الخطأ الطبي في العمليات الجراحية: بين القانون والطب 


الخطأ الطبي في العمليات الجراحية: بين القانون والطب 

تعتبر مهنة الطب رسالة تهدف إلى المحافظة على صحة الإنسان الجسدية والنفسية، وإلى التخفيف من آلامه ورفع مستواه الصحي العام، لذلك يعتبر الطب مهنة الشرف والإنسانية.
ووفق قانون الآداب الطبية (رقم 288/1994) فإن رسالة الطبيب تتمحور حول جسم الإنسان الذي له حرمته وحياته التي لها حصانتها؛ وأن أهم واجبات الطبيب هي تحقيق رسالته في المحافظة على صحة الإنسان الجسدية والنفسية، وقائيًا وعلاجيًا، والتخفيف من آلامه ورفع المستوى الصحي العام .

الجراحة والمسؤولية الطبية
إن الجراحة كفرع من فروع الطب تعتبر المجال الرحب لدراسة المسؤولية الطبية بمختلف وجوهها وأشكالها، لأن أخطاء الجراحة هي الأخطاء النموذجية في مجال المسؤولية الطبية المدنية. ومن المتفق عليه بين الأطباء أن العمل الجراحي يمر غالبًا بثلاث مراحل، وهي: مرحلة الفحص والإعداد والتحضير للعمل الجراحي، ومرحلة تنفيذ العمل الطبي الجراحي وإجرائه، ومرحلة الإشراف والمتابعة وصولًا إلى تعافي المريض، ومسؤولية الطبيب الجراح قائمة في جميع تلك المراحل.

مفهوم الخطأ الطبي بوجه عام
يعد تعريف الخطأ الطبي أمرًا في غاية الدقة، وذلك نظرًا إلى غياب تعريف تشريعي يحسم الجدل بين أنصار التشدد وأنصار المرونة، هذا إضافة إلى اعتبار أن الطبيب لا يتدخل في جسد المريض إلا بحسن نية و قصد سليم.
يتجسد الخطأ الطبي المرتب لمسؤولية الطبيب بإخلاله بالقواعد والأصول الطبية والفنية والإلتزامات التي تفرضها عليه مهنته. ولا يجوز القياس، في الخطأ الطبي، بالاستناد إلى الرجل العادي اليقظ، بل يجب القياس بالاستناد إلى سلوك طبيب نموذجي واعتماده معيارًا لتقدير وقوع الخطأ الطبي.

الخطأ الطبي الجراحي
يلتزم الطبيب الجراح تجاه المريض بذل العناية اللازمة عند إجراء العملية الجراحية له. وتنشأ مسؤوليته إذا لم يتخذ الاحتياطات اللازمة قبل إجراء العملية الجراحية وخلالها. ولمعرفة الخطأ يقاس سلوك الطبيب الجراح بسلوك طبيب جراح من الاختصاص نفسه والمستوى المهني والعلمي ذاته، مع الأخذ بعين الاعتبار، الظروف الخارجية والإمكانات المادية التي توافرت عند إجراء العملية الجراحية. وفي ضوء ذلك يسأل الطبيب الجراح، عن كل تقصير لا يمكن توقعه من طبيب جراح آخر يتمتع بالمؤهلات نفسها، وفي الظروف نفسها التي أحاطت بإجراء العملية الجراحية.
للأخطاء الطبية الجراحية صور تختلف عن الأخطاء الطبية في التخصصات الأخرى، وفي ما يلي بعضها:

أولاً: على الطبيب الجراح أخذ موافقة المريض أو من يمثله قانونيًا قبل إجراء العملية الجراحية، ويجب أن تصدر هذه الموافقة بعد شرح حقيقة العملية والنتائج المحتملة لها، وبخلاف ذلك يعتبر الطبيب مخطئًا ويكون مسؤولًا، عن النتائج الضارة للعملية الجراحية ولو بذل العناية المطلوبة فيها.

ثانيًا: على الطبيب الجراح استخدام الطرق الحديثة في الفحص لمعرفة حالة المريض ونوع العمل الجراحي قبل إجراء العملية الجراحية، ويكون مسؤولًا إذا أخطأ في التشخيص بسبب  عدم استخدام هذه الطرق.

ثالثًا: على الطبيب الجراح اتخاذ الاحتياطات اللازمة عند استعمال الأدوات اللازمة في العمليات الجراحية، حيث يكون مسؤولًا إذا أهمل ذلك.

رابعًا: على الطبيب الجراح إجراء العملية الجراحية للمريض في المستشفى وليس في العيادات الخاصة، حرصًا على توفير جميع الوسائل اللازمة.

خامسًا: يعتبر خطأ من جانب الطبيب الجراح إجراء العملية الجراحية من دون التأكد من سلامة المنضدة وآلات تثبيت المريض عليها، والذي يمكن أن يؤدي إلى سقوط المريض عنها.

سادسًا: يتوجب على الطبيب الجراح اتباع الأصول العلمية المتعارف عليها واستخدام الطرق الحديثة  عند إجراء العملية الجراحية، والابتعاد عن الطرق البدائية في ذلك.

سابعًا: على الطبيب الجراح عند الانتهاء من العملية الجراحية التأكد من إزالة المواد وقطع الشاش المستعملة، ومن الأخطاء التي تتكرر دائمًا ترك بعض هذه المواد أو القطع في جسم المريض ما يؤدي أحيانًا إلى وفاته. وغالبًا ما يضع الطبيب الجراح المسؤولية في هذا المجال على مساعديه من الممرضات والممرضين، إلا أن ذلك لا يعفيه من هذه المسؤولية.

ثامنًامن الأخطاء الشائعة أيضا إجراء العمل الجراحي في المكان الخطأ من الجسم (الجهة اليسرى بدل اليمنى وبالعكس).

أسباب الأخطاء الطبية الجراحية
لماذا تقع الأخطاء الطبية؟ وكيف لنا أن نمنع حصولها؟ أو على أقل تقدير كيف نخفف من معدلات وقوعها وحجم أضرارها؟
نشر باحثون من «إمبريال كوليدج» في لندن دراسة في المجلة الطبية البريطانية للجودة والسلامة للعام 2013 حول الأخطاء الطبية التي تقع في غرف العمليات. وتبين لهم أن 25% من هذه الأخطاء سببها مشاكل عائدة للتكنولوجيا أو المعدات المستخدمة داخل غرف العمليات، وأن اعتماد إجراء «القائمة التفقدية للسلامة قبل الجراحة» (Surgical Safety Checklist) يقلل من حصول الأخطاء.من ناحية أخرى ورد في عدد أيار 2014 من مجلة الكلية الأميركية للجراحين (جامعة كنتاكي) دراسة حول تأثير الضجيج في غرف العمليات على رفع نسبة حصول الأخطاء الطبية الجراحية فيها. وتبيّن أن الضجيج يحدّ من تركيز الجراحين على اتقان عملهم، ويتسبب في عدم وضوح التواصل بين العاملين في غرف العمليات. وعليه، فإن البحث الدقيق لمعرفة أسباب الأخطاء الجراحية مهم جدًا للحد من الأخطاء الطبية عمومًا. وأن الحرص على الشفافية في رصد الأخطاء الطبية، ضمن المراجعات الداخلية بالمستشفيات، أساس في تطوير جودة الخدمة للمرضى وضمان سلامتهم.

بين الرسالة والمساءلة
يخضع الطبيب في لبنان، في تحديد رسالته وموجباته ومساءلته، لأحكام قانون الآداب الطبية رقم 288 تاريخ 22 شباط 1994، بالإضافة لأحكام القواعد العامة التي ترعى المسؤولية المدنية في قانون الموجبات والعقود ولأحكام المسؤولية الجزائية الواردة في قانون العقوبات (مرسوم اشتراعي رقم 340 – صادر في 1/3/1943.)
تتوزع مسؤولية الطبيب عن أخطائه المهنية إلى مدنية وجزائية.
المسؤولية المدنية: يشترط في المسؤولية المدنية توافر الخطأ والضرر والرابطة السببية بينهما؛ أي ارتكاب الطبيب لخطأ طبي أدى إلى إلحاق الضرر بالمريض. ويجب أن يكون الضرر أكيدًا ومباشرًا وشخصيًا، وأن يتصل سببيًا بالخطأ الطبي، ويكون قابلًا للتعويض عنه.
المسؤولية الجزائية:  المبدأ الأساسي الذي حددته المادة 186 من قانون العقوبات هو أنه لا يعد جريمة الفعل الذي يجيزه القانون. ويجيز القانون العمليات الجراحية والعلاجات الطبية المطابقة للأصول شرط أن تجري برضى العليل أو رضى ممثليه الشرعيين أو في حالات الضرورة الماسّة. إلا أن فعل الطبيب يعتبر سلوكًا جرميًا في حال إيذاء المريض أو التسبب بوفاته عن إهمال أو قلة احتراز أو لعدم مراعاة القوانين والأنظمة (م 564 عقوبات).
لا وجود لنص في القانون اللبناني يحدد المسؤولية الجزائية للأطباء، وإنما تطبَّق القواعد العامة المتعلقة بالمسؤولية الجزائية بجرائم التسبب بالإيذاء أو بالوفاة، إذا كان الجرم نتيجة خطأ، وقواعد المسؤولية الجزائية في الجرائم القصدية إذا كان الفعل قصديًا.
إن التزام الطبيب تجاه المريض، يعتبر التزامًا ببذل العناية، وهذا يعني أن الطبيب لا يكون مسؤولًا عن نتيجة العلاج، ولكن عليه بذل العناية اللازمة لشفاء المريض، وذلك باتباع الوسائل العلمية في علاجه أو عند إجراء العمليات الجراحية.

صور الخطأ  الطبي من وجهة نظر القانون
يحدد القانون صور الخطأ الطبي وفق الآتي:

•عدم التبصر: يراد به في التشريعات العربية المقارنة اصطلاح الرعونة. وهي صورة من صور الخطأ الجنائي، تقابلها عبارة «Maladresse» الواردة في النص الفرنسي (م 319 ق ج ف)، وتعني في الأصل غياب الحذق أو الدراية و نقص المهارة. كأن يجري طبيب عملية جراحية من دون أن يستعين بطبيب مختص بالتخدير، أو أن يرتكب خطأ يقع ضمن المبادئ الأولية في التشريح، أو يتسبب في قطع الشرايين في عملية جراحية من دون أن يربطها كما تقضي الأصول العلمية.

•عدم الإحتياط: ويقابله اصطلاح عدم الإحتراز في بعض التشريعات العربية المقارنة، ويعدّ صورة قريبة ومتداخلة مع «عدم التبصر». ويراد به حالة إقدام الطبيب على عمل طبي خطير مدركًا خطورته ومتوقعًا ما يحتمل أن يترتب عليه من مضاعفات سلبية، ولكن من دون أخذ الإحتياطات التي من شأنها الحيلولة دون حصول هذه المضاعفات.

•الإهمال وعدم الإنتباه: يقصد بالإهمال أو عدم الإنتباه، أن يقف الفاعل موقفًا سلبيًا، فلا يتخذ واجبات الحذر التي من شأنها الحيلولة دون وقوع النتيجة الإجرامية، والإهمال قد يقع بفعل الترك أو الإمتناع. كما أنه قد يتحقق عندما يدرك الجاني الأخطار التي تترتب على مسلكه ورغم ذلك لا يتخذ الإحتياطات اللازمة لتجنبها.

•عدم مراعاة النظم والقوانين: تعتبر مخالفة القوانين والأنظمة صورة مستقلة من صور الخطأ، ويكفي ثبوتها لقيام المسؤولية الجنائية – غير العمدية – في حق الفاعل.

الخلط بين الخطأ الطبي الجراحي والمضاعفات الجراحية
لا يخلو العمل الجراحي من الأخطار والمضاعفات، والتقدم الجراحي في فروع الطبّ لم يتوصّل بعد إلى إلغاء احتمال حصول هذه المضاعفات كليًا. ومن هذا المنطلق، يتّبع الأطباء منهجًا واضحًا يقتضي التحضير المسبق والكامل للعملية الجراحية مهما كان نوعها، فإجراء الفحوصات المخبرية والتصويرية قبل العملية، وزيارة طبيب التخدير قبل أربع وعشرين ساعة على الأقلّ من موعد الجراحة، وإبلاغ الطاقم الطبي بالتاريخ الصحيّ الكامل وبالحساسية تجاه الأدوية، كلها خطوات تهدف لإلغاء فرصة حدوث مضاعفات جراحية.

الخاتمة
إن مسألة البحث في مسؤولية الطبيب عن أخطائه المهنية دقيقة جدًا، فليس من المقبول إطلاق التهم جزافًا. لذلك يجب أن تنطلق المساءلة من التوفيق بين مصلحة الجسم الطبي من ناحية ومصلحة صحة الإنسان والمجتمع من ناحية ثانية، من دون وضع مهنة الطب تحت سيف الملاحقة والمسؤولية بشكل يؤدي إلى منع تقدمها وتطورها. وهذا يفرض الإقرار بمبدأ مسؤولية الطبيب عن أخطائه الطبية ووضع الأسس والشروط الواضحة لهذه المسؤولية.

.lebarmy.gov

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

x

‎قد يُعجبك أيضاً

الحكم الجنائـي عدد 788 س 13

         الحكم الجنائـي عدد 788 س 13 الصادر في 4 يونيو 1970 ...