المحكمة الرقمية بين الحلم والواقع


المحكمة الرقمية بين الحلم والواقع

في إطار الأوراش التي  فتحتها وزارة العدل والحريات بشأن إصلاح منظومة العدالة[1]، شكلت المحكمة الرقمية رهانا فارقا  يؤسس لتصور بديل يرتقي بالممارسة الإجرائية أما المحاكم من مستواها التقليدي المادي إلى مستوى رقمي تستثمر فيه منجزات الطفرة المعلومياتية في عالم الاتصال والتواصل انطلاقا من الأهداف التالية:
– تحديث الإدارة القضائية.
– إنماء القدرات المؤسسية لمنظومة العدالة وتعزيز حكامتها.
– الارتقاء بفعالية ونجاعة القضاء .

وفي خضم المساعي الحثيثة لتحقيق هذا الحلم الحضاري الذي سيخلص المحاكم بشكل نهائي من السجلات والملفات الورقية بكيفية تضمن الشفافية والسرعة والحكامة الجيدة، وفي انتظار تنزيل هذا الحلم إلى أرض الواقع يبقى السؤال الملح هو، هل قطاع العدل والحريات ببلادنا قادر على تحقيق محكمة رقمية ضمن الدائرة الزمنية الموعود بها؟، وهل التجربة العملية التي حققتها بعض المحاكم التجارية ببلادنا كتوظيف الانترنيت في تمكين الشركات من حجز مواعيد إيداع ملفاتها بالمحكمة[2] كافية لبث الاقتناع بأننا دخلنا فعلا عالم المحاكم الرقمية؟.

والوقع أنه إذا كانت المحاكم التجارية قد انفتحت مبكرا على شبكة الأنترنيت منذ أكثر من 10 سنوات، ومكنتها التطبيقات الالكترونية من التواصل مع جمهور المتقاضين فضلا عن الرفع من مستوى المردودية وسرعة الإنجاز، فإن ذلك لا ينبغي أن يحول دون التمييز بين المحكمة الرقمية بمواصفات علمية متعارف عليها في الفقه المقارن، وبين محكمة تعتمد الحوسبة في إجراءاتها الإدارية والقضائية ، ولو كانت هذه المحكمة تمتلك موقعا الكترونيا تغرق من خلاله الشبكة العنكبوتية بفيض من النصوص القانونية والاجتهادات القضائية، ولا يصح أن يجرفنا الوهم أو التوهيم إلى دائرة الخلط بينهما أي ذريعة.

إرهاصات الخلط بدأت حين بشر الرئيس الأول لمكممة النقض صحافتنا الورقية والالكترونية بنتائج تطبيقاتها المعلومياتية على إجراءات محكمة النقض، والتي كان من بينها إحداث موقع إلكتروني للتواصل ومكتبة إلكترونية لنشر المعلومة القانونية والقضائية، معلنا في نفس البشرى بأن محكمة النقض ستتحول إلى محكمة رقمية في مطلع سنة 2017، وستصبح محكمة لا ورقية ولا مادية، فقط ينظمها العنصر الرقمي كعنصر وظيفي في إجراءات التقاضي والتواصل والجلسات.

صحيح إن محكمة النقض وبفضل موقعها الالكتروني وتفاني قضاتها وموظفيها المتابعة والتحيين، حققت التواصل المنشود مع جمهور المتقاضين بصبيبها  المعلوماتي المتدفق عبر الشبكة العنكبوتية، وهو تواصل محمود أتاح لعموم المتقاضين والمحامين مكنة تتبع الملفات عن بعد، إلا أن هذا الإنجاز لم يكن كفيلا للحسم في أن محكمة النقض دخلت الأشواط النهائية لتكون محكمة رقمية في زمن قياسي أقصاه سنة 2017.

من جهة أخرى وعلى مستوى القطاع المعني بالعدل نلفي وسائل الإعلام الورقية والالكترونية يوم الثلاثاء 04/ 06/ 2016 تتناقل وبحماس رائع خبرا يفيد أن المغرب يعلن عن رزمة من التحديثات تتمثل في ثلاث تطبيقات معلومياتية؛ أحد هذه التطبيقات يتعلق بإحداث سجل الكتروني خاص بالمعتقلين احتياطيا لتمكين النيابة العامة والوكلاء العامين للملك بصفة خاصة من السهر على أوضاعهم القانونية وتدبير ظروف اعتقالهم اعتمادا على نظام معلومياتي، وثانيها يتعلق بإحداث تطبيق لتتبع تنفيذ الأحكام الخاصة بشركات التأمين، وثالثها يتعلق بتطبيق المكتبة الرقمية التي ستمكن المهتمين بالحقل القضائي والحقوقي من نصوص قانونية محينة، وبالفعل قامت الوزارة مشكورة بتمكين قضاتها وموظفيها من أقراص مدمجة تتضمن تحيينا موضوعيا وإلكترونيا لمختلف القوانين المعمول بها أمام المحاكم، لكن ما يسترعي الانتباه هو أن الخبر تضمن تأكيد الوزارة على أن المغرب سيعرف تدشين المحكمة الرقمية في مطلع 2020، وهو موعد تجاوز الموعد المحدد في 2017 المبشر به من قبل محكمة النقض.

هذه التصريحات أوقعت بعض المسؤولين إداريا وقضائيا فضلا عن عموم المتقاضين في وهم الاعتقاد بأن منجزات بعض المحاكم، ومن خلال ما قطعته من أشواط في استعمال التطبيقات الالكترونية واستغلال الشبكة العنكبوتية في ترويج المعلومة القضائية والإجرائية، وأن المغرب دخل فعلا مراحله النهائية في الإعداد للمحكمة الرقمية، والواقع أنه ما يزال في بداية الطريق نحو تأهيل محاكم المملكة لتصبح محاكم إلكترونية في أفق صيرورتها محاكم رقمية بالرغم من الإمكانيات الهائلة والمهمة في إدارة قضايا العدالة ببلادنا، نعم قد نكون في بداية التأسيس لمحكمة إلكترونية أو على مشارفها أو في الطريق الصحيح نحوها، وقد نكون من الدول التي حققت خطوة كبيرة في ذلك، لكن ليس بالضرورة كل محكمة إلكترونية هي محكمة رقمية. وثانيهما عام

فالمحكمة الالكترونية هي محكمة تعتمد إجراءاتها على سجلات إلكترونية مندمجة في نظام الكتروني داخل حواسيب ممسوكة من طرف قضاة المحكمة وكتابة ضبطها ضمن شبكة داخلية تربط بين كافة الأجهزة والحواسيب بطريقة تفاعلية، ومتصلة في نفس الآن بالشبكة الدولية التي تتجمع فيها كافة المعلومات المتحصلة معلوماتيا من أنشطة هذه المحكمة،

أما المحكمة الرقمية فلها في تصور القانون المقارن تعريفان؛
أحدهما خاص يعتبر المحاكم الرقمية محاكم نوعية تختص كل  منها بمجال قانوني محدد، وقد نشأت فكرة المحكمة الرقمية وفق هذا التصور على خلفية القصور الذي يلف التحقيق في المادة الجنائية، من حيث التكييف القانوني للجرائم الرقمية التي تزداد يوما بعد يوم وتتنوع الوسيلة التي تستخدم فيها، زيادة على القصور في الخبرة الفنية لإبداء الرأي؛ إذ أن هذه الجرائم مختلفة تماما عما اعتاد عليه المحققون واعتاد عليه القضاة واعتاد عليه الخبراء، ذلك أن ” هذه المحكمة تختص بالجرائم الرقمية digital crimes، والتي الأصل فيها هو الحاسب الآلي ( الكومبيوتر )، ثم شبكة الانترنيت الدولية والشبكات الأخرى. يلحق بالجرائم الرقمية الاتصالات التي يدخل معظمها نطاق الكمبيوتر، كما يشمل الاختصاص نواتج الأجهزة الرقمية”[3].

والآخرعام يعتبر المحاكم الرقمية محاكم تفض منازعاتها في إطار جلسات منعقدة عن بعد، ويحضرها الأطراف ومحاموهم وشهودهم في زمن واحد ومن أمكنة مختلفة ولو كانت متباعدة جغرافيا، كما يمكن لكل من أراد متابعة أطوار الجلسة أن ينظم إليها من خلال الاتصال بعنوان المحكمة المتاح عبر الشبكة العنكبوتية، وتجري المحاكمات بطريقة شفافة ووفق تقنيات عالية على مستوى الصوت والصورة الذين توظف فيهما عدسات رقمية فائقة الدقة، وحتى بالنسبة لأطراف الدعوى يستطيعون الإدلاء بتصريحاتهم ويسلمون لهيئة المحكمة وثائقهم وحججهم خلال الجلسة المنعقدة على الهواء مباشرة، كما أن النطق بالحكم يتم في نفس الجلسة التي يمكن للأطراف استغلال تواجدهم بها لسحب نسخ الأحكام والمقررات أو للتوصل باستدعاء الجلسات المؤخرة، وعند عدم حضور الطرف يمكن للمحكمة إعادة استدعائه أو تمكينه من حجج خصمه عن طريق بريده الالكتروني مع اعتبار شروط التوصل القانوني الذي يتبثه التوقيع الالكتروني أو يؤكده فتح بريد الوارد ولو من غير تصفح لمحتواه، فهل تأهل المواطن المغربي بما فيه الكفاية لتحقيق هذا الحلم ولم يبق لسنة 2017 إلا نصف السنة؟، ومحاكمنا التي تستعمل الوسائل الإلكترونية في إجراءاتها حاليا، هل اكتسبت ما يكفي من الضمانات اللازمة لتمنحها ثقة تخلصها من تقديس السجلات والملفات المادية؟ هل تأهلت البنية الاجتماعية لمكاتب مساعدي القضاء لتحتضن هذا الحلم وتتماهى مع طموحاته ومقاصده الفلسفية والحقوقية السامية؟، وبصرف النظر عن شباب الفايس بوك والوات صاب، هل يتوفر المغرب على جيل حقيقي من المتقاضين تبنى اللغة الرقمية وسيلة للحياة اليومية في تعهداته والتزاماته؟، وباستثناء بعض الجرائد الإلكترونية المعدودة التي نالت شهرة واسعة داخل المغرب وخارجه، كم عدد الجرائد والمجلات الإلكترونية المغربية التي استماتت من أجل إنجاح خيارها في تبني العالم الرقمي وسيلة للتواصل مع المغاربة؟  وكم عدد قرائها؟ وهل استطاعت اللغة الرقمية أن تتغلغل في ثقافتنا التواصلية بنفس قوة وحجم تغلغل الثقافة الورقية فيها حتى نسعى إلى ثقافة رقمية إجرائية تستغرق محاكمنا في ظرف قياسي لا يتجاوز سنة 2020، علما بأن هذا الحلم الحضاري تحاصره قوى التجهيل، ولوبيات الفساد التي تعتاش على السمسرة في  ملفات المتقاضين وتتلاعب بآجال البت فيها؟…
——-
[1] – يوم الخميس 12/ 09/ 2013  تم الإعلان الرسمي عن ميثاق إصلاح منظومة العدالة، بعد أزيد من سنة على إنطلاق حواره الوطني إثر تنصيب جلالة الملك لأعضاء هيئأته العليا في 8 ماي 2012، ويتضمن الميثاق ستة أهداف استراتيجية كبرى هي: توطيد استقلال السلطة القضائية، وتخليق منظومة العدالة، وتعزيز حماية القضاء للحقوق والحريات، والارتقاء بفعالية ونجاعة القضاء، وإنماء القدرات المؤسسية لمنظومة العدالة، وتحديث الادارة القضائية، وتعزيز حكامتها، إضافة إلى 36 هدفا فرعيا و 200 آلية تشمل 353 إجراء تنفيذيا. وتميز الحوار الوطني لإصلاح منظومة العدالة بعقد 41 اجتماعا لهيأته العليا، و11 ندوة جهوية غطت الخريطة القضائية للمملكة، وتدخل111 هيئة ومنظمة باستشارات كتابية، و 104 ندوة مواكبة على صعيد المحاكم في إطار منهجية تشاركية إدماجية مع الأخذ بعين الاعتبار توصيات ذوي الخبرة من داخل الوطن وخارجه. وأكد وزير العدل والحريات خلال الندوة الصحفية التي تلت الإعلان عن بنوذ الميثاق على أن جل الإجراءات التي تضمنتها الوثيقة ستنجز خلال الفترة 2013-2015  في حين حدد أجل تنفيذ الإجراء المتعلق بالمحكمة الرقمية في سنة 2020.
[2] – تعتبر المحكمة التجارية بمراكش أول محكمة في المغرب قامت بتطبيق برنامجا إلكترونيا يمكن الشركات من حجز مواعيد خاصة بإيداع قوائمها التركيبية طبقا لمقتضيات المواد 95 و 108 و 110 من القانون رقم 5.96 والمادتين 158 و 388 وما يليها من القانون رقم 17.95، وأول موعد تم حجزه كان بتاريخ 15/ 05/ 2013.
وللاشارة فقد أحرزت وزارة العدل والحريات، يوم الخميس 12 نونبر 2015 ، جائزتين حول الإدارة الإلكترونية وذلك في إطار الدورة التاسعة للجائزة الوطنية للإدارة الإلكترونية التي تنظمها وزارة الوظيفة العمومية وتحديث الإدارة.
[3] – الدكتور هلال محمد رضوان / المحكمة الرقمية مفهومه ومقوماتها..الطبعة الأولى دار العلوم للنشر والتوزيع 2006، ص 7 و 8 .

إعداد:ذ/عبدالجبار بهم

 


اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

x

‎قد يُعجبك أيضاً

 أمين البقالي: ماهية الحريات العامة 

ماهية الحريات العامة   أمين البقالي طالب باحث في العلوم القانونية بكلية الحقوق اكدال مقدمـــــة: موضوع ...