لهث القانون وراء تهافت العلم والتكنولوجيا
حيوية القانون الدائمة من خلال التطورات الجذرية المنصبة عليه منذ فجر التاريخ وفي مراحلة أساسية متتابعة أهمها : الهيمنة المتواصلة للقانون التجاري على القانون المدني ووصولها إلى ظهور قانون اقتصادي مواز لقانون إنساني؛ ثم الهيمنة المتواصلة للقانون الجنائي وتأثيرها على مختلف حقول الشريعة العامة وفروعها؛ وأخيرا الهيمنة العنيفة للعلوم والتكنولوجيا على مختلف التشريعات.
ولا يفلت من هذا الاكتساح لا جوهر ولا شكل ولا إثبات بحيث يجوز القول حاليا بأن العلوم والتكنولوجيا أصبحت قوة أو طاقة، إن لم نقل مصدرا لإفراز أو خلق أو توليد القانون. ومن المعلوم بأن هذه الخاصية كانت فيما مضى لصيقة بالقانون الذي تضعه الدولة وبالعرف الذي يبتكره المجتمع وبالإرادة التي يعبر عنها الأفراد. ولم تكن تثير نقاشا ولا انزعاجا لسهولة استيعاب مضمونها وأثرها من قبل الفكر القانوني. ولكن هذا العقل أصبح يتضاءل بشكل واضح وينعكس انكماشه بشكل أكثر وضوحا على القاعدة القانونية. فبعدما كانت هذه الأخيرة سهلة التطبيق على تكييف المقتضيات التشريعية والتنظيمية وعلى الوقائع والتصرفات الإنسانية، صارت ثانوية أمام العدد الغزير للمعلومات العلمية والتقنية، وأمام تعقيدها وتشعبها الكثيف وأمام دقة معطياتها التي لا نهاية لها، وعجز المشرع عن الاستمرار في التشريع وفق التقنيات التقليدية العامة والمتميزة بنوع من السمو على مضمونها، فلم يجد مناصا من إقحام المعادلات الرياضية والصيغ والمصطلحات العلمية والهندسية التقنية في النصوص. ووقف القاضي والمحامي والفقيه عاجزين بدورهم عن الفهم الصحيح والتأويل والتطبيق السليم، واعترفوا بأميتهم وضرورة خضوع فكرهم وعملهم إلى خبرة واختصاص العالم والتقني. ولا ينحصر السبب في التطور الكبير الذي يعرفه علم الإعلاميات وتقنياتها، لأن كل العلوم الأخرى تلعب ذات الدور. فلا فرق في ذلك مع البيولوجيا والكيمياء والفيزياء والمناخ والأحياء والميكانيك والجينات والبكتيريات وغيرها مما لا حصر له. ولا غرابة في تمديد نطاق القانون إلى هذه الميادين بسبب ما تنطوي عليه أو تحتمله من مخاطر على حياة وصحة وسلامة الإنسان من جهة، وعلى البيئة والطبيعة بصفة عامة وضرورة حماية استمرارها واستفادة الأجيال البشرية القادمة من خيراتها من جهة أخرى. ذلك أنها تغزو بعمق مختلف مظاهر الحياة اليومية لمراكز الأشخاص ولعلاقتهم الاجتماعية التي أصبحت كثيرا ما تطبق مفاهيم علمية أو تستعمل أدوات تقنية لم تكن ولو موضوع خيال في الخمسين سنة الماضية.
وإذا كان تمديد القانون إلى المجالات العلمية يهدف قبل كل شيء إلى حماية الإنسان والبيئة من الاستعمال المنحرف للعلوم والتقنيات، فإن هذا الموضوع يثير مشكلا أخطر وأعمق يتعلق بالمسئولية القانونية المترتبة عن التصرفات الإنسانية، في حد ذاتها، وخاصة على العلماء والمخترعين. ومن هذه الزاوية يجب التذكير بصعوبة التحكم في هذه المسألة لأن تقرير تلك المسئولية يحتمل تهديدا حقيقيا للعلم والتقدم المعرفي، ولأن تجاهلها يعرض الإنسانية لمخاطر غير مسبوقة، بحيث يتعين الوصول إلى التوازن ولو كان ذلك دقيقا وهشا وغير قابل للاستقرار.
يبرز النقاش بين هذه المتناقضات والمواقف اللينة فائدة طرح موضوع المسئولية في صلب مقابلة العلم والمجتمع. ما معنى المسئولية العلم المسئول؟ وما مضمون عبارة مسئولية العلم والعلماء؟ لأن هذه الأسئلة لها موقع مركزي في الخلافات التي تهم العلماء والمقررين السياسيين والحركات الجمعوية والسياسية وعموما سائر المواطنين، وترجع في نهاية المطاف إلى تجديد مفهوم المسئولية بكل أبعاده، في مجتمع يعرف ابتكارات كل يوم ومخاطر كل يوم ويتمنى التحكم فيها . فما هي المؤسسات المناسبة لتدبير المخاطر العلمية والتكنولوجية الجديدة؟ وهل يجب اعتماد قواعد مجبرة؟ وهل يجب أن يتحمل كل إنسان المسئولية العلماء والمخترعون أو المنتجون والمقررون فقط؟
فهذا الموضوع متجاذب بين فكرين متوترين، يربط أحدهما التقدم العلمي بتنمية الإنسانية ويرتب الآخر مسئولية تدهور الإنسانية على ذلك التقدم. وتهدف هذه المقاربة من خلال منظور واسع للمسئولية أن تلقي بعض الضوء على المكانة التي يحتلها القانون في العلاقة بين العلم والمجتمع. هل يمكن الحديث عن علم مسئول؟ وما هو المعنى الذي يجوز إعطاؤه لعبارة المسئولية عن فعل العلوم قياسا على المسئولية عن فعل الأشياء والتقنيات؟ وكيف يمكن تحديد المسئوليات في الحوادث التكنولوجية بل والكوارث الطبيعية بالنظر لإمكانيات التنبؤ والإنذار المبكر؟ وما هي المؤسسات التي تتحمل تدبير المخاطر العلمية والتكنولوجية؟
تلك تساؤلات تمكن من إغناء الفكر حول أدوار المسئولية خاصة في حالات الاستنساخ الحيواني، واستعمال التكنولوجية المتناهية الصغر، وعند وقوع الضرر الإيكولوجي وضرورة التتبع الرقمي وتطوير الاختراع البيولوجي الطبي الخ وذلك بالبحث عن أجوبة أو حلول قانونية مرضية.
في الواقع يسجل المتتبع تنامي تيارين أمبرياليين مهيكلين يهدف كل منهما إلى تشكيل المجتمع وفقا لمنظوره المنطقي ولقيمه الخاصة. من هذه الزاوية، يمكن اعتبار القانون نوعا من تكنولوجيا الهندسة المجتمعية، ترمي إلى توجيه وتنظيم وتأطير ونوظمة الآثار الاجتماعية للتكنولوجيا، وذلك بمحاولة إخضاعها للشريعة العامة منكرة خصوصيتها تبعا لمبدأ حيادها. هكذا يحاول القانون ربط التكنولوجيا بمبادئ وقيم روحية وأخلاقية وفلسفية وسياسية وثقافية، بينما ترى التكنولوجيا في ذلك أصفادا غير مناسبة ولا مفيدة وتقييدا لاستقلالها وتطورها. مما يبرز فرقا بين أصول شرعية ومنطق كل من القانون والتكنولوجيا، يضفي الغموض والتعقيد والتناقض والتنازع بينهما قبل محاولة التقريب والتنسيق بينهما. في جميع الأحوال يكون الفراغ القانوني الملاحظ أمام التطور العلمي والتكنولوجي غير واضح ولا دقيق ويبقى سببا لسوء الفهم.
وتبعا لذلك صارت النسبية تطبع الثقة في العلوم والتكنولوجيا محل الثقة المطلقة، بل وتسلل إليها التخوف والتشكك، مما يخدم مكانة القانون المعتمد عليه في الحيلولة دون الغلو أو المبالغة وفي إنزال الجزاء من أجل إعادة التوازن المنسجم بين التطور التقني والاجتماعي. ويسري هذا كذلك على العلماء والتقنيين الذين يطالبون بإطار قانوني يسمح باستيعاب التطور من طرف المجتمع ويمنح أسسا أخلاقية ومعنى للمسئولية.
توحي هذه الإشكاليات الجديدة بقرب قفزة نوعية وكمية لطبيعة العلاقات بين القانون والعلوم والتكنولوجيا، وبظهور بعد جديد لرهاناتهما المتقابلة، من خلال البروز الحاد لبعض الآثار العلمية والتقنية من جهة، والدفاع عن قانون لا يتخلى عن جوهره ولا يخلط الغاية بالوسائل عند معالجة موضوع المسئوليةمن جهة أخرى.
1 الاضطرابات القانونية المترتبة عن التطور التكنولوجي.
شاع القول طويلا بأن التكنولوجيا محايدة لا تأثير لها على القانون، وبأن العكس هو الصحيح. لكن الموضوعية تقتضي الاعتراف بالأثر المتبادل بين الحقلين، على الأقل بملاحظة قيام فرع قانوني جديد إثر كل تطور مهم للعلوم والتكنولوجيا بغاية تنظيم استعمالاتها والحد من مخاطرها.
بداية، يلاحظ أن القانون كان يسري تقليديا في المجال الوطني أو الإقليمي الخاضع للسيادة الوطنية، رغم تواجده بجانب القانون الدولي الذي كان يغير الوضع بقوة في بعض الحالات. ولقد ساهمت التكنولوجيا في قلب ترتيب المجالات لأنها لا تخضع للحدود السياسية بين الدول وخير مثال على ذلك هو الشبكة العنكبوتية والإعلام السمعي البصري والاتصالات بكل حواملها. وبالموازاة صار القانون الدولي بشقيه العام والخاص يفرض نفسه على القانون الوطني مجسدا تقلص السيادة الوطنية في السيطرة على التكنولوجيا. وقد ينتج عن ذلك تقارب أو تعارض بين الأنظمة القانونية الكبرى كما هو الحال بين قانون الولايات المتحدة الأمريكية ودول الاتحاد الأوروبي في ميادين الملكية الفكرية بكل تطبيقاتها التجارية والصناعية والأدبية، و حماية المعطيات الشخصية وتطبيقات البيوتكنولوجيا. من البديهي أن تنظيم استعمالات وآثار التكنولوجيا يساعد على عولمة القانون المفروضة بعولمتها ذاتها. وهذا ما يخلق ضرورة تصور أدوات ومناهج جديدة لوضع القانون.
من المعلوم أيضا أن وضع القانون وتطبيقه واستيعابه يتطلب مرور زمن معين. لكن سرعة الوتيرة الناتجة عن سرعة التطور وجهل نتائجه تتموقع في منظور زمني آخر. ويصبح الخطر كامنا في سرعة تعرض كل قانون جديد للتجاوز والنقد والتعديل والإلغاء حسب درجة دفة التفاصيل والجزئيات التي يعنيها. ويجبر هذا الأمر على التساؤل عن الوقت المناسب لتدخل التشريع؟ وعن كيفية الاقتصار على المبادئ العامة القارة مع إمكانية تطويرها مستقبلا؟ وإذا كانت جودة واستقرار الأحكام القانونية ضرورية للأمن القانوني والقضائيفإنها سرعان ما تضعف بسبب لهث القانون ثم وهنه وعجزه عن مسايرة وتيرة التطور بل التطاير أو التهافت التكنولوجي والعلمي. ولعل خير مؤشر على هذه الخاصية توارد مقتضيات جديدة تلزم بالمراجعة والملاءمة الدورية والسهر على فعلية تطبيق القانون.
يجلب الانتباه أيضا إلى أثر الزمان والمكان على المادة المقننة. فقانون البيئة مثلا يصل إلى وضع نظام قانوني للماء والهواء باعتبارهما من الأموال أو الثروات المادية المملوكة لكل أجيال البشرية، لكن قانون التكنولوجيا يكرس قوة تقدم الأموال المعنوية اللامادية رغم الصعوبات المتعددة الناتجة عن غياب نظام قانوني واضح لمفهوم الصحة والحياة والموت، المعلومة والإعلام بل والملكية الفكرية غير المتوازنة ومركز المعطيات الشخصية بين حقوق الإنسان والاستغلال التجاري.
في هذا الاتجاه، يلاحظ أن التكنولوجيا الطبية والبيوتكنولوجيا تؤدي إلى مراجعة مستمرة لنظام شخصية الإنسان، والجنين وتطبيقات علم الجينات، ومفهوم الحياة والموت ومفهوم الزواج وتكييف إيجار الأرحام ضمن الاتجار في جسم وأعضاء ومكونات جسم الإنسان. كما أن التقنيات الجديدة للاتصال شجعت على الاعتراف باقتصاد لامادي وعلى مراجعة مفاهيم الكتابة والتوقيع والطبيعة العرفية والرسمية، لإخضاع كل ذلك للوسائل الإليكترونية والمعلوماتية والرقمية واستعمالهما ضمن أدوات الإثبات في كل أنواع المنازعات بما فيها الجنائية.
زعزعة استقرار القانون
تفرز تطبيقات التكنولوجيا ظهور مجالات جديدة يجد القانون فيها إمكانيات للتأثير بشكل آخر على الحياة. في العالم الرقمي تؤدي سهولة إعادة إنتاج وتعديل ونشر الأعمال الفكرية إلى اختلال عميق لحق الملكية الفكرية، ذلك أن ذات الأحكام يجب أن تحمي المؤلفين ضد التزوير والتحريف بواسطة التحميل غير المشروع من جهة، وأن تسمح لأشخاص آخرين أن يستفيدوا من ثقافة الاقتسام والاشتراك تشجيعا لملكية جماعية منظمة. وفي هذا الإطار يمكن القول بأن النقاش الدولي الدائر حول البرامج المعلوماتية يكتسي أهمية خاصة حتى في المنظمة العالمية للتجارة.
يطلب من القانون تحديد توازن بين ملكيات يعتقد أن لها نطاقا مبالغا فيه ومنتقدا من تكنولوجيات موضوعة رهن إشارة مستعملين مغالين بدورهم ويعتبرون أن كل شيء ملك للجميع من جهة، ونطاق حرية التعبير والتواصل والابتكار من جهة أخرى. بالتالي يتعين أن تفرض التقنيات الجديدة للإعلام والاتصال مراجعة نظام حماية الحقوق والحريات الأساسية وكذا المعطيات الشخصية للإنسان، ومراجعة مفهوم هوية الإنسان الذي يتعرض اليوم للفبركة و للتعدد بفعل الخريطة الجينية والإمكانيات الإعلاميةحتى يتأتي الوصول إلى تصور للوجود العملي أو الوظيفي للشخص في أمكنة متعددة بوقت واحد.
ولتفادي تقسيم القانون بناء على التكنولوجيات المتعلقة بميدان واحد، يستحسن اعتماد مبدأ حياد التكنولوجيا من أجل تطبيق ذات القواعد على جميع التكنولوجيات المرتبطة. لكن الممارسة العملية تبين أن هذا الأمر ليس بالسهل وبأن التطورات التقنية ترغم على شيء من التعديل والتخصيص في تطبيق القواعد العامة مثل ما هو عليه الحال في الإعلام السمعي البصري والصحافة الإليكترونية. وليبقى القانون عمليا وفعالا يجب أن يعتمد مبدأ الواقعية التكنولوجية كعامل للتنويع والتعقيد في شكله ومضمونه.
تلميع القانون
يتأثر القانون بفعل الزمن فيصدأ ويخفت دوره. ومن شأن استمرار الاحتكاك بالتكنولوجيا الدفع إلى مراجعته باستمرار وإعادة هندسة المفاهيم والقواعد الكلية والفرعية الأساسية مع الكشف المتجدد للخصائص الجوهرية الكامنة وراء أغشية الصدأ المتراكمة. يتعين على القانوني أن يرجع إلى الجوهر أو الماهية الأصلية للمفاهيم والقواعد الكلية ليطبقها على المجال الجديد المترتب عن التكنولوجيات، حتى يتأكد من خاصيتها العملية وحكمتها وفائدتها وقدرتها على التطور . ويسري هذا التوجه على مفاهيم مثل الشخصية الإنسانية والهوية والملكية والحياة الخاصة والمسئولية والأمن والعقد ومبادئ الاحتياط والتوقع والاستباق، والمساطر والإجراءات.
توليد أو توليف القانون
ولا شك أن هذا يغير المكونات الجغرافية لمجال ومحتوى القانون. تبعا لذلك تلين حدة الفوارق بين الأنظمة القانونية للدول والأقاليم. كما تظهر مثلا مفاهيم قانونية جديدة. يتعلق الأمر بعولمة حقيقية للقانون بسبب التنقل السريع للمعلومات والعلوم على صعيد العالم وما يرتبه من تبادل واقتباس واعتماد لما في تجارب الآخرين. ولعل جل الاتفاقيات الدولية الجديدة خير مثال على هذه الظاهرة. وبذات المنطق، يضمحل الفرق بين فروع القانون العام والقانون الخاص ويفقد من فائدته ومبرراته، لأنها تنضم لبعضها وتتفاعل لإفراز قانون آخر ملائما للتكنولوجيات، على غرار ما وقع في نظام حماية المعطيات الشخصية والمناخ والتطبيقات المتناهية الصغر . والبيوتكنولوجيا. ويبقى رغم ذلك من المفيد القول بأن القانون الخاص أكثر تأثرا بفعل الحيوية التي يعرفها بسبب التكنولوجيات الجديدة.
كما أن التأطير القانوني للتكنولوجيا وآثارها يرغم على اعتماد تقاطع عدة حقوق قانونية عامة ومتخصصة، منتجا لعلاقات جديدة أفقية وعمودية مثل ما يميز قوانين العقود المدنية وحرية المنافسة وحماية المستهلك والتجارة الإليكترونية والمسئولية المترتبة عنها. ويترتب عن هذا تراكم طبقات القوانين القابلة للتطبيق على محيط معين، تفرض تنقل القانوني أفقيا وعموديا في إطاره. بالتالي يصبح من الضروري مراجعة الفواصل العازلة بين بعض حقول المعرفة ومنطقها للحفاظ على وحدة القانون الواجب التطبيق. معنى هذا أن المناخ التكنولوجي يشجع على تفتح الفكر القانوني وعلى تلاقح متبادل للحقول القانونية. وفي واقع الأمر لن يكون هناك قانون خاص بكل تكنولوجيا لأن كل تكنولوجيا سوف تدفع الحقول القانونية إلى الانضمام لبعضها والتمازج بينها بشكل جديد متميز يسمح بالحفاظ للقانون على خاصيته العملية تحقيقا لوظيفته الضبطية. لهذا يجوز القول بأن التكنولوجيات تشبه صفائح الكرة الأرضية في رسم جيولوجيا جديدة للقانون بفعل تغيرات ملموسة وغير ملموسة لمواد القانون.
التكنولوجيا فرصة تطور المواد القانونية
إذا كان المناخ التكنولوجي يزعزع استقرار القانون ويزعج العقول القانونية المحافظة، فمما لا جدال فيه أنه عامل فعال في تقدم القانون. فمناقشة قصور الأحكام الوضعية تشجع ممارسة منطق الفكر النقدي والتحليلي، وبذل المجهود الابتكاري من لدن الفقهاء الباحثين والممارسين. ومن دواعي الاطمئنان أن يلاحظ بأنهم قادرون على رفع التحديات المحدثة بفعل التطورات التكنولوجية بتقديم الأجوبة التشريعية والتنظيمية والاجتهادات القضائية والنظريات الفقهية المناسبة لما يستجد من النوازل. ويبرز هذا الاتجاه من خلال التنظيمات المهنية للممارسين والاجتماعية للباحثين بغاية الاستجابة لحاجيات الاقتصاد والصحة والبيئة الخ. مما خلق نوعا جديدا من القانونيين. كما أنه من المطمئن أن العلوم القانونية تتسم بقدرة كبيرة على التطور والتأقلم ولو بعد شيء من التردد والجمود لأن مرونتها متأثرة بتطور العقليات الاجتماعية التي لا تصمد أمام إلحاح الاستعمالات التكنولوجية. ويمكن معاينة هذه الخاصية في مفهوم ومهمة مؤسسات النظامة التي أصبح إحداثها مبررا كذلك بتطويع القانون لخصوصيات المجالات الاقتصادية والاجتماعية والتقنية.
تفتح التكنولوجيا ميادين جديدة للبحث والمناقشة القانونية للمفاهيم والمبادئ والفلسفة ومقارنة التجارب بتعاون موضوعاتي لمجموعات العلماء والمختبرات داخل شبكات ومؤسسات وطنية و دولية بتشجيع من الحكومات والفاعلين الاقتصاديين. ويحاول تدريس القانون مسايرة ذلك من خلال اعتماد مواد قانونية جديدة كقوانين البيئة والماء والصحة والاتصالات الخ. كما يعمل التدريس في الميادين العلمية والتقنية على إدراج المعرفة القانونية في برامج تكوين المهندسين والأطباء والتقنيين.
فعلية وفعالية نسبية لقانون التكنولوجيا
يحاول القانون تأطير استعمال التكنولوجيا بواسطة قواعد ومساطر النظامة المتسمة بنوع من تناسق التصورات والمفاهيم الفكرية، ويجوز التساؤل عن فعالية ذلك على مستوى التطبيق لما يظهر من عدم انخراط القانون في الحقائق والوقائع التكنولوجية. وبالفعل توحي التكنولوجيا بأنها تنساب جزئيا خارج الإطار القانوني المخصص لها مما يبرر القول بأن القانون يصبح مجرد زينة أو ديكور غير ملائم وغير موفر للضمانات المرجوة منه. ذلك لأن التكنولوجيا تتميز بقدرة حقيقية على التحايل على القانون بسبب ما تحتمله من تطبيقات اجتماعية مستمرة التطور موازية للتطبيقات التي يقصدها القانون. وغالبا ما تكون أهمية عدم تطبيق القانون في ضوء المحيط التكنولوجي مفاجأة قوية بدون أن يلحق الأمر ضررا بالتكنولوجيا وبتطورها واستعمالها، ولا يرتب ذلك عقابا محددا لأن الخيار السياسي يحل محل القاعدة القانونية. ويصعب حصر الأمثلة عن ذلك بين السطو على الملكية الفكرية ونظام الخلايا الأصلية للجينات ومناولات المضاربة البنكية والمالية وحماية المعطيات الشخصية وحماية البيئة الخ.
تبعا لذلك يصبح البحث عن الفعالية القانونية للتطبيقات التكنولوجية يكتمل بفعل مؤسسات النظامة الذاتية والنظامة المؤسساتية، واعتماد معايير معينة، ومناهج الصلح والوساطة والتحكيم والخبرة إلى جانب القانون. يجري البحث عن التوافق القابل للتعديل براغماتيا وتجريبيا، بحيث تكون فائدة التطور أكبر لصالح التعاقد أو الاتفاق على حساب القاعدة أو الحكم القانوني، لفائدة قانون متصور لشبكات، متعدد المراكز، تتجاور وتتساوى فيه الهياكل العمومية والخاصة. ولم يعد نادرا أن يسترجع القانون نتيجة هذا التطور.
2 من أجل قانون يميز بين الغايات والوسائل
بالنظر لما سبق يتعين على القانون أن يرفع التحديات الناتجة عن التغيرات التكنولوجية، بتقديم أجوبة مناسبة، نسبيا قارة وفي الوقت الملائم. ويرتبط الأمر بنوع رد الفعل القانوني ومدى واقعيته وقدرته على إدماج المعطيات التقنية المتطورة الجديدة والانعكاسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية الإيديولوجية والأخلاقية المرتبطة بذلك. ويعني هذا كلا من مناهج الابتكار والمعرفة والفهم، والتطبيق وقيادة أو تسيير القاعدة القانونية. وتلعب التكنولوجيا في جميع هذه المسائل دورا منبها أو مؤشرا للتطورات الواضحة، من غير أن تمس بجوهر القانون وروحه وماهيته.
وضع ومعرفة القواعد المرتبطة بالتكنولوجيا
من الملاحظ أن ثقافة النخبة السياسية لا تخصص مكانة كافية لفهم التطورات التقنية المعقدة والمتنوعة، بل وحتى العلماء والتقنيين يجدون صعوبة لمسايرة الوضع. ومن البديهي أن المشكل يسري على رجال القانون بما فيهم الفقهاء والباحثون والممارسون والأعوان العموميون الذين يساهمون في وضع الأحكام القانونية ومعرفتها ونشرها وتطبيقها. يجوز بالتالي طرح السؤال عن محتوى الثقافة العامة المطلوبة اليوم في تكوين رجل القانون. ويظل من الحكمة التريث في هذا الأمر تبعا للدور الريادي الذي يقوم به بعض السياسيين ورجال الإعلام بمناسبة إعداد ومناقشة القوانين وفي إطار التقارير الجيدة التي يقدمونها. لكن لابد من الاعتراف أن الجهاز التشريعي المغربي يفتقر إلى مرفق مساعد مناسب لمساندته في وضع التشريع المترتب عن المعطيات العلمية والتكنولوجية المستجدة.
كما أن المصالح التقنية الموجودة ضمن الإدارات والمؤسسات العمومية لا يتم استثمار مؤهلاتها وإمكانياتها لتعبئة الموارد المختلفة في خدمة الإعداد الجيد للمقتضيات القانونية في الميادين التقنية، رغم أن التكنولوجيا تساهم في تعدد القواعد القانونية وخرق الأمن القانوني والقضائي وتعميق غموض القانون وتعقيده. لكن من حسن الحظ أن المعرفة القانونية وفهمها ميسر بفضل تقنيات الإعلام والاتصال بواسطة محركات البحث وقوائم المعطيات المتعددة الخاصة بالتشريع والاجتهاد والفقه والوثائق الإدارية والتقنية، الصادرة عن المؤسسات العمومية والخاصة. ولقد أثرت هذه الوسائل بقوة في تعميم مناهج الولوج إلى المعلومة القانونية بشكل واسع. في هذا الإطار، يستفيد رجال القانون والعلماء والتقنيون من مواقع الشبكة العنكبوتية، أنترنب، التي تمكن من سد الثغرات المعرفية للجميع ومن تبادل الآراء. كما أن المنتديات الفكرية المنظمة وحرية الاستفادة من أشغال المؤتمرات والندوات تساهم في تحسين أداء المؤسسات الرسمية والرأي العام. وتساعد كذلك على معالجة القانون من زوايا جديدة كالمقارنة الأفقية والمنطق والأنظمة الخبيرة وتقنية التشريع.
سلطة الخبرة والخبراء
وتبعا لارتباط القانون بالتكنولوجيا، صارت خصائصه تساعد على الرجوع إلى الخبراء وإشراكهم في وضعه وتأويله وتطبيقه. كما أفرزت تخصصات واضحة في نطاق المهن القضائية والعمل الفقهي والتدريس الجامعي، ودفعت القانونيين والمهتمين الآخرين إلى التعاون الطبيعي مع المختصين الجدد الذين صار لهم نوع من النفوذ لا يسهل إغفاله، بحيث صارت قدرة القانون على التأقلم مع التطورات التكنولوجية تتسم بحيوية واضحة. ويجد العلماء وخبراء التكنولوجيا في هذا الوضع إمكانية التعاون والتواصل مع رجال قانون قادرين على ربط الصلة معهم وتبسيط صعوبات الاصطلاح والتعبير والتنظير والصياغة والمعالجة المنسجمة بصفة عامة. ولا يخفى الأثر الإيجابي لهذا على ممارسة الخبرة القضائية ونتائجها على قرارات المحاكم، أو على انزلاق سلطة القرار القضائي من الهيئات القضائية إلى مؤسسات الخبرة التكنولوجية وما يعنيه الأمر من تغير جذري لمفهوم القانون والقضاء. تبرز هنا سلطة الخبراء في فرض رأيهم بل وتقبله تلقائيا من قبل المشرع والقاضي، وبالتالي خروجهم عن ميدان تدخلهم أي المساعدة القضائية. ولولا الاختلافات التي تنشأ بينهم لما تمكن القضاء من استعادة سلطته واستقلاله في الحسم مثل ما هو عليه الحال في موضوعات الجينات والبيو تكنولوجيا. وتؤدي الخبرة التكنولوجية أخيرا إلى وضع قواعد ومعايير وتوصيات ودلائل ومساطر لجودة الممارسة العملية، تمتزج بالقواعد والأحكام القانونية الصادرة عن المؤسسات الدستورية، تؤشر إلى ميلاد أنواع جديدة من القواعد القانونية.
يستخلص مما سبق مخاطر احتمال استيعاب القانون للعلوم والتكنولوجيا في مكانة مركزية من مضمونه تتحكم في مساره. إذا كانت تلك المعطيات أسبابا ونتائج يجب على القانون اعتبارها بروية، يجب عليه أيضا وضعها في أفق توجهه لاستخلاص التوازنات أو لفرض قواعد التوجهات والاختيارات، بإدماج العوامل الاجتماعية والثقافية والقيم الإيديولوجية والإنسانية. يتعين أن تبقى هذه الاعتبارات في صلب جوهر القانون لتقرير الاستعمال الأنسب للتكنولوجيا. ذلك لأن المفروض هو تجنب الخلط بين الأسباب والنتائج، بين الغايات والوسائل كما يقع كثيرا في التشريع الحالي.
الرهانات الاقتصادية و مضمون القانون
لا جدال في ضرورة إدماج واقعي وبراغماتي لجميع معطيات التكنولوجيا ضمن القانون رغم صعوبة ذلك ورغم تأثيره على مضمون وشكل القانون. ولا شك أن وقت هذا القرار صعب التحديد لضرورة مناسبته أي ابتعاده عن التسرع وعن التأخير، خاصة وأن القانون صار سريع التجاوز مما يفرض استمرار مراجعته وفقا لمدة استقرار محددة وتبعا لحصيلة معينة تستتبع التصحيح. يصبح الإنتاج القانوني شبيها بإنتاج البرامج المعلوماتية يقتضي صيغا متتابعة بسرعة كبيرة.
ومن خلال الرهانات العلمية والتكنولوجية وتطبيقاتها، تتحدد مضامين وغايات القانون بمظاهر اقتصادية محلية ودولية معلنة أو مغلفة، كما يتجلى ذلك بالنسبة لوسائل الاتصال والإعلام وللمنتجات الصيدلية والطبية بل والغذائية والفكرية الخ. ونظرا لضخامة المصالح الاقتصادية والصناعية والتجارية، والسياسية والاجتماعية، فإن قوانين التكنولوجيات تخضع في تصورها وإعدادها لأهداف حماية أو تقليص نفوذ الفاعلين. وتبعا لهذا يصير فهم وتأويل القانون المرتبط بالتكنولوجيا مقيدا حتما بتحليل اقتصادي يتعلق بمنطق وبغاية أخرى لإعمال القاعدة القانونية. ولعل خير مثال على هذا الرأي ما تتسم به قوانين حرية المنافسة وحماية المستهلك. في هذا الإطار، يدخل القانون في باب تحليل اقتصادي لمخاطر العمل. ويبدأ الحديث عن مبادئ الاحتياط والأمن والسلامة والتوقعية والمقروئية للقانون. ومثالا على ذلك، إذا كانت الكلفة القانونية لعقوبة التزوير والاعتداء على الملكية الفكرية بالأنترنت ضعيفة، فإن قاعدة المنع والتجريم تؤخذ بالاعتبار في حساب المخاطر، مما يشجع على خرق شائع للملكية الفكرية. ويسري ذات المنطق على انتهاك حماية المعطيات الشخصية والبيئة والملكية الصناعية الخ. بالتالي يحول المناخ الاقتصادي القانون إلى وسيلة للتدبير تقلي العلاقات بين الغايات والوسائل.
روح القانون في التشريعات التكنولوجية
يجب التساؤل هل القوانين المطبقة على التكنولوجيات والتي تتجاذبها المعطيات العلمية والتقنية ورهاناتها الاقتصادية، تظل فعلا قوانين؟ هل تستجيب لوظائف القانون المتجلية في سلطة وضع الأحكام الآمرة، المقبولة والمحتملة للجزاء، والتي تنظم حياة المجتمع بغاية إبراز وحماية المصلحة العامة المحددة بالمؤسسات والمناهج الشرعية والديمقراطية؟
في الواقع، تخضع قوانين التكنولوجيات لسلطة وفعالية المجموعات الضاغطة التي تدافع عن مواقفها المهيمنة ومصالحها المالية. وقدرتها مهولة على التأثير على محتوى القاعدة القانونية أو منع وضعها، وتحويل غايتها أو تقليص عقوبة خرقها. وإذا لم يكن في هذا الأمر جديد، فإنه يلاحظ قفز لمستوى الوضعية يدفع من التغير الكمي إلى التغير النوعي. وتفتقر قوانين التكنولوجيات خصوصا إلى الروح والبعد الإنساني. فهي تنسى أنها وجدت من أجل الإنسان، المواطن بصفته شخصا مكونا لجسم اجتماعي. تظهر القوانين الموسومة بالتكنولوجيات كقوانين متعلقة بأشياء مادية وغير مادية، وبقيمها الاقتصادية المواكبة لاستعمالاتها. بل يمكن القول أنها تعامل الإنسان نفسه والعلاقات المجتمعية كشيء قابل للصنع والتعديل من خلال مصطلحات المستهلكين والمستفيدين والمستعملين الخ. تلاحظ أشيأة أو تشيئ للأنسان وتصرفاته، من خلال التعبير في شكل معادلات رياضية، بل ورموز إليكترونية أو ممغنطة. تقوم هذه القوانين بإخراج سينمائي لدور الفاعلين والمنعشين وغيرهم، وبالإحالات القانونية على الحريات والحقوق الأساسية المسبوغة بمعالم التكنولوجيا وأدواتها يتم الرجوع إلى الأخلاقيات والقيم الإنسانية في القوانين التكنولوجية، بحيث يملأ القانون نسبيا فراغ المؤسسات السياسية.
ويظهر ذات الإهمال على سلوك المواطنين والمجتمع المدني ووسائل الإعلام والمسئولين السياسيين والمثقفين الذين يبررون ضعف مستواهم العلمي وقلة شجاعتهم بالعذر السهل المتجسد في تعقيد العلوم والتقنيات، وهو ذريعة من طبيعتها الفصل بين واقع المجتمع، والعلوم الاجتماعية والإيديولوجيات. ولعل خير مثال على هذا هو اعتماد قانون حماية المعطيات الشخصية علاقة بالحريات بدون مناقشة عمومية تذكر حول جوهر الموضوع، أي تعلقه بحميمية الإنسان وحرياته الخاصة، لأن كلا من الحكومة والبرلمان اقتصرا على الإسراع للاستجابة لصيحات بعض المواطنين ضد التعسف الذي كان ولا يزال سائدا. ولقد كان حريا أن تستغل المناسبة لتحديد اختيار مجتمعي مرتبط مباشرة بالحقوق والحريات الأساسية بمنظورها الدستوري الشامل. يعطي القانون المذكور وغيره تجسيدا للانطباع بأن القانون يساهم في تقننة أو مكننة الإنسان والمجتمع ويتحول إلى برمجية معلوماتية تتحكم في حياة المجتمع، وتخفي أيادي الفاعلين الحقيقيين. بالتالي حيث أصبح القانون متمحورا حول الوسائل، فإنه صار يساهم في إهمال الغايات التي يجب أن تكون رافعات فعالية في تأطير قانوني للتكنولوجيات من أجل نفخ روح المسئولية والمصلحة العامة فيها.
استنتاجا من كل ما سبق، فعلاقة القانون بالعلوم والتكنولوجيات معقدة وغامضة، ولكنها لا تمنع التفاؤل رغم صعوبة التأقلم التي يعيشها القانون ورجاله. فالعالم العلمي والتكنولوجي يحتاج أكثر فأكثر للإطار القانوني الجوهري وليس إلى تقنية القانون. وتموقع القانون في صلب الحقول العلمية والتكنولوجية يجب أن لا يفقده طبيعته العميقة وماهيته وجوهره.
فالقانون غني بما يفيد العلوم والتكنولوجيات، وهاته الأخيرة قادرة على المساهمة في ابتكار قانون جديد وفقهاء مناسبين للحياة الراهنة.
الرباط، 14 فبراير 2013
محمد الإدريسي العلمي المشيشي
أستاذ بجامعة محمد الخامس آكدال