مبادئ القانــون وتحقيق العــــدالة
مقـــــــدمة
القانون قديم قدم التجمع البشري إذ دعت الضرورة إلى وجوده بعد أن سادت شرعية الغاب في المجتمعات البدائية وكان البقاء للأقوى فالإنسان ميال بطبعه إلى الشر فلولا تطبعه بالخير عن طريق اكتساب صفته الاجتماعية لصار حيواناً لا يتعامل إلا على أساس قانون الغابة .
لكن الصفة الاجتماعية للإنسان تفرض عليه أن يكبح جماح أنانيته وتضبط سلوكه وترشده إلى الطريق القويم فمنذ أن وجد الإنسان في مجتمع يضم غيره من أقرانه وهو ينشد العدل فيما ينشأ بينه وبين غيره من علاقات ، ومعاملات لذلك ليس غريباً أن تلازم فكرة العدل والإنصاف فكرة القانون منذ أن وجد ، لذلك ففكرة العدل تتوج قمة الهرم القانوني على الدوام وليس غريباً كذلك أن تستحوذ فكرة العدالة على اهتمام الفلاسفة منذ أقدم العصور فالقانون يسعى إلى تحقيق العدالة بين الناس وتحقيق دولة القانون بحيث لا يكون هناك محاباة للأشخاص أو طائفة على أخري ، وبذلك تحقق المساواة بين الناس في الأعباء والمزايا .
والأسئلة التي تطرح هي :
• ما هو مفهوم القانون ومفهوم العدالة وهل ثمة جسور للتواصل بينه وبين مفهوم العدالة ؟ وكيف تتحقق هذه الأخيرة من خلاله ؟
• وهل يساعد المفهومان في تحقيق دولة القانون والعلاقة الجلدية بين مبادئ القانون ومبدأ العدالة ؟
المبحث الأول : تعريف المفاهيم
المطلب الأول : ماهية القانون ومبادئه
القانون لغة مقياس كل شئ أو الخط الذي بين الاستقامة والانحراف وتطلق أيضا على العصا المستقيمة وتستعمل كلمة قانون مجازاً لتفيد معني القاعدة والقدرة والمبدأ ولم يقع التركيز عند اليونان على مصطلح العصا وإنما على دلالة الاستقامة لذلك نجد اللغات اللاتينية والجرمانية تعبر عن القانون بكلمة ” المستقيم بالفرنسية DROIT ، بالإيطالية DIRITTO ، والأسبانية DERECHO وبالألمانية RECHt كل هذه المصطلحات مشتقه من RECTUS اللاتينية أي المستقيم ” .
القانون كضرورة تفرضها الحياة في المجتمع لذلك فالإنسان كائن اجتماعي لا يستطيع العيش بمعزل عن الجماعة لأنه لا يمكن أن تستقيم حياة الفرد منعزل ووحيداً عن بقية الأفراد الآخرين لأنه بذلك يفتقد إنسانيته لذلك فالقانون ضرورة حيوية لاستقرار واستمرار حياة الأفراد داخل الجماعة تحقيقاً للعدل والسير بالمجتمع نحو التقدم والازدهار وبفضله تنظم العلاقات الاجتماعية وفقاً لقواعد محددة تستتبع بالضرورة احترام الأفراد لها ولم أدي الأمر إلى وتوقيع الجزاء على من يخالفها .
كما نرى فأن القاعدة القانونية هي وحدة يتكون منها القانون أو النظام القانوني لكن هذا التعريف غير حاسم لذلك يجد رجال القانون صعوبة بالغة تعترض من يحاول وضع تعريف لهذه الظاهرة شأنه في ذلك كافة الظواهر غير الملموسة بالإضافة إلى أن القانون تتعدد مظاهره وتتشعب الآراء بالنسبة للأساس الذي يقوم عليه والهدف الذي يرمي إلى تحقيقه فقد يحرص المعرف على بيان الغرض الذي يسعى إليه القانون وقد لا يحرص آخر على ذلك بينما يري جانب من الفقه على الغرض من القانون هو تنظيم علاقات الأفراد داخل الجماعة .
لذلك نجد القاضي إذا لم يجد نصاً تشريعياً يقضي به في النزاع المطروح أمامه وجب عليه أن يبحث عن قاعدة عرفية فان لم يجد يستعين بمبادئ الشريعة الإسلامية وإذا لم يجد لا يجوز له النكول عن القضاء بدعوى عدم وجود قاعدة قانونية لأنه (القاضي) لا يمكنه أن يتخلى عن مهمته بحجة غياب القواعد القانونية ، أو غموضها وألا اعتبر منكر للعدالة فالقاضي يتعين عليه الرجوع إلى مبادئ القانون الطبيعي وقواعد العدالة لكي يستلهم الحكم الواجب التطبيق وكل ما يهمنا في هذه الظاهرة هو اعتبار القانون من مقومات الدولة والأسس التي تبني عليها ويكفل لها الاستمرار كما أن للقانون علاقة بالأخلاق إذ يتداخل في عديد من القواعد القانونية ما هو قانوني بما هو أخلاقي فمثلاً قاعدة الالتزام بعدم الأضرار بالغير ، وبعدم القتل ، أو السرقة وقاعدة وفاء الدين هي بطبيعتها قواعد قانونية وقواعد أخلاقية على حد سواء وهي قواعد لازالت حتى يومنا هذا وستظل باستمرار الموجه الأساسي لتنظيم السلوك الإنساني في نطاق المجتمع ” .
لذلك فالقاعدة عندما يضعها المشرع تكون نتيجة أزمة رغم أن الوثيقة الدستورية لم تحدد جميع المجالات بل تركت المجال مفتوحاً للمستجدات والتطورات فالدولة تضع من القانون لتراقب المجتمع في السابق أم الآن نجد أن المجتمع بدوره يراقب الدولة هذا من جهة ومن جهة أخري فالقانون ضرورة نفسية لكون الفرد يشعر بضرورة الالتزام في السلوك إما أخلقياً أو مبدئياً وإما اتعاظا بالعقوبات التي تلحق غيره ممن يقدمون على خرق القانون فانه سيشعر مع ذلك أنه في هذه الحراسة وفى هذا العقاب حماية له وضماناً لاستقراره داخل المجتمع وفى هذا الصدد يقارن أحد الأسلاف “القوانين بخيوط العنكبوت التي لا تتوفر سوى على قدرة القبض على ذباب في حين تخترقها الطيور ” .
لذلك فالقانون الذي يصدر عن البرلمان كنصوص نجدها لا تفعل كلها ويتم تجاهل العديد منها فمثلاً قانون عدم تدخين السجائر متجاوز ويعرفه الكل لكن لا أحد يحرك ساكن تجاه … وغيرها فليس سهلاً أن نقول مثلاً إن هذا القانون عادل حين يطبق وينصف الظالم والمظلوم ، فالأول يأخذ حقه والثاني يتعض ويستقيم .
إذا فأن القانون يسير مع مستجدات الواقع المعيشي ، ويشكل هذا الواقع لأنه بمعزل من هذه المستجدات المحيطة به وإذا انفصمت هاته العلاقة تكون قد دخلنا مجال الإمكانيات المعرفية بدون حلها ليبقي القانون والواقع كل في فلك يسبحون ، لذا فالنص القانوني أعماله خير من إهماله وفن صناعة القانون خير من نداءات واحتياجات الواقع لأنها تلبي
غاية المجتمع قبل جلو صوته ، ومن هنا يتبين أن وظيفة القانون تنحصر في تحقيق العدالة الاجتماعية لكن ما يجب أن يفهم هو أن مفهوم العدالة ذاته يطرح عدة إشكالات
تخص الجانب التصوري لهذا المفهوم أو هوية الفرد على المجتمع أم العكس وهذا هو موضوع المحور التالي .
المطلب الثاني : مفهوم العدالة
تنحصر وظيفة القانون في تحقيق العدالة الاجتماعية ، ومفهوم العدل ذاته يطرح عدة مشاكل تخص التصور الموحد له لذلك نجد أن هذا المفهوم مرتبط بمفاهيم أخري كالحق ، والحرية والمساواة ولهذا يتبادر إلى الذهن التساؤل حول أهمية العدالة وحضورها في المجتمع إذا انصرف كل واحد إلى ما هو مؤهل له بطبعه .
لذا يقتضي مبدأ العدالة على عدم محاسبة الناس على أفعال وتصرفات قاموا بها في ظل قانون سابق ، إذ لا يعقل بأن يأتي قانون جديد يحاسب الناس على ما أسلفوا من أفعال فذلك يعد من قبيل إنزال العقاب بمن أطاع النص القانوني القديم فعنصر الإلزام لا بد أن يواكب النص القانوني حتى يحقق العدالة وغياب هذا الإلزام لا يتأتى تحقيق العدالة .
وبذلك يتضح لنا من خلال النصوص القانونية أن التحمل مبني على القدرة والاستطاعة لذا نجد هنا غياب المساواة التي ينتج عنها في هذه الحالة اللاعدالة ، هنا نجد روح بعض النصوص تخاطب فئة المواطنة فكل مواطن يساهم بقدر استطاعته بوازع المواطنة والانتماء الذي يفرض على الإنسان أن يتحمل ويساهم كموطن في التكاليف العمومية .
فعلى الفرد أن يضحي بجزء من حريته ، وبجزء من ثروته خدمة للصالح العام ، فالناس متساوون أمام القانون لذلك يجب أن يتمتعوا بحقوق سياسية ومدنية واحدة .
أن العدالة لا تتحقق إلا في مرتع خصب وهو المصطلح عليه بدولة الحق والقانون دولة تبني فيها المؤسسات على المشروعية واحترام إرادة الأمة في الاختيار يعيش فيه القانون ويحيا وتموت فيها الأنانية النزعة الفردية لذلك ، فالباحث عن العدالة ينبغي قبل كل شئ أن يكون مؤمناً بها ، فهي كسائر الأمور المقدسة لا تزيل الخمار عن محاسن وجهها المشرق إلا للمؤمن بها .
وكما قلنا سابقاً فوظيفة القانون هي تحقيق العدالة على مستوي الفرد . كما يتجلى ذلك في المذهب الفردي وعلى مستوي المجتمع بغية تحقيق المصلحة العامة ، وبهذا نجد أن لكل فرد لديه فرصة الصعود الاجتماعي وتحسين وصفه بجهده ودأبه وهذا لا يفي أن تكون المساواة مطلقة كما في الاشتراكية لان الناس لم يولدوا متساويين ، بل تختلف مهارتهم ومواهبهم وبعضهم أكثر استعداداً لبعض الأعمال من غيرهم .
ومن هنا تتجلي دستورية التشريع الضريبي بكون الضريبة تفرض على كافة أفراد المجتمع ، مواطنون ، مقيمون على أساس مبدأ المساواة القانونية والاقتصادية دون استثناء أو إعفاء إلا في حدود ما يقرره المشروع على ضوء مبدأ شخصية الضريبة ، والقدرة التكلفية للمكلف على ضوء الظروف الاجتماعية والاقتصادية المحيطة بمستوي
الدخل والأجور والأسعار والأعباء على أساس مبدأ أن على الجميع أن يتحمل كل قدر استطاعته التكاليف العمومية وهذا إلزامي بقوة القانون.
المبحث الثاني : بناء دولة القانون
تعتبر دولة الحق والقانون نقيض دولة الاستبداد ، التي نجد فيها الحكام يمارسون فيها السلطة حسب هواه ويقيده في ذلك قاعدة قانونية ، في حين أن دولة الحق يقيد القانون الحاكم وباقي السلطات العامة ، كما تكون جميع التدابير الفردية التي تتخذها السلطات إزاء المواطنين مطابقة لقواعد قانونية وتخضع السلطات العامة لممثلي الشعب كما يتم احترام آلية تدرج القوانين مع وجود محاكم مستقلة تسهر على احترام القانون واحترام هرمية القواعد القانونية .
المطلب الأول : دولة الحق والقانون أم دولة القانون
إذا تعلق الأمر “ETATS DE DROIT” فأنها تترجم إلى “دولة القانون” لكن المجتمع المدني بدأ يميل لاستعمال “عبارة” دولة الحق والقانون لأداء المعني المستوحي من عبارة “DROIT” الواسعة كما تسير السلطات والأحزاب السياسية في نفس السياق ، لكن اللغة العربية تميز بين الحق والقانون عكس اللغة الفرنسية التي تطلق عبارة “DROIT” على المفهومين .
إن مفهوم دولة القانون “ETAT DE DROIT” تشهد تداولاً مكثفاً خلال العقدين الأخيرين من ق20 فتحول على النتيجة ذلك إلى حجة مرجعية في النقاش السياسي بخصوص مشروعية الدولة ودرجة شرعية أعمالها كما واكبت هذا الاستعمال مجهودات منهجية رامت في مجملها إلى مقاربة المفهوم بقدر من الدقة والوضوح والشمولية ، ويستلزم التنبيه إلى رياده المدرسة الألمانية في بلورة المفهوم وتأصيله ثم حدث المدرسة الفرنسية نفس المنحي لاحقاً مع العلم أن النقاش حول “دولة القانون” لم يحسم بعد حيث مازال الاجتهاد متجدداً بشأن طبيعة المفهوم ونطاقه ، وحدود امتداده ليس داخل الفكر السياسي الغربي المعاصر فحسب وحتى في النصوص المنتمية لأنساق حضارية مغايرة كما هو الشأن للفكر السياسي العربي الإسلامي .
والجدير بالذكر أم مصطلح دولة القانون اعم من دولة الحق والقانون إذ يؤكد سمو القانون على الإدارة على صعيد التطبيق والممارسة فالدولة لا تكتفي بالامتناع عن التدخل بشكل مخالف للقانون ، بل هي مجبرة على التصرف وفق قواعد وأحكامه كما يتجلى هذا في النظرية الألمانية التي يتزعمها “كاري ومالبرغ” لذا فدولة القانون ليست محكومة بالقانون وحسب بل خاضعة له أيضاً .
الدولة مصدر القانون وهو الذي يضمن استمرارها ولكونها صاحبة الحق في تحديد القواعد المنظمة لتصرفاتها ونشاطها ، لذلك تخضع من تلقاء نفسها للقانون وليس بفضل ضغط أو إكراه أو قوه مسلطة عليها من خارجها بسب أن الدولة في حاجة لان يطبق القانون
ويحترم لأنه كلما نفذ القانون كلما تمتعت الدولة بالمطابقة والملائمة ، علاوة على رغبة المجتمع في رؤية القانون مطبقاً ومنفذاً ومحققاً للعدالة .
أما النظرية الفرنسية فلا تطبق نظام “دولة القانون ETAT DE DROIT” بل نظام الدولة القانونية “LE SYSTEME DE L̓ETAT LEGAL” مبرزاً الفرق بين الوضعيتين حيث يقيد القانون نشاط الدولة في الحالة الأولي وتكون الأسبقية للدستور دون أن يتعرض القانون لأي شكل من أشكال الاعتراض في حين تكون في حالة ثانية “الدولة القانونية” أمام
وضعية تكفل حماية الأفراد وصيانة حريتهم حيث تكون الحقوق في منأى من كل خرق أو مس من أية جهة بما في ذلك الجهاز التشريعي ، فهكذا تكون الدولة القانونية إطار لتنظيم السلطات في حين تتحقق “دولة القانون” لتكريس مبدأ حماية حقوق الأفراد وحرياتهم .
المطلب الثاني : أهمية دولة القانون وتحقيق العدل والإنصاف
يمكن القول أن “دولة القانون” هي بديل عن السلطة المطلقة التي يملكها فرد أو مجموعة ما ، وهو كذلك بديل للحكم يصدر عن القوة الجسدية أو النفوذ الذي يمتلكه شخص ما أو مجموعة ما من طرف الحاكم أو المال أو العصبية إلى غيرها من إشكال النفوذ وبهذا المفهوم تكون دولة القانون نقيضها للدولة التعسفية والديكتاتورية من حيث إنها بديل لاغتصاب الحقوق والظلم والتعسف في مقابل تبنيها لقيم سامية ونبيلة تحقق الكرامة والحرية للشعوب فدولة القانون تنظم السلطة على أساس الحق والعدل والإنصاف وعلى أساس نصوص مكتوبة لا تترك الأهواء والتسلط مجالاً للتدخل وبالتالي يستطيع المجتمع ضمان حريته الخاصة وضمان مصالحه فلا يتحرك إلا تحت مظلة القانون الذي يضبط الأحكام ويقيد الحاكمين بنصوص وإجراءات لا يمكن تجاهلها .
فالشعوب في هذه الحالة أو الوضعية لا تقبل أن تفرض عليها القوانين من سلطة عليا دون أن يكون على الأقل قد رضي بها وبالتالي فالحاجة إلى دولة القانون مطلب أساسي وضرورة ملحة لإحقاق الحق وتكريس مبدأ العدالة وكل ذلك في سبيل إقرار النظام والتقدم للمجتمع .
إن صدور القانون وإقراره في ظل ” دولة القانون” لا يستفيد منه الفرد والمجتمع فحسب ولكنه يمنح للدولة قوة واحتراماً داخل المجتمع الذي تسيره ويمنح سلطتها المصداقية ، علاوة على الاحترام الدولي أو الخارجي الذي تكون الدولة في حاجة إليه لتكون مكانتها الدولية محترمة الجانب .
فالباحثون في دولة القانون يجمعون على ضرورة توافر العديد من الآليات لتحقيق سليم لروح هذا المفهوم وضمان صيرورته في ظل واقع ملموس وكذا توفير الظروف والضمانات لترسيخ هذا المفهوم في ثقافة ووعي المواطنين ومن أهم المداخل لتجسيد دولة القانون وتكريس وجودها هي :
– مبدأ الشرعية : أي تقييد والتزام الجميع بمبدأ سيادة القانون والخضوع سلوكاً واستقامة وممارسة .
– الرقابة القضائية : كوسيلة أساسية لحماية دولة القانون “وضمان” تحقيقها في ظل تقوية مبدأ استقلالية القاضي الإداري .
– سمو الدستور : ومراقبة دستورية القوانين كشرط ضروري لدولة القانون فبدونها يبقي الدستور دون معني ويتحول إلى قيمة رمزية .
قد يظهر مفهوم العدالة مرتبطاً بمفاهيم أخري كالحق ، والمساواة إلى غير ذلك من المفاهيم ،، مما يؤدي إلى التساؤل حول أهمية العدالة وحضورها في المجتمع وارتباطها
بحقوق الإنسان وبالأخلاق … ومن ثم تطرح التساؤلات التالية نفسها : هل هناك فعلاً عدالة ؟ أم أن العدالة مجرد مثال يصعب تحقيقه والوصول إليه ؟ هل العدالة قيمة مطلقة أم نسبية ؟ وأخيراً ما هو البعد الأخلاقي للعدالة باعتبارها قيمة ؟
1- العدالة كقيمة أخلقية عليا
كان السفسطائيون من أوائل من عالجوا إشكالية العدالة ، وقد كانت قناعتهم الفلسفية تقوم على اعتبارات ترتبط بالشك المذهبي ، فكانوا يعتبرون الفرد مقياس كل شي . وعلى هذا الأساس اعتقد السفسطائيون أن العدالة غير موجودة أو على الأرجح ، إنها مفهوم غامض وقيمة لا يؤمن بها إلا الضعفاء وكان غلوكون يعتمد في شرحه للموقف السفسطائي – على أسطورة جيجيس GYGES ذلك الراعي الذي اكتشف أن تحريك خاتم في إصبعه يخفيه عن أنظار الناس ، فجعله ذلك يتنكر لمبادئه الأولي حول العدالة .
وقد أتت الأطروحة الافلاطونية لتدحض الفكر السفسطائي ، علماً بان أفلاطون لا يؤمن بالمفهوم الديموقراطي للعدالة . حيث أكد أفلاطون بصريح العبارة ، أن العبيد واهمون حينما يعتقدون في المساواة ، لان العدالة لا يمكنها أن تكون كذلك ابدأ لان الناس خلقوا غير متساوين بطبعهم (أسطورة المعادن) . ومن ثم فان العدالة تتجسد عملياً في المجتمع إذا انصرف كل واحد إلى ما هو مؤهل له بطبعه فيجب أن يكون التقسيم الطبقي للمجتمع ، متطابقاً مع تقسيم قوى النفس (القوة الشهوائية ، والقوة الغضبية ، والقوة العاقلة) . والحكمة تقتضي أن تخضع القوتان الشهوائية والغضبية إلى القوة العاقلة لتصل القوة الشهوائية إلى فضيلتها التي تتجلي في العفة والاعتدال ، وتسمو القوة الغضبية إلى فضيلتها التي تتمثل في الشجاعة .
إن قيمة العدالة هي توجه قوى النفس وتضمن تربيتها باعتبارها فضيلة الفضائل . وعلى غرار النفس ، لا يمكن أن نضمن مدينة مثالية – في نظر أفلاطون – دون أن يضم المجتمع ثلاث طبقات (علاوة على طبقة العبيد) ، وهي : طبقة العامة ، وطبقة الجند ، وطبقة الحكام ، وهم الفلاسفة الذين عليهم الانصراف إلى إدراك العدالة كقيمة عليا ترتبط بعالم المثل …
أما أرسطو ، وإن كان هدفه محاربة الفكر السفسطائي ، إلا انه يختلف مع أفلاطون في تمثيله للعدالة ، حيث يري أرسطو أن العدالة تتمثل نظرياً في الوسط الذهبي (لا إفراط
ولا تفريط) الذي يستطيع وحدة أن يضمن الفضيلة وعلى هذا تتأسس العدالة العلمية ، التي تتجلي بخصوص في توزيع الثروات بين الأفراد بطريقة رياضية تناسبية (بمعني أن العدالة تقتضي أن يتقاسم الأفراد بينهم بطريقة عادلة الصالح والطالح) ، كما تتجلي في
سن قوانين قمينة بضمان الأمن والسكينة والإنصاف لسكان المدينة وتقوم العلاقات بين أفراد المجتمع على صداقة حقيقية ومثالية .
وقد خرج مفهوم العدالة من الإطار الميتافيزيقي ، مع الفلسفة السياسية التي دشنتها فلسفة الأنوار ، حيث نجد الفيلسوف الإنجليزي ديفيد هيوم D.HUME يحاول أن يتكلم انطلاقاً من تبعات الثورات الصناعية وروح الثورة الصناعية وروح الثورة الفرنسية ، فربط العدالة بالرفاهية التي يجب تحقيقها للفرد فوصفه مستهلكاً مما سيؤدي إلى احترام
لقوانين والالتزام بها . وهذا في اعتقاده لن يتحقق إلا بضمان الحرية الفردية التي يمكنها أن تتبلور مع الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج علاوة على التصنيع ، والتقنية . وهذا ، فعلاً ، يجسد تلك الروح الليبرالية التي تعتقد أن الدولة توجد في خدمة الفرد وليس العكس . ويعتقد مونتيسكيو MONTESQUIEU أنه لا يمكن ضمان العدالة الفردية إلا بفصل السلطات الثلاثة [التشريعية ، والتنفيذية ، والقضائية] . إلا أن بانجمان كونسطان B.CONSTANT يعتقد أن على الفرد كذلك واجبات تجاه الدولة ، فعلى الفرد أن يضحي بجزء من حريته ، وبجزء من ثروته خدمة للصالح العام .
إذا تجاوزنا هذا الطرح الفلسفي السياسي ، فإننا نصادف الفيلسوف الألماني كانط KANT يحاول أن يؤطر العدالة إطار معياري أخلاقي .لان العدالة – في نظره – قيمة أخلاقية ترتبط بثلاث معايير أخلاقية هي : الحرية ، والكرامة ، والواجب . فالإنسان موجود حر يملك كرامة تفوق كل سعر ، ويعمل كذلك بمقتضي الواجب الأخلاقي الذي يتطلب من الفرد أن يعمل كما لو كأن أسوه لغيره من الأفراد ، وان يسلك كما لو كان مشرعاً وفرداً ، وان يتعامل مع الآخرين من خلال احترام متبادل يمليه عليه احترامه لنفسه . لا يمكن للعدالة أن تتجسد – إذن – إلا من خلال أعمال عقل أخلاقي عملي ، يسمو به الإنسان فوق كينونته الطبيعية .
2- نقد العدالة كقيمة أخلاقية
أن هذه المتمثلات وغيرها لم تكن دون أن تشهد اعتراضات من بعض الفلاسفة ، فنجد نيتشه يشك في إمكانية وجود عدالة وجود عدالة . حيث يعتقد هذا الفيلسوف أن منطق القوة وحده يؤطر السلوك البشري ، فإرادة القوة تفترض هيمنة أخلاق القوة (أخلاق السادة) أما المساواة والحرية …، فهي من شيم الضعفاء ، ومن الطوباوية بأن الاعتقاد بأن العدالة يمكنها أن تؤطر العلاقات بين الأقوياء والضعفاء فالعدالة . لا تكون إلا بين الأقوياء والأنداد .
أما الفيلسوف الفرنسي ميشل فوكو M. FOUCAULT ، فيعتقد أن العدالة ليست قيمة أخلاقية ، لأنه يغلب عليها الطابع المؤسسي (أو المؤسساتي) : فالمجتمع يعمل من خلال مؤسسات تعمل بطريقة سلطوية ، تقوم بنشر مفهوم معين للعدالة ، وتسهر على احترامه وتنفيذه ، ولا تطلب من الفرد إلا أن يكون خاضعاً طيعاً .
يلاحظ من خلال الأطروحات السابقة ، أن الأفكار توزعت بين من يؤمن أيماناً قطعياً بالعدالة ومن يشك في وجودها دون أن يعني أن هناك إجماع حول تمثل العدالة بصورة واحدة . ولكن إلا يحق لنا . أن نواجه من يشك في وجود العدالة كقيمة أخلاقية بالتأكيد على أن المجتمع الذي يتأسس على العدالة يضمن أكثر للإنسان إنسانيته ويحفظ له كرامته ؟! فمن الأفضل أن يأمل الإنسان في مثل وقيم من أن يعيش بدون مبادئ تحفظ له كرامته وتصون له حرياته داخل المجتمع المدني المعاصر . منقول