كتابة الضبط بالمحاكم ، المرجعية وأسس الإصلاح
يصعب الإلمام بالغنى المميز لمفهوم القضاء، وتعزيز استقلاله وبمكوناته وأبعاده النظرية، وتطبيقاته العملية، وبتطوراته وبما يعرفه من نقد علمي ومنهجي إلى غاية الوقت الراهنغير أنه على الأقل يمكن اقتراح توضيح مفاهيمي مدعوم بنظرة استرجاعية، من خلال المحاور، التي حددها صاحب الجلالة الملك محمد السادس في خطاب 20 غشت 2009، بمناسبة الاحتفال بالذكرى 56 لثورة الملك والشعب، التي لها أسبقية في هذا الإصلاح المتمثل في دعم ضمانات الاستقلالية، وتحديث المنظومة القانونية، وتأهيل الهياكل القضائية والإدارية والموارد البشرية تكوينا، وأداء، وتقويما، والرفع من النجاعة القضائية، من أجل ترسيخ العدالة والمساواة، إلى جانب أهميته في التنمية الاقتصادية والتشجيع على الاستثمار.
فاختيار القاضي في واقع الحال أمر أساسي، لأن الشخص الذي يؤتمن على الحريات والأعراض والأموال والأسرار، ويقوم النفوس المنحرفة هو في الحقيقة طبيب اجتماعي، ومن هذا المبدأ يجب أن يكون القاضي ملما بقواعد السلوك البشرية من ميول ونزاعات، وغرائز وأحاسيس، ومطلعا على عادات المجتمع وتقاليده وأعرافه، عالما بمشاكل الناس وقصصهم، إذ لا يكفي في القاضي أن يكون على دراية كبيرة بالنصوص القانونية وحدها، بل لا بد أن يكون متمرسا في مجاله، لأن المهمة الملقاة على عاتقه شاقة، بحيث أصبح للقاضي اليوم دور في التنمية وتدبير الحل السياسي والاقتصادي والاجتماعي للدولة الحديثة في جميع الميادين، وكذلك دعم ثقافة المجتمع المدني.
فمشروع إصلاح القضاء ينبغي أن يبدأ من القوانين واختيار الأشخاص، الذين سيتولون مهنة القضاء، ويتعين إعادة النظر في الشروط، التي تضمنها النظام الأساسي لرجال القضاء، باعتبارها غير كافية لاختيار القاضي، فالأشخاص الذين سيتولون هذه المهمة يجب اختيارهم من موظفي كتابة الضبط والمحامين والمهن القضائية الأخرى، الذين قضوا عشر سنوات من الخدمة الفعلية، بعد إجراء اختبار، وبحث جدي لأخلاقهم وسلوكهم وقدراتهم، وإلغاء الطريقة التقليدية المتجاوزة المعمول بها في هذا المجال والمتمثلة في عنصري السن، وعدم جواز اجتياز المباراة لأكثر من مرتين. واستبعاد طريقة “بضاعتنا ردت إلينا” في سرد بعض المعلومات النظرية المعمول بها في النطاق الأكاديمي على مستوى الامتحانات الجامعية.
فالسؤال المطروح، هل كليات الحقوق قادرة اليوم على إنتاج قضاة بالشكل الذي نتكلم عنه ونطمح إليه؟ نعتقد أن ذلك من المستحيل، نظرا لظروف الأساتذة والطلبة وطرق التدريس، فالطالب الآن في كلية الحقوق يحصل على الإجازة، خلال ثلاث سنوات من الدراسة الجامعية، إذ يدرس مادة القانون المدني، خلال شهر واحد، ويطل من النافذة على المبادئ العامة للقانون الجنائي.
فالوضع يحتم الاطلاع على تجارب الدول الشبيهة بالنظام القضائي المغربي في مجال إدماج أطر كتابة الضبط ذوي التجربة والأقدمية المهنية في سلك القضاء، كما لا ينبغي تجاهل الطاقات الفكرية والعلمية، التي يزخر بها هذا الجهاز من دكاترة وباحثين، وفقهاء في الإجراءات المسطرية من مختلف السلالم بحكم الممارسة التي دامت لسنوات عديدة، إضافة إلى رؤساء كتابة الضبط، الذين خبروا المسالك والمهالك في مختلف القضايا والدعاوي، منذ افتتاح الملفات، وصولا إلى تنفيذ أحكامها، كما ينبغي أن تتضمن بعض التصريحات الرسمية من خلال وسائل الإعلام عدم تجاهل دور الموظف في كتابة الضبط، الذي يتفانى في خدمة القضاء، ومقارنة دوره وظروفه بموظفي باقي القطاعات الأخرى، وكذا حضوره الإلزامي في كافة المراحل والمساطر، وتحميله مسؤولية كبيرة في بعض المجالات، التي تقتضي الدقة، والسرية، واليقظة..
فجهاز كتابة الضبط بالمحاكم عادة ما يفرض لدى الباحثين مقاربات انتقائية، نظرا لدقة التخصصات، أو لعوامل التصور الإيديولوجي الذي يحرك غرائز الاستقرار، ومن جملة المقاربات الانتقائية أن يحلل الإصلاح القضائي الشامل بمعزل عن هذا الجهاز، فالإصلاح الشامل كان له ما يعززه من خريطة طريق واضحة المعالم في الخطاب السامي لصاحب الجلالة الملك محمد السادس، من خلال توسيع نطاق المشاركة، وترسيخ البناء اللامركزي، وتوزيع الصلاحيات، وهذا يستلزم وضع قانون أساسي محفز يتضمن تعويضات منصفة، قصد الوصول إلى النتيجة المرجوة.
فإصلاح القضاء يفرض علينا بكل وضوح وشفافية أن نتحدث عن الجسم ككل، مما يتطلب إعادة ترتيب الأوراق، وإعادة النظر في الآليات التي يشتغل بها، لتجاوز التحدي المتمثل في كيفية التغلب على الصعوبات لتفعيل وتدبير الإصلاح عبر مراحل بشكل شمولي، وليس جزئي، من خلال البحث عن إمكانية ابتكار الوسائل، واقتراح الديناميكية الإصلاحية، التي يعرفها جهاز العدالة، حيث يعتبر ورش إصلاح كتابة الضبط بالمحاكم في عمق هذه الدينامية، إيمانا بخصال الحوار الإيجابي وتبادل الأفكار وتحليل التجارب المقارنة، والتصدي لكل محاولات العرقلة والتعطيل والإفساد مهما كان مصدرها، ورصد الوسائل البشرية والمادية اللازمتين لذلك، قصد الرفع من حرمة القضاء وفعاليته وإنتاجه الكمي والنوعي، ومن مناعته وحصانته.
فكتابة الضبط تشكل اليد اليمنى لهذا الجسم، إذ على يدها تولد كل الملفات الرائجة بالمحاكم وعلى يدها تموت، وبالتالي يستدعي الأمر تحديث هذا الهيكل، ضمانا لاستقلاله، مع وضع آليات لتمكين كل محكمة من تدبير شأنها بنفسها، والعناية بالمهن القضائية، ويجب أن ينص على استقلال كتابة الضبط عن الغير، كما هو الحال بالنسبة للقضاة لدعم الكفاءة المهنية والتفاني في العمل والاجتهاد في القيام بالواجب، كما يستلزم الأمر الرفع من مكانة كتابة الضبط، سواء على مستوى التكوين المستمر أو من ناحية الإمكانيات البشرية والمادية، ضمانا لأجواء سليمة تمكن كتابة الضبط بالمحاكم من القيام بأدوارها دون تدخل أو مضايقة أو ترهيب أو تأديب صريح أو مقنع.
إضافة إلى اقتراح الحلول للإشكاليات، التي تؤثر سلبا على سير المحاكم، وثقة المواطن في عدالته التي يريدها متطورة وفعالة بما فيه الاستقبال الجيد للمتقاضين، ومباشرة الملفات القضائية، والفعالية في التبليغ والطبع المنتظم والشامل للأحكام القضائية، وتصفية القضايا دون بطء في ظل الحكامة الجيدة لإدارة المحاكم.
إعداد:ذ/سيدي محمد حاجي