إطالة أمد التقاضي… يبطئ تنفيذ العدالة
كل دساتير العالم كفلت حق التقاضي للجميع، كما أن أبواب المحاكم مفتوحة لجميع الأفراد للدفاع عن حقوقهم، إلا أن العديد من الناس يعزفون عن حق التقاضي، وآخرون يترددون في اللجوء إلى القضاء أو يكتفون بالدعاء على من سلب حق من حقوقهم، والبعض يُفضل الحصول على حقوقه منقوصة خارج القضاء من الحصول عليها كاملة من القضاء، بعد انقضاء مدة زمنية طويلة على المطالبة بالحقوق قضائياً مرددًا (صلح خاسر خير من دعوى رابحة) و(العدالة البطيئة أشد عاقبة من الظلم)، والكثير من الشركات الأجنبية أو حتى المحلية تفضل اللجوء إلى التحكيم لحل الخلافات التي قد تنشأ بينهم بدلاً من اللجوء للقضاء، وذلك وتلك مردّه لإطالة أمد التقاضي والمماطلة في الإجراءات وبطء عجلة العدالة في المحاكم.
فلا جدال في أن تحقيق العدالة لا يكون إلا بتقرير الحق لصاحبه، ولكن حتى تكون عدالة كاملة غير منقوصة لابد أن يصدر الحكم الذي بموجبه يحصل صاحب الحق على حقه بالسرعة المطلوبة،لأن بطء العدالة نوع من الظلم. وقد يؤدي بطء العدالة إلى تفويت الفرصة على صاحب الحق من الاستفادة الكاملة بحقه المسلوب، إلى أن يصدر الحكم بثبوته له ومن ثم تنفيذه، في الوقت الذي يحتاج فيه استعمال هذا الحق واستغلاله.
نعم إن موضوع طول أمد التقاضي أمام المحاكم جديد قديم، والجدال حوله مستمراً منذ عدة عقود، وهو سلبية تواجه الكثير من أصحاب الحقوق ولا يوجد في العالم قانون قادر على التحكم بمدة نظر الدعوى أمام القضاء، لأن الأمر يختلف من قضية إلى أخرى، ولأن الأمر قد يكون بيد طرفي القضية أو وكلائهم أو بيد المحكمة كما لا نستبعد أيضاً النصوص القانونية وصلابة الإجراءات التي قد تحتاج بعضها لإعادة نظر لتواجه تلك السلبية.
ومن بين أسباب إطالة أمد التقاضي ما يلي:
– إجراءات الإعلان والتبليغ للخصوم: قد يجد القضاء بعض الصعوبة في إعلان لائحة أو مذكرة الدعوى في بعض الحالات منها، إذا كان مندوب الإعلان لا يستدل بوضوح على المكان المراد إعلان الخصم فيه، إذا كان جديداً في عمله ولا يعلم المناطق بشكل جيد، أو لم يستدل للخصم على محل إقامة داخل البحرين أو يكون خارج البلاد عند توجيه الإعلان إليه أو تعذر التعرف على عنوانه الجديد في حال تغير مكان سكنه، وقد تكون هناك إشكالية فيمن قام بتغيير عنوانه دون إخطار الجهة المختصة بعنوانه الجديد، وقد يتحايل الخصوم بالإطار المذكور لتجنب تمام التبليغ، فكل تلك الإشكالات قد يترتب عليها طول أمد التقاضي حتى يكتمل الشكل القانوني المطلوب، لذلك نجد بأن يعاد النظر في النصوص الواردة بقانون المرافعات المدنية لتفادي تلك المشكلة بقدر الإمكان.
– تأخير إعداد الرأي الفني من قبل الخبراء: الخبراء بمختلف تخصصاتهم من بين أهم الأجهزة المعاونة للقضاء، ومن بين أهم المشاكل التي تتسبب في تأخير الرأي الفني هو تأخير تبليغ الأطراف بالخبرة، وبطء وصعوبة التواصل وتجهيز جميع المستندات والأوراق المطلوبة ما بين الأطراف والخبير، عدم جاهزية الخبير للاجتماع بالأطراف أو لإعداد التقرير، وعليه فنحن بحاجة لإصدار قرارات تنظم كيفية قيام الخبراء بأعمالهم المنتدبين إليها من قبل المحاكم، وإعداد جداول تنظيمية تبعاً لتخصصاتهم وتحديد زمن محدد وملزم لهم.
– تباعد الجلسات: قد تتبع بعض المحاكم ولكثرة القضايا الجارية المنظورة للتأجيلات الواسعة، التي قد يتضرر جرّاءها أطراف الدعوى وأصحاب الحقوق تحديداً، فهنا نجد بأن تفعيل جانب الرقابة من قبل التفتيش القضائي قد يكون إليه دور إيجابي لضبط وتسريع سير القضايا في المحاكم.
– عدم جدية التأجيلات: قد يعمد بعض الخصوم لأسلوب المماطلة وقد لا يتفطن القضاة لذلك، وقد يلجأ بعض المحامين إلى محاولة إطالة التقاضي من خلال تأجيل الجلسة لأكثر من مرة لعدم حضور خصومهم وتعمد غيابهم والتأجيل لتقديم البيانات التي لا يقدمها في النهاية، والهدف كسب المزيد من الوقت.
من إحدى الطرائف المضحكة حقيقة والشائعة في مصر، أن أحد المحامين الحديثي التخرج ذهب إلى والده المحامي ليُعلمه بانتهاء القضية التي لم يستطع والده الحصول على حكم فيها منذ سنوات عديدة، فما كان من المحامي (الوالد) إلا أن قال له من وراء هذه القضية استطعت تعليمك وتعليم أشقائك بالجامعات، فكيف تجرؤ على إنهائها، وعلى رغم أن هذه قصة قد تحمل الصحة أو الخطأ، إلا أنها ترمز إلى مشكلة محاولة إطالة أمد التقاضي، ما يدفع العديد من الأفراد إلى الحصول على حقوقهم أو إجراء مصالحة بينهم خارج القضاء للحصول على حقوقهم منقوصة بدلاً من الحصول عليها كاملة بعد انقضاء سنوات طويلة.
كما أن بعض القضاة يعمدون لإطالة أمد الدعوى على أمل أن يتم صلح أو تسوية فيها خصوصاً بالقضايا الشرعية، كتأجيل دعوى متعلقة بنفقة زوجية مستعجلة أو نفقة أولاد مثلاً، فيكثرون التأجيلات التي لا طائل من ورائها إلا أن يتكبد الطرف المتضرر عبء الانتظار ويكسب الطرف الآخر وقتاً أكبر للمماطلة، فهنا تكون خسارة الطرف المتضرر أكبر مع مرور الزمن الذي ينتظره القاضي على أمل الصلح وإنهاء الموضوع بالتسوية.
– صعوبة تنفيذ قرارات التنفيذ: لعدم إعلان الخصم المحكوم ضده «المدين» في بعض الحالات، وتعذر إتمام الإعلان أحياناً بسبب تحايل المدينين المنفذ ضدهم أو تملّصهم وطرقهم الملتوية في عدم التجاوب، وعدم اتباع الجهاز التنفيذي لأسلوب الجبر بالصورة الصحيحة، كما أن نظام الجلسات البعيدة التي تتراوح ما بين ثلاثة أشهر أو يزيد في السنة أي بمعدل ثلاث لأربع جلسات بأفضل الأحوال في السنة، وعدم وجود تكامل ما بين الجهاز التنفيذي والشرطة لمتابعة تنفيذ الإجراءات أولاً بأول، ونرى أن يستبدل نظام الجلسات في التنفيذ بالنظام الإلكتروني الذي يتمكن بواسطته المحكوم له (الدائن) من التنفيذ والسير بالإجراءات مباشرة بعد صدور الحكم ودون وجود نظام الجلسات والاستعاضة عنه بالنظام الآلي المباشر، كما هو معمول به في بعض الدول المتقدمة.
– دخول الأفراد في علاقات قانونية وإبرامهم تصرفات (كالعقود مثلاً) من دون وجود غطاء قانوني محكم ينظم العلاقة بين الأطراف ويضمن حقوقهم، ما يحمّلهم وقت وجهد إضافيين، بل وتطول قضاياهم في المحاكم.
أخلص في الختام لبعض المتطلبات الأساسية التي من شأنها أن تسهم في الحد من مشكلة إطالة أمد التقاضي، وهي الآتي ذكرها:
– إصدار إجراءات تنظيمية رقابية تخص عمل القائمين على تنفيذ قرارات المحاكم من موظفين وخبراء.
– زيادة أعداد القضاة وتفعيل التفتيش الفني على أعمال القضاة والمستشارين الذي ينظمه القانون، إضافة إلى الإجراءات التي يملكها المجلس الأعلى للقضاء بموجب القانون، والتي يجب اتخاذها لتصب في الاتجاه نفسه.
– انتقاء القضاة بعناية وتأهيلهم وتدريبهم على أعلى مستوى وزيادة أعدادهم بما يتناسب مع حجم القضايا وتعقيداتها وضمن تخصصات محددة وتوزيعهم على محاكم كل ضمن اختصاصه.
– إيجاد أنظمة ذات جودة عالية من حيث الإعداد والصياغة تنظم عمل القضاة والكوادر المساعدة من كتاب ضبط وفنيين وغيرهم.
– عدم السماح نهائياً للأفراد برفع دعوى دون وجود محامٍ نظامي، باعتباره مؤهلاً وفاهماً للأنظمة ما يسهل على القاضي إيجاد لغة قانونية مشتركة تسهم بحسم النزاع سريعاً.
– اختصار المدد التي تحدد تبليغ الخصوم ومواعيد الجلسات والتأجيلات ومواعيد الخبرة… إلخ ومحاولة ضبطها بقرارات تنظيمية ملزمة.
– الاستفادة من القضاة المتميزين وأصحاب الخبرات العريقة في نظر الدعوى ابتداءً وفحصها وتكييفها قانونياً والسعي إلى التوفيق بين الخصوم قبل إحالتها إلى القضاء، ما يمهد للقاضي الذي سينظر الدعوى باعتبار أنه تم إعداد ملف سابق للدعوى، وبالتالي يتم فلترة كثير من الدعوى وحسمها سريعاً قبل السير فيها تقليدياً حسب الإجراءات المعتادة من القاضي المختص.
– الاعتماد على التقنيات الحديثة والوسائل الإلكترونية في تسجيل الدعوى وقيدها، واستخدام الوسائل التقنية الحديثة في تسجيل وقائع الجلسات وأرشفتها إلكترونياً والسماح لأطراف القضية بمتابعتها من خلال إيجاد شبكة إلكترونية مغلقة تسمح بمعرفة آخر مرحلة وصلت لها القضية، ما يسهل على القاضي عمله ويختصر الوقت المهدور في كتابة محاضر الجلسات.
– إنشاء جهاز مستقل يراقب جودة الأحكام والمدى الزمني لإصدارها وتقييم مدى نجاح الإجراءات المعمول بها واتخاذ التوصيات التي تكفل إزالة العقبات التي تحول دون إصدار الحكم وفق متطلبات العدالة الناجزة.
– ربط الجهاز التنفيذي، بجهاز شرطي مختص بتنفيذ القرارات وتفعيل الجدول الزمني المحدد لتنفيذ الأحكام أولاً بأول، والاستعاضة عن نظام الجلسات في التنفيذ بالنظام الإلكتروني والمتابعة الأولية والمستمرة حتى يتم التنفيذ.
هذه بعض متطلبات تقصير أمد الدعوى وتعجيل حركة سير العدالة في القضاء، وثمة متطلبات أخرى لا يتسع المقام لذكرها، بيد أننا نتدارك بالقول بأننا نأمل من قضائنا أن يسعى بخطى ثابتة للحد من إطالة أمد الدعاوى بقدر الإمكان، فالعدالة البطيئة ظلم.
إعداد:ذة/نفيسة دعبل_محامية بحرينية