مقتطف من كلمة السيد الرئيس الاول لمحكمة النقض المتعلق بالقرارات القضائية التي بصمت سنة 2015 


  مقتطف من كلمة السيد الرئيس الاول لمحكمة النقض المتعلق بالقرارات القضائية التي بصمت سنة 2015 

 

هذه المؤشرات والأنشطة المختلفة تعضدها مضامين حقوقية ورؤية مقاصدية متبصرة تبرز تجلياتها في العديد من القرارات المبدئية الهامة التي أصدرتها محكمة النقض هذه السنة والتي سأكتفي بالإشارة إلى بعض منها حيث يتضح منها بالملموس المقاربة الإصلاحية والروح الدستورية التي تستهدف تكريس الثقة وضمان الأمن القضائي والقانوني بكل أبعاده.
وفي هذا السياق، وتكريسا من محكمة النقض لقواعد وضوابط دولة الحق والمؤسسات المستمدة من الدستور والمرجعية الملكية والمواثيق الدولية فقد أعلنت محكمة النقض في قرار مبدئي هام وبشكل واضح لا لبس فيه أنه لا حصانة لأي قرار إداري من الخضوع للرقابة القضائية مستندة في ذلك على دستور المملكة في مادته 118 ومؤكدة أن دعوى الإلغاء بطبيعتها دعوى قانون عام يمكن أن توجه ضد أي قرار إداري دونما حاجة إلى نص قانوني صريح يجيزها.
وتحديدا منها لحالات مسؤولية الدولة عند الامتناع عن فك الاعتصامات، فقد أبرزت محكمة النقض في قرار هام أن هذه المسؤولية عن أخطاء الأجهزة المكلفة بحماية الأمن العام تتطلب أن تكون على درجة كبيرة من الجسامة بالنظر إلى دقة عملها والأعباء الكبيرة الملقاة على عاتقها والإكراهات التي تشتغل في إطارها وتفرض عليها الملاءمة بين التدخل لحماية سلامة الأشخاص وأقربائهم وممتلكاتهم باعتبارها حقوقا دستورية، وبين أن يكون تدخلها غير ماس بالحريات والحقوق المكفولة قانونا لمن تم التدخل لمواجهتهم مع الأخذ بعين الاعتبار لظروف الزمان والمكان، لتخلص بعد ذلك محكمة النقض في قرارها إلى أن امتناع تلك الأجهزة عن التدخل أو تأخرها في ذلك بشكل غير مبرر أو تدخلها بشكل سيء، يرتب مسؤولية الدولة عن الأضرار الناتجة عن ذلك، معتبرة التأخر في التدخل يتحقق عندما تستنكف تلك الأجهزة لمدة غير معقولة عن القيام بواجبها لحماية الحقوق المذكورة دون مبرر مقبول.
وفي نفس السياق، وحماية لملكية الأفراد والجماعات أكدت محكمة النقض مرة أخرى توجهها القضائي السابق الذي ينم عن بعد أخلاقي تضامني حيث قررت أن الأضرار التي يتعرض لها الخواص الناجمة عن أعمال الشغب التي تقوم بها جماعات تحركها قناعات مشتركة تنمحي معها شخصية كل واحد فيها وذلك بشكل علني مرفوق بمظاهر العنف والتي يكون الهدف منها ضرب استقرار الدولة وزرع القلاقل فيها والمس بأمنها، فإن الدولة تسأل عنها في إطار التضامن الوطني بصرف النظر عن قيام الخطأ في جانب مرفق الأمن من عدمه.
كما عمل قضاء هذه المحكمة على التعامل بكل إيجابية مع الاتفاقيات الدولية المصادق عليها من طرف المملكة من خلال تطبيق مقتضياتها في عدد من القضايا ومنها قضية ارتبط موضوعها باتفاقية لاهاي المتعلقة بالمظاهر المدنية للاختطاف الدولي للأطفال المؤرخة في 25/10/1980 والمصادق عليها من طرف المغرب سنة 2011 ونشرت بالجريدة الرسمية سنة 2012، حيث نقضت محكمة النقض قرار محكمة الموضوع لعدم تحققها من توافر شروط تطبيق مقتضيات هذه الاتفاقية واعتبرت ذلك خرقا للدستور وللاتفاقية التي هي بمثابة قانون داخلي.
وتطبيقا لمضامين الاتفاقية الدولية الصادرة عن مؤتمر العمل الدولي المؤرخ في يونيو 1981 اعتبرت محكمة النقض في أحد قراراتها أن محكمة الموضوع لم تصادف الصواب عندما اعتبرت الأجير قد غادر تلقائيا العمل و الحال أن الأجراء احتجوا على تشغيلهم فوق سطح المقاولة وتحت أشعة الشمس الحارقة أمام تعنت رب العمل في مواجهتهم، وهو ما اعتبرته هذه المحكمة طردا مقنعا وتملصا من المشغل من التزامه بالحفاظ على صحة وسلامة الأجراء وهو مقتضى من النظام العام أكدته الاتفاقيات الدولية .
وتحديدا لمجالات تطبيق الاتفاقيات الدولية أوضحت محكمة النقض في قضية تتعلق بحوادث النقل الجوي للركاب أن الرحلات الداخلية التي تربط بين نقطتين جغرافيتين داخل إقليم المملكة تطبق بشأنه مرسوم 10/7/1962 والقوانين المغربية الأخرى القابلة للتطبيق .
وحرصا من هذه المحكمة على ضمان الثقة العامة وتكريسا لآليات جديدة في التنفيذ على أموال الدولة، فقد استقر قضائها على أن أموال أشخاص القانون العام يجوز الحجز عليها لدى الغير تنفيذا لأحكام القضاء متى كانت تلك الأموال غير مرصودة للسير العادي للشخص العام وكان حجزها لا يؤثر على استمرارية قيامه بالمهام المنوطة به.
وحماية للحقوق المالية للأفراد في مواجهة امتناع الإدارة عن التنفيذ أكدت محكمة النقض عدم وجود أي مقتضى في قانون المسطرة المدنية وتطبيقاته القضائية وفي غيره من القوانين ما يستثني أموال الإدارات العمومية من إجراءات التنفيذ بما فيها حجز ما للمدين لدى الغير والمصادقة على هذا الحجز بعلة خضوعها لقواعد صرف خاصة أو لكون الحجز عليها يعتبر تدخلا في السلطة التشريعية التي برمجتها في الميزانية العامة.
وحماية للمرتفقين والمتعاملين مع مؤسسات وإدارات وطنية في مجالات حيوية هامة قررت محكمة النقض بأن الوكالة المستقلة لتوزيع الماء والكهرباء قد تجاوزت في استعمال سلطتها عندما اتخذت قرارا انفراديا بتحديد مبلغ التعويض عن الأضرار الناجمة عن اختلاس التيار الكهربائي في حين أن ذلك من صميم اختصاص القضاء الذي يرجع إليه في ظل ضمانات التقاضي المنصوص عليها قانونا.
وتفعيلا للسلامة الطرقية ومكافحة آفات حوادث السير، اعتبرت المحكمة الشركة المكلفة بالطريق السيار مسؤولة عن تسييج هذه الطرق لمنع الحيوانات من ولوجها والمس بسلامة المسافرين، ورتبت على ذلك خطأها المرفقي مستبعدة أن يكون هذا الولوج حادثا فجائيا لا يمكن توقعه.
وتحقيقا لقواعد العدالة في مجال التأمين أصدرت محكمة النقض قراراً يحمل أهمية كبرى وأبعادا متعددة حيث اعتبرت سماح إدارة الجمارك والضرائب غير المباشرة لشاحنة بالدخول إلى التراب المغربي وهي لا تتوفر على تأمين دولي أو البطاقة الخضراء، خطأ مرفقيا تسأل عنه وتتحمل بسببه أداء التعويض عن الأضرار اللاحقة بالأشخاص الذين أصيبوا في حادث تسببت فيه الشاحنة المذكورة.
ومن أجل تدقيق قواعد السلامة العامة و ضبط مجالات المسؤولية قررت محكمة النقض أن الوكالة الوطنية للموانئ مسؤولة عن الحوادث التي تقع بالحوض الجاف التابع لها باعتبارها مؤسسة عمومية وجعلت ذلك من الاختصاص النوعي للمحاكم الإدارية بالبت فيها.
وإضفاءا للمصداقية على الصفقات العمومية، اعتبرت محكمة النقض أن الإدارة صاحبة المشروع يجب عليها الوفاء بالدين كلما تقدمت الأشغال بالنظر إلى الطابع الملزم للصفقة التي تربطها بالمتعامل.
وفي سياق تكريس قيم المواطنة والشفافية والمساواة في الحقوق والواجبات، أكدت محكمة النقض بشكل صريح أن مبدأ تكافؤ الفرص يقتضي معاملة جميع الموظفين على قدم المساواة وأيدت قرار المحكمة التي ألغت مقرر الإدارة بعلة أن تعيين بعض الطبيبات بالقرب من بيت الزوجية بدون تبرير ودون خضوعهن لإجراء القرعة ورغم أن المطلوبة في النقض لها نفس ظروفهن يعتبر خرقا للفصل 12 من الدستور.
وصونا للضمانات القانونية في المحاكمات أو الإجراءات الإدارية والتأديبية، فقد اعتبرت هذه المحكمة في قضية تتعلق بالغش في الامتحان أن حقوق الدفاع تكون قد خرقت بشكل جوهري عندما تم الاكتفاء بتحرير محضر ضبط الغش في الامتحان في حق إحدى الطالبات وتم اتخاذ قرار في حقها على ضوئه دون عرضها على المجلس التأديبي كما يقتضي ذلك المرسوم.
ولأن التأخير في إحقاق الحقوق ظلم بعينه وتفعيلا لمبدإ إصدار الأحكام العادلة داخل آجال معقولة، طورت محكمة النقض اجتهاداها من خلال إجازتها لرئيس الهيئة بصفته نائبا عن الرئيس الأول تغيير المستشار المقرر إذا طرأ حائل قانوني أو موضوعي بعدما كان هذا الأمر محصورا فقط في الرئيس الأول، وفي هذا الاجتهاد اختزال كبير للكلفة الزمنية الإجرائية.
ومن أجل مواجهة الطعون والإجراءات الكيدية والتعسفية وتقصيدا للمفهوم الحقيقي للفصل 103 من قانون المسطرة المدنية اعتبرت محكمة النقض أنه ليس واجبا الاستجابة لطلب إدخال الغير في الدعوى إذا كانت غايته إقامة الحجة لأحد الأطراف خارج المساطر المعدة لذلك أو ثبت أن هدفه تمديد أجل البت في النزاع .
وتحقيقا للعدالة الإجرائية اعتبرت محكمة النقض في أحد قراراتها أن مجرد تقديم ادعاء مباشر أمام قاضي التحقيق مشفوع بمطالب مدنية لا يصل لمستوى وجود دعوى عمومية رائجة من شأنها تبرير إيقاف البت في الدعوى المدنية تبعا للمادة 10 من ق.م.ج.
وتفعيلا لدور النيابة العامة في ممارسة رقابتها الإيجابية لفائدة القانون أجازت محكمة النقض لمحكمة الاستئناف تدارك الإغفال الذي وقع في المرحلة الابتدائية بإحالة الملف على النيابة العامة للإدلاء بمستنتجاتها الكتابية الرامية إلى تطبيق القانون وذلك دون إبطال الحكم وإرجاع الملف إلى المحكمة الابتدائية من جديد على أساس أن النيابة العامة وحدة لا تتجزأ.
وتفعيلا لحقوق الدفاع في المادة الضريبية التي تكتسي أهمية بالغة في تكريس الثقة قررت محكمة النقض أن مسطرة الفرض التلقائي للضريبة تستلزم احترام إجراءات التبليغ في إطار مسطرة تواجهية حقيقية واعتبرت تبعا لذلك رجوع الإشعار البريدي بملاحظة ” منطقة لا يشملها التوزيع”، بأنها لا تفيد لتوصل الملزم بالضريبة.
وفي نفس الإطار، وتفاعلا من محكمة النقض مع التوجهات الدولية الحديثة في مجال حماية البيئة، فقد اعتبرت أن محكمة الموضوع كانت على صواب عندما استندت على خبرة فنية أثبتت وجود ضرر ناتج عن انبعاث غازات صادرة عن معامل المكتب الشريف للفوسفاط وأن هذه النفايات تنتهي بالتساقط على أوراق النباتات وعلى أراض الجوار مرتبة بذلك مسؤولية هذه المؤسسة عن أداء التعويض للمتضررين.
وفي مجال العدالة الاقتصادية وحماية للمستهلك، لاحظت محكمة النقض استمرار بعض الأبناك في احتساب الفوائد بشكل تعسفي على الحسابات البنكية غير المتحركة، فأصدرت في سابقة هامة قرارا يوجب على البنك قفل الحساب الجاري الذي لم يعد يعرف حركيته العادية حتى لا يستمر في إنتاج فوائد بنكية ومن ثم لم يعد بإمكان البنك أن يبقى هو المتحكم بإرادته المنفردة في تحديد تاريخ الإقفال وإنما لوضعية الحساب الذي يسهل على البنكي معرفتها وهي خاضعة في ذلك لمراقبة القضاء.
وفي نفس المنحى، وتحقيقا للتوازن المصرفي والمالي اعتبرت محكمة النقض أن النشاط المصرفي الذي تحترفه الأبناك يلزمها باتخاذ كافة الإجراءات الاحترازية لحماية مصالح عميلها تحت طائلة تحميلها تبعة المخاطر التي قد تنشأ عن تقصيرها.
وتفعيلا لمقتضيات قانون مكافحة غسل الأموال، شددت محكمة النقض على مسؤولية مؤسسة بنكية عن الأضرار التي لحقت بالغير حين قامت بفتح حساب لشركة بطلب من مشتري حصصها دون تحققها بشكل كاف من هوية الشخص الطبيعي ودون التأكد من صحة عمليات تفويت هذه الحصص مما ترتب عنه سحب الشركة شيكات مجهولة المصدر تضرر منها الغير.
وتأكيدا منها لحجية الإثبات الالكتروني وتفاعلا مع التطورات المتسارعة التي فرضتها العولمة وتكنولوجيا الاتصال أكدت محكمة النقض مرة أخرى توجهها السابق حيث جاء في قرارها أن الوثيقة المحررة على دعامة إلكترونية تعد وسيلة إثبات مقبولة متى كان متوفرا بصفة قانونية التعرف على الشخص الذي صدرت عنه وتكون معدة ومفوضة وفق شروط من شأنها ضمان تماميتها.
وفي سياق آثار العولمة على البنيات الاجتماعية والاقتصادية للدول وتنقل اليد العاملة عبر العالم وضبطا منها لعملية تشغيل الأجانب وما أصبحت تثيره من إشكاليات يتعين مقاربتها بشكل متوازن فقد ذهبت محكمة النقض إلى أن تشغيل الأجنبي يقتضي الحصول على رخصة من السلطة الحكومية المكلفة بالشغل تسلم على شكل تأشيرة توضع على العقد ومتى انعدمت هذه التأشيرة بطل هذا العقد، وهي محددة في الزمان وبالتالي فإن استمرار الأجير في العمل بعد انتهاء أجلها لا يجعل من عقد عمله غير محدد المدة بل يكون الالتزام باطلا وعديم الأثر.
ومراعاة منها للوضع الخاص للعمال المغاربة المقيمين بالخارج و ضمانا لحقوقهم الدستورية ذهبت محكمة النقض إلى أن هذه الفئة، تستفيد من الإعفاء المنصوص عليه في دورية مديرية الضرائب إذا توافرت شروطها والتي تكون ملزمة للإدارة إعمالا بمبدأ الثقة المشروعة.
هذا المنظور القضائي للعدالة الاجتماعية في بعدها الحمائي لحقوق الأجراء، سيبدو جليا في القرار الصادر عن محكمة النقض والذي أكدت فيه أنه في حالة تعارض اتفاقية جماعية مع قرار وزيري فإن القانون الأفيد للأجير يكون هو الواجب التطبيق.
ولكن في نفس الآن وضبطا للعمل النقابي المسؤول وحماية للحقوق من الممارسات التي قد تخرجها عن سياقها الدستوري ومنها الحق في الإضراب فقد نصت محكمة النقض على أن الدستور المغربي ولئن كان يضمن ممارسة حق الإضراب من أجل الدفاع عن الحقوق المشروعة للعمال، فإن قيام الأجراء بحجز الشاحنات والاحتفاظ بمفاتيحها قصد الضغط على المشغلة بإصلاحها يشكل عملا غير مشروع.
وتحقيقا للأمن الأسري، فقد أصدرت محكمة النقض عدة قرارات ذات حمولة حقوقية وأبعادا اجتماعية بمقاربة واقعية تستهدف الوصول إلى التطبيق العادل والناجع للنصوص ومنها القرار الذي كرس الحقوق المالية للزوجة عندما أقر موقف محكمة الموضوع في توجهها حين اعتبرت بأن الزوجة لما بذلت مجهودا في اقتناء بيت الزوجية بتكليف من الزوج نفسه فإنها تستحق عنه التعويض في إطار اقتسام الأموال المكتسبة.
وحفاظا على النظام العام الأسري، ولمواجهة بعض الظواهر السلبية الدخيلة على مؤسسة الزواج قررت محكمة النقض في نازلة عرضت عليها، عدم وجود ما يسمى بالزواج الصوري في القانون المغربي ورتبت تبعا لذلك كافة آثار الزواج الصحيح مستبعدة الادعاء بالصورية.
وسيرا على نهجها في حماية حقوق الطفل ومصلحته الفضلى، فقد رفضت محكمة النقض طلب إسقاط الحضانة الذي تم تبريره بعلة أن استقرار المحضون مع والدته ببلدها الأصيل ومتابعته لدراسته الابتدائية معها ، وهي التي لم يسبق أن أقامت بالمغرب، لا يمكن اعتباره انتقال مع المحضون للإقامة بالخارج وأن مصلحة المحضون تكمن في البقاء مع أمه إلى أن يبلغ سن الاختيار.
كما أسست محكمة النقض لموقف قضائي هام بخصوص قضايا الاعتداء الجنسي على الأطفال غير المميزين وانتهاك برائتهم والتي تتسم بصعوبة إثباتها وإثبات ظروفها المشددة حيث حسمت النقاش القضائي معتبرة هذا الفعل جناية وليس جنحة لأن ظرف العنف يكون مفترضا وثابتا مهما كانت الظروف في جرائم هتك عرض القاصرين غير المميزين الذين لا يمكن أن ننسب إليهم أي رضى أو قبول.
هذا الموقف جاء لينسجم مع دستور المملكة وما تنص عليه العهود والمواثيق الدولية وأغلب التشريعات العالمية الحديثة.
هذه المقاربة الجديدة للعدالة الجنائية في بعدها الموضوعي والمسطري تجلت أيضا في قضية تتعلق بالحصانة البرلمانية حيث قررت محكمة النقض أنه إذا كان عضو البرلمان قد توبع قبل صدور دستور 2011 لكن البت في هذه المتابعة تم بعده، فإن القانون الشكلي الواجب التطبيق هو دستور 2011 الذي لم يعد يقر للبرلمانيين حصانة إجرائية سابقة لمتابعتهم.
وضبطا لحقوق وواجبات اللاجئين السياسيين وتحديداً لمعنى الحصانة التي يتمتعون بها، اعتبرت محكمة النقض أن صفة لاجئ سياسي وإن كانت تمنحه وضعا قانونيا خاصا يستفيد من خلاله من الحماية الدولية فإن ذلك لا يعني أنه أصبح يتمتع بحصانة تجعله خارج القانون، حيث أن صفة اللاجئ تخوله فقط الحق في عدم تسليمه للدولة التي خرج منها طالبا اللجوء، أما ما يرتكبه من جرائم بعد حصوله على صفة لاجئ سياسي فإنه يكون مسؤولا عنها ويحاكم ويسلم طبقا للقانون.
وفي إطار إيجاد التوازن بين مكافحة جرائم الهجرة السرية وضمان قواعد المحاكمة العادلة والتطبيق السليم للقانون، أوجبت محكمة النقض على قضاة الموضوع ضرورة التحقق من توافر عنصر الاعتياد من عدمه لأنه يغير من وصف هذه الجريمة من جنحة إلى جناية ويؤثر على قواعد الاختصاص النوعي.
ولمواجهة بعض آثار الإجرام الإلكتروني الذي أصبح ظاهرة عالمية مقلقة، اعتبرت محكمة النقض أن إدارة الجمارك كطرف مدني محقة في المطالبة بمبالغ مالية في مواجهة الطاعن الذي أدين من أجل المشاركة في مناورة معلوماتية قصد الحصول بصفة غير قانونية على نظام القبول المؤقت حيث استعمل القن السري للشركة دون علمها من أجل التهرب من أداء الرسوم الجمركية.
وحماية للصحة العامة وزجرا للجرائم الماسة بها، اعتبرت محكمة النقض أن الظهير الشريف المؤرخ في 29/10/1959 يطبق على الأشخاص الذين قاموا عن تبصر قصد الاتجار بصنع منتوجات أو مواد معدة للتغذية البشرية ثبتت خطورتها على الصحة العمومية أو باشروا مسكها أو توزيعها أو عرضها للبيع أو بيعها، وذلك بغض النظر عن حصول ضرر بشري جسماني تم التشكي منه.
وتكريسا لهذه المقاربة الحمائية للحق في الصحة، فقد قررت محكمة النقض أن مسؤولية الطبيب تستلزم منه الحيطة والحذر الموافقين للحقائق العلمية المكتسبة والمطابقة لأصول المهنة المستقر عليها في علم الطب ومنها أن يطلع قبل إجراء العملية على كافة المعلومات الضرورية المتعلقة بالمريض وحالته الصحية وردود فعله المحتملة.
كما أن انتشار حالات تهدم المباني وما تثيره من إشكالات على مستوى المسؤولية القانونية والمس بالحق في السلامة الجسدية. فقد قررت محكمة النقض أن مالك البناء هو المسؤول عن انهياره أو تهدمه الجزئي الناتج عن القدم أو عدم الصيانة أو عيب في البناء ولو في حالة إيجاره للغير.
ونظرا لبعدها الديني والاجتماعي وحماية لها من النهب اعتبرت محكمة النقض الزوايا من الأوقاف العامة وتدخل في زمرة المحلات المخصصة لإقامة شعائر الدين الإسلامي وهي بذلك لا تُتملك بالحيازة مهما طالت، وأن إقامة أبنية أو محلات مكرية لا ينزع عن هذا الملك طابعه الحبسي كزاوية.
وتفعيلا للحماية القانونية للملك الحبسي و حفظا له من التواطؤ والاستيلاء فقد اعتبرت محكمة النقض أن وزارة الأوقاف لها الصفة والمصلحة في تتبع الدعوى التي صدر الحكم بمحضرها، باعتبارها هي المكلفة للدفاع عن الملك الحبسي وتتبع الدعاوى الجارية بشأنه.
وفي إطار ضبط المعاملات المتعلقة بالتجزئات العقارية، فقد استقر قضاء محكمة النقض على أن قسمة تصفية عقار خاضع لقانون التجزئات يستوجب البحث في مدى قابلية هذا العقار للقسمة العينية وفقا لضوابط هذا القانون ولتصاميم التهيئة والتنطيق.
كما أن تطهير المعاملات الكرائية المنصبة على أراضي الجموع جعل محكمة النقض تقرر بأن هناك ضوابط وشروط يتعين احترامها عند إبرام هذه العقود ومنها إذن جمعية المندوبين وموافقة الجهة الوصية، وإلا كانت تلك العقود غير منتجة في الدعوى.
واهتماما بقضايا الملكية المشتركة، التي أصبحت من المواضيع التي تثير العديد من الإشكالات القانونية والقضائية قررت محكمة النقض أن تطبيق نظام هذا النوع من الملكية على العقارات غير المحفظة رهين بإيداع هذا النظام بكتابة ضبط المحكمة الواقع العقار بدائرتها وذلك يإيعاز من المالك الأصلي أو من الملاك المشتركين وإلا وجب تطبيق القواعد العامة.
وحماية لأطراف عقود الإيجار المفضي للتملك الذي أصبحت له مكانة هامة في المعاملات العقارية، فقد قررت محكمة النقض بأن عدم تسجيل العقد بالرسم العقاري أو إجراء تقييد احتياطي بشأنه، يجعل المعني به في حكم المحتل بدون سند.
وضمانا للأمن التعاقدي أمام الموثق العصري، اعتبرت محكمة النقض أنه لا يجوز لأي موثق إعفاء الشخص الذي يتولى الترجمة أمامه من أداء اليمين إلا بناء على تنازل كتابي صريح من الشخص الذي تتم الترجمة لفائدته ويتعين أن تتم الترجمة علنا لا همسا في الأذن وذلك حفاظا على الثقة التي يجب أن يزرعها الموثق في المتعاقدين.
وفي نفس السياق وحفاظا على توازن الحقوق عند ممارسة المهن القانونية والقضائية فقد اعتبرت محكمة النقض أن تملك حصص في شركة ذات مسؤولية محدودة لا يعد ممارسة للتجارة ولا يدخل ضمن حالات المنع المنصوص عليها في ظهير التوثيق العصري ولا يترتب عنها المسائلة التأديبية.
واعتبارا للدور الأساسي الذي تلعبه مهنة المحاماة في إرساء الثقة في منظومة العدالة وصيانة لها من الممارسات التي قد تسيء إليها ، اعتبرت محكمة النقض قيام المحامي بسحب المبلغ المودع تنفيذا لحكم قضائي وعدم تمكين موكله منه رغم فوات الأجل يكون مرتكبا لمخالفة عدم التقيد في سلوكه المهني بمبادئ الاستقلال والتجرد والنزاهة وما تقتضيه الأخلاق الحميدة وأعراف وتقاليد المهنة.
وحماية للمحامي أثناء أدائه لرسالته النبيلة اعتبرت محكمة النقض عدم إمكانية تحريك النقيب لأي متابعة ضد محام إلا إذا تلقى شكاية مباشرة من مشتكي معلوم أو من الوكيل العام للملك ولا يمكن قبول أي متابعة اعتمادا على مجرد وشاية.
ولإعطاء حصانة الدفاع دلالتها القانونية و الأخلاقية الواجبة عند ممارسة مهنة المحاماة قررت محكمة النقض بأن هذه الحصانة يتعين إعمالها فقط بخصوص الحوادث التي تقع أثناء مزاولة المحامي لنشاطه المهني وهي لصيقة بمهام الدفاع.
السيدات والسادة الأفاضل؛
إن المساحة الزمنية لهذه الكلمة لا تسمح لي باستعراض كافة نماذج القرارات التي تفتقت عن تجربة وحنكة وكفاءة قضاتنا بهذه المؤسسة العتيدة الذين يعملون بكل مسؤولية ونزاهة على التفعيل الأمثل لمقتضيات الدستور والتطبيق العادل للقانون في أبعاده الاجتماعية والاقتصادية والأخلاقية والسياسية مستهدفين حماية حقوق الناس وحرياتهم وإرساء دعائم أمنهم القضائي مهتدين بقوله تعالى:”إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل”. صدق الله العظيم.
الحضور الكريم؛
لا شك أن النصوص القانونية مهما بلغت دقتها فإنها تبقى قاصرة عن استيعاب كافة الحالات والأقضية، ويبقى القضاء هو الملاذ لملأ الفراغ واحتواء كل المنازعات وضمان الأمن القانوني المنشود، من خلال ممارسة دوره الخلاق في الاجتهاد والإبداع.
وقضاة محكمة النقض على امتداد هذه السنة عاينوا كيف أن بعض الحقوق والمصالح الجوهرية قد تضيع بسبب استمرار تطبيق نصوص أصبحت متجاوزة أو غير كافية لتحقيق العدل والاستقرار في المعاملات، مما يجعلنا ملزمين باقتراح العديد من التعديلات، أذكر بعضها بإيجاز، ومنها تعديل المقتضيات القانونية المتعلقة بحق محكمة النقض في ممارسة التصدي وإيقاف البت وذلك بشروط معينة تكرس العدالة الإجرائية وتُفعل حقا دستوريا هاما وهو البت داخل الآجال المعقولة، إذ لم يعد مستساغا أن يقضي الملف سنوات وهو يُراوح مكانه بين محكمة النقض ومحاكم الموضوع بشكل يُهدر الثقة ويجعل مبدأ العدالة في الزمان مثار العديد من التساؤلات.
كما أن الاجتهاد القضائي الذي كرسته محكمة النقض بخصوص الاعتداءات الجنسية على الأطفال غير المميزين يتعين التفاعل معه تشريعيا من خلال تعديل المادة 485 من القانون الجنائي واعتبار هتك عرض هؤلاء الضحايا جناية وليس جنحة وذلك بافتراض وجود العنف ولعدم إمكانية تصور وجود رضى من طرفهم.
كما أن موضوع مسطرة إعادة النظر سواء في شقها المدني أو الجنائي أصبح يعرف استعمالا مفرطا تعسفيا من أجل تسويف والمماطلة، وهو ما يقتضي بالضرورة القصوى مراجعة النصوص المسطرية المنظمة لها بما يضمن حقوق الأطراف المشروعة ويمنع في نفس الآن من التعسف في استعمالها.
فضلا عن هذا فإن إشكالية التبليغ تبقى معضلة أساسية يجب الحسم فيها نظرا للكلفة الزمنية الكبيرة التي تؤديها العدالة ببلادنا والتي يجب التعامل معها بجدية والتزام أكبر من طرف الجميع مع ضرورة تعديل العديد من المقتضيات القانونية بشأنها.
وأخيرا فإن عدم وضع قيود قانونية تمنع من استعمال طرق الطعن بالنقض في القضايا البسيطة كما هو الشأن في مختلف المحاكم العليا والإبقاء على هذا الوضع الحالي يتسبب بشكل واضح في إهدار طاقات كثيرة بخصوص قضايا يكون من الواجب الحسم فيها في مراحل مبكرة، تحقيقا للثقة وللسرعة والنجاعة المطلوبين .
إن هذه الملاحظات العامة التي تدخل ضمن تفعيلنا لمبدأ التعاون بين القضاء والسلطة التشريعية لا تغني عن ضرورة فتح قنوات دائمة بين المؤسستين لتجويد النص التشريعي ، فضلا عن التزامنا الدائم بوضع اقتراحاتنا المفصلة بشأن العديد من الفصول في مجالات قانونية متعددة رهن إشارة الجميع من جهات معنية وفاعلين قانونيين وحقوقيين للتدارس والمناقشة وإعادة الصياغة.
كما أن ما رصدناه طيلة هذه السنة من تجاوزات أو إخلالات من قبل مهنيي العدالة تقتضي بالضرورة خلق آليات للتكوين والتكوين المستمر في مجال القضايا والمساطر المعروضة أمام محكمة النقض.
ونحن على استعداد تام لكل تعاون يخدم العدالة ببلادنا وأبوابنا مفتوحة لكل مبادرة جادة مثمرة.
الحضور الكريم؛
إن هذه الأنشطة العلمية والمعرفية المتعددة والمنتوج القضائي المتميز والاقتراحات المسؤولة لن تحجب عنا أن المسار طويل وشاق في سياق عصر جديد بتحديات ورهانات مختلفة وتطورات متسارعة لها الوقع الكبير على القانون والقضاء على حد سواء، لكن طموحنا وعزيمتنا أكبر لتذليلها ومواجهتها بمشيئة الله من خلال الاستمرار في تطبيق آليات الحكامة واعتماد المناهج العلمية الواضحة المضبوطة في إطار أسلوب تشاركي مندمج وشفاف وبكل ما تفرضه علينا قيمنا القضائية من استقلال وتجرد ونزاهة وكفاءة وحياء واضعين نصب أعيننا خدمة المواطن ومصلحة الوطن، طالبين رضى الله ومستحضرين أن العدل بين الناس من أفضل البر وأعلى درجات الأجر، والجور فيه وإتباع الهوى من أكبر الكبائر كما قال ابن رشد.

منقول


اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

x

‎قد يُعجبك أيضاً

استقلال السلطة القضائية

استقلال السلطة القضائية   حيث أن شعوب العالم تؤكد في ميثاق الأمم المتحدة، في جملة ...