيها مع هذه القيود.
تعيين القيود المقررة منعا لمضار الجوار:
تتعلق القيود المقررة في سبيل رفع مضار الجوار بالأمور الآتية:
1- الحائط أو الخندق أو السياج المشترك.
2- غرس الأشجار بالقرب من حدود أرض الجار.
3- إسالة مياه المطر الهاطلة فوق سطح الأبنية أو ميزاب السقوف.
4- إقامة منشآت مزعجة أو مضرة بالجيران.
5- فتح المطلات على الأرض المجاورة.
فلنبحث على التتابع في كل من هذه القيود.
الحائط أو الخندق أو السياج المشترك
الترتيب الذي اتبعه المشرع:
إن مشرع ظهير 19 رجب أسهب وأطال في البحث الذي خصه للحائط أو الخندق أو السياج المشترك والذي يقع في الفصول 116 إلى 132.
وهذه النصوص المأخوذة حرفيا عن القانون المدني الفرنسي تبين بالتفصيل الحقوق التي يتمتع بها الشريك في الحائط أو الخندق أو السياج المشترك، وما يقابل هذه الحقوق من قيود والتزامات.
وقد بدأ المشرع بالبحث في الحائط المشترك (Mur mitoyen) ثم انتقل إلى البحث في الخندق المشترك (Fossé mitoyen) ثم في السياج المشترك (Haie mitoyenne).
ونحن سنسير على نهجه فنعرض أحكام الحائط المشترك ثم أحكام الخندق المشترك ثم أخيرا أحكام السياج المشترك.
أحكام الحائط المشترك:
تتلخص هذه الأحكام بما يلي:
أ- كل حائط يفصل بين الأبنية أو بين الباحات والحدائق أو حتى بين الحقوق المسورة وذلك سواء في المدن أو في البوادي يفترض أنه مشترك ما لم يوجد سند أو دلالة على العكس (الفصل 116).
وقد ذكر المشرع على سبيل الأمثلة التي يمكن معها الاستدلال على أن الحائط غير مشترك كون قمة الحائط مستقيمة وعمودية من جهة ومنحدرة من الجهة الأخرى، أو كونه لا يوجد إلا من وجهة واحدة فقط طنف أو نقوش ونواتئ حجرية تكون قد وضعت عند بناء الحائط حيث يعتبر الحائط جاريا على وجه الاستقلال في ملكية من يوجد من جهته الانحدار أو تلك النواتئ والنقوش (الفصل 117).
ب- إن إصلاح الحائط المشترك وبناءه يقعان على عاتق جميع ملاك الحائط المشترك كل منهم بنسبة حصته في هذا الحائط (الفصل 119). فإذا كان العقاران المجاوران اللذان يفصلهما الحائط المشترك جاريا كل منهما في ملكية شخص واحد اشترك الطرفان مناصفة في تحمل نفقات إنشاء وإصلاح هذا الحائط[13].
أما إذا كان كل من العقارين أحدهما جاريا على الشيوع بين عدة ملاك، فكل من هؤلاء يسهم في هذه النفقات بقدر حقه في العقار المشاع. على أن للشريك في الحائط المشترك التحلل من هذا العبء وعدم المساهمة في نفقات الإصلاح أو إعادة البناء إذا تخلى عن حقوقه في الحائط شرط أن لا يكون له بناء يستند إلى الحائط المذكور (الفصل 120).
ج- يحق لكل من ملاك الحائط المشترك أن يقيم بناء بجانب هذا الحائط وأن يغرز ركائز في عرض الحائط المذكور كله شرط أن يترك من سمكه خمسة وخمسين ميليمترا تقريبا مع مراعاة حق الجار، في الحالة التي يرغب فيها وضع ركائز في المكان نفسه أو إسناد مدخنة إلى الحائط، في ألزم جاره برد الركائز إلى منتصف سمك الحائط (الفصل 121).
د- لكل من ملاك الحائط المشترك الحق في تعلية هذا الحائط شرط أن يتحمل وحده نفقات صيانة الجزء المعلى وسائر ما يترتب على التعلية من تكاليف أخرى (الفصل 122).
وإذا كان الحائط المشترك لا يتحمل التعلية فعلى الراغب في التعلية أن يعيد بناء الحائط بأكمله على نفقته وحده والأرض اللازمة لزيادة سمك الحائط تؤخذ من جهته (الفصل 123).
هـ- لا يستطيع الجار إحداث أي ثغرة في هيكل الحائط المشترك أو وضع أو إسناد أي منشآت عليه دون موافقة شريكه، وفي حالة رفض هذا الشريك، يلجأ إلى الخبرة لتعيين الوسائل الواجب إتباعها حتى لا تلحق المنشآت المنوي إحداثها أي ضرر بحقوق الشريك (الفصل 124).
و- لا يجبر أحد على التنازل لجاره عن حقه في الجدار المشترك. على أنه في حالة إقدام أحد الشركاء على تعلية الحائط المشترك، فإن من حق الشريك الآخر الذي لم يسهم في التعلية، إن يكتسب حق الشركة في القسم المعلى شرط أن يدفع نصف النفقات التي استلزمتها التعلية وكذلك عند الاقتضاء نصف قيمة الأرض المستعملة لزيادة سمك الحائط (الفصل 125).
ز- عندما يعاد بناء حائط مشترك (أو دار) تستمر الارتفاقات الإيجابية والسلبية إزاء الحائط الجديد (أو الدار الجديدة) دون أي زيادة في الأعباء التي كانت تفرضها هذه الارتفاقات من قبل (الفصل 127).
أحكام الخندق المشترك:
تتلخص هذه الأحكام بما يلي:
أ- كل خندق يفصل بين قطعتي أرض متجاورتين يفترض أنه مشترك ما لم تكن إحدى القطعتين فقط مسورة أو ما لم يوجد سند أو دلالة على العكس.
وقد ذكر المشرع كمثال يمكن الاستدلال منه على أن الخندق غير مشترك، كون الأتربة الناجمة عن حفر الخندق ملقاة في جهة واحدة من الجهتين حيث يعتبر الخندق جاريا على وجه الاستقلال في ملكية من توجد الأتربة من جهته (الفصل 128).
ب- إن صيانة الخندق المشترك تقع على عاتق الشركاء، ولكن للشريك التحلل من هذا الالتزام بتنازله عن حقوقه في الخندق، ما لم يكن الخندق يستعمل عادة لإسالة المياه حيث لا يجوز التحلل من المساهمة في أعمال الصيانة (الفصل 129).
ج- إذا كان الخندق المشترك معدا لتسوير الأرض فحسب (أي لا يستعمل لغرض آخر كأن يكون معدا أيضا لإسالة المياه) فإنه يجوز لأحد الشركاء أن يردم الخندق إلى حد ملكه شرك أن يقيم حائطا على هذا الحد (الفقرة الأخيرة من الفصل 130).
د- لا يستطيع الجار الذي تتصل أرضه بخندق غير مشترك أن يلزم مالك هذا الخندق على التنازل له عن نصف هذا الخندق ليصبح مشتركا بينهما (الفقرة الأولى من المادة 130).
أحكام السياج المشترك:
تتلخص أحكام السياج المشترك بما يلي:
أ- يجوز لمالك السياج المشترك إتلاف هذا السياج إلى حد ملكه شرط أن يبني حائطا على هذا الحد (الفقرة الثانية من الفصل 130).
ب- في الحالة التي يكون فيها السياج مشتركا، فإن جميع ما يغله من ثمار ومنتجات يعود لمالكي السياج مناصفة (الفصل 131).
ج- إن الأشجار الموجودة ضمن السياج تعتبر مشتركة كالسياج نفسه، وكذلك تعتبر مشتركة الأشجار المغروسة على الخط الفاصل بين عقارين. فإذا يبست هذه الأشجار أو قطعت فإنها توزع مناصفة سواء سقطت طبيعيا أو نتيجة عمل أو قطعت.
ولكل من ملاك السياج المشترك أن يطالب بقلع الأشجار المشتركة (الفصل 132).
د- لا يستطيع الجار الذي تتصل أرضه بسياج غير مشترك أن يلزم مالك هذا السياج على التنازل له عن نصف السياج ليصبح مشتركا بينهما (الفقرة الأولى من الفصل 130).
2- غرس الأشجار بالقرب من حدود أرض الجار
القيود المتعلقة بغرس الأشجار بالقرب من حدود أرض الجار:
أجاز ظهير 19 رجب أن يكون لمالك الأرض أشجار أو شجيرات أو أغراس بالقرب من حدود الأرض المجاورة. ولكنه قيد هذا الحد بالقيود التالية:
يجب أن تبتعد هذه الأشجار عن أرض الجار المسافة التي تقررها الأنظمة أو الأعراف الثابتة والمسلم بها. وفي حالة عدم وجود أنظمة فيجب أن تبتعد الأشجار مسافة مترين اثنين من الخط الفاصل بين الأرض المغروسة فيها وبين الأرض المجاورة إذا كانت هذه الأشجار مما يتجاوز علوها مترين ومسافة نصف متر فقط لغير ذلك من الأغراس (الفقرة الأولى من الفصل 133).
وإذا ما غرست أشجار كبيرة أو صغيرة دون التقيد بالمسافة القانونية فإن من حق الجار المطالبة بقلع هذه الأشجار أو شذبها لإرجاعها إلى العلو المعين قانونا وذلك ما لم يوجد سند أو اتفاق على خلاف ذلك.
على أنه إذا ماتت الأشجار أو إذا قطعت أو قلعت فإنه لا يجوز للجار في أي حال أن يغرس بدلا عنها إلا بمراعاته للأبعاد القانونية (الفصل 134).
ب- يجب أن لا تتجاوز أغصان الأشجار المغروسة بالقرب من أرض الجار على علو أرض هذا الجار كما يجب أن لا تمتد جذور هذه الأشجار داخل الأرض المذكورة وإلا فإن من حق الجار المطالبة بقطع الأغصان المتجاوزة أو المبادرة إلى قطع الجذور الممتدة داخل أرضه بنفسه.
وتجدر الملاحظة إلى أن الثمار التي تسقط بصورة طبيعية من الأغصان المتجاوزة على أرض الجار تكون من حق هذا الجار (الفصل 135).
ج- إذا كان يفصل بين الأراضي المتجاوزة حائط مشترك فإنه يمكن غرس أشجار كبيرة وصغيرة ملاصقة للحائط الفاصل وعلى كل جهة من جهتيه، دون ترك أية مسافة كانت بين الحائط والمغروسات غير أن ذلك مقيد في أن لا تعول هذه الأغراس قمة الحائط (الفقرة 2 من الفصل 133).
أما إذا كان الحائط الفاصل غير مشترك فإن لمالكه وحده الحق في إسناد أغراسه (الفقرة الثالثة من الفصل 133).
3- إسالة مياه المطر الهاطلة فوق سطوح الأبنية
وجوب إسالة هذه المياه على أرض صاحب البناء أو على طريق عام:
ليس لأحد أن يدع مياه الأمطار الهاطلة فوق سطوح أبنيته تسيل على عقار غيره، بل يجب أن يجعلها تسيل على أرضه أو على الطريق العام وفقا لأحكام الفصل 141 من ظهير 19 رجب وبمقتضاها على كل مالك عقار أن يبني سطوحه بصورة تسيل معها مياه الأمطار في أرضه أو في لطريق العمومية، ولا يجوز له إسالة هذه المياه في الأرض المجاورة.
4- إقامة منشآت مزعجة أو مضرة بالجيران
وجوب التقيد بالأنظمة والأعراف:
ورد في الفصل 136 “أن من يقوم بحفر بئر أو مرحاض قرب جدار مشترك أو غير مشترك ومن يريد أن يبني هنالك مدخنة أو مصطلى أو محلا للحدادة أو فرنا أو مطبخا أو أن يسند عليه حظيرة للماشية أو يقيم بجانب هذا الجدار مخزنا للملح أو أكداسا من المواد الأكالة يجب عليه أن يبتعد عن الجدار المقدار المقرر بالأنظمة والأعراف الخاصة بهذه الأشياء أو أن يقيم المنشآت المقررة بنفس الأنظمة والأعراف تفاديا للأضرار بالجار.
وتجدر الإشارة إلى أن مثل هذه المنشآت إذا كانت، رغم التقيد بالمسافة القانونية تلحق بالجوار أضرارا تفوق الحدود المألوفة فإن من حقهم، عملا بالفصل 91 من قانون الالتزامات والعقود أن يطالبوا قضائيا إما بإزالة هذه المنشآت أو بإدخال ما يلزم عليها من التغيير للقضاء على الأضرار التي يتظلمون منها.
في ظهير 19 رجب:
نهج المشرع المغربي على غرار القانون المدني الفرنسي واكتفى بإلزام صاحب المطل على التقيد ببعض المسافات بالنسبة لأرض الجار. ولكنه وجد، زيادة في الحيطة أن يوسع الحالات التي يجب أن تتوفر فيها شروط إضافية في المطلات من حيث بناؤها معتبرا أن ذلك مما يزيد في ضمان رفع الضرر عن الجار.
ولابد لبيان أحكام المطلات من التمييز بين فرضيتين:
الفرضية الأولى: أن يكون الحائط الفاصل بين الجوار حائطا مشتركا.
الفرضية الثانية: أن لا يكون هذا الحائط مشتركا بل جاريا في ملكية صاحبه على وجه الاستقلال.
فرضية الحائط المشترك:
عندما يكون الحائط الفاصل بين عقارين حائطا مشتركا فإنه يمتنع على الجار حسب ما ورد عليه النص في الفصل 137 أن يفتح فيه أي مطل بأي كيفية كانت ولو لإدخال النور فحسب وحتى لو كان من زجاج نصف شفاف، إلا إذا وافق جاره على ذلك، أما إذا رفض هذا الأخير فلا سبيل لفتح المطل أبدا.
وعليه يستطيع الشريك في الحائط المشترك أن يمنع جاره من فتح أي مطل في هذا الحائط دون أن يكون ملزما على بيان أسباب موقفه السلبي، وما من سبيل للجار الذي يرغب فتح مطل في الحائط المشترك إلا الحصول على موافقة جاره لأن هذه الموافقة هي وحدها التي تمكنه من تحقيق رغبته.
فرضية الحائط غير المشترك:
عندما يكون الحائط المراد فتح مطل فيه غير مشترك أي جاريا في ملكية بانيه على وجه الاستقلال، فيجب التفريق بين ثلاثة أنواع من المطلات.
أ- المطلات التي يقصد منها إدخال النور فقط.
ب- المطلات التي تستعمل لإدخال الهواء والنور وللنظر منها إلى الخارج.
ج- الشرفات والأطناف الأخرى.
أ- فالمطلات التي يقصد منها نفاذ النور فقط وهي ما عبر عنها القانون “بالمناور”، يمكن فتحها مهما قربت المسافة بين الحائط المفتوحة فيه وبين الأرض المجاورة بل حتى لو كان الحائط مبنيا على الحد الفاصل بين العقارين، شرط أن تفتح على علو معين. وقد حدد ظهير 19 رجب هذا العلو بمترين وستين سنتيمترا من أرض الغرفة المراد إضائتها إذا كان الطابق أرضيا وبمتر وتسعين سنتيمترا من أرض الغرفة إذا كان الطابق علويا[14]. وأضاف المشرع إلى شرط العلو الذي اكتفى فيه كل من المشرع السوري والمصري الشرطين التاليين:
1- أن تكون في هذه المطلات شبكات من حديد لا تتجاوز دائرة فتحاتها عشر سنتيمترات على الأكثر.
2- وأن تكون هذه المطلات مغطاة بزجاج ثابت نصف شفاف.
ب- أما بالنسبة للمطلات التي يكون استعمالها لإدخال النور والهواء والنظر أيضا منها إلى الخارج، فيجب التمييز بين المطلات المقابلة أي التي تطل على عقار الجار مباشرة وبخط مستقيم، وبين المطلات الجانبية أو المنحرفة التي لا تسمح بالنظر إلى عقار الجار إلا إذا انحنى المطل أو التفت يمينا أو شمالا.
فالمطلات المقابلة لا يمكن فتحها على أرض الجار سواء كانت مسورة أو غير مسورة ما لم يكن بين الحائط الذي يكون فيه المطل وبين تلك الأرض مسافة متر وتسعين سنتيمترا (الفقرة الأولى من الفصل 139)[15].
والمطلات المنحرفة لا يمكن فتحها ما لم يكن بين الحائط المفتوحة فيه وبين الأرض المجاورة مسافة حددها ظهير 19 رجب بستين سنتيمترا (الفقرة الثانية من الفصل 139)[16].
ج- أما الشرفات، أي النتوءات في البناء المعدة للنظر إلى الخارج أو الأطناف الأخرى، فقد اعتبرها ظهير 19 رجب على الإطلاق في حكم المطلات المقابلة، فلا يمكن إنشاؤها إلا على بعد متر وتسعين سنتيمترا من أرض الجار سواء كانت هذه الأرض مواجهة أم مجانية للشرفات (الفقرة الأولى من الفصل 139).
د- يضاف إلى ذلك أنه في بعض الأحيان التي يجري تعيينها بقرارات بلدية أوجب المشرع في النوافذ والشرفات المطلة على داخل مسكن جار دون أن تفصل بين المسكنين طريق عمومية أن تكون مجهزة بمصاريع أو شبابيك خارجية ثابتة ومكونة من صفائح أفقية وذلك على ارتفاع متر وتسعين سنتيمترا فوق الأرضية (الفقرة قبل الأخيرة من الفصل 140).
المطلب الرابع: القيود الاتفاقية
يطرح تساؤل في منتهى الأهمية يتمحور حول إمكانية سلطان الإرادة من أن يقيد حق الملكية الذي يعتبر من النظام العام؟!أي هل يستطيع الأفراد عن انتقال ملكية العقار بعمل من الأعمال القانونية أن يشترطوا عدم جواز التصرف فيه؟ وذلك في وقت تحررت فيه الملكية العقارية الخاصة من الشكليات التي كانت أسيرتها، بحيث لم تعد الأرض مركز السيادة والسلطة بل أصبحت لها وظيفة اقتصادية هي التداول بحرية، وتوفير القرض أو التمويل الضروري لحائزها، بل أكثر من ذلك أصبحت الملكية العقارية الخاصة بعدما بدأت الدولة تتدخل في الحياة الاقتصادية تجعل منها القاعدة الأساسية لكل نمو وتقدم[17].
والأصل أن مثل هذه الاشتراطات غير جائز نظرا للاعتبارات التي ذكرنا سابقا. ومن تم نجد أن الفقهاء هاجموا مثل هذه الاشتراطات عندما ظهرت في الحياة العملية وكذلك فعل القضاء الفرنسي حيث قضى في أول الأمر ببطلانها إلا أن منطلق الواقع في الحياة العملية. كان أقوى من منطق القانون.
فقد ظهر وجود حالات يستند فيها المنع إلى مبررات عملية معقولة، ومن تم أخد بصحة مثل هذه الاشتراطات إذا كانت تقوم على مصلحة جدية.
كذلك لم يرد نص يقر صراحة هذه القيود في قانون الالتزامات والعقود. إنما يصح الاستناد لنص الفصل 492 للقول بأن المشرع المغربي أقر مبدأ صحة القيود الاتفاقية. فقد ورد في الفصل المذكور أنه “بمجرد انعقاد البيع، يسوغ للمشتري التصرف في الشيء المبيع ولو قبل حصول التسليم… وذلك ما لم يتفق العاقدان على خلافه” الأمر الذي يترتب عليه اعتبار عقد البيع المتضمن قيدا يمنع المشتري من التصرف في المبيع قبل انقضاء زمن معين، عقدا صحيحا والقيد معتبرا.
ثم إن نصا ورد في مدونة الأسرة أجاز صراحة القيود الاتفاقية في حقل الوصية. ورغم أن النص ورد قاصرا على الوصية فإننا نستطيع عن طريق القياس تعميم حكمه على سائر التصرفات القانونية.
وهكذا فالتشريع المغربي يلتقي مع التشريعات الحديثة من حيث إقرار سواغية القيود الاتفاقية شرط وجود المنفعة المشروعة لأحد المتعاقدين أو للغير من جهة، وكون القيد مقصورا على مدة معقولة من جهة ثانية.
وأنه لما يؤيد وجهة النظر هذه أن الفصل 69 من ظهير 9 رمضان 1331 أشار صراحة إلى القيد الذي يرد على الحق في التصرف في الحق العيني وطبق على هذا القيد قاعدة الشهر والعلانية التي تخضع لها الحقوق العينية المترتبة على العقارات المحفظة، وأوجب تسجيله في السجل العقاري لينتج آثاره بين المتعاقدين، ويكون ساري المفعول إزاء الغير. فقد ورد في الفصل 69 المذكور أن على كل شخص يطلب تسجيل حق من الحقوق أن يقدم إلى المحافظة قائمة تتضمن تعيين العقار الذي يجب أن يقع عليه التسجيل وبيان نوع الحق المطلوب تسجيله وطريقة اكتساب هذا الحق، وكذلك عند الاقتضاء بيان ما يطلب تسجيله في نفس الوقت الذي يطلب فيه تسجيل الحق الأصلي من (…قيد على الحق في التصرف أو أي تقييد خاص آخر…) الأمر الذي يمكن معه الجزم أن المشرع المغربي يقر صحة القيود الاتفاقية التي من شأنها تقييد حرية المالك في التصرف في ملكه.
خاتمة:
ونظن انطلاقا مما سبق ومن غيره، وهذا طرحنا الشخصي في هذا الموضوع. أن نظرة الفقه عموما إلى كون حق الملكية هو حق مطلق يرد عليه استثناءات هي نظرة ضيقة لا تترجم وضعية وما أصبح عليه حق الملكية من تغيير أصابه إذ أمسى هذا الحق حقا نسبيا. ومن تم فإصباغ صفة المطلق عليه لا يتماشى ووضعية حق الملكية الحالية وخصوصا مع تنامي الانعكاسات الاجتماعية والاقتصادية عليه، ما يجعلنا نقر بنظرية نسبية حق الملكية، هذه النسبية التي توصل إليها أخيرا فقهاء القانون الوصفي بعد أن كان للفقه الإسلامي السبق في إقرارها باعتبار أن الله سبحانه وتعالى هو المالك الحقيقي وأن الإنسان هو المستخلف، وانطلاقا من قاعدة هي من أهم قواعد الفقه الإسلامي وهي قوله صلى الله عليه وسلم: “لا ضرر ولا ضرار”.
لائحة المراجــع
مأمون الكزبري: التحفيظ العقاري والحقوق العينية الأصلية والتبعية في ضوء التشريع المغربي، الجزء II، الحقوق الأصلية والتبعية، الطبعة الثانية 1987 مزيدة ومنقحة.
مصطفى محمد الجمال: نظام الملكية، منشأة المعارف الإسكندرية.
محمد ابن معجوز: الحقوق العينية في الفقه الإسلامي والتقنين المغربي، مطبعة النجاح الجديدة، طبعة 2008.
مصطفى السباعي: اشتراكية الإسلام، الطبعة الثالثة 1970.
محمد المداوي: في بعض مبادئ الفقه الإسلامي المنظمة للعقار، السلسلة العقارية الجزء I، الطبعة الأولى 2000.
عبد الرزاق السنهوري: الوسيط في شرح القانون المدني الجديد، الجزء الثامن حق الملكية مع شرح مفصل للأشياء والأموال، الطبعة الثالثة، منشورات الحلبي الحقوقية، بيروت لبنان 1998.
رسائل وأطروحات :
بوغرت أحمد: القيود الاتفاقية الواردة على الملكية العقارية الخاصة، رسالة نوقشت بجامعة محمد الخامس كلية العلوم الاقتصادية والاجتماعية أكدال 1999-2000.
لطيفة بوحوص: إشكالية الاستثمار العقاري بين متطلبات القانون ورهانات التنمية، منشورات المجلة المغربية للإدارة المحلية والتنمية، الطبعة الأولى 2007.
القـــرارات:
قرار عدد 21 بتاريخ 1976.1.21 منشور بمجلة القضاء والقانون عدد 27، ص 71.
[1] مصطفى محمد الجمال: نظام الملكية، منشأة المعارف الإسكندرية.
[2] مأمون الكزبري: التحفيظ العقاري والحقوق العينية الأصلية والتبعية في ضوء التشريع المغربي، الجزء II، الحقوق الأصلية والتبعية، الطبعة الثانية 1987 مزيدة ومنقحة.
[3] بوغرت أحمد: القيود الاتفاقية الواردة على الملكية العقارية الخاصة، رسالة نوقشت بجامعة محمد الخامس كلية العلوم الاقتصادية والاجتماعية أكدال 1999-2000.
[4] مصطفى السباعي: اشتراكية الإسلام، الطبعة الثالثة 1970.
[5] محمد المداوي: في بعض مبادئ الفقه الإسلامي المنظمة للعقار، السلسلة العقارية الجزء I، الطبعة الأولى 2000.
[6] لطيفة بوحوص: إشكالية الاستثمار العقاري بين متطلبات القانون ورهانات التنمية، منشورات المجلة المغربية للإدارة المحلية والتنمية، الطبعة الأولى 2007.
[7] عبد الرزاق السنهوري: الوسيط في شرح القانون المدني الجديد، الجزء الثامن حق الملكية مع شرح مفصل للأشياء والأموال، الطبعة الثالثة، منشورات الحلبي الحقوقية، بيروت لبنان 1998.
[8] مأمون الكزبري: التحفيظ العقاري والحقوق العينية الأصلية والتبعية في ضوء التشريع المغربي، الجزء II، الحقوق الأصلية والتبعية، الطبعة الثانية 1987 مزيدة ومنقحة.
[9] محمد ابن معجوز: الحقوق العينية في الفقه الإسلامي والتقنين المغربي، مطبعة النجاح الجديدة، طبعة 2008.
[10] مأمون الكزبري: المرجع السابق.
[11] قرار عدد 21 بتاريخ 1976.1.21 منشور بمجلة القضاء والقانون عدد 27، ص 71.
[12] مأمون الكزبري، المرجع السابق.
[13] ابن معجوز، المرجع السابق.
[14] يلاحظ أن المشرع المغربي إذ حدد العلو بهذا القدر يلتقي مع القانون المدني الفرنسي. ويختلف عن كل من القانون المدني السوري والقانون المدني المصري: فالقانون المدني السوري حدد العلو بمترين ونصف في الطابق الأرضي وبمتر وتسعين سنتيمترا في الطابق العلوي، أما القانون المدني المصري فقد اكتفى بأن تعلو قاعدة المناور عن قامة الإنسان المعتادة سواء كان الطابق أرضيا أو علويا (راجع الفقرة الثانية من الفصل 970 من القانون المدني السوري، والفصل 821 من القانون المدني المصري).
[15] هنا أيضا لئن كان ظهير 19 رجب يلتقي مع القانون المدني الفرنسي فهو يبتعد عن كل من القانون السوري الذي حدد هذه المسافة بمترين (الفقرة الأولى من الفصل 970) وعن القانون المدني المصري الذي حددها بمتر واحد (الفصل 819).
[16] هنا كذلك يلتقي ظهير 19 رجب مع القانون المدني الفرنسي ولكنه يبتعد عن كل من القانون المدني السوري والقانون المدني المصري اللذين اتفقا على تحديد هذه المسافة بنصف مثر (الفصل 971 من القانون المدني السوري والفصل 820 من القانون المدني المصري).
[17] بوغوت أحمد: المرجع السابق
.bibliotdroit.com