مكانة كتابة الضبط ضمن منظومة العدالة
إن الحديث عن إصلاح أي منظومة دون استحضار العنصر البشري الذي يشكل أساسها لابد و أن يكون مصيره الفشل، وارتباطا بذلك فإن الاهتمام بالعنصر البشري في منظومة العدالة تكوينا و تخليقا وتحفيزا،
قد يشكل مفتاحا لإنجاح ورش الإصلاح.
عرف المغرب قبل الوصول إلى مرحلة الحوار الوطني عدة مبادرات للإصلاح، همت الجانب التشريعي بشكل أساسي منذ التسعينات، لتلامس جوانب أخرى تتعلق بالتنظيم القضائي و التحديث والهيكلة … إلى أن جاء الخطاب الملكي ل 20 غشت 2009 الذي حدد المحاور الأساسية للإصلاح الشامل والعميق ومن ضمن هاته المحاور ”
– تأهيل الموارد البشرية، تكوينا وأداء وتقويما…
-الرفع من النجاعة القضائية، للتصدي لما يعانيه المتقاضون، من هشاشة وتعقيد وبطء العدالة.
وهذا ما يقتضي تبسيط وشفافية المساطر، والرفع من جودة الأحكام، والخدمات القضائية، وتسهيل ولوج المتقاضين إلى المحاكم، وتسريع وتيرة معالجة الملفات، وتنفيذ الأحكام ”
وعلى ضوء تلك المحاور عقدت جلسات الحوار الوطني الذي تمخض عنها الميثاق الوطني لإصلاح منظومة العدالة و ما حمله من توصيات، ثم الانتقال إلى مرحلة تنزيل تلك التوصيات ضمن القوانين، التي يشكل مشروع قانون التنظيم القضائي أولها.
وقبل الحديث عن مكانة كتابة الضبط ضمن هذا المشروع، سأحاول تشخيص وضعها الراهن.
في البداية حاولت معرفة دوافع الانخراط في مهمة كاتب الضبط، هل هو اختيار أم وجود بالصدفة؟
فقمت بطرح السؤال على عينة من الموظفين بمحكمة واحدة، فكانت الأجوبة متباينة بين فئة صرحت بأن وجودها كان بالصدفة بعد اجتياز العديد من المباريات لتجد نفسها بكتابة الضبط، وهي فئة تعود النسبة الغالبة فيها إلى تعيينات ما قبل سن النظام الأساسي الذي تم بموجبه تحسين الوضعية المادية لكاتب الضبط .
وبين فئة ثانية صرحت أن وجودها كان عن قصد بعد التركيز على مباريات كتابة الضبط نظرا لامتياز الأجر الذي يفوق بكثير ما يحصل عليه موظفون بإدارات أخرى .
وهو ما يمكن أن نستنتج منه أن عنصر الوضعية المادية تشكل عنصر جذب فعال للانخراط في أسلاك كتابة الضبط. لكن ماذا بعد التعيين؟ هل تستمر القناعة للعمل ضمن كتابة الضبط؟
قمنا بطرح سؤالين على عينة من الموظفين الحاملين لشهادة الإجازة فما فوق: هل ترى بأنك تمارس مهام تناسب مؤهلاتك العلمية؟ لو أتيحت لك الفرصة للعمل في قطاع آخر بالمحفزات نفسها المالية هل تتخلى عن عملك الحالي؟
فكانت النتيجة، أن كل الإجابات كانت سلبا عن السؤال الأول، وإيجابا عن السؤال الثاني ، ما يمكن أن نستنتج منه غياب الإحساس بالانتماء إلى جهاز العدالة، ما يعني أنه يصعب في إطار الوضع الحالي ضمان انخراط أكثر من ثلاثة أرباع عدد الموارد البشرية في أي مبادرة أو مشروع لم يعرهم أي اعتبار .
ملاحظة للتذكير : إن أساس نجاح أي منظومة بشرية كيفما كانت هو إحساس منتسبيها بالانتماء إليها وبالتالي التفاني في تطويرها والمحافظة عليها .
في محاولة فهم السبب :من خلال القوانين الحالية أو مشاريع القوانين المرتقبة – خاصة الصادرة عن وزارة العدل – تم تجريد كاتب الضبط من أي اختصاص أصيل، وبالتالي فهو إما “مأمور إجراءات ” أو مشتغل “تحت إشراف”، دون الالتفات إلى التغيير الجوهري في طبيعة العنصر البشري.
إن نسبة كبيرة من موظفي المحاكم المغربية أصبح لها مستوى تكوين قانوني عال يوازي أو يفوق المستوى العلمي لباقي المتدخلين في عملية إنتاج الحكم ( أعلى مستوى علمي في النظام الحالي هو المطلوب للتوظيف بدرجة منتدب قضائي من الدرجة الثانية سلم 11 ).
والقراءة للأرقام تبين ذلك بجلاء (المصدر إحصائيات وزارة العدل منشورة على البوابات الالكترونية التابعة لها 2013 ).
العدد الإجمالي للقضاة 3424 قاضية وقاض بنسبة 19,59 %..
العدد الإجمالي لموظفي كتابة الضبط 14061 بنسبة 80,41 %.
عدد الحاصلين على شهادة الإجازة فما فوق من موظفي كتابة الضبط: 5066 بنسبة 35,37%، موزعين كما يلي: الحاصلون على الإجازة :3786 بنسبة 26,43 % و الحاصلون على باك+5: 1280 بنسبة 8,94% .
استنتاج : إن استبعاد إدماج كتابة الضبط في العملية القضائية، وإعطاءها اختصاصات تمارسها تحت مسؤوليتها يعود بالأساس إلى استحواذ فئة معينة على إعداد مشاريع القوانين بوزارة العدل، وبالتالي حضور النظرة النمطية لكاتب الضبط أو” الكاتب ” حسب التعبير المشاع لدى الفئة نفسها، تكريسا لاقتناع –غير مبرر علميا- بأنها هي المعنية بأي إصلاح و أنها محور العملية القضائية.
ونحن نعيش مرحلة ما بعد دستور 2011، مرحلة استقلال السلطة القضائية، وما واكبها من متغيرات تفرض سن تشريعات لتنزيل هذا الاستقلال، بعد صدور القوانين التنظيمية وتنصيب المجلس الأعلى للسلطة القضائية، يأتي مشروع التنظيم القضائي كأول قانون لتنزيل الإصلاح، نتساءل: هل استطاع معدوا هذا المشروع تجاوز النظرة النمطية لكتابة الضبط ؟
ذلك ما سنحاول الإجابة عنه من خلال البحث في موقع كتابة الضبط ضمن منظومة التدبير ثم هيكلة المحكمة .
كتابة الضبط ضمن منظومة التدبير، طبقا للمادة 19 من المشروع فإن موظفي كتابة الضبط يعملون تحت سلطة و مراقبة وزير العدل، و يمارسون مهامهم تحت السلطة المباشرة للمسؤولين القضائيين .
وفي المادة 21 تتولى وزارة العدل الإشراف الإداري والمالي على المحاكم بتنسيق و تعاون مع المسؤولين القضائيين بما لا يتنافى واستقلال السلطة القضائية .
ويتولى الكاتب العام مهام التسيير والتدبير الإداري بالمحكمة وضبط مختلف مصالح كتابة الضبط والمصالح المحاسبية بها والإشراف على موظفي هيأة كتابة الضبط العاملين بها وهو يخضع لسلطة ومراقبة وزارة العدل ويمارس مهامه تحت السلطة المباشرة للمسؤولين القضائيين.
أنظر التتمة
—
يتضح من ذلك أن كتابة الضبط حسب المشروع تخضع للسلطتين القضائية والتنفيذية معا، فهما خاضعتان لسلطة ومراقبة وزارة العدل التي يمثلها على مستوى المحكمة الكاتب العام وللسلطة المباشرة للمسؤولين القضائيين في الوقت نفسه .
إذا بحثنا في مفهوم المصطلح المستعمل “سلطة”، نجدها تعني في اللغة حسبما جاء في لسان العرب لابن منظور : السلطة هي اسم من السلاطة وهي القهر، والتسلط معناه التمكن والتحكم.
أما في الاصطلاح، فهي القوة الطبيعية أو الحق الشرعي في التصرف أو إصدار الأوامر في مجتمع معين، ويرتبط هذا الشكل من القوة بمركز اجتماعي يقبله أعضاء المجتمع بوصفه شرعيا، ومن تم يخضعون لتوجيهاته وأوامره وقراراته .
فالسلطة هي قوة قانونية – شرعية حسب تعريف علم الإدارة .(المرجع دة نعيمة الظرفات، القيادة الإدارية و تدبير مراكز اتخاذ القرار ص 56/57 ) .
فإذا كان خضوع كتابة الضبط للسلطة الإدارية لوزارة العدل، مؤطرا قانونا بمقتضى القانون الأساسي العام للوظيفة العمومية والنظام الأساسي الخاص بكتابة الضبط، وبباقي القوانين والمراسيم المتعلقة بنظام الوظيفة العمومية بالمغرب .
فمن أين تستمد قانونية وشرعية ممارسة سلطة المسؤول القضائي على كتابة الضبط، لا من حيث محتواها وحدودها ولا من حيث آليات ممارستها ما دام أن المشروع لم يوضح ذلك، ولم تتضمن القوانين التنظيمية المتعلقة بالقضاء أيا من ذلك .
فالمسؤول القضائي حسب قراءتنا للنص يملك سلطة مراقبة المهام، لكنه لا يملك سلطة الإشراف الإداري التي تعطيه حق التقييم والتنقيط التي تبقى لرئيس الإدارة أي لوزير العدل الذي يمثله على مستوى المحكمة كاتبها العام.
إذن كيف للمسؤول القضائي أن يمارس سلطته على فئة لا يملك حق تنقيطها وتقييمها، وبالتالي إمكانية التأثير في مسارها المهني إيجابا أو سلبا ؟
والشيء نفسه، يقال حول سلطته على الكاتب العام للمحكمة، في انتظار المرسوم المحدد لمهام الكاتب العام الذي أحال عليه المشروع .
السؤال الأول إذا كانت تسمية الكاتب العام من اختصاص وزارة العدل، فهل يكون إعفاؤه تبعا لمزاجية المسؤول القضائي باعتبار المفهوم اللغوي للسلطة، مادامت مقومات المفهوم الاصطلاحي غائبة أو مغيبة.
والسؤال الثاني ماذا يقصد بالمسؤول القضائي، ما دامت كتابة الضبط حسب المشروع عبارة عن هيأة موحدة، هل هو الرئيس / الرئيس الأول أم وكيل الملك / الوكيل العام، وماذا لو اختلفت أولوياتهما أو تعارضت توجيهاتهما لأي سلطة سنخضع .
على مستوى آخر، فإن هيكلة المحكمة في إطار المشروع عرفت ازدواجية بين تقسيم “قضائي” قوامه الأقسام والغرف التي تتكون من قضاة وكتابة الضبط، التي يرأسها قاض تعينه الجمعية العمومية يسهر على تسييره، وبين تقسيم “إداري” يمثله الكاتب العام ورؤساء المصالح.
هذا التقسيم الذي ميز بين تسيير المهام وجعلها تحت سلطة القاضي رئيس القسم والمسؤول القضائي، وبين الإشراف الإداري الذي جعله من نصيب الكاتب العام بمساعدة رؤساء المصالح، قد يحد من فعالية هذا الإشراف من جهة، إذ ليس للكاتب العام تقييم وتنقيط الموظف، إلا بالنظر إلى المهام الموكولة إليه ومدى إنجازها بالشكل المطلوب، ومن جهة أخرى فإن إسناد هذه المهمة للقاضي رئيس القسم سوف تبقى شكلية أمام جسامة المهام القضائية التي يقوم بها الأخير، وما يترتب عنها من عبء تهييء الملفات والتداول فيها وتحريرها.
وضعية كتابة الضبط ضمن هيكلة المحكمة.
لم يرد ذكر كتابة الضبط ضمن هيكلة المحاكم في المشروع، إلا بمناسبة سرد مكوناتها سواء محكمة أو هيأة قضائية، إذ نص المشروع عند الحديث على كل صنف من المحاكم سواء على الدرجة الأولى أو الثانية أو على مستوى محكمة النقض أنها تتكون من كاتب عام وهيأة كتابة الضبط.
وإذا كانت من مهام الكاتب العام الإشراف على كتابة الضبط ومصالحها، فما هو موقعه ضمن هياكل المحكمة ؟
باستقــــراء النصوص، فإن الكاتب العام للمحكمة :
– عضو ضمن لجنة بحث صعوبات سير المحكمة المحدثة بالمادة 19 بصفته مقررا .
– عضو لجنة التنسيق المحدثة بالمادة 21 .
– يحضر اجتماعات مكتب المحكمة بصفة استشارية– المادة 24 -25 لانجاز المحضر.
– يحضر الجمعية العامة بصفة استشارية– المادة 28- 30لانجاز المحضر .
وهو ما يعني التغييب التام لكتابة الضبط من الأجهزة التقريرية للمحكمة، فحضور الكاتب العام للمحكمة حسب اعتقادنا اقتضته ضرورة البحث عن شخص يحرر محضر الأشغال لا أقل ولا أكثر، رغم أن هذه الأجهزة هي التي تقوم بتحديد البرنامج العام السنوي الذي يهم كتابة الضبط في جزء كبير منه، خاصة في توزيع المهام وتحديد الحاجيات من الموارد البشرية والمادية، وتسطير البرنامج التواصلي والثقافي وحصر مواضيع التكوين المستمر .
وهنا نتساءل هل تسعف الكاتب العام صفته الاستشارية لاقتراح تعيين كتاب الضبط المكلفين بحضور الجلسات، وأن يعطي رأيه في برنامج تنظيم العمل السنوي، وأن يقترح برنامج تكوين كتاب الضبط؟، لا نعتقد ذلك ما دام أن اقتناعنا راسخ أن نية معدي المشروع هي إيجاد أداة لتحرير المحاضر لا أكثر .
والخلاصة أن اعتماد العنصر البشري كأداة رئيسية في الإصلاح ما زال الغائب الأكبر، فهل يعتقد معدو المشروع، بأن إعادة الحلول نفسها، التي أثبتت فشلها سيؤدي إلى نتائج مختلفة.
إعداد:ذ/أبوالقاسم الطيبي _عضو المكتب المركزي لودادية موظفي العدل