النظام القانوني للخبرة القضائية في المادة العقارية
تعد الخبرة القضائية إجراء قانونيا يساهم بشكل كبير في مساعدة القضاء على إيجاد الحل للعديد من القضايا الشائكة ذات الطابع التقني والفني بامتياز، حيث مدارك ومعارف القاضي محدودة أمام تشعب الحياة وتطورها المستمر.
وعلى الرغم من أن القاضي هو السيد في مجال القانون، حيث يتعين عليه تطبيق النص القانوني في النازلة، وتكييفها التكييف الصحيح، فإنه يواجه بعض المسائل الفنية التي يصعب عليه الإلمام بها مهما اتسعت معارفه، لهاته الأسباب والاعتبارات نظم المشرع المغربي في الفصول من 59 إلى 66 من قانون رقم 85.00[1] الخبرة القضائية[2].
ولإن كانت تقارير الخبراء تساعد القاضي على تكوين قناعته اللازمة للحكم في قضية معينة، فإن ذلك يستوجب القيام بمجموعة من الإجراءات القانونية من أجل إصدار الحكم بإجراء خبرة قضائية لا تخلو في أغلب الحالات من عوارض تعتري مسارها.
فما هي الإجراءات القانونية المتبعة من أجل إصدار الحكم بإجراءات الخبرة القضائية؟ وما هي عوارضه؟
لأجل مقاربة هذه الدراسة، سنعمد على تقسيمها على النحو التالي:
] المبحث الأول: الحكم الآمر بإجراء الخبرة في المجال العقاري
] المبحث الثاني: عوارض الخبرة القضائية في الميدان العقاري
المبحث الأول: الحكم الآمر بإجراء الخبرة في المجال العقاري
يتم اختيار الخبير العقاري استناداً إلى قدراته أو علمه أو فنه، ومهمته إبداء رأيه للمحكمة في المسائل الفنية التي لا علاقة لها بالقانون والمحددة بدقة من طرف القاضي حتى ينير رأيه في بعض المسائل التي يستعصي عليه الإلمام بها، والأمر لا يأتي هكذا اعتباطاً بل لابد من استصدار حكم تمهيدي بأمر من القاضي يتضمن مجموعة من العناصر الأساسية لا مندوحة عنها (المطلب الأول)، وضماناً لحياد الخبير وحرصاً من المشرع على أن لا تكون الخبرة القضائية ذلك الإجراء الذي يعرقل ويطيل عمر الفصل في الدعاوى، أعطى المشرع الحق لاستبدال الخبير أو إعفائه أو تجريحه (المطلب الثاني).
المطلب الأول: عناصر الحكم الآمر بإجراء الخبرة في المجال العقاري
يقتضي تعيين خبير عقاري إصدار حكم تمهيدي يتضمن مجموعة من البيانات والعناصر، وذلك طبقاً للمقتضيات القانونية المنصوص عليها في قانون المسطرة المدنية، والمتمثلة أساساً في تعيين الخبير العقاري (الفقرة الأولى) وتحديد أتعابه (الفقرة الثانية) وكذا إبراز المهام المنوطة به وأجل القيام بها (الفقرة الثالثة).
الفقرة الأولى: تعيين الخبير
إن تعيين الخبير أمر موكول لسلطة القاضي التقديرية، فهو وحده الذي يملك حق الاستجابة لطلب إجراء الخبرة أو عدم إجرائها، ولا رقابة لمحكمة النقض متى كان الطلب قائماً على أسباب مبررة[3]. فلا يمكن للخصوم إجباره على تعيين خبير بذاته، وقد نص الفصل 55 من ق.م.م على أنه: “يمكن للقاضي بناء على طلب الأطراف أو أحدهم أو تلقائياً أن يأمر قبل البحث في جوهر الدعوى بإجراء خبرة أو وقوف على عين المكان أو بحث أو تحقيق أو خطوط أو أي إجراء آخر من إجراءات التحقيق…”
وتجدر الإشارة هنا إلى أن هذا النص يتعارض مع ما نص عليه القانون المصري صراحة بقوله: “إذا اتفق الخصوم على اختيار خبير أو ثلاثة خبراء أقرت المحكمة اتفاقهم”. (المادة 136 من قانون الإثبات).
ويمكن للقاضي أن يختار خبيراً مقيداً في جدول الخبراء، كما يمكن له أن يختار خبيراً خارج الجدول وذلك بصفة استثنائية في حالة ما لم يوجد خبراء مقيدون فيه.
وفي هذه الحالة يجب على الخبير الذي اختير خارج الجدول أن يؤدي اليمين القانونية أمام السلطة القضائية التي عينها القاضي قبل أداء مهمته وإلا اعتبر عمله باطلاً حتى ولو أدى اليمين بعد الانتهاء من مهمته أو بعد البدء في تنفيذها[4].
وهذا ما نص عليه الفصل 59 من قانون المسطرة المدنية، حيث جاء فيه: (… وعند عدم وجود خبير مدرج بالجدول، يمكن بصفة استثنائية للقاضي أن يعين خبيراً لهذا النزاع، وفي هذه الحالة يجب على الخبير أن يؤدي اليمين أمام السلطة القضائية التي عينها القاضي لذلك، على أن يقوم بأمانة وإخلاص بالمهمة المسندة إليه وأن يعطي رأيه بكل تجرد واستقلال ما لم يعف من ذلك اليمين باتفاق الأطراف”.
وفي هذا الصدد نورد قراراً لمحكمة النقض جاء فيه: “الدفع بعدم أداء الخبير غير المحلف اليمين نقطة قانونية يمكن التمسك بها للطعن في الخبرة ولو بعد إجرائها عملاً بالفصل 59 المشار إليه”[5].
وغالبا ما يعمد القاضي إلى تعيين خبير واحد أو أكثر لإنجاز الخبرة وذلك حسب ظروف كل قضية على حدة، وهذا ما نصت عليه الفقرة الأولى من الفصل 66 من ق.م.م والتي جاء فيها: “إذا اعتبر (القاضي) أن الخبرة يجب أن لا تقع من خبير واحد، فإنه يعني ثلاثة أو عدداً أكثر حسب ظروف القضية”.
والظاهر أن المشرع المغربي لم يسمح بتعيين خبيرين اثنين لإنجاز الخبرة اعتباراً منه ولا شك لتعذر الترجيح بين رأي الخبيرين عند تعارضهما، كما لم يحدد عدداً أقصى للخبراء كما هو ظاهر من الفصل 66 من ق.م.م، ويرى بعض الفقه أنه يستحسن ألا يتم تعيين أكثر من ثلاثة خبراء لإنجاز الخبرة، لما في ذلك من زيادة في العمل والمصروفات.
إن الموقف الذي اتخذه المشرع المغربي جدير بالتأييد، حيث أخذ بنظام الخبير الفرد كقاعدة وهو ما استقر عليه الفقه حديثاً وغالب التشريعات نظراً للميزات التي يتسم بها هذا النظام من سرعة في الإنجاز وعدم تعقيد الإجراءات واقتصاد النفقات والشعور بالمسؤولية، مما يحذو بالخبير للحرص على الدقة والإخلاص في العمل ليكون عملاً سليماً.
على أن هناك حالات يكون فيها تعدد الخبراء ضرورياً، خصوصاً إذا فرضتها طبيعة النزاع[6]، وبذلك فإن قاضي الموضوع لا يتقيد بعدد معين من الخبراء كما هو الحال في القانون المصري[7]، الذي يؤخَذ عليه أنه حدد عدداً أقصى للخبراء وحصره في ثلاثة، على خلاف القانون الفرنسي[8] والمغربي اللذان لم يضعا حداً أقصى لعدد الخبراء.
وجدير بالذكر أن الفقه يذهب إلى تأييد هذا الرأي، حيث أعطى الصلاحية لقاضي الموضوع في تعيين العدد الذي يراه مناسباً وملائماً طبقاً لظروف النزاع.
كما يجب أن يتضمن الأمر القاضي بندب الخبراء عدة بيانات تجرى على أساسها الخبرة وهي:
1- اسم الخبير وأسماء الخبراء الذين انتدبتهم المحكمة لإنجاز الخبرة.
2- تعيين السلطة القضائية التي سيؤدي الخبير أمامها اليمين، وذلك في الحالة التي يكون فيها الخبير غير مقيد بجدول الخبراء (الفصل 59 من ق.م.م).
3- تحديد النقط التقنية التي تجرى الخبرة فيها (الفصل 59 من ق.م.م).
4- تكليف أحد الأطراف أو كلاهما بإيداع مبلغ مسبق تحدده المحكمة لتحديد صوائر الخبرة، عدا إذا كان الأطراف أو أحدهم استفاد من المساعدة القضائية (الفصل 59 من ق.م.م).
5- تحديد الأجل الذي يجب أن يتم فيه إيداع هذا المبلغ.
6- تحديد الأجل الذي يجب على الخبير أن يضع فيه التقرير الكتابي، وإذا كان التقرير شفوياً حددت المحكمة تاريخ الجلسة التي سيعرض فيها الخبير تقريره (الفصل 60 من ق.م.م).
7- تحديد مكان إجراء الخبرة ويوم وساعة إجرائها.
8- تحديد تاريخ توصل الأطراف ووكلائهم باستدعاء الخبرة.
9- حضور الأطراف أو عدم حضورهم رغم التوصل.
10- التاريخ والتوقيع وذلك قصد إضفاء صفة الرسمية على التقرير[9].
الفقرة الثانية: تحديد مأمورية الخبير وأجل إنجازها
إن تحديد مأمورية الخبير لمن أهم العناصر والبيانات التي يجب على الأمر بالخبرة أن يتضمنها، وسندنا القانوني في ذلك هو ما ينص عليه الفصل 59 من ق.م.م حيث جاء فيه: “يحدد القاضي النقط التي تجرى الخبرة فيها في شكل أسئلة فنية لا علاقة لها مطلقاً بالقانون”.
وعليه، فالقاضي من يحدد المأمورية المنوطة بالخبير إذ يعين له وبدقة ما يمكن فحصه وتقديره من الناحية الفنية وتقديم رأيه بشأنه للقاضي، هذا الأخير الذي له السلطة في توسيع أو تضييق المأمورية وفقاً للمسائل الفنية التي يرغب في استيضاحها والتي يصعب عليه استقصاء كنهها.
وبناء على ما سبق ذكره، فلا يجوز للقاضي أن يحيل أو يضمن مهمة الخبير المعين مسألة قانونية، فالحكم الذي يبنى على رأي خبير ها هنا يكون باطلاً، وفي المقابل إذا أضاف الخبير في المسألة القانونية كان عمله غير مطابق للقانون، فإذا استند الحكم إليه، فإنه يعتبر هو الآخر مخالفاً للقانون.
وتحديد المأمورية أساسي وضروري ليعرف الخبير ما يريده القاضي بدقة حتى يستطيع الفصل في الدعوى، وأيضاً لتفادي المناقشات غير المجدية التي غالباً ما يثيرها الأطراف بهدف تأخير وتعطيل الإجراءات.
وقد تصادفنا في هذا المضمار إشكالية تتجسد في حالة إغفال الخبير بعض النقط المسطرة في الحكم التمهيدي، فهل للقاضي بما له من سلطة تقديرية أن يصادق على هذا التقرير على علته؟
بالرجوع إلى المقتضيات القانونية المنظمة للخبرة القضائية وخاصة الفقرة الأولى من الفصل 64 من ق.م.م نجد أن القاضي متاح له هذه الإمكانية. لكن الاجتهاد القضائي كان له رأي آخر، حيث اعتبر أن مصادقة المحكمة على تقرير الخبير الذي لم يلتزم بما هو محدد له يعرض قرارها للنقض[10].
وتعد حضورية الخبرة من المبادئ القانونية المسلم بها في مجال الإجراءات المدنية والتجارية على حد سواء، حيث يجب أن تنجز الخبرة بحضور الأطراف المتنازعة، ولم يفت المشرع المغربي أن يؤكد على هذه القاعدة، عندما نص ضمن مقتضيات الفصل 63 من ق.م.م على أنه: “يجب على الخبير إشعار الأطراف باليوم والساعة التي ستجرى فيها الخبرة ويدعوهم للحضور فيها قبل الميعاد بخمسة أيام على الأقل برسالة مضمونة مع الإشعار بالتوصل.
يقوم الخبير بمهمته تحت مراقبة القاضي الذي يمكن له حضور عمليات الخبرة إذا اعتبر ذلك مفيداً. يثبت الخبير في تقريره أقوال الأطراف وملاحظاتهم…”.
ومسألة حضورية الخبرة قاعدة إجرائية سائدة في أغلبية التشريعات المقارنة[11].
وهي عندنا في المغرب من صميم حقوق الدفاع، يترتب على خرقها بطلان إجراءات الخبرة كلها.
وفي هذا الصدد بالذات، جاء في قرار لمحكمة النقض: “يكون مساساً بحق الدفاع موجباً لنقض الحكم قيام الخبير بإجراءات الخبرة دون استدعاء الأطراف للحضور عند القيام بالخبرة ولو كانت الخبرة تقنية…”[12].
والذي يظهر من خلال الفقرة الأولى من الفصل 63 من ق.م.م المعدل بقانون 33.11 المشار إليه أعلاه، أن المشرع قد جاء بمقتضيين اثنين في التعديل الجديد، فهو أولاً نص على الجزاء المترتب عن عدم استدعاء الأطراف أو وكلائهم لحضور إنجاز الخبرة، وهو البطلان، وثانياً نص على إمكانية استعانة الأطراف بأي شخص يرون فائدة في حضوره، وهذان المقتضيان، كان الفصل 63 من ق.م.م قد سكت عنهما قبل التعديل[13].
ومن المعلوم أن أتعاب الخبراء توضع عادة بصندوق المحكمة، ومن ثم يمنع على القاضي أن يسلمها مباشرة إلى الخبير، وهو أمر أخذت به أغلب التشريعات المقارنة، أما عن المشرع المغربي فقد قرر عقوبة صارمة تطبق على الخبير الذي يتسلم أتعابه من المتخاصمين، وتتمثل هذه العقوبة في التشطيب عليه من الجدول[14].
وتحديد المأمورية يقتضي بالضرورة تحديد الأجل الذي يجب على الخبير التقيد به في وضع تقريره، ولتحديد هذا الأجل تأخذ المحكمة بعين الاعتبار المدة اللازمة لإنجاز المأمورية استناداً إلى اجتهادها مع مراعاة ظروف النازلة، وهذا الأجل هو مسألة تنظيمية تحدده المحكمة كميعاد لوضع التقرير ويخضع لتقديرها ويجوز للخبير طلب تمديده إلا أن ذلك يبقى مشروطاً ببيان أسباب المطالبة بالتمديد.
فإذا وجدت المحكمة ما يبرره فإنها تمنحه أجلاً لإتمام مأموريته، واحترام هذا الأجل واجب يقع على عاتق الخبير تحت طائلة إثارة مسؤوليته[15].
وعلى الرغم من أن المشرع المغربي قد أغفل في معرض تنظيمه للخبرة مسألة إمكانية طلب المهلة الإضافية من طرف الخبير ليتدارك ما عجز عن إتمامه خلال المهلة الأصلية، فإن الفقه ذهب إلى استحسان ذلك مادامت تبررها أمور واقعية ومعقولة، وهو نفس النهج الذي سار عليه المشرع الفرنسي الذي سمح لقاضي الموضوع بتمديد المهلة الممنوحة للخبير من خلال المادة 266 و 279 من قانون أصول المحاكمات المدنية.
الفقرة الثالثة: تحديد أتعاب الخبير
علاوة على أن تحديد الأتعاب يعد من البيانات الأساسية للحكم الآمر بإجراء الخبرة القضائية، فإنه يعتبر من أهم الحقوق التي يتمتع بها الخبير.
فعندما يأمر القاضي بانتداب الخبير، عليه وفقاً لمقتضيات الفصل 56 من ق.م.م تكليف أحد الطرفين أو كلاهما بإيداع تسبيق لأجرة الخبير بصندوق المحكمة، وذلك داخل أجل يحدده القاضي، فإذا لم يتم إيداع التسبيق داخل الأجل السالف الذكر، صرف القاضي النظر عن الإجراء وبت في الدعوى[16]، اللهم إذا كان من طلب منه إيداع هذا المبلغ يستفيد من المساعدة القضائية[17]، وهذا ما نصت عليه الفقرة الأولى من الفصل 55 من ق.م.م.
وفي حالة ما إذا تبين أن هذا الإجراء ضروريا، كما هو الأمر بالنسبة لدعوى القسمة، مثلا، فإن القاضي يوقف الإجراءات إلى أن يتم إيداع المبلغ.
وفي معرض حديثنا عن أجرة أو أتعاب الخبير، لابد من أن نشير إلى نقطة مهمة كثيراً ما تثار في الحياة العملية، وتتمثل في إمكانية الطعن في المبلغ الذي قدرته المحكمة من طرف من يرى أنه قد تضرر من هذا التقرير.
لقد أعطى المشرع الفرنسي صراحة للخبير دون غيره، إمكانية الطعن في المبلغ الذي قدرته المحكمة، وهو نفس الموقف الذي تبناه القضاء المغربي مدة طويلة[18]، إلا أنه سرعان ما غير اجتهاده حين أعطى إمكانية الطعن كذلك لأطراف الدعوى، وهذا الموقف هو ما تبناه المشرع في قانون المسطرة المدنية الجديد وخاصة الفصل 127 منه[19].
وهو نفس الاتجاه الذي سار عليه قانون الإثبات المصري من خلال المادة 140 منه.
المطلب الثاني: تجريح الخبير القضائي واستبداله
إن إقرار المشرع المغربي للأطراف بإمكانية تجريح الخبير، هو تجسيد فعلي لمدى حرص المشرع على نزاهة الخبراء وحيادهم، وكذا جعل كل خبير لا ينتدب إلا في إطار تخصصه، حتى يمكن لنا أن نحصل على مشورة منه تكون ذات مصداقية تنور بصيرة القاضي، وتجنبه الطعن في تقريره من طرف الخصوم (الفقرة الأولى).
هذا الحرص من طرف المشرع على الارتقاء بهذه المهنة لا يقف عند هذا الحد، بل يتعداه لكي يصل إلى إقرار الحق للقضاة بصدهم لكل محاولة لعرقلة مرفق القضاء من طرف الخبير، وذلك عن طريق استبداله إما تلقائياً من طرفهم أو استجابة وترجمة لمطالب المتقاضين الذين يشتكون من تهاون الخبراء في تأديتهم لمهامهم أو رفضها بدون أي مبرر (الفقرة الثانية)[20].
الفقرة الأولى: تجريح الخبير القضائي
يقصد بتجريح الخبير أو رده، إبعاده عن القيام بتنفيذ المأمورية المنتدب لها إذا قام سبب يؤدي به إلى الميل أو التأثر بعواطفه في تنفيذ هذه المهمة.
وقد نظم المشرع المغربي القواعد التي تبيح للخصوم حق تجريح الخبراء حتى تأتي آراؤهم بعيدة عن كل مظنة تميز أو محاباة، فما هي أسباب التجريح أو من هو الخبير الذي يقع عليه التجريح؟ وكيف تتم مسطرة التجريح هذه؟
أولاً: أسباب التجريح
بعد أن وجه الفقه القانوني انتقادات كثيرة لما ينص عليه الفصل 62 من ق.م.م[21]، وخاصة فيما يتعلق بعدم تحديد المشرع المغربي لأسباب التجريح بشكل أكثر دقة ووضوح، عمل أخيراً على تعديله بموجب القانون 85.00 وأصبح ينص على أنه: “يمكن تجريح الخبير الذي عينه القاضي تلقائياً للقرابة أو المصاهرة بينه وبين أحد الأطراف إلى درجة ابن العم المباشر مع إدخال الغاية:
– إذا كان هناك نزاع بينه وبين أحد الأطراف؛
– إذا عين لإنجاز الخبرة في غير مجال اختصاصه؛
– إذا سبق له أن أبدى رأياً أو أدلى بشهادة في موضوع النزاع؛
– إذا كان مستشاراً لأحد الأطراف؛
– لأي سبب خطير آخر.
يمكن للخبير أن يثير أسباب التجريح من تلقاء نفسه…”
وهكذا، وباستقرائنا لمقتضيات هذا الفصل، يتبين لنا أن المشرع قد تجاوز النقائص التي كانت تعتري الفصل 62 من ق.م.م قبل تعديله وقام بتعداد أسباب تجريح الخبير وتوضيحها.
وجدير بالملاحظة أيضاً أن المشرع قد أعطى للخبير إمكانية تجريح نفسه في حالة تعيينه، وهذا يجرنا إلى طرح تساؤل منطقي ومشروع: ألى يمكن للخبير استعمال هذا السبب للتهرب من القيام بمهمته في بعض الأحيان؟
وحسب رأيي المتواضع ـ لا يجب استعمال هذا الحق أو هذه الإمكانية على إطلاقها، بل يجب على الخبير أن يقرن تجريح نفسه بتعليل واضح وتسبيب مقبول ومعقول.
فضلاً على هذا فقد يتم تعيين خبير غير مسجل في جدول الخبراء على الرغم من وجود خبير أو خبراء داخل الجدول في التخصص المطلوب، الإشكال المطروح هنا هو: هل يحق للأطراف في هذه الحالة تجريح هذا الخبير على اعتبار أن المشرع في الفصل 62 السالف الذكر جعل من بين أسباب التجريح أن يتوفر أي سبب خطير آخر موجب للتجريح؟
ـ حسب رأيي الشخصي ـ وقبل الإجابة المباشرة عن هذا الإشكال، يجب في البدء الإشارة إلى أن الحكم الآمر بإجراء الخبرة عليه، أن يكون متضمناً للسبب الذي جعل القاضي يعين خبيراً غير مسجل بالجدول، على الرغم من وجود خبراء بالجدول لهم نفس التخصص، والبحث حول جدية السبب المذكور في الحكم أو عدمه، وتبعاً لذلك يمكن القول بإمكانية تجريح الخبير القضائي في حالة تبين عدم جدية السبب وإلا العكس، وتجدر الإشارة إلى أن محكمة النقض اعتبرت في أحد قراراتها أن تجريح الخبير على أنه غير مسجل في جدول الخبراء لا يدخل ضمن أسباب التجريح[22].
ثانياً: الخبير الذي يقع عليه التجريح
التجريح يقع على الخبير الذي عينه القاضي تلقائياً وليس الخبير الذي عينه القاضي بناء على اقتراح الخصوم أو اتفاقهم، ويستفاد ذلك صراحة من الفصل 62 من ق.م.م والذي جاء فيه: “يتعين على الطرف الذي توجد لديه وسائل لتجريح الخبير الذي عينه القاضي تلقائياً تقديمها داخل خمسة أيام من تبليغه تعيين الخبير…”
فالخبراء الذين اتفق الخصوم على اختيارهم يفترض المشرع تنازل الخصوم عن أسباب التجريح، التي كانت قبل اختيارهم، فالمفروض في الخصوم التحري عن الخبير قبل الاتفاق على اقتراح انتدابه من طرف القاضي.
ثالثاً: مسطرة تجريح الخبير القضائي
إن التجريح مسألة إجرائية تخضع لقانون المسطرة المدنية، وبالتالي يجب أن تثار قبل بدء المناقشة في الجوهر، وإلا عدت غير مقبولة طبقاً لمقتضيات الفصل 49 من ق.م.م[23].
وهكذا يتعين تقديم طلب التجريح إلى القاضي الذي عين الخبير خلال خمسة أيام من تبليغ طالب التجريح القرار القاضي بتعيين الخبير، على أن يكون موقعاً عليه منه أو من وكيله متضمناً أسباب التجريح.
وفي هذا المضمار قضت محكمة النقض بأن: “الأمر القاضي بتعيين خبير أو استبداله ينبغي أن يبلغ لمن يعنيهم الأمر ليتمكنوا من ممارسة حقهم في التجريح قبل القيام بإجراءات الخبرة، وأن عدم القيام بهذا التبليغ يترتب عنه حتماً بطلان جميع الإجراءات اللاحقة المتعلقة بالخبرة مادام من يعنيه الأمر قد تمسك بهذا التبليغ ليتسنى له ممارسة حقه في تجريح الخبير…”[24]
وبناء على ذلك، يتعين تقديم طلب التجريح إلى القاضي الذي عين الخبير خلال خمسة أيام من تبليغ طالب التجريح الحكم القاضي بتعيين الخبير على أن يكون الطلب مكتوبا موقعا من قبل طالب التجريح أو من قبل وكيله، كما يجب أن يتضمن الطلب أسباب التجريح[25].
على أن يتم البت في طلب التجريح داخل خمسة أيام، ويعتبر تحديد هذا المدى الزمني جديداً في التعديل الأخير، بعدما كان المشرع المغربي يقضي فقط بإجبارية البت في طلب التجريح دون تأخير، وهي عبارة عامة وغامضة لم يكن يتأتى من خلالها معرفة الآجال التي يتعين على محكمة الموضوع خلالها الحسم في مسألة تجريح الخبير القضائي.
ويمكن القول في هذا الإطار أن هذا التعديل على الرغم مما جاء به من جديد في تحديد الأجل القانوني في خمسة أيام، كأجل سقوط لتجريح الخبير، إلا أن هذه المدة تبقى قاصرة وغير كافية يصعب خلالها اكتشاف الأسباب لاسيما الخطيرة منها والغامضة.
ورجوعاً إلى طلب التجريح، فيجب أن يشتمل على الأسباب التي يستند إليها الخصم في ادعائه، كما يشمل الأدلة التي تؤيد طلبه طبقاً للقواعد العامة.
ويترتب على تقديم طلب التجريح، وفق إجراءات الخبرة إذا كانت قد بدأت، فلا يستطيع الخبير حلف اليمين أو الاستمرار في تنفيذ مأموريته إلا بعد الفصل في طلب التجريح وإصدار الحكم بشأنه[26].
ويقع على عاتق طالب التجريح عبء إثبات أسباب هذا التجريح التي يدعيها، وذلك
بجميع وسائل الإثبات، وينظر القاضي المختص في دعوى التجريح ويصدر حكماً في ظرف خمسة أيام من تاريخ إيداع طلب التجريح، هذا الحكم الذي لا يقبل الطعن فيه حسب المادة 145 إثبات مصري، لكن القانون الفرنسي أجاز الطعن فيه[27]، أما القانون العراقي فقد أجاز الطعن فيه مع الحكم البات في الموضوع من خلال المادة 136 إثبات.
في حين نص القانون المغربي على أنه لا يمكن الطعن في هذا الحكم إلا مع الحكم البات في الجوهر.
الفقرة الثانية: استبدال الخبير القضائي
لقد أجاز القانون الفرنسي في المادة 235 مرافعات للقاضي بناء على طلب الخصوم أو من تلقاء نفسه أن يستبعد الخبير الذي يقصر في أداء واجباته بعد سماع أقواله كعدم بدئه في تنفيذ المأمورية أو توقفه عن تنفيذها بدون مبرر، أو لم يحترم ميعاد إيداع التقرير، أو أفشى معلومات سرية أو هامة.
كما أجاز القانون المصري استبدال الخبير بمقتضى المادة 152/3 “للمحكمة استبدال الخبير إذا لم يودع تقريره في الأجل المحدد ولم يقدم مبرراً لتأخيره[28].
أما المشرع المغربي فقد أشار في الفقرة الأولى من الفصل 61 من قانون 85.00 إلى إمكانية استبدال الخبير القضائي، وذلك بناء على سببين اثنين هما: أولاً؛ إذا لم يتأت للخبير القيام بالمهمة المسندة إليه، ثانياً؛ إذا لم يقبل القيام بها.
ويضيف بعض الفقه لهذين السببين أسباب أخرى منها: قبول تجريح الخبير، عدم احترام الخبير للأجل المحدد له لتنفيذ الخبرة وإيداع التقرير، إخلال الخبير بواجباته المهنية، وفاة الخبير أو نقص أهليته، التشطيب على الخبير من جدول الخبراء، فإذا تم استبدال الخبير بخبير آخر وجب على المحكمة أن تشعر الأطراف فوراً بهذا التغيير[29] ولئن كان المشرع المغربي من خلال الفصل 61 من قانون 85.00 لا يستوجب حضور الأطراف وإنما إشعارهم فقط بإجراء الاستبدال، وهو نفس النهج الذي اتخذه القضاء حيث جاء في أحد قرارات محكمة النقض: “إن تعيين خبير بدل ّآخر لا يستلزم حضور الأطراف ولا وقوعه في جلسة”[30]. إلا أن بعض الأساتذة الباحثين يرون بأن عقد جلسة علنية بحضور القاضي والخبير وأطراف النزاع يعتبر إجراءاً مهماً يجب على المشرع المغربي أن يأخذه بعين الاعتبار.
وبالإضافة إلى مكنة استبدال الخبير القضائي، فإنه يمكن لهذا الأخير أن يطلب إعفاءه من مأموريته إذا وجد حرجاً من القيام بها، أو قامت لديه ظروف خاصة تبرر ذلك، ويقدم طلب الإعفاء إلى القاضي الذي عينه، وفي هذه الحالة يعين القاضي خبيراً آخر ويبلغ الأطراف في الحال بهذا التغيير، وإذا رفض الخبير القيام بالمهمة المسندة إليه، جاز للمحكمة ـ بعد إنذاره ـ أن تحكم عليه بالمصروفات التي تسبب في إنفاقها دون فائدة بغير إخلال بحق الخصوم في التعويض، فضلاً عن جواز الحكم عليه بغرامة لصالح الخزينة العامة، بحيث لا تتعدى قيمتها نصف الأتعاب المودعة تطبيقاً لمقتضيات الفصل 56 من ق.م.م والتي جاء فيها: “يمكن إنذار الخبير الذي قبل المهمة المسندة إليه ولم ينفذها داخل الأجل بالحكم عليه بالمصاريف المترتبة عن التأخير وكذا بالتعويضات، ويمكن أن يحكم عليه علاوة على ذلك بغرامة مدنية لصالح الخزينة لا يتعدى مبلغها نصف الأتعاب المودعة”[31]
خاتمة:
إن المشرع المغربي وحرصا منه على ضمان حسن سير العدالة، ورغبة منه في مساعدة القاضي على إيجاد الحل القانوني القويم الذي سيتبناه ويعلل به حكمه، عمد إلى تنظيم مؤسسة الخبرة تنظيما محكما في أغلب بنوذه. إلا أن السؤال الذي يفرض نفسه في معرض هذه الدراسة المتواضعة يتمحور حول مدى حجية تقارير الخبراء القضائيين، أو بمعنى آخر: هل تقارير الخبراء تكون ملزمة للقاضي وهو بصدد الحكم في قضية ما؟ أم أن للسلطة التقديرية التي يتمتع بها القاضي قول آخر؟؟
[1] منشور بالجريدة الرسمية عدد 4866 بتاريخ 18 يناير 2001.
[2] وبذلك نحصر مجال هذا المبحث في الخبرة القضائية دون الخبرة الودية أو الاتفاقية.
[3] محمد اوغريس: “الخبرة القضائية في ميدان حوادث الشغل”. مقال منشور بجريدة العلم، عدد 16997 بتاريخ 19/11/1996.
[4] خالد الشرقاوي السموي: مرجع سابق، ص: 39.
[5] قرار محكمة النقض رقم 335 مؤرخ في 18 يونيو 1980 ـ مجلة المجلس الأعلى، عدد 3، ص: 105.
[6] كمال الودغيري: مرجع سابق، ص: 166.
[7] المادة 135: “للمحكمة عند الإقتضاء أن تحكم بندب خبير واحد أو ثلاثة”.
[8] المادة 264 من مرافعات فرنسي.
[9] د.حليمة بنت المحجوب بن حفو: “نظرية الإستحقاق في القانون المغربي ـ دراسة مقارنة مدعمة بآراء الفقه واجتهادات القضاء”. الطبعة الأولى، 2010، مطبعة الأمنية، الرباط، ص: 122.
[10] قرار صادر عن محكمة النقض رقم 230، صادر بتاريخ 13 شتنبر 2000، ملف عدد 190/2/2/95، منشور بمجلة المناهج، العدد المزدوج ¾، 2003، ص: 213.
[11] المادة 146 من قانون الإثبات المصري.
[12] قرار رقم 26 صادر بتاريخ 29 مارس 1978، منشور بمجلة القضاء والقانون.
[13] د.عبد اللطيف البغيل: “التقاضي أمام المحاكم المدنية من رفع الدعوى إلى صدور الحكم ـ دراسات على ضوء مستجدات ق.م.م المغربي”. الطبعة الأولى، 2013، دار أبي رقراق للطباعة والنشر، ص: 184.
[14] جاء ذلك بكيفية واضحة وصريحة ضمن مقتضيات الفصل 57 من قانون المسطرة المدنية ونصه كالآتي: “يتم استعمال المبالغ المودعة بواسطة كتابة الضبط تحت مراقبة القاضي، ولا تسلم المبالغ المودعة من أجل أداء الأجور ومصاريف الخبراء والشهود في أية حالة مباشرة من الأطراف إليهم.
يشطب على الخبير المسجل في الجدول الذي تسلم المبالغ مباشرة من الأطراف”.
[15] كمال الودغيري: مرجع سابق، ص: 172.
[16] خالد الشرقاوي السموني: مرجع سابق، ص: 43.
[17] محمد الكشبور: “القسمة القضائية في القانون المغربي”. الطبعة الثانية، 2011، ص: 171.
[18] قرار محكمة الإستئناف بالرباط الصادر بتاريخ 4 دجنبر 1954.
[19] ينص الفصل 127 من ق.م.م على أنه: “يمكن للخبير وللترجمان وللأطراف التعرض على الأمر الصادر بتقدير الأتعاب خلال عشرة أيام من التبليغ أمام رئيس المحكمة الإبتدائية، لا يقبل الأمر الصادر في هذا التعرض الإستئناف”.
[20] رضوان ارطيم: “الخبرة القضائية ودورها في حل المنازعات العقارية”. رسالة لنيل دبلوم الماستر في قانون العقود والعقار، لسنة 2011 – 2012، ص: 20.
[21] الفصل 62 من ق.م.م قبل تعديله بموجب القانون 85.00 الصادر في 26/12/2000: “يتعين على الطرف الذي توجد لديه وسائل لتجريح الخبير الذي عينه القاضي تلقائياً داخل خمسة أيام من تبليغه تعيين الخبير، بطلب موقع منه أو من وكيله مبيناً أسباب التجريح.
يبت في طلب التجريح دون تأخير ولا بقبل إلا للقرابة القريبة أو لأسباب خطيرة أخرى”.
[22] قرار صادر عن محكمة النقض بتاريخ 17 مارس 1988، عدد 521، ملف رقم 1817، أورده محمد بفقير: “قانون المسطرة المدنية والعمل القضائي المغربي”. منشورات دراسات قضائية، الطبعة الثانية 2009، العدد الخامس، ص:
[23] انظر الفصل 49 من ق.م.م.
[24] قرار محكمة النقض رقم 350 مؤرخ في 26 يونيو 1975، ملف مدني عدد 46338، منشور ضمن مقال محمد سيكو في قواعد المسطرة في المواد الإجتماعية ـ مجلة المحاماة، السنة 12، العدد 16، 1979، ص: 37.
[25] المجدوبي الإدريسي: “إجراءات التحقيق في الدعوى في ق.م.م المغربي”. ص: 105 – 106.
[26] كمال الودغيري: مرجع سابق، ص: 241.
[27] CH Violente op.cit. 930 J Voulet op.cit. 4-5.
[28] كمال الودغيري: مرجع سابق، ص: 242.
[29] راجع أمر محكمة النقض عدد 350 وتاريخ 25/06/1975 ملف مدني عدد 46338 والذي جاء فيه: “… بأن الأمر القضائي بتعيين خبير أو استبداله ينبغي أن يبلغ لمن يعنيهم الأمر…”
[30] قرار محكمة النقض رقم 699 مؤرخ في 14/03/1988 الصادر في الملف المدني عدد 3332/86 ـ قضاء محكمة النقض، عدد 41، نوفمبر، السنة 1988، ص: 88.
[31] خالد الشرقاوي السموني: مرجع سابق، ص: 50. /frssiwa.blogspot.com