الجهوية و التنمية المجالية
الإنسان والمكان
لا يتناغم الحديث عن التنمية إلا إذا كان الإنسان برفقتها بل يجب أن يكون محورها الذي حوله تدور والجهة التي إليها يكون العطاء. فالعنصر البشري أداة وغاية أسمى للتنمية باعتبار التنمية البشرية عصب التطور الاقتصادي ونموه وسيلة لضمان الحياة المستقرة والآمنة للسكان، مرتكزة على تنويع وتطوير الخيارات المتاحة أمامه حسب الخصوصيات ونمط العيش السائد في جهته.
ولا يمكن أن تتحقق التنمية البشرية إلا بتطوير المجال وتوعية السكان المستهدفون بأهميته كعنصر فعال داخل المنظومة، وهذا لا يتأتى إلا بانخراط كلي للمجتمع المدني وتفاعله مع مجموعة من العوامل والمعطيات المتعددة والمتنوعة بغية الوصول إلى تحقيق تأثيرات وتشكيلات معينة في حياة الإنسان وفي سياقه المجتمعي، وهذا جزأ من حلقات السلسلة المترابطة التي تجمع وتوصل جيلا بجيل عبر التاريخ وموقعا بموقع جغرافيا وبيئيا على هذا الكوكب.
ولما للإنسان من أهمية وقيمة كثروة مهمة حقيقية لأي أمة، فإن قدرات أي أمة تكمن فيما تمتلكه من طاقات بشرية مؤهلة ومدربة وقادرة على التكيف والتعامل مع أي جديد بكفاءة وفاعلية. وهذا يتجلى بوضوح في التطور المتزايد والباهر لدول شرق آسيا في المجال التنمية اقتصاديا واجتماعيا رغم شح ثرواتها الطبيعية، فتلك الأمم التي قطعت على نفسها التزامات هامة تجاه تجميع رأس المال البشري وتحويله إلى طاقة وميزة تنافسية عالية تم توجيهها إلى استثمارات عالية الإنتاجية؛ كان مبعثه إيمانها بأن سر نهضتها ونموها يكمن في عقول أبنائها وسواعدهم. وقد كان ثمار ذلك أن حققت اقتصادات تلك البلدان معدلات متسارعة من النمو فاقت بها أكثر البلدان تقدمًا. وبه أصبحت مثلا يحتدا به لكل من أراد أن يلحق بركب التقدم. هذا يؤكد بالملموس أن رهانات أي دولة متأخرة تستشرف المستقبل، لا يمكن أن تتحقق إلا عبر تحرير المنظومة التنموية من الموانع والعراقيل وشبح الماضي و إكراهاته، وزرع بذور الأمل والتحرر من قيود التهميش و الإقصاء ، باعتبار الفرد داخل المجتمع أغلى رأسمال و أسمى قيمة وبالتالي يكون هو المحرك و قطب الرئيسي في كل العمليات التنموية التي تقدم عليها الدولة.
مفهوم التنمية البشرية:
قبل تبني مفهوم التنمية البشرية من قبل البرنامج الإنمائي للأمم لمتحدة (pnud) كانت الأدبيات الاقتصادية تعتمد على مفهوم التنمية الاقتصادية في مقاربتها للمشاكل الآفات الاجتماعية.
وقد تلعب التنمية الاقتصادية باعتبار معدلات التنمية مقياس قدرة الاقتصاد القومي على توليد وتحقيق الزيادة في الناتج القومي الإجمالي، إضافة إلى القدرة على توسيع وتنويع الإنتاج بمعدلات أسرع من معدل النمو السكاني كمؤشر على التنمية دور المحرك الذي سيوفر حد أدنى من مستوى المعيشة بين الأفراد ويحقق الرفاهية الاجتماعية مع خلق اقتصاد قادر على النمو الذاتي”.
وهذا لم يكن حلا ناجعا لما له من مضاعفات خطيرة لا تظهر إلا على المدى البعيد، بتولد الفوارق بين السكان في مستويات المعيشة من ناحية توفر الحاجيات الضرورية ودرجة الرفاهية، فعكست الأرقام الإحصائية في العديد من الدول النامية تدهورا كبيرا في مستويات الصحة العامة ودرجة التعليم والعمر المتوقع للأفراد.
التنمية البشرية:
التنمية البشرية هي النظرة الشمولية للتنمية الاقتصاديةـالاجتماعية، بحيث تجعل الإنسان منطلقها والهدف لكل برامجها، ويكون التعامل مع الأبعاد الثلاث الإنسان، المجال ثم الطاقات باعتبارها العنصر الأكثر استهدافا وكونها شرط من شروط تحقيق هذه التنمية.
و يظهر من خلال هذا التعريف أن التنمية البشرية محورها الأساسي الإنسان، وذلك بدراسة توجيه وتوضيح فعاليته في عملية التنمية.
وقد اتجه البعض في مقاربتهم المفهوم التنمية البشرية إلى التركيز على العلاقات والروابط لرفع مستوى الفرد اجتماعيا وثقافيا وصحيا، ومن هذه المقاربات التي أكدت هذا المعنى تعريف يشير إلى أن المقصود بالتنمية البشرية “هي تنمية العلاقات والروابط القائمة في المجتمع ورفع مستوى الخدمات التي تحقق تأمين الفرد على يومه وغده، ورفع مستواه الاجتماعي و الثقافي والصحي، وزيادة قدراته على تفهم مشاكله و تعاونه مع أفراد لمجتمع للوصول إلى حياة أفضل.
هذا المفهوم كان سائدا لدى السكان في كل المداشر والقرى بالجنوب، حيث تم اعتماد المقاربة الشمولية للتنمية المجالية بالاستثمار في العنصر البشري كطاقة خلاقة قادرة على خلق تنمية مستدامة. فالاعتماد على المعارف المختلفة للإنسان خلق نوعا من الانسجام ما بين الأهالي، فكمل الواحد منهم حاجة الآخر مما خلق اكتفاء ذاتيا منسجما مع الحالة العامة للسكان، بربطها بالمحيط والجو العام السائد.
تم ابتكار مصطلحات تم توظيفها لتأطير العمل وإنجاح البرامج والتي لم يتم التخطيط لها أكاديميا، وإنما شابه التشاور وحنكة وتجربة الأهالي فوجدنا مصطلح ” تيويزي” والتي تعتمد مبدأ التطوع لانجاز عمل، “أواس” يعتمد على مد المساعدة ما بين الأفراد أو العائلات.
وما جاء في تقرير التنمية البشرية لسنة 1990 الصادر عن البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة (pnud) أعطى تعريفا أكثر دقة وأشمل لمفهوم التنمية البشرية حيث حصره في أنه ” عملية تعتمد توسيع الخيرات لتعميم فائدتها على الناس، ومن حيث المبدأ هذه الخيرات يمكن أن تكون مطلقة و يمكن أن تتغير بمرور الوقت، ترتكز على توفير الصحة باعتماد أساليب وقائية وتعميم التوعية الصحية، اكتساب المعرفة و التحصيل الدراسي اللازم ثم خلق الموارد اللازمة لمستوى معيشة لائقة. ولا يمكن أن تنتهي التنمية البشرية عند هذا المرتكزات الثلاث بوجود خيارات إضافية تنطلق من الحرية السياسية والاقتصادية والاجتماعية إلى التمتع بفرص الخلق و الإنتاج والتمتع بالاحترام الذاتي و الشخصي وبحقوق الإنسان المكفولة”.
و انطلاقا من هذا التعريف يتضح أن التنمية البشرية لا تنتهي فقط عند تكوين القدرات الإنسانية في جانبها الاقتصادي فقط، بل هي تتعداه إلى مستويات تحسين مستلزمات الصحة وتطوير المعرفة والمهارات، بل تمتد إلى أبعد من ذلك بكثير حيث الانتفاع بها سواء بضمان الحرية في ممارسة النشاطات الاقتصادية والسياسية و الثقافية. أوفي الاستمتاع باحترام الذات وضمان حقوق الإنسان وكرامة الإنسان وتوسيع فرص الإبداع والخلق.
وبهذا التعريف أضحت التنمية البشرية توجها إنسانيا للتنمية الشاملة و المستدامة والمتكاملة، غايتها الأسمى والأساسية تحقيق التنمية الاقتصادية المرتبطة بالرفع من جودة حياة البشر.
وعلى الرغم من المجهود المبذول من طرف الدولة لمواجهة ومكافحة آفة الفقر و التقليص من حدته ورغم تخفيض النسبة من50% خلال سنة1960 إلى 14,2% حاليا.”إلا أنه بالنظر للنمو الديمغرافي فإن العدد المطلق للفقراء استقر في خمسة ملايين،في المعدل المتوسط، من بينهم ثلاثة أرباع من الفقراء يتواجدون بالعالم القروي”.
فما موقعنا من هذه المقاربة وما السبل لإنجاح مشروع التنمية البشرية كمبدأ للقضاء على التهميش بالعالم القروي؟
إن القراءة المقتضبة لهذا التعريف تفضي إلى استنتاج واحد هو أن هذه إستراتيجية التنمية التي نهجها المغرب خلال النصف قرن الماضي(بإخفاقاتها و نجاحاتها) بقت عاجزة لتباين نتائجها مع طموحات ومتطلبات و مطالب جماهيرنا وعامتنا. ويعتبر الجفاف وقلة وعدم انتظام التساقطات المطرية أكبر العراقل أمام إنجاح الإستراتيجية. إذ نجد أن النسبة الكبرى لطلبات الدعم المقدمة للجان المبادرة الوطنية للتنمية تنحصر حول توفير الماء الشروب أو تهيئ المحيط السقوي ليتلاءم مع واقع قلة المياه، وغالبا ما تم اعتماد السقي بالتنقيط كبديل.
هذا المعطى سوف يؤخر نتاج المبادرة الى المدى البعيد لعدم جدوى الإنفاقات، خاصة اعتماد مشاريع أقل تأثيرا على حياة الإنسان وتوظيف معايير في اختيار المشاريع لا تتلاءم والمفهوم العام للمقاربة الشمولية المرجوة من التنمية البشرية.