الدفاع الشرعى ومفهومه فى القانون الدولى والشريعة الاسلامية
يطلق الدفاع المشروع على كل قوة لإزالة ضرر ودفع خطر عن النفس أو المال أو العرض، لهذا فهو سلطة وقائية يكون بموجبها للشخص (فعل ما يلزم شرعاً، لدفع خطر حقيقي غير مشروع، حال على حق معصوم).
وقد أوضح عبد القادر عودة في كتابه (التشريع الجنائي الإسلامي) معنى الدفاع المشروع فقال: (الدفاع الشرعي: هو واجب الإنسان في حماية نفسه أو نفس غيره، وحقه في حماية ماله أو مال غيره، من كل اعتداء حال غير مشروع بالقوة اللازمة لدفع هذا الاعتداء)
علماً أن علاء الدين المروادي ذكر في (الإنصاف) أن: (الحنابلة لا يرون الدفاع عن النفس واجباً إلا في حالة الفتنة، ومنهم من يوجب الدفاع عن المال إذا تعلق به حق الغير)
والمعروف أن بعض الفقهاء قد توسعوا في موضوع الدفاع الشرعي، حيث جعلوه موضوعاً عاماً شاملاً يستوعب الدفاع عن دار الإسلام من خطر الأعداء، فيما رأى آخرون أن الدفاع الشرعي والعنف المشروع هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)
وهكذا فإن الفقهاء المسلمين قد أجمعوا على حق الدفاع الشرعي ، لدفع الخطر غير المشروع عن الأعراض أو المال أو النفس، لكنهم اختلفوا في اللفظ الدال على هذا الحق، وفي تكييف الخطر المنصب على هذا الحق. فمنهم من جعله خطراً محرماً أو عدواناً أو ظلماً، فيما قال آخرون عن هذا الخطر بأنه: (من أريدت نفسه وحرمته أو ماله)، وذهب غيرهم إلى لفظ آخر وهو الصيال فقالوا: (للمرء قتل ما صال عليه، من آدمي أو بهيمة ولم يندفع إلا بالقتل إجماعاً)
لهذا فإن الشيعة الإمامية أباحوا الدفاع الشرعي، وأوجبوا مسؤولية المعتدي الجنائية والمدنية عن الأضرار التي يصيب بها المدافع. وقد استدلوا بأحاديث منها الحديث النبوي: (من قتل دون ماله فهو شهيد)، والحديث المروي عن الإمام الصادق(ع): (أيما رجل عدى على رجل ليضربه فدفعه عن نفسه فجرحه أو قتله فلا شئ عليه). أما الحنفية فقالوا: (ومن قتل دون ماله فهو شهيد)، وقالوا أيضاً: (دم المدفوع هدر ولا شئ بقتله لدليل قوله(ص): (من شهر على المسلمين سيفاً فقد أبطل دمه لأنه باغٍ). كما أن الحنابلة قالوا: (دم المدفوع هدر، وهو إلى النار) ، لقوله تعالى: (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة). وقال الشافعية: (إن الصائل يجوز دفعه). وقال الزيدية: (وللمرء قتل ما صال عليه). وقال المالكية: (جاز دفعه بالقتل وغيره). وقال الظاهرية قوله(ص): (من قتل دون ماله فهو شهيد) عموم لم يخص معه سلطاناً من غيره. ولا فرق في قرآن ولا حديث ولا إجماع ولا قياس بين من أريد ماله أو أريد دمه أو أريد فرج امرأته أو أريد ذلك من جميع المسلمين).
ومن المفيد ذكره في هذا الصدد.. أن فقهاء القانون الوضعي أجازوا الدفاع الشرعي، ووضعوا التكييف القانوني له فقالوا بأن: (آثار الإباحة هو أن يخرج الفعل من نطاق نص التجريم فيصير مشروعاً وينتفي الركن الشرعي للجريمة). وقد نص قانون العقوبات العراقي في المادة *2 على أنه: (لا جريمة إذا دفع الفعل استعمالاً لحق الدفاع الشرعي).
ونص القانون السوري سنة 19*9 على المعنى نفسه في المادة 183.
علماً أن الدفاع المشروع نراه موجوداً في أغلب القوانين والتشريعات القديمة والحديثة، لكنه يختلف فيها من حيث تكييفه وشروطه وحدوده. لهذا يذهب الدكتور حمودي الجاسم في كتابه (التعديلات الواجب إدخالها في قانون العقوبات العراقي) إلى أن: (التشريعات الوضعية توسعت في الدفاع الشرعي فشملت الأشخاص والأموال معاً). علماً أن الغرب أخذ بنظرية الدفاع الشرعي (كالقانون الإيطالي الحديث المادة 52، وقانون الدانمارك سنة 1930 المادة 13، وقانون بولونيا سنة 1932المادة 21، وقانون ليتوانيا سنة 1933 المادة **، وقانون سويسرا سنة 1937 المادة33، ومشروع القانون الفرنسي الحديث المادة 113 و11*).
وهكذا نعرف أن الدفاع الشرعي له تكييفه القانوني في الشريعة الإسلامية قبل القوانين الوضعية بأكثر من 1*00 سنة، مما يدل على عظمة الإسلام وسمو قواعده القانونية. خصوصاً وأن بعض الفقهاء – كما قلنا سابقاً – يتوسعون فيه ليشمل الدفاع عن الإسلام والمسلمين ودفع الأخطار الخارجية وفق قواعد القانون الدولي الإسلامي الأخلاقية.
لهذا فإن الموضوعية تحتم علينا أن نتناول الدفاع الشرعي في القانون الدولي العام ، وفق منهجية علمية تستقرئ وتقارن بين القواعد القانونية الموجودة في القانون الدولي الإسلامي وغيره من القواعد الدولية.
تحديد القواعد القانونية الدولية الوضعية
تُعرف القوانين بأنها (القواعد المجردة التي تحكم سلوك الأمة أو داخل مجتمع ما وفقاً لضوابط معينة ارتضاها الناس، والتي تقترن بجزاء توقعه السلطة المختصة في حالة الخروج على هذه القواعد).
ويطلق تسمية قانون – مفرد قوانين – لغة على (الشرائع والنظم التي تنظم علاقات المجتمع سواء كان من جهة الأشخاص أو من جهة الأموال. والقوانين كثيرة أهمها:
القانون الأساسي أو الدستوري، القانون التجاري، القانون الجزائي، قانون العرف والعادة، القانون المدني)(22). لذا فإن القانون يطلق عادة على كل (قاعدة مطردة تفيد الاستمرار في تطبيق حكم معين وفقاً لنظام ثابت).
أما تسمية الدولي فترجع نسبتها إلى الدول ، والدولي (هو العالمي)(2*). وعليه فإن (القانون الدولي العام) هو (مجموعة القواعد التي تنظم العلاقات بين الدول وتحدد حقوق كل منها وواجباتها). ويذهب (شتروب) إلى وصف (القانون الدولي العام) بأنه (مجموعة القواعد القانونية، التي تتضمن حقوق الدول وواجباتها وحقوق وواجبات غيرها من أشخاص القانون الدولي). في حين يذهب (شارل روسو) إلى أن (القانون الدولي العام) هو (ذلك الفرع من القانون الذي يحكم الدول في علاقاتها المتبادلة).
ومن المعروف أن تسمية (القانون الدولي العام) ترجع إلى الفيلسوف الإنجليزي (بنتام)، فقد أطلق على مجموعة القواعد التي تحكم علاقات الدول اسم (International law) . ولكن بعض الفقهاء يذهبون إلى وصف (القانون الدولي العام) بأنه (قانون الشعوب والأمم)، لأن تسمية (القانون الدولي) مشتقة من كلمة (nations) أي الأمم. وقد استعمل هذه التسمية كثير من الكتاب المتقدمين أمثال (دي ماتنز)، و(كلوبر)، و(فاتيل) وغيرهم، ويتجه الاتجاه نفسه (جورج سيل). بلحاظ أن الألمان يأخذون بتسمية (قانون الشعوب) على اعتبار أنها الأصح. ويمكن الإطلاع على تسميات أخرى استعملها بعض الكتاب والفقهاء للدلالة على القانون الدولي، حيث سماه المحامي الهولندي (جروسيوس) (قانون الحرب والسلم)، وسماه (بسكال فيور) (قانون الجنس البشري)، وسماه (ميجل) (القانون السياسي الخارجي) إلى غيرها من الأسماء..
ويرى (روسو) أن أدق تسمية للقانون الدولي العام – باعتباره ينظم العلاقات بين الدول – هي (قانون الشعوب)، لكنه مع ذلك لا يجد حرجاً من استعمال تسمية (القانون الدولي)، لأنها استقرت فقهاً وعملاً وأصبحت لها صفة تقليدية).
ويعلق الدكتور أبو هيف على ذلك معتبراً التسمية العربية للقانون الدولي تتفق مع وجهة نظر (شارل روسو)، لأن القواعد القانونية الدولية (تنظم العلاقات بين الأمم والشعوب، التي لا يكون لها كيان قانوني إلا من خلال الدول التي تتبعها).
ومن المعروف أن الشريعة الإسلامية قد اهتمت بشؤون الدول، وبينت حقوقها وواجباتها المختلفة، وكذلك أوجبت القواعد الإسلامية الدولية (على المسلمين الالتزام بها قي معاملة المسلمين وغير المسلمين، محاربين أو مسالمين، سواء أكانوا أشخاصاً أو دولاً، في دار الإسلام أو في خارجها).
وقد احتوت رسائل الفقه الإسلامي أحكاماً وفتاوى عن المرتدين والبغاة وقطاع الطرق، كما أوضحت كتب السير بالتفصيل أيضاً معاملة المسلمين لغيرهم. لهذا يمكن القول أن فقهاء الإسلام قد وضعوا أسس القانون الدولي الإسلامي لتنظيم العلاقات بين الدول).
الطبيعة القانونية للقواعد الدولية
الجدير ذكره في هذا الصدد أن القواعد الدولية الإسلامية لا تثير أي تساؤلات حول طبيعتها القانونية، في حين أن قواعد ( القانون الدولي العام) يشوبها بعض الشكوك حول طبيعتها هل هي قواعد أخلاقية أو هي قواعد قانونية بالمعنى المتعارف عليه ؟! فقد ذهب البعض إلى الشك في صفتها القانونية، لعدم وجود مشرع وسلطة قضائية تنفيذية، وعدم وجود جزاء يترتب على مخالفتها).
وأتصور أن ذلك لا ينفي صفة القانون عن القواعد الدولية، خصوصاً وأن الرأي الفقهي القانوني السائد قد أقرّ دون تردد الصفة القانونية لها، بلحاظ أن بعض القوانين الداخلية استقرت وأصبحت ملزمة دون وجود مشرع لها كالقانون الإنجليزي. أما عدم وجود سلطة قضائية لتنفيذ القانون الدولي فهي مسألة مبالغ فيها كثيراً، وعلى فرض صحة ذلك فإنه لا ينفي عن القواعد الدولية صفة القانون، لأن القاعدة القانونية موجودة أصلاً قبل تدخل القضاء لتنفيذها، فالقاضي (لا يخلق القانون بل يطبق القانون الموجود)، والشيء نفسه يسري على الجزاء.. فعلى الرغم من أنه يحفظ القواعد القانونية إلا أنه لا ينفي صفة القانون عنها، فهي موجودة (وإن لم يصحبها جزاء).
وهكذا نعرف أن عدم وجود مشرع، وقضاء دولي، وجزاء لا ينفي الصفة القانونية عن القواعد الدولية، علماً أن (التشريع ليس هو المصدر الوحيد للقانون، فقد عرفت المجتمعات المختلفة قواعد القانون قبل التشريع وكانت ولا تزال تتلقى جانباً منها من العرف ومن القضاء. بل إن للعرف دوراً خطيراً في نطاق القانون الدستوري والقانون التجاري.. وعليه فما يصدق على القانون الداخلي يصدق على القانون الدولي).
ولكن مع ذلك فإن القوانين الدولية تختلف عن القوانين الداخلية في كونها تنشأ عن طريق التراضي بين الدول، (غير أن هذا الاختلاف ظاهري واختلاف درجة لا اختلاف أصل). خصوصاً وأن العالم بدأ يشعر بحاجته للقواعد الدولية ، وحاجته للمنظمات الدولية، (بسبب تزايد إيمان الدول بأهمية التضامن بينها لأجل أمن وتعاون دولي في كافة المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والعسكرية) وقد بدأ منذ أكثر من خمسين عاماً عقل جمعي دولي لإقرار قواعد (القانون الدولي العام)، التي تحث الدول على نبذ الحرب ، والالتجاء إلى الطرق السلمية لفض المنازعات، والحفاظ على السلم والأمن الدوليين، مع إقرار حق الدول في الدفاع الشرعي لرد العدوان، واستعمال العنف كوسيلة لدفع الخطر إذا لم تنجح الوسائل السلمية لحل النزاعات بين الدول.
وللأمانة والموضوعية نقول: إن نظام الأمن الذي اقترحته عصبة الأمم، وكذلك هيئة الأمم المتحدة، لم يكن موفقاً لا نظرياً ولا عملياً في تحريم الالتجاء إلى القوة المسلحة غير المشروعة ، أو في وضع قواعد جديدة تلزم الدول بالتزاماتها وتعهداتها. ومن الملاحظ أن هيئة الأمم المتحدة قد وضعت مبدأ عدم تدخلها في الأعمال التي تكون في صميم السلطان الداخلي للدول، إلا في حالة تطبيق تدابير القمع إذا اقتضى الأمر تطبيقها وهذا المبدأ استغلته الولايات المتحدة الأميركية – بعد انحلال الاتحاد السوفيتي السابق- للتدخل في شؤون الدول المعارضة لها).
وأرى من خلال ذلك أن الدول الكبرى قد استغلت عيوب القانون الدولي العام، واستعملت الدفاع الشرعي بصورة سيئة، لكي تتدخل في شؤون الدول الأخرى، وتتوسع في تفسير معنى العدوان، وتتذرع بأوهى الأسباب للتدخل في صميم السلطان الداخلي للدول من أجل حماية مصالحها الاقتصادية، وفتح الأسواق العالمية أمام تجاراتها).
وعليه لابدّ أن تنصب الجهود الدولية للحد من سلطان الدول الكبرى، وتقييد لجوئها إلى القوة المسلحة قبال دول العالم الثالث، وتحديد مبدأ الدفاع الشرعي بصورة واضحة لردع الدول التي تتذرع به للعدوان على الدول الأخرى.
وفي هذا المجال يعتقد الدكتور أبو هيف أن الحرب والقوة في التعامل الدولي لا زالت (في نظر الكثيرين من رجال السياسة عملاً مشروعاً دائماً من حق الدولة أن تأتيه كلما كانت مصلحتها تقتضي ذلك، ويذهب البعض منهم إلى حد القول بأن الحرب هي أصلح أداة تتوسل بها الدولة لتنفيذ سياستها القومية وتحقيق أغراضها).
ويضيف أبو هيف بأنه: (لم يجرؤ واضعوا عهد عصبة الأمم على النص على تحريم الحرب إطلاقاً في عبارة صريحة قاطعة.. ويلاحظ أن ميثاق الأمم المتحدة لم يفرق في التحريم بين الحرب العدوانية وغيرها).
والمعروف أن ميثاق الأمم المتحدة قد استثنى حالة واحدة تكون فيها الحرب مشروعة، وهي حالة الاضطرار دفعاً لاعتداء، أو كما يقول فقهاء الشريعة الإسلامية: الدفاع الشرعي).
ولكن في هذا المجال نقول أن القانون الدولي العام فشل في الحد من الحروب بسبب مصالح الدول، (فالمعيار السياسي قد يتناقض مع المعيار القانوني في حكم استخدام القوة في العلاقات الدولية، فتارة يلتقيان وأخرى يفترقان، وهذا هو سبب التعامل الدولي بالكيل بمكيالين في العلاقات الدولية وازدواجية لغتها السياسية والقانونية).
وبصورة عامة يمكن القول أن عيوب القانون الدولي العام قد استغلّت من قبل بعض الدول للاعتداء على الغير، وزيادة مصالحها وإن كانت غير مشروعة، خصوصاً وأن تياراً كبيراً في الغرب يرى أن المصلحة هي الحق، الذي لابد للقانون أن يتكفل بحمايته. ولذا ظهر مصطلح (المصالح الحيوية)، الذي استخدمته ألمانيا النازية لتبرير احتلالها لأراضي الدول المجاورة لها. وقد حاول الفقهاء الألمان (أن يجدوا مبرراً لاتساع دولتهم على حساب جيرانها من الدول الصغيرة، فابتدعوا نظرية المجال الحيوي).
والمعروف أن الفقه الألماني اخذ بنظرية أخرى تدعى (نظرية الضرورة) لتبرير احتلال الدول المجاورة ، وقد طبقها الألمان أثناء الحرب العالمية الأولى، (فاقتحمت جيوشهم دولتي بلجيكا ولكسمبورج المحايدتين على زعم أن سلامة ألمانيا كانت تقتضي احتلالهما عسكرياً، ونشر أحد فقهائهم المعروفين في نفس الوقت كتاباً بعنوان (حق الضرورة) برَّر فيه مسلك دولته ودافع عنه، كذلك شهدت الحرب العالمية الثانية مزيداً من الاعتداءات الألمانية أيضاً باسم الضرورة عندما اكتسحت القوات النازية سنة 19*0 الدانمارك والنرويج ثم هولندا وبلجيكا، ولم تكن أي من هذه الدول الأربعة طرفاً في الحرب.. إن القول بوجود حق كهذا معناه هدم قواعد القانون الدولي العام بإيجاد سبب ذي مظهر قانوني تستند إليه الدول لخرق هذه القواعد وتبرير كل ما يقع منها من اعتداءات).
في الاتجاه نفسه طرحت إسرائيل مصالحها – التي أسمتها حيوية واستراتيجية – وفقاً لشعار (حماية الأمن الإسرائيلي) من أجل التوسع واحتلال الأراضي العربية. وقد عارض الفقيه الأميركي (كونس رايت) هذا التوجه، لأنه يتناقض مع قواعد القانون الدولي العام. ولم تجد إسرائيل أمام الانتقادات الدولية الواسعة لإجراءاتها العدوانية غير التمسك بنظرية (التقادم المكتسب)، لتبرير احتلالها للأراضي العربية. ولكن هذه النظرية لايمكن تطبيقها والاحتجاج بها إلا في حالة التقادم لمدة طويلة مع عدم وجود منازع، بلحاظ أن الدول العربية لم تعترف بحدود إسرائيل، ولم تقبل الهدنة معها منذ احتلال عام 19*8م. لذا فإن الإجراءات العدوانية الإسرائيلية تعتبر باطلة قانونياً، مع (انتفاء الأساس القانوني للحجج التي استندت إليها الحكومة الإسرائيلية والمدافعون عن موقفها لضم أراض جديدة)
والمعروف أن المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة أجازت للدول حق الدفاع الشرعي واستعمال القوة لردّ العدوان، وذلك يتشابه مع الدفاع الشرعي الذي أقرّه القانون الدولي الإسلامي، والفرق بينهما هو استناد القواعد الإسلامية الدولية إلى أسس أخلاقية لا تجيز التعسف في استعمال الحق، وهذا غير متوفر في العلاقات الدولية، مما دعا الدول الغربية الكبرى إلى استعمال القوة المسلحة خارجياً لمعاقبة الدول المعارضة لها، وتثبيت وجودها غير المشروع في منطقة الخليج بحجة حماية مصالحها القومية، التي تسميها (مصالح استراتيجية). وقد توافق كل ذلك مع اتهام أي جهد معارض بأنه يندرج تحت قائمة الإرهاب!!. وأعتقد أن ذلك كان السبب في تشويه الحضارة الإسلامية في الغرب، حيث سعى (برنارد لويس) بخبث لتشويه التصورات الإسلامية حول (الثورة والنهوض) واتهام المسلمين بالإرهاب، وذلك في مقال كتبه للتهجم على الإسلام، واستخراج اشتقاقات مضحكة لكلمة ثورة من اللغة العربية، حيث ادّعى أن: لفظة ثورة (ترمز وتشير) عند العرب والمسلمين إلى (الثور والهيجان غير المنطقي والغير واقعي، والهمجي اللامنضبط)!!.
أما (النهوض الإسلامي) فعند (برنارد لويس) مشتق من (نهوض الجمل)!! وهو إيحاء مقصود ندركه نحن المقيمين في الغرب، وندرك أبعاده للنيل من العرب والمسلمين، ونعتهم بالجهل والتخلف.
ويذكر إدوارد سعيد في كتابه (الاستشراق) سبب عداء (برنارد لويس) للإسلام وللعرب، فهو في كل بحوثه يتعجب ويتساءل بقوله:
(لماذا ما يزال المسلمون يرفضون أن يهدأوا ويقبلوا ملك إسرائيل على الشرق الأدنى)
فهذا هو السبب الحقيقي، إضافة إلى الأسباب الحضارية الأخرى، وراء اندفاع بعض المثقفين الغربيين للهجوم على المسلمين، واتهامهم بالإرهاب، من أجل توسيع حجم المصالح الغربية اللامشروعة في منطقة الشرق الأوسط، والدفاع عن العدو الصهيوني وتأييد توجهاته العنصرية واحتلاله لفلسطين.
لقد شنّ هؤلاء (المثقفون الغربيون) هجوماً عنيفاً على العرب، واللغة العربية، لاتهام المسلمين بأشنع الأوصاف، والتأكيد على أنهم لا يفهمون من معنى الثورة غير هيجان الثور لأنهم إرهابيون!!.
في حين أن هناك مصطلحات عربية وإسلامية، كالفتنة، والملحمة، والخروج، والنهضة، جاءت لتعطي نفس المعنى السياسي الحديث لمصطلح الثورة. ويعلّق الدكتور محمد عمارة في كتابه (مسلمون ثوار) على هذا الموضوع بقوله:
(إنّ كلمة الفتنة استخدمت قديماً بمعنى الاختلاف والصراع حول الآراء والأفكار، وقيام الأحزاب والتيارات الفكرية المتصارعة، واستخدمت بمعنى (الثورة)، أي الوثوب ووقوع الابتلاء والامتحان.. وكلمة الملحمة كانت تعني – ضمن ما تعني – التلاحم في الصراع والقتال في (الفتنة) (الثورة).. وكانت تعني أيضاً الإصلاح العميق الذي يشمل الأمة ويعمّها.. كما استخدمت – قديماً كذلك – لهذا المعنى كلمة (الخروج)، فقيل (خرج) على السلطان بمعنى (ثار)، ضده ووثب عليه… وإلى عصر قريب كانت كلمة (النهضة) تستخدم بمعنى (الثورة)، لأن (النهوض) يعني (الوثوب) و(الانقضاض)… ولقد استخدمها هذا الاستخدام جمال الدين الأفغاني، وكذلك سعد زغلول سنة 1919م)
ضرورة وجود الفقه الدولي الإسلامي وإقرار مبدأ الدفاع الشرعي:
إن تداخل العالم مع بعضه في علاقات متبادلة يقتضي وقفة جادة ومسؤولة من علماء المسلمين، لإيجاد فقه دولي يهتم بعلاقات الدول الإسلامية مع غيرها من الدول، وتقنين ذلك الفقه وفق المذاهب الإسلامية المتعددة، بحيث يفرز مساحة واسعة لحق الشعوب في تقرير مصيرها واستعمال القوة والعنف المشروع للدفاع عن المقدسات، وكذلك حق الإنسان للتحرر من العبودية والقهر والاستغلال، وإقرار السلم والأمن الدوليين بصورة واقعية حقيقية.. وهذه كلها غايات سعت إليها هيئة الأمم المتحدة ولم توفق في تحقيقها، بسبب مصالح الدول ونظرتها القومية الضيقة، التي حالت دون نشوء علاقات دولية أخلاقية متساوية ومتوازنة، مما أدى إلى التوسع في استعمال العنف غير الشرعي في العلاقات الدولية.
وأعتقد أن ظهور الفقه الدولي الإسلامي وتقنينه ليس عملاً مستحيلاً إذا سعت الدول الإسلامية إلى تنظيم علاقاتها، وعقد معاهداتها، وإرساء عرفها الدولي على أسس اجتهادية معاصرة، إضافة إلى إنشاء مجمعات تهتم بالقانون الدولي الإسلامي، وتقنين قواعده القانونية، التي من شأنها التأثير بالعلاقات الدولية، و بالقانون الدولي العام، وتطويره وتلافي عيوبه من خلال المشاركة الفاعلة في إصلاح النظام القانوني الدولي، على غرار إصلاح النظام القانوني الداخلي للدول، علماً أن القواعد الدولية لا تزال إلى اليوم في حالة عدم ثبات، وفي تطور دائم ومناقشة وشك.
مشروعية اللجوء إلى تحكيم غير المسلمين
يمكن أن يثار في هذا الموضوع تساؤل حول شرعية قبول المسلمين بأحكام القضاة الدوليين غير المسلمين، أو الالتجاء إلى القضاء الدولي في محكمة العدل الدولية لحل النزاعات بين دول إسلامية وغيرها من الدول، خصوصاً وأن الشريعة الإسلامية لا تجيز تحكيم غير المسلمين في فض النزاعات وفقاً للآية الكريمة (ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً)
وعليه لا ولاية للكافر على المسلم، وكل (ما يؤدي إلى مهانة المسلم، أو جماعة المسلمين، أو الأمة الإسلامية، أو يدخل وهناً على الإسلام، بأي وجه من الوجوه، فإن ارتكابه في حال الاختيار، من أعظم المحرمات الدينية، وأشد المنكرات الشرعية)
لذا فإن القاعدة العامة هي عدم جواز التحكيم عند غير المسلمين(56). وعند الضرورة يمكن للفقهاء المسلمين أن يجيزوا التحكيم الدولي غير المسلم بالعناوين الثانوية إذا توقف تحصيل الحق به وفقاً لقاعدة دفع الضرر
وقد ذهب فقهاء المالكية إلى تحكيم غير المسلمين(58) لإنهاء الحرب، لكنهم قيدوا ذلك بقيد الخوف من الأعداء فقالوا: (يجوز عقد هدنة مع غير المسلمين على أن يحكموا بين مسلم وكافر إذا كان هناك خوف منهم).
بلحاظ أن إيران وافقت على تدخل الأمم المتحدة لحل نزاعها وحربها مع العراق ، وقبلت مصر اللجوء إلى لجنة التحكيم الدولية بخصوص طابا بينها وبين إسرائيل، وقبلت البحرين التحكيم الدولي بشأن نزاعها مع قطر حول بعض الجزر في الخليج.
ترابط أحكام الشريعة الإسلامية
الذي أريد قوله وباختصار شديد.. هو ترابط أحكام الشريعة وانسجامها وتداخلها وتنظيمها لكل أنشطة المجتمع المسلم، وعليه فإن من الضروري تصدي الفقهاء لتطبيق القواعد الإسلامية العامة الثابتة ، واستنباط الأحكام الشرعية لاستيعاب تطور العصر وتقدمه. ويدخل القانون الدولي الإسلامي ضمن ذلك لأنه (لا فرق في نظام الإسلام بين الأمور الدينية أو الأمور التشريعية، فكلها ذات صفة إلزامية لامناص منها، وكلها واجبة التنفيذ)
وهكذا فإن الإسلام يعتبر ديناً له نظامه السياسي المحكم، ونظامه الاجتماعي الكامل، بحيث لا تنحصر تعاليمه بعلاقات الإنسان بربه فقط، بل يمتد ذلك إلى تكوين المجتمع المثالي، الذي يتوسل إلى تحقيق أهدافه بتوفير العنصر الأخلاقي في نفس الإنسان
وقد امتدّ العنصر الأخلاقي إلى كل جوانب الحياة، فشمل علاقات المسلمين بغيرهم، فكان بدء تاريخ وجود المسلمين كأمة، وبدء وجودهم الدولي (مقرراً بالهجرة حيث انتقل المسلمون من الموقف السلبي إلى الموقف الإيجابي بمواجهة الأعداء). علماً أن المسلمين عند استعمالهم للقوة المشروعة كانوا مرتبطين بمبادئ أخلاقية، بحيث لم يتعسفوا في استعمال حقوقهم.
ونلاحظ أن الإسلام يمتلك قوى تحريك هائلة، حيث استطاع بنجاح في زمن الرسول(ص) والخلافة الراشدة أن ينقل أحكامه وقواعده العامة خارج دار الإسلام، مما أدى إلى نشوء القانون الدولي الإسلامي وتطور قواعده بعد ذلك.
كما أن الرسول (ص) كان يؤكد دائماً على أخلاقية القواعد الإسلامية ويقول: (اغزوا باسم الله وفي سبيل الله وقاتلوا من كفر بالله. اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليداً).
لذا تصدّى فقهاء المسلمين لتنظيم العلاقات الدولية زمن الحرب، واستعمال العنف على أسس روحية أخلاقية. كما تصدوا إلى تنظيم القواعد الدولية الإسلامية وقت السلم (كالصلح والأمان وشروطهما والوفاء بالعهود وتبادل السفراء. غير أن الحرب كانت تأخذ مكان الصدارة بسبب الظروف التي أحاطت بالدولة الإسلامية وتربص الأعداء بها في الداخل والخارج). ومع ذلك كانت علاقات المسلمين بغيرهم علاقات سلم وأمان، ولم يكن الجهاد عندهم إلا لرفع راية الإسلام، والحفاظ على إعلاء كلمة لا إله إلا الله).
وثيقة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) إلى مالك الأشتر
تعتبر وثيقة الإمام علي بن أبي طالب (ع) إلى مالك الأشتر النخعي، عندما ولاه مصر، من الوثائق السياسية والإدارية المهمة، التي تدل على اهتمام المسلمين بالمبادئ الأخلاقية عند تعاملهم مع الناس، كل الناس، مسلمين وغير مسلمين).
ويذهب الدكتور الزحيلي إلى أن جمهور الفقهاء قد تأثروا (بالحالة الواقعية التي سادت علاقات المسلمين بغيرهم في عصر الاجتهاد الفقهي في القرن الثاني الهجري.. فقرروا أن اصل العلاقات الخارجية مع غير المسلمين هي الحرب لا السلم، ما لم يطرأ ما يوجب السلم من إيمان أو أمان.
ولكن التأثر بالحالة الواقعية للفقهاء لم يبعدهم عن مبادئهم الأخلاقية، فكانوا بحق مصداق الآية المباركة الكريمة: (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبرّوهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين. إنما ينهاكم عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون.
لهذا فإن الدولة الإسلامية زمن الرسول (ص) والخلافة الراشدة لم تشن حرباً هجومية على الدول المسيحية الغربية (على الصورة التي هاجمت بها الدول الأوروبية المسيحية الدولة الإسلامية في الحروب الصليبية، متذرعة حماية الأماكن المسيحية المقدسة، ثلاث قرون كاملة، ولم تدخل الدولة الإسلامية في حرب على أساس المبدأ المعروف بمبدأ توازن القوى ، وهو المبدأ الذي تأسست عليه علاقات الدول الأوروبية المسيحية ببعضها).
الحاجة إلى مبادئ السماء
يظل الإنسان دائماً وفي كل مكان بحاجة إلى مبادئ السماء الموجودة في القرآن الكريم، والسنة النبوية لتحقيق السعادة والأمن والسلام في الأرض. علماً أن العلاقات الدولية التي سادت بين المسلمين وغيرهم في الماضي لا تختلف من حيث المضمون عن العلاقات الدولية الحالية، وإن اختلفت معها في الشكل والمظهر. فقد كان الرسول (ص) ومعه الصحابة(رض) يطبقون النصوص القرآنية بدقة، مما جعلهم يمتنعون عن مقاتلة من يلقي إليهم السلم، لأن الإسلام لا يجيز للمسلمين أن يعتدوا على أحد، لكنه لا يجيز لهم أيضاً أن يستسلموا باسم السلم والأمن لدولة غير إسلامية، ولا يجيز لهم استعمار دولة أخرى، (وليس للمسلمين أن يتدخلوا في شؤون الدول الأخرى المسالمة إلا لحماية الحريات العامة، وإغاثة المظلومين، ودفع الاعتداء عن المعتقدين بالإسلام، وذلك منعاً للفتنة في الدين.. الإسلام يحترم حق كل دولة في البقاء والسيادة، وفي الدفاع عن أراضيها وسيادتها، وإن العلاقات بين المسلمين وغيرهم تقوم أساساً على السلام، وما الحرب إلا ضرورة يفرضها حق الدفاع عن النفس وعن العقيدة).
من وحي ما أسل**ا نعرف أن فقهاء الشريعة الإسلامية قد اهتموا كثيراً باستنباط قواعد التنظيم بين الدول، حيث أرسوا بذلك القانون الدولي الإسلامي، الذي يستند إلى قواعد أخلاقية لتوطيد السلم والأمن الدوليين لكافة الناس دون تمييز أو عنصرية).
لقد كان هذا القانون الإلهي أخلاقياً لأنه لا يجيز أبداً استعمال القوة والعنف للإفساد في الأرض، وإتلاف الحرث والنسل، والتخريب المتعمد في حالتي السلم والحرب، كما أن الحرب في الإسلام لا تكون أبداً من أجل احتلال أراضي الغير والتوسع غير المشروع على حساب الدول الأخرى.
والجهاد يكون ضرورة إذا(ازدحم الكفار على المسلمين بحيث يخاف منه زوال الحق وإثبات الكفر والباطل، فيجب على جميع المسلمين حينئذ مدافعتهم)
وهكذا فإن العلاقات الدولية في الإسلام، المستندة إلى قيم روحية أخلاقية، هي ما تحتاجه الإنسانية في تطلعها للمساواة والحرية، وإقرار السلم والأمن في العالم. لأن (القانون الإلهي إذا نزل يقرر ويبطل، ويزيد وينقص، فيطرح القوانين الباطلة ويضع القوانين الصالحة) من أجل الناس جميعاً.
منقول