الطريق نحو دولة القانون
هل دولة القانون مجرد أكذوبة أو حيلة قانونية لا وجود لها لا في الغرب ولا في الشرق؟ أم هي الدولة التي تهدف لتحقيق المثالية والتي وصفها أفلاطون بالمدينة الفاضلة، وبالتالي فإن أمر الوصول إليها صعب المنال؛ كونها لا تعدو ترفاً فكرياً وانقطاعاً عن الواقع ومجرد تصورات مثقفين ومفكّرين منقطعين عن الواقع؟ وما هي مشكلة النظام العربي الفعلية؟ هل المشكلة في النظرية المفقودة أم في أزمة الواقع المضطرب؟
تساؤلات كثيرة قد تتوارد إلى أذهان غالبية الناس، وقد يحللها البعض من الحقوقيين أو السياسيين أو القانونيين، وقد يردّدها البعض الآخر من الناس، وذلك لما يعيشه الفرد في عالمنا العربي من التباعد الشاسع بين واقعه اليومي من قهر وفقر واستبداد، وبين ما يمنحه القانون من مكانة مرموقة. لماذا هذا الخلل؟ ما القول وما الفعل؟ فعلى ذلك لا يُلام غالبية الناس إن لم يُقِرّوا بوجود دولة القانون في دولنا العربية على أرض الواقع، بل ولا يُلام بعضهم إن لم يحلموا بوجودها أصلا؛ فمثل هذه الدولة لم تقم في منطقتنا العربية طيلة تاريخها منذ القدم مروراً بعصورها الوسطى المسماة بالانحطاط، وصولاً إلى يومنا هذا الذي هو الاستطالة الطبيعية للانحطاط القديم في مجال المفاهيم القانونية والسياسية، ومطابقتها للواقع الذي نعيش على أقل تقدير.
وذلك لما تحمله مواريثنا العربية من أن السلطة الحاكمة شخصية غير عادية، طاعتها واجبة، فلا تحد منها ما تفرضه شئون الوظيفة التي تشغلها وهي إدارة شئون الدولة أو المصلحة التي هي فوق الجميع، أو احترام القوانين التي تعلو على الجميع، وإنما توجبت من ذاته التي لا تمس والتي استلزمت قدراً من العبودية والخنوع من قبل الشعب أمداً طويلاً من الزمان، إلا أنه وعلى ما يبدو فقد دق ناقوس الخطر مع بداية الربيع العربي، فصرخات الشعوب العربية باتت تؤرّق مضاجع السلطات الحاكمة.
بالولوج إلى أهم الأسباب التي دفعت الشعوب في العالم العربي إلى محاولة كشف القناع عن دولة القانون وهي عديدة، في مقدمتها حاجة المجتمع العربي إلى نظام سياسي متين يرتكز على نظرية علمية موضوعية تسمح له بتجاوز العقبات والعوائق الداخلية كالطائفية والبطالة والفقر والفساد الإداري والهروب من المحاسبة القضائية وعدم مواجهة جرائم كبار المسئولين ومصادرة الحقوق والحريات العامة، كما أن الحاجة لوجود السلم الاجتماعي والأمن والطمأنينة والاستقرار وتلبية احتياجات المواطن وصون حقوقه وحرياته.
كل هذه الأسباب وغيرها دعت شعوب العالم العربي إلى أن تعيد قراءة اصطلاح دولة القانون وما يعنيه نظرياً، من وجود الدولة المدنية التي تقوم على مبدأ المساواة أمام القانون في الحقوق والواجبات، فلا يظل أحدٌ فوق القانون، وتقوم على انفصال مؤسسات الدولة عن شخص الحاكم واكتسابها طابعاً قانونياً لا شخصياً، كما تقوم على المشروعية الدستورية والتعددية السياسية، والفصل بين السلطات، وصون الحريات وحقوق الإنسان.
لقد ابتدأت الشعوب السير بالطريق الجاد نحو بناء دولة القانون رغم حاجتها للصبر والحكمة ورجاحة الفكر وإتباع سياسة النفس الطويل، والبعد عن التعنت أو التصلب من أجل الوصول لنتائج عملية على أرض الواقع. وهذه الخطوات لن تكون إلا بالوقوف أمام كافة المفاهيم والآليات التي تدور وجوداً مع دولة القانون، لأن بناء دولة القانون ليس مجرد شعار أو ادعاء، وإنما هو الربط الموضوعي ما بين النظم الإدارية والاقتصادية والسياسية في أية دولة. كما أن دولة القانون تعطي الأولوية لعملية ضبط السلطة في حال تعسّفها ومنعها من التجاوز على حريات المواطنين والإخلال بمبدأ المساواة أمام القانون، والذي ينطلق من كون الإنسان مهما كان وضعه الاجتماعي أو توجهاته أو أصله ودينه ولونه ورأيه السياسي، فإن له الحق في مواجهة السلطة في التأمين على حرياته وحقوقه ومساواته بالآخرين والحفاظ على قيمته. كما أن أحد مبادئها الرئيسية هو ترسيخ مبدأ الفصل ما بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، وإيجاد الآليات الفعالة لتطبيقه بحيث لا تتجاوز سلطة معينة السلطات الأخرى لتمنعها من القيام باختصاصاتها الكاملة أو لتحقيق امتيازات على حسابها.
زد على ذلك، فإن دولة القانون تستلزم المساواة أمام القضاء بين الأفراد العاديين وبين المسئولين السياسيين والإداريين، بحيث لا تمنح لأحدٍ امتيازات أو استثناءات على حساب الآخر، كما أن استقلالية القضاء صوناً لحقوق كافة المتقاضين وتفعيلا لنزاهة تطبيق القواعد القانونية ما هو إلا أحد أسس دولة القانون.
وبتأملنا للتاريخ، نجد أن النظام الإسلامي الذي وضع أسسه الرسول (ص) ويستمد أحكامه من القرآن الكريم، هو الأسمى والأرقى دون أدنى شك في صون الحقوق والحريات وتفعيل النظام القضائي المستقل والعادل، وربط كافة الجوانب الاقتصادية والسياسية والاجتماعية باحتياجات الأفراد ورعاية شئونهم الحياتية، دون أن نقف على التطبيق اللاحق له طبعاً، والذي كان من أهم قواعده الحاكمية لله سبحانه وتعالى بالرجوع للقرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، العدل والمساواة، الطاعة لولي الأمر دون معصية الخالق وبعدلٍ منه بين الناس، ووجود خمس سلطات وهي السلطة التشريعية، التنفيذية، القضائية، المالية، المراقبة والتقويم، وتفعيل نظام الشورى الذي كان يشكّل الضمانة لتفعيل الأمن والاستقرار والتقدم والازدهار، وصون مصالح الأفراد، بل والمثال الأكثر وضوحاً لما نردده عن دولة القانون، فتمارس الشورى في المجتمع الإسلامي عملها من خلال مجلسين: مجلس منتخب انتخاباً مباشراً من قبل الشعب، ومجلس معين من قبل الحاكم، يضم العلماء والفنيين والمختصين ويكون عمل المجلس تقديم المشورة الفنية للمجلس الشعبي دون أن تكون له صفة الإلزام، أو التدخل في شئون الدولة.
أهل الشورى هم أصحاب الرأي وقادة الفكر، وأرباب السياسة وأمراء الجيوش، وهم أصحاب الاختصاص والخبرة في كل فن من الفنون، كالزراعة والصناعة والتجارة والاقتصاد وشئون الحرب. وتنحصر اختصاصات أهل الشورى فيما يلي:
1 – اختيار رئيس الدولة وترشيحه: يقوم أهل الشورى في الدولة الإسلامية باختيار رئيس الدولة اختياراً أولياً، ويبايعونه البيعة الخاصة، ثم يعرض الأمر على الأمة فتبايعه البيعة العامة.
2 – مساعدة رئيس الدولة في إدارة شئون البلاد، وعلاج القضايا العامة، كإعلان الحرب وعقد المعاهدات وتقنين القوانين الاجتهادية وكيفية تنفيذ الأحكام الشرعية.
3 – محاسبة رئيس الدولة وغيره من كبار الموظفين كالأمراء والوزراء والولاة.
4 – عزل رئيس الدولة أو أي موظف يختاره مجلس الشورى، إذا أخل بواجباته، بعدما يتقدم أهل الشورى بنصحه، فإذا رجع إلى دوره وأدائه السليم يبقونه في موقعه، أما إذا تجاهل واستمر في تقاعسه أزالوه من منصبه، ويعلنون ذلك للأمة.
هذا ما كان نظرياً في التاريخ الإسلامي، أما في ألمانيا فقد جاء مصطلح دولة القانون نهايات القرن التاسع عشر في زمن تكوين الوحدة القومية الألمانية (عهد بسمارك)، لذلك كان الهدف منها يتجه أساساً لتدعيم مركزية الدولة إضافةً لعقلنتها وحسن سيرها، وفرّقوا بينها وبين الدولة البوليسية التي تملك السلطة الحاكمة فيها التقدير باتخاذ كافة القرارات والتدابير المتعلقة بضبط الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية دون أن تكترث بآثار ذلك على الحقوق والحريات العامة للأفراد.
كما أن أفلاطون أطلق عبارة «القانون فوق أثينا» في معرض حديثه عن دولة القانون، ما يعني أن القانون لديه هو الحاكم الذي لا يتمثل بشخص الحاكم، حيث يعد الأخير مجرد موظف لمسك شئون الدولة بمعرفة المحكومين وتحت رقابة القانون.
أما بالنسبة لنظرية العقد الاجتماعي التي جاءت كبداية للثورة الفرنسية في القرن الثامن عشر، فقد اعتبرت دولة القانون عبارة عن اجتماع إرادة الحاكم والمحكومين، حيث ارتضى المحكومون بالنزول عن جزء من حقوقهم وحرياتهم في سبيل الكيان الجمعي المتمثل بالدولة، بهدف ضمان أكثر فعالية للحقوق والحريات، فالأصل هو التمتع بالحقوق والحريات بينما الاستثناء هو التقييد الذي مرده الأحكام القانونية لا السلطة الحاكمة.
كما أن بعض الحقوقيين والمفكرين اعتبر دولة القانون ملاذ الخائفين والمنقذ من الدكتاتورية والتعسف والظلم، وأنها القادرة على تحقيق العدالة. وفي المقابل هناك من يرى أنها مجرد إسباغ الشرعية على إرادة السلطة الحاكمة لحماية ظلمها واستبدادها، ويستند في ذلك على ان الدول العربية التي تنتج الفقر والقهر والاستبداد وتحد من حريات الأفراد الأساسية التي كفلتها لهم شرائع السماء بحجة ضبط الأمن والنظام، لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يطلق عليها دولة القانون.
أما أنا فأميل للرأي الذي تبناه غالبية رجال القانون والقائل بأن دولة القانون ما هي إلا نظرية دستورية هدفها تنظيم العلاقة بين الحاكم والمحكومين، وهذا التنظيم يتم من خلال إيجاد علاقةٍ متوازنةٍ بين طرفي العلاقة. فالحاكم كأحد طرفي العلاقة وممارس للسلطة، يرغب بتغليب ضرورات ممارسة السلطة، والمحكومون باعتبارهم الطرف الآخر، يرغبون بتغليب الضمانات والحريات العامة، ولكن ضرورات ممارسة السلطة تتجلى من خلال التقييد الوارد سياسياً وقانونياً على الحقوق والحريات العامة، في حين أن ضمانات الحقوق والحريات العامة تتجلى من خلال التقييد القانوني والسياسي للسلطة. لذلك فإن دولة القانون ينبغي أن تقيم التوازن بين ضرورات استقرار السلطة وبين ضمانات الحريات والحقوق العامة، فتغليب ضرورات السلطة يقود إلى استبداد السلطة، وتغليب الحريات الفردية على ضرورات السلطة يقود إلى الفوضى، وهذا ما تقع فيه السلطة الحاكمة في الدول العربية، فتفرط في جانب تغليب ضرورات السلطة على حساب الحريات وحقوق الأفراد.
إن الحق والعدالة هما العنصران المنشئان لدولة القانون، فالقانون لم يُصَغ إلا لإظهار الحقوق وتثبيتها لأصحابها، وهو الذي يمنع الأشخاص من التعدي على حقوق الآخرين، كما أن الحق هو ثمرة وجود القانون وتطبيقه بشكل سليم وعادل، والقانون هو قوة الحق، أما إذا كان القانون عبارةً عن أداةٍ فارغةٍ لتكريس هيمنة أهل السلطة وفرض القهر على الناس، عندها تغيب العدالة ويشيع الفساد، وذلك لأن العدالة هي الموئل الذي نتمسك به والمحطة التي تنقلنا إلى طريق الإصلاح عند التطبيق السليم للقانون.
وأخيراً نأمل في الوقوف أمام مفاهيم دولة القانون بدقة متناهية لتطبيقها على أرض الواقع، لكي تسبغ على مسمياتنا صبغة واقعية، والاجتهاد في توفير الأدوات الفكرية والنظرية للإجابة بفعالية ونجاعة على الإشكالات المطروحة في واقع المواطن العربي، وترشيد العقل العربي، وتبنّي منهجية عقلانية مستنيرة تكون هي العماد لانطلاقة جديدة نحو ترسيخ دولة القانون، وذلك ضماناً لمستقبل مشرق لمجتمعاتنا ولإنسانيتنا ولدولنا، وصولاً للأمن والاستقرار والطمأنينة والسلم الاجتماعي وتأمين احتياجات المواطنين وصون حقوقهم وحرياتهم. ولا شك أن كل ذلك لن يتأتى إلا بالعمل الدائب على تطبيق مفاهيم وآليات عمل دولة القانون.
إعداد:ذة/نفيسة دعبل_محامية بحرينية