الحاجة إلى التنمية الإدارية ضرورة لتغيير النسق الإداري المغربي ومسايرة التحدي العالمي
بما أن التنمية الإدارية جزء أساسي من خطط التنمية ومحور فعال وبعد رئيسي في استراتيجية التنمية الشاملة، فإن التجارب أثبتت أنه إذا لم يتم التطوير الإداري لمواكبة التغيرات الداخلية والخارجية، فإن سمات مرضية ستطبع المرفق العام وستلح على ضرورة إحداث التطوير والتنمية. ومن المعروف أن كل الدول النامية والمتقدمة على حد سواء يواجهان جنبا إلى جنب إشكالية التنمية الإدارية. إلا أن الثانية تسعى إلى تطوير أساليبها وإدارتها كي تسعى إلى التكيف مع التطورات اليومية بشكل ديناميكي، وهذا عكس الدول النامية التي تعرف مرافقها العامة نوعا من الفتور في إحداث التطوير الإداري، ويعزى سبب ذلك إلى تعدد المسائل والقضايا التي تهتم بها هذه البلدان وهذا ما يلقي عبئا ثقيلا على كاهل السلطات المركزية. ولا يتاح لها بالتالي الوقت الكافي لإيلاء التنمية الإدارية ما تستحق من اهتمام .
ويمكننا معرفة وإدراك أهمية التنمية الإدارية من خلال الحاجة إليها من أجل تغيير النسق الإداري المغربي (الفرع الأول) ولغاية مسايرة التحديات العالمية التي تفرضها الليبرالية الجديدة (الفرع الثاني).
الفرع الأول : التنمية الإدارية من أجل تغيير النسق الإداري المغربي
مضمون التنمية الإدارية ليس مجرد إجراءات إدارية أو مسطرية تأخذ شكل تدابير ضابطة للعمل. بل هي بمثابة إطار مرجعي لتطوير العمل والسلوك داخل الإدارة تغذيه روح المواطنة الصادقة وتحكمه قواعد الالتزام وتحمل المسؤولية المشتركة في التنفيذ. وتحتاج كل إدارة لممارسة مهامها توافر ثلاثة عناصر أساسية كالتالي :
– العنصر القانوني المتمثل أساسا في التنظيمات والقرارات والعقود.
– العنصر البشري المتميز بين سائر عناصر الإنتاج الأخرى .
– العنصر المالي والتقني.
أ- بالنسبة للجانب القانوني والتنظيمي، فالمغرب يتوفر على ترسانة قانونية مهمة، لكن المطلوب تحيينها وتفعيلها قصد المساهمة في برامج التنمية الإدارية الهادفة على تحسين كيفية تقديم الخدمات للمرتفقين وذلك عن طريق المنهجة الواضحة للمساطير والإجراءات الإدارية أولا، وهذا ما جاء في الرسالة الملكية الموجهة إلى أشغال الندوة الوطنية لتخليق المرفق العام. إذا جاء ” أن هدف الإجراءات العمومية، التسهيل والتسيير وليس التعقيد والتعسير، وهو منهاج لترسيخ روح الاستقامة والوضوح والشفافية والتعجيل في إيصال النفع للناس… لذلك أمرنا بتبسيط الإجراءات وتحيين النصوص الإدارية وتحديث وسائل التدبير والعمل على التوفيق المستمر بين المقتضيات الإدارية وروح العصر التي طبعت اليوم كل العلاقات البشرية” .
وفي هذا الاتجاه فإن مصالح المعالجة لمشاريع التبسيط الإداري يكون من خلال الآتي :
– من حيث الزمن : بالتقليص في آجال تنفيذ المساطر الإدارية.
– من حيث التكلفة : بتخفيض التكلفة الناتجة عن تعقيد المساطر الإجرائية.
– من حيث الفاعلين : بالحد من عدد المتدخلين في المسطرة ومن المراحل التي تمر منها.
– من حيث الوثائق : بالتقليص من عدد الوثائق المطلوبة من المواطنين، فالتبسيط بهذا المفهوم يؤدي إلى إحداث تقليص في مسافات التعقيد المحدثة بفعل الممارسات العملية وإلى الربح في الوقت والتكلفة ورفع الجودة ، ومن خلالها يتم تسيير الحياة اليومية للمرتفق ولنشاط المرفق العام من خلال استعمال الإدارة لمساطير بسيطة سليمة وفعالة، ومعاملة المواطنين في إطار من المشروعية والمساواة.
وفي الاتجاه الآخر وتوطيدا للجانب القانوني للتنمية الإدارية نستحظر مسألة احترام القوانين وتنفيذا للأحكام القضائية. إذ يجب على المرفق العام احترام مبدأ الشرعية والخضوع لقرارات العدالة دون أي تردد أو تحفظ ، وذلك عن طريق :
– أولا : وجوبية تطبيق قانون تعليل القرارات الإدارية.
– ثانيا : تفعيل قانون الإقرار بالممتلكات بشكل جيد.
– ثالثا : تنفيذ الأحكام القضائية.
وتوطيدا وتدعيما للجانب القانوني هناك ضرورة إكمال صرحها بتدعيم البنية التنظيمية. وذلك من خلال دعم اللاتركيز وإعادة تحديد مهام المرفق العام، إذ أن الإدارة الحديثة اليوم لا تعتمد فقط على الخطط السياسية والتنموية التي تقرر على صعيد الحكومة المركزية، بل تعتمد كذلك على الأسلوب الذي تؤدي به الخدمات الحكومية لكل منطقة وفي كل جزء من أجزاء البلاد. ومن ثمة تبدو اللامركزية الإدارية بما تعنيه ترك جزء من الوظيفة الإدارية على جماعات ترابية تدبير شؤونها بنفسها في نطاق استقلال إداري ومالي ، وهذا ما يعني أن اللاتركيز الإداري يشكل أحد الأولويات في مجال التنمية الإدارية لإعادة تنظيم المرافق العامة بهدف الرفع من فعاليتها.
ب- أما على المستوى الثاني وهو تثمين العنصر البشري فقد جاء بشأنه على لسان الملك محمد السادس : ” … ومن ثمة كان توجهنا الاستثمار في الموارد البشرية، باعتبار رأس المال البشري رافعة للتقدم وخلق الثروات، ونظرا لدوره في تحويل وتدبير باقي الثروات وإدماج هذا الاستثمار في مسيرة التنمية البشرية ” وفي هذا الإطار فإن الأمر يتطلب من أجل الرقي بالعنصر البشري ضرورة خلق مناخ جيد لعمل الموظفين، وذلك اعتبارا لدورهم الفعال في السيرورة الإنتاجية داخل المرفق العام، وكذا تعزيز مختلف الجهود لإقرار مبدأ سيادة الأخلاق داخله*، إضافة إلى إيجاد وسائل كفيلة لإقامة علاقة مرنة بينه وبين المرتفق.
وتكون على هذا الشكل التنمية الإدارية ليست مجرد تغيرات هيكلية وقانونية للمرفق العام بل هي تفاعل مع خصوصيات المجتمع ومحدداته الثقافية، وكما يرى ميشيل روسي ” معرفة الوسط الإنساني الذي تتم فيه العملية الإدارية شرط ضروري لتكيفها مع الواقع لضمان النجاح.”
وإذا كانت التنمية الإدارية عنصرا هاما من ورائه تجلى هدف تغيير وتحيين المنظومة القانونية والتنظيمية للجهاز الإداري المغربي أولا. وأيضا عاملا للرقي بالعنصر البشري باعتباره العنصر الأهم داخل المنظمات كيفما كان نوعها أو حجمها. فإنها كذلك دافعا أساسيا من أجل ترشيد فعال للنفقات العامة. ومن خلالها يمكن استرجاع الثقة في المرافق العمومية وهو شرط رهين بتحسين آليات المراقبة المالية إضافة على تنمية تكنولوجيا المعلوميات والاتصال ثانيا. وهذا ما أكدته الرسالة الملكية الموجهة على المشاركين في المناظرة المنظمة من لدن كتابة الدولة المكلفة بالبريد وتقنيات الاتصال والإعلام، إذ جاء ” وسيظل إصلاح الإدارة العمومية وعصرنتها من بين الرهانات الرئيسية التي يطرحها تقدم بلادنا. إذ يتعين أن نوفر لأجهزتنا ما يلزم من أدوات تكنولوجية عصرية بما فيها الأنترنيت لتمكينها من الانخراط في الشبكة العالمية وتوفير خدمات أكثر جودة لمتطلبات الأفراد والمقاولات. ”
وعموما إذا كانت التنمية الإدارية تصب في مبتغى تغيير النسق الإداري المغربي فإنها في جوهرها تؤكد محاولة مسايرة التحديات التي تطرحها المتغيرات العالمية على كل الدول، سواء المتقدمة منها أو النامية، وعلى هذا الأساس نجد أن الارتقاء نحو التنمية الإدارية معناه مسايرة التحديات العالمية بنوع من الإيجابية والتحكم والتبصر.
الفرع الثاني : التنمية الإدارية من أجل مسايرة تحديات الظرفية الدولية
شكلت الإكراهات الدولية عاملا أساسيا في فتح أوراش متعددة بالمغرب وعلى رأسها الارتقاء على مستوى التنمية الإدارية. فكانت مسألة الاستفادة من إعانة وقروض المؤسسات الدولية (صندوق النقد الدولي والبنك العالمي) تخضع لقيود من الشروط تتمثل في إقامة إصلاحات هيكلية على المستوى السياسي والاقتصادي والاجتماعي والإداري، وذلك لموازاة الظرفية العالمية والتماهي معها المتجهة نحو تشجيع المبادرة الخاصة والاستثمار.
وجاء في هذا الإطار تقرير البنك الدولي في شتنبر 1995، كاشفا لحالة الإدارة المغربية ومن خلالها أبان عن نواقصها واختلالاتها. وحسب هذا التقرير؛ فالمغرب يمتلك قطاعا خاصا جيدا، إلى جانب ذلك موقع جغرافي متميز قريب من الاتحاد الأوربي، ويتمتع باستقرار سياسي فضلا عن توفره على خصوصيات تؤهله لجذب الاستثمارات الأجنبية قصد تحقيق تنمية مدعمة ومستدامة، وفي مقابل هذه المميزات فإن المنافسة الدولية والتطور التكنولوجي تفرض على المغرب إعادة النظر في نماذج التسيير العمومي المتقادمة وذات كلفة عالية غير منسجمة لطموحات المواطنين والأجانب . وتضمن هذا التقرير المحاور التالية* :
– أولا : مكامن تقادم الإدارة المغربية تحدد من خلال :
· أ- التسيير الروتيني المتميز بالبطء والتأخر في مسلسل اتخاذ القرارات.
· ب- كثرة الموظفين والأعوان تمتص كتلة أجور مرتفعة.
· ج- مساطر مالية جامدة وقليلة الشفافية في صرف الميزانية.
– ثانيا : تدبير الشأن العام الذي يتميز بالمركزية المفرطة واللامركزية الهشة. وفي الحقيقة لم يكن هذا إنذارا إلى الإدارة المغربية بقدر ما كان إنذارا موجها إلى الدولة المغربية وذلك قصد مراجعة آليات اشتغالها في الميادين الاقتصادية والاجتماعية لمسايرة تطابقها مع بروز الفكر الليبرالي الجديد ومضمونه يكمن في تراجع الدولة عن وظيفتها التدخلية أي يجب أن تواكب موجة العالمية المتسمة بالمساعدة عوض الفعل والتنظيم عوض التدبير وذلك من منطلق أن الأسواق العالمية هي أسواق شاسعة وغنية، نظرا لسيادة التدبير التقليدي في معظم دول العالم .
ويبقى الجدل حاليا حول الرقي نحو التنمية الإدارية يدور في خلق ثنائية الدولتية / قوى السوق، التي قد تم الحسم فيه لصالح هذه الأخيرة وذلك باتجاه تحويل دور الدولة واعتناق مبادئ جديدة للتنظيم والتسيير . ويمكن أن نضيف إلى الثنائية السابقة التي أصبحت تتمحور حولها التنمية الإدارية، دور المجموعات الاقتصادية الكبرى التي تدفع نحو القيام بمجانسة العلوم والتقنيات الانتاجية والتسييرية وأنماط العيش والثقافة والاستهلاك بتحقيق اندماج ايديولوجي واجتماعي وسياسي واقتصادي، معلنة بنهاية قومية رأس المال وتعددية أنماط التسيير. وكما يرى الأستاذ علي سدجاري ” أن توحيد الشكل يتهيكل فوق الفوضى الظاهرة للمنافسات والمزاحمات الوطنية، إذ يتعلق بأنماط التسيير والضبط والتنظيم، أي بقطيعة مع الامتيازات الضخمة التي تتمتع بها الدولة – الأمة، وأساليبها التقليدية في تسيير المرافق العمومية. إن البيروقراطية، والتسلسلية والتراتبية لا تقوم سوى بإلحاق الضرر بنجاعة أنشطة المصالح التي يتوجه نشاطها نحو الخارج. خصوصا عندما يكون الشركاء المفضلون للبلدان النامية منظمات دولية ودول متقدمة تعرف إدارتها تطورا وتحولا مضطردين”.
وفي خضم تبلور مفاهيم تروم حول توحيد الأنماط، تجد المرافق العامة نفسها اليوم في موقف الدفاع عن اقتصاد السوق بإطار قانوني يمارس من خلاله ، جوهره تراجع دولة العناية وتقوية دولة القانون.
والواقع أنه إذا كانت العالمية في حمولاتها شكلا من أشكال التحديث فهذا يعني مما لا يدع مجالا للشك أن المفاهيم التقليدية للتنمية في طريقها إلى التلاشي نتيجة لعدم الاستقرار الذي أخذ يطبع العلاقات القائمة بين المجتمع والدولة من جهة وبين المرتفق والمرفق العام من جهة أخرى أمام المعطيات التكنولوجية الجديدة للنشاط الاقتصادي ولعل ذلك ما يعني أن منطق التنمية أصبح يرتكز على موارد جديدة كالمورد التكنولوجي ومورد المعرفة ومورد التواصل والمورد البشري وأخيرا الاستثمار السياسي الذي يقر بمجال أوسع من الاستقلالية والحرية.
وعلى هذا الأساس فإن إدارة المرفق العام ونظرا لأهمية الدور الذي تلعبه في نجاح أو إخفاق جهود الدولة في تحقيق التنمية الشاملة، فإن هذه الأخيرة تحمل على عاتقها – المرافق العامة – أولوية تحقيق تنمية إدارية فعالة من خلالها تستطيع مواجهة التحديات الجديدة، وخاصة كما يرى الأستاذ علي سدجاري ” أن تجربة الكثير من الدول النامية أثبتت الفرق الكبير بين طموحات خطط التنمية وبين واقع تحمل الأعباء الملقاة على عاتقه، ذلك لأن تحقيق أهداف التنمية على الوجه المأمول سوف يظل مرهونا بمدى كفاءة الجهاز الإداري للدولة على تحمل مسؤولياته من أجل تحويل الأماني إلى حقائق ” .
وإذا كان ربح رهان التنمية الإدارية مرهونا بمدى تطابق الخطط التنموية فإن سؤال ما هي الإمكانيات التي تقدمها التنمية الإدارية للمرفق العام كأرضية للتبلور مع المتغيرات المستمرة والمتلاحقة يجرنا وبقوة لملامسة تحقيق هذا الرهان من عدمه.
إعداد:ذ/فؤاد الكرت