مبادئ الحكومة المسؤولة في النظام البرلماني
بعد الدراسة السابقة المتعلقة بالتمثيل النسبي في اي قانون انتخابات جديد مستقبلي للبنان – وعشية البدء بالاستشارات النيابية الملزمة وفقا لدستور الجمهورية الثالثة الحالية – نرى من الواجب والمفيد افادة القارئ بصورة علمية واضحة لما يعرف بمبدأ المسؤولية الحكومية او مسؤولية الحكومة البرلمانية كهيئة جماعية مسؤولة عن شؤون الحكم – بغية تذكير بعض القيادات والسياسيين بالاسس العلمية والدستورية التي تبنى على اساسها الحكومات في النظام البرلماني الذي يعتمده لبنان منذ نشأته وتحديدا منذ قرار المفوض السامي السيد ترابو القرار 1304 مكرر عام 1922 – الذي انشأ اول مجلس تمثيلي للبنان الكبير حيث نصت المادة (3) من القرار اعلاه على انشاء هيئة منتخبة لدى السلطة المركزية تلقب بالمجلس النيابي اللبناني الكبير … يعين اعضاء هذا المجلس بالاقتراع العام …”.
اولا : مبدأ مسؤولية الوزارة البرلمانية : كنتيجة طبيعية لمبدأ عدم مسؤولية رئيس الدولة او رئيس الجمهورية في النظام البرلماني – اصبح لا بد من وجود هيئة تتحمل الاثار والتبعات القانونية والسياسية عن اعمال الدولة – اي المسؤولية – وعليها العبء الحقيقي في ممارسة السلطة الفعلية في ادارة شؤون الحكم .
فتكون بذلك الوزارة ( او الحكومة البرلمانية ) هي المسؤولة امام المجلس النيابي سواء كانت هذه المسؤولية متضامنة او افرادية – فرئيس الدولة لا يسأل عما يفعله ولكن الوزارة تسأل .
ثانيا : الحكومة في تركيبتها السياسية والدستورية :
تتكون الوزارة من رئيس – غير شخص رئيس الدولة – ومجموعة من الوزراء يجتمعون في مجلس متضامن يسمى مجلس الوزراء – واهمية هذه الهيئة تتجلى بخاصة في ان القرارات الصادرة عنها تكون دستوريا ملزمة لجميع الوزراء حتى ولو صدرت باغلبية الاصوات – من خلال الاقتراع لا الاجماع .
وقد نصت المادة (66) من الدستور اللبناني على : “… تحمل الوزراء اجماليا تجاه مجلس النواب تبعة سياسة الحكومة العامة ويتحملون افراديا تبعة افعالهم الشخصية “.
اي ان الدستور اللبناني كرس مبدأ المسؤولية التضامنية بين الوزراء في مواجهة تبعات السياسات الحكومية بمجرد كون الوزير موجود على رأس عمله ومهامه في وزارته – ولا يعتد باحتجاجه انه صوت ضد قرار ما او مرسوم ما للتنصل من المسؤولية الجماعية التضامنية امام مجلس النواب وممثلي الشعب .
على صعيد أخر – ان رئيس الدولة هو الذي يعهد الى زعيم الاغلبية البرلمانية عادة بتأليف الوزارة – وفي هذا الاطار نسجل الاتي :
1- ان عملية تشكيل الوزارة هي من صميم العمل البرلماني ومن أهم مراحل سيره – فالقاعدة الدستورية الاساسية في النظام البرلماني تقضي بان يتولى رئيس الدولة هذا الاختيار – وان يختار بالتالي زعيم حزب او تكتل الاكثرية في البرلمان – وقد نصت المادة ( 53) من الدستور على ان حق رئيس الجمهورية باصدار مرسوم تسمية رئيس مجلس الوزراء منفردا – واصداره بالاتفاق مع رئيس مجلس الوزراء مرسوم تشكيل الحكومة .
ففي صلاحية رئيس الدولة بتسمية رئيس مجلس الوزراء بمرسوم موقع منه منفردا نسخا عن دستور الجمهورية الفرنسية الثالثة الذي كان يكرس قاعدة ان يأتي التكليف بشكل كتاب موجه من رئيس الجمهورية الى الرئيس المكلف – بينما في لبنان اتخذ هذا الكتاب شكل مرسوم موقع من رئيس الدولة منفردا .
2- يشار الى ان القاعدة الدستورية تكرس التساوي التام بين اعضاء الوزارة من جهة الدرجة والتقرير – لانهم مجتمعين ومنفردين مسؤولون امام البرلمان – وقد نصت المادة (68) من الدستور اللبناني على مبدا الاتهام الفردي لوزير بحيث الزمت الوزير عندما يقرر مجلس النواب عدم الثقة باحد الوزراء بالاستقالة الفورية من منصبه – والوزير يتحمل تبعة افعاله الشخصية استنادا للمادة (66) الانفة الذكر اعلاه .
وعن هذه المسؤولية الوزارية الفردية يقول العلامة الفرنسي جورج بوردو : Cette responsabilite peut etre mise en jeu a raison de tout acte accompli par le minister dans l”exercice de ses attributions et alors meme que l”acte serait parfaitement legal … elle impose au ministre, auquel le parlement a ouvertement temoigne sa mefiance , l”obligation de quitter le pouvoir – c”est a dire de demissionner …”
3- استنادا للمادة (64) من الدستور اللبناني يجري رئيس مجلس الوزراء المكلف الاستشارات النيابية الملزمة لتشكيل حكومته ويعرض حصيلة مشاوراته على رئيس الجمهورية الذي يتولى واياه توقيع مرسوم تشكيل الحكومة بناء لتلك الاستشارات النيابية .
واهم ما في الامر بعد صدور مرسوم تشكيل الحكومة هو في اعداد الحكومة بيانها الوزاري – وقد حدد الدستور فترة (30) يوما من تاريخ صدور مرسوم تشكيل الحكومة كي تتقدم هذه الاخيرة من البرلمان ببيانها الوزاري لنيل ثقة المجلس النيابي – فمن هنا تتكرس قاعدة المراقبة البرلمانية والمسؤولية البرلمانية للحكومة – لانها لا تعمل الا بثقة الشعب وبالتالي اذا حجبت عنها الثقة سقطت الحكومة ويكلف رئيس الدولة اما نفس الذي كلفه قبلا او شخصا اخر لاجراء مشاورات جديدة وتشكيل حكومة جديدة ووضع بيان وزاري مختلف يحظى بثقة وموافقة البرلمان (اي ممثلي الشعب ) .
فالوزارة البرلمانية لا تستطيع البقاء في الحكم من دون حصولها على ثقة البرلمان – فثقة البرلمان هي اساس شرعية الحكومة ودستوريتها في المفهوم البرلماني .
ثالثا : الخصائص الدستورية للوزارة في النظام البرلماني اللبناني :
1- الوزارة وحدة متجانسة متضامنة : وقد شرحنا اعلاه ماهية التضامن ومفهومه ولكن نضيف امرا : وهو ان منبع مسؤولية الوزارة امام البرلمان في النظام الدستوري البرلماني هو عدم مسؤولية رئيس الدولة : فلو كنا امام النظام الرئاسي لكان رئيس الدولة هو المسؤول ولكان من حقه وامتيازه وحده تعيين واقالة الوزراء ورئيسهم – لانهم يمثلون سياسته وتوجهاته وافكاره .
2- اما في النظام البرلماني فالوزارة تكون وحدة مميزة عن رئيس الدولة وتتحمل عنه المسؤولية تجاه البرلمان – اي الشعب – ولذلك فرض عليها دستوريا ان تكون متجانسة لان التجانس بين اعضائها يعد نتيجة طبيعية لفكرة الوحدة والاتساق – فالوزارة التي ترسم السياسة العامة وتسهر على ادارة مصالح الدولة – مطلوب منها وجود قدر كبير من التجانس بين اعضائها والانسجام بين الوزراء لتمكينها من تحقيق مهامها – لذلك غالبا ما يختار رئيس الوزراء المكلف وزرائه من قيادات حزبه وحلفائه من ذوي التوجهات والميول الوطنية والافكار السياسية الواحدة .
4- ان الوزارة اداة للحكم لا للتنفيذ : فوضع الوزارة في النظام البرلماني متميز : فالوزارة أداة للحكم والتقرير حيث تملك في المجال الدستوري سلطة الشعب وبالتالي سلطة البت في شأن رسم سياسات الدولة العامة وتنفيذها – ولها ايضا كيانها الذاتي المتميز عن رئيس الدولة غير المسؤول وعن البرلمان المراقب والمحاسب – لذلك حددت بانها الوحيدة التي تحاسب وتسأل عن سياسات الدولة وادارتها لدفة الحكم في الدولة .
وقد نصت المادة (64) من الدستور اللبناني بوضوح على : ان رئيس مجلس الوزراء هو رئيس الحكومة يمثلها ويتكلم باسمها ويعتبر مسؤولا عن تنفيذ السياسة العامة التي يضعها مجلس الوزراء …
كما نصت المادة (65) من الدستور اللبناني على ان ” تناط السلطة الاجرائية بمجلس الوزراء … ومن الصلاحيات التي يمارسها : … وضع السياسة العامة للدولة في جميع المجالات ووضع مشاريع القوانين والمراسيم التنظيمية واتخاذ القرارات اللازمة لتطبيقها …
وقد عادت المادة (66) من الدستور اللبناني وأكدت تولي الوزراء ادارة مصالح الدولة ويناط بهم تطبيق الانظمة والقوانين كل بما يتعلق بالامور العائدة الى ادارته وما خص به .
5- وبالتالي واستنادا لما ذكر اعلاه – فان الوزراء يدخلون البرلمان بصفتهم وزراء ولو كانوا نوابا – لانه لا شيء يمنع ان يأتي الوزراء من خارج الندوة البرلمانية – الامر الذي نفضله علميا ودستوريا وحتى سياسيا – لذلك فان الوزراء من اعضاء الندوة البرلمانية عندما يدخلون البرلمان لا يجلسون على مقاعدهم النيابية – اذا كانوا نوابا – بل على المقاعد المخصصة للوزراء – ويخضعون للمحاسبة والمراقبة والاتهام اذا اقتضى الامر .
وعن الجمع بين الوزارة والنيابة يقول العلامة الللبناني الراحل الدكتور ادمون رباط : ” ان لهذا الجمع بين النيابة والوزارة اثارا سياسية – من بينها ان التماذج يبدو اكثر فعالية بين البرلمان والوزارة – لان الوزراء هم اعضاء في البرلمان وان من طبيعة الحياة السياسية البرلمانية ان يعودوا اليه عند انتهاء مهامهم الوزارية – ما يبقيهم على اتصال دائم بالنواب وحريصين على ارضائهم وتلبية رغباتهم بغية الاستمرار بالتمتع بالثقة … “
ونشير في هذا السياق الى ان النظام الداخلي لمجلس النواب منع الجمع بين عضوية هيئة مكتب المجلس وبين الوزارة – وفي هذا استئثناء لمبدا جواز الجمع بين الصفتين – وقد نصت على ذلك المنع المادة (10) من النظام المشار اليه .
كما نشير الى ان المادة (25) من النظام الداخلي للمجلس منعت ايضا الجمع بين عضوية اللجان وبين كل من رئاسة المجلس او نيابة الرئاسة والوزارة – ولعل في ذلك المنع ما يبرره لجهة تمكين الوزير من تمثيل الحكومة ووزارته امام اللجان النيابية المتخصصة وعدم التلطي وراء صفته النيابية في اللجنة للنفاذ من المسؤولية .
وفي المسؤولية الحكومية المتضامنة : نصت المادة (124) من النظام الداخلي على حق النائب او أكثر بتوجيه الاسئلة الشفوية او الخطية الى الحكومة بمجموعها او الى احد الوزراء بعد استنفاد البحث في الاسئلة الخطية الواردة في جدول الاعمال …
ونصت المادة (126) منه على حق النائب اذا لم تجب الحكومة ضمن المهلة المحددة على سؤال النائب – بان يحوله الى استجواب …
كما نصت المادة (131) منه على حق النائب او اكثر بان يطلب استجواب الحكومة بمجموعها او احد الوزراء في موضوع معين … ومن ثم وفي حال عدم اقتناع النائب المستجوب او النواب المستجوبين باجوبة الحكومة يعطى الكلام لمن يشاء وصولا الى طرح الثقة بالحكومة او الوزير المستجوب .
وبموجب المادة (138) منه يحق لكل وزير ان يطرح لبثقة بنفسه منفردا او ان يعلقها على اي مشروع قيد المناقشة – كما يحق لكل نائب ان يطلب طرح الثقة بشخص الوزير وفقا للاصول …
وبالتالي ومن مجمل الاحكام اعلاه في النظام الداخلي لمجلس النواب نجد ان مبادىء الحكومة البرلمانية في النظام البرلماني تجعل مركز الثقل السياسي في مجلس النواب وليس في الحكومة – وبالتالي فان المعارضة التي لا تتوافق مع قوى الاكثرية ان تختار المشاركة في الحكم من خلال استعمال ما لها من سلطة مراقبة ومحاسبة واستجواب وطرح الثقة بالحكومة او الوزراء منفردين – فهناك تكون الفعالية – اما اصرار المعارضة على المشاركة في الحكومة يحملها عملا بالمبادىء الدستورية والقانونية والسياسية مسؤولية المشاركة بالتضامن مع سائر الوزراء في تحمل تبعات المسؤوليات الحكومية بحيث لا يعود ينفع التنصل من المسؤولية من داخل الوزارة بمجرد ان تستوزر المعارضة نفسها من الداخل .. lebanese-forces.com