الموظفون القضائيون و النموذج التنموي الجديد
إذا كان الخطاب السامي الموجه للسياسات العمومية اليوم ينحو في اتجاه رد الاعتبار للكفاءات و الأطر و ضرورة العناية بها من اجل تجاوز أعطاب النماذج التنموية السابقة و العمل على بناء نموذج تنموي جديد يروم النهوض بالقطاعات العمومية و تجويد الخدمات و نجاعة أداء الإدارة العمومية.
فان واقع الحال و الممارسة يمضيان في اتجاه مغاير للخطب السامية مما يطرح اليوم عددا من علامات الاستفهام حول ما مدى تطابق الرؤى الإستراتيجية للإصلاح التي تمثلها سياسة الاوراش الكبرى و المفتوحة مع الآليات التشريعية و التطبيقية المعتمدة لتزيلها على أرض الواقع.
و يبدو هذا الأمر جليا في قطاع العدالة الذي من المفروض أن يكون قد قطع أشواطا بعيدة في مسار الإصلاح المؤسساتي و التشريعي و التنظيمي بعد مرور أزيد من سبع سنوات على إصدار ميثاق إصلاح منظومة العدالة فلازال وضع أطر و موظفي هيئة كتابة الضبط يتأرجح بين الفكر الماضوي المشوب بنظرة الدونية لهذه الهيئة و التصورات الحديثة لمنظومة العدالة و التي تجعل من هيئة الموظفين القضائيين ركيزة أساسية في ضمان جودة العملية القضائية في جميع مراحلها و سلامة الإجراءات و صحتها و تحقيق شروط المحاكمة المنصفة.
حيث انه و بغض النظر عن كل المبادرات الرامية لتصحيح التصورات المرتبطة بقطاع العدالة في المغرب – في إطار الإصلاح الشامل لمنظومة العدالة – لازال هناك شبه إصرار على تكريس الارتكاس المفاهيمي و المعرفي و ممارسة الإقصاء الممنهج في حق شريحة الموظفين القضائيين الممثلين في هيئة كتابة الضبط برغم كونهم الحجر الأساس لأي إصلاح و باعتبارهم القلب النابض لمؤسسة المحكمة.
وتتجلى عملية الإقصاء في تعمد التشريعات الإجرائية و التنظيمية على تهميش الأدوار المركزية التي يمارسونها في الهندسة الإجرائية و المسطرية قبل صدور الأحكام و بعدها وعدم ايلاء الموظفين القضائيين القائمين بهذه المهام المكانة اللائقة بهم في المنظومة القضائية و التشريعية و ما يدل على ذلك هي التوصيفات التي لازالت تصبغها عليهم بعض القوانين الإجرائية .
و على سبيل المثال فرغم صدور النظام الأساسي لهيئة كتابة الضبط – مرسوم 14 سبتمبر 2011 – ونصه في فصله الأول على انه (يعتبر الموظفون المنتمون لهيئة كتابة الضبط في وضعية عادية للقيام بالوظيفة بمختلف محاكم المملكة و بالمصالح المركزية و اللا ممركزة لوزارة العدل ) و نص المادة الخامسة على أن هيئة كتابة الضبط تشتمل على الأطر التالية 1- إطار المنتدبين القضائيين 2- إطار المحررين القضائيين 3- إطار كاتب الضبط .
إلا أن قانون المسطرة المدنية لازال يحتفظ بالصياغة المهترئة التي تصف الموظف القضائي بعبارة ( احد أعوان كتابة الضبط ) حيث نص قانون المسطرة المدنية في الفصل 31 على انه ( ترفع الدعوى إلى المحكمة الابتدائية بمقال مكتوب موقع من طرف المدعي أو وكيله أو بتصريح يدلي به المدعي شخصيا و يحرر به احد أعوان كتابة الضبط المحلفين محضرا يوقع من طرف المدعي أو يشار في المحضر إلى أنه لا يمكنه التوقيع…) كما نص الفصل 37 على انه (يوجه الاستدعاء بواسطة احد أعوان كتابة الضبط …) أما الفصل 39 على (…تعين المحكمة في الأحوال التي يكون فيها موطن أو محل إقامة الطرف غير معروف عونا من كتابة الضبط بصفته قيما يبلغ إليه الاستدعاء…).
أما قانون المسطرة الجنائية فلازال إلى حدود اليوم يعتبر إطار كتابة الضبط الذي يقوم بمهام كتابة قضاء التحقيق مجرد كاتب لقاضي التحقيق وليس موظفا قضائيا يمارس مهامه في استقلالية وذلك عندما تنص المادة 100 على انه ( يمكن لقاضي التحقيق بعد إخبار النيابة العامة بمحكمته أن ينتقل صحبة كاتبه قصد القيام بإجراءات التحقيق…).
إن استمرار تواجد عبارة احد أعوان كتابة الضبط و استمرار استخدام مفهوم العون – في قانون المسطرة المدنية إلى حدود اليوم برغم التعديلات العديدة التي أدخلت على هذا القانون و عدم التنصيص على الصفة القضائية لموظفي هيئة كتابة الضبط باعتبارهم عنصرا جوهريا في سلامة و صحة الإجراءات القضائية و توصيف المهام التي يقوم بها كل إطار من الأطر المحددة في النظام الأساسي لهيئة كتابة الضبط أثناء ممارسة مهامهم ذات الصبغة القضائية مثل كتابة الجلسة و كتابة قضاء التحقيق و كتابة النيابة العامة يدل على أن عقلية التبخيس و الدونية تجاه اطر و موظفي هيئة كتابة الضبط لازالت مستحكمة لدى صانعي النصوص القانونية كما لو أن هذه الهيئة لا تضم خيرة خريجي كليات الحقوق من حاملي الدبلومات العليا و شواهد الماستر و الدكتوراه في القانون.
و يؤكد هذا الطرح التوجه الاقصائي الذي يتم اليوم تكريسه تجاه هيئة كتابة الضبط مواردها البشرية هو إقصاء مديرية الموارد البشرية لوزارة العدل من عضوية الهيئة المشتركة بين المجلس الأعلى للسلطة القضائية و وزارة العدل مما يعني تهميش دور الموظفين القضائيين و موظفي وزارة العدل من التواجد ضمن الرؤية الجديدة لمنظومة العدالة.
يضاف إلى ذلك عدم الاستجابة و الى حدود الآن للمطالب المشروعة التي يرفعها اطر هيئة كتابة الضبط و المتعلقة بفتح الباب لإدماج أطرها حاملي الشهادات العليا الذين قضوا فترة زمنية معينة في الوظيفة العمومية في سلك القضاء نظرا لما راكموه من تجربة مهمة خلال عملهم في هيئة كتابة الضبط مما سيشكل إضافة نوعية للقضاء في المغرب من خلال إمداده بأطر كفؤة أمضت سنوات طوال في دواليب المحاكم و خبرت جيدا الإجراءات و المساطر و كذا الإعفاء من اجتياز المباراة فيما يتعلق بولوج مهنة المحاماة و خطة العدالة.
إن أي نموذج تنموي لا يقوم على الاستفادة من خبرة الأطر و الكفاءات و إتاحة الفرص لهم من اجل تقديم خبراتهم المعرفية و المهنية للرفع من أداء القطاعات العمومية المساهمة الفعالة في تجويد و تطوير منظومة الإدارة العمومية عموما و الإدارة القضائية بشكل خاص لا يمكنه أن يحقق النجاح المطلوب.
فقطاع العدل الذي يعتبر صمام الأمان لأي عملية تنموية بما يوفره من ضمانات قانونية و قضائية و ما يوفره من حماية حقوق و حريات المواطنين و تنزيل القيم الدستورية الكبرى على ارض الواقع و إحقاق العدل و الإنصاف.
لذلك فان نجاح مطلب إصلاحه كما هو مسطر في ميثاق إصلاح منظومة العدالة رهين بإشراك اطر و كفاءات هيئة كتابة الضبط في هذا المسار و تقدير أدوارهم التي يقومون بها و مساهماتهم التاريخية في الدفاع عن العدالة و قيم الإنصاف و حسن أداء المحاكم و جودة الأحكام و سرعة تنفيذها و ضمان الحق في الولوج للقضاء و تيسير سبل التقاضي و اقتضاء الحقوق.
إعداد:ذ/بدر الدين الخمالي