دور الصلح في النزاعات الأسرية
إن الطرق البديلة لتسوية المنازعات ليست آلية جديدة، وإنما هي قديمة قدم الإنسانية وكانت موجودة وفعالة لكن الجديد هو ضرورتها في وقت يحتاج إليها الجميع على مختلف المستويات والمجالات هذه الضرورة أفرزتها المعضلة التي يواجهها القضاء منذ أمد بعيد في مختلف الأنظمة القضائية عبر العالم تتجلى في تراكم أعداد هائلة من القضايا بسبب التأخير في إصدار الأحكام والبطء في حسم النزاعات.
والمغرب بدوره أولى اهتماما كبيرا لهذه الوسائل حيث نظم المشرع بعضا منها في عدد من قوانينه، ومنها التحكيم والوساطة الاتفاقية في قانون المسطرة المدنية والصلح في مدونة الأسرة…. الخ، و إذا كانت هذه المجالات خصبة لقيام النزاعات تتطلب إعمال هذه البدائل، فإن اللجوء للوسائل البديلة يزداد أهمية متى تعلق الأمر بالمنازعات الأسرية نظرا لطبيعة العلاقة التي تربط بين مكونات الأسرة.
كل هذا من اجل تحقيق الأهداف النبيلة التي سطرها المشرع في مدونة الأسرة الذي جاء نتيجة حوار اجتماعي وقانوني عميق بين مختلف مكونات المجتمع وحقق ملائمة ومزاوجة متميزة وفريدة بين الأصالة والمعاصرة، بين الحفاظ على الهوية والانخراط في الكونية سعيا للحفاظ على تماسك الأسرة واستقرارها في أداء دورها الأساسي في بناء كيان أفراد المجتمع وتزداد أهمية اللجوء إلى تسوية النزاعات الأسرية عن طريق الصلح لكونها تكتسي طابعا خاصا وتتعلق بعلاقات ذات حساسية وخصوصية بين أفراد الأسرة خاصة بين الزوجين والأبناء وتقتضي الكثير من الكتمان والسرية والحكمة والتروي في معالجة جوانب منها لأنها تكون على درجة من التعقيد وتتميز باختلاف طبائع الناس والتقاليد والمحيط الذي نشأ فيه أطرافها بالإضافة إلى تداخل ما هو قانوني وما هو اجتماعي ونفسي في النزاع.
فما مدى نجاح هذه الوسائل السلمية لحل النزاعات الأسرية في ظل الصعوبات التي تعترضها ؟ وما هي آليات تفعيلها ؟
انطلاقا من هذا الإشكال وللإحاطة أكثر بالموضوع ارتأيت تقسيمه على المنوال التالي:
المحور الأول : الصلح والمؤسسات المرصدة له.
المحور الثاني : الصعوبات التي تعترض مسطرة الصلح.
المحور الأول: الصلح والمؤسسات المرصدة له
.تقتضي مني دراسة هذا المحور تقسيمه إلى فقرتين، الصلح في قضايا الطلاق والتطليق، على أن أتطرق للمؤسسات المرصدة للصلح.
أ- الصلح في قضايا الطلاق والتطليق
يخضع الصلح من حيث أحكامه في قضايا الطلاق والتطليق إلى مدونة الأسرة وقواعد الفقه الإسلامي وخاصة منه المذهب المالكي فهو مشروع بالكتاب والسنة والإجماع والنصوص القرآنية الواردة في الصلح والداعية إليه عديدة منه قوله تبارك وتعالى: << وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا والصلح خير >> ، وقوله عز وجل << وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما إن الله كان عليما خبيرا >> وروي أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا أحل حراما أو حرم حلالا )
وعرف الشيخ ابن عرفة الصلح بأنه: الانتقال عن حق أو دعوى بعوض لرفع نزاع أو خوف وقوعه.
ويعرف في الاصطلاح الفقهي بأنه عقد يرتفع به التشاجر والتنازع بين الخصوم وهما منشأ الفساد والفتن .
وقد عرف المشرع المغربي بدوره الصلح في الفصل 1098 من قانون الالتزامات والعقود حيث جاء فيه: ” الصلح عقد بمقتضاه يحسم الطرفان نزاعا قائما أو يتوقعان قيامه وذلك بتنازل كل منهما للآخر عن جزء مما يدعيه لنفسه أو بإعطائه مالا معينا أو حقا. “
فبخصوص مسطرة الصلح في قضايا الطلاق والتطليق نجدها تكتسي طابعا خاصا يتمثل في كونها مسطرة إلزامية، عكس ما هو عليه الأمر في القانون المدني.
الصلح في قضايا الطلاق
بالرجوع إلى مسطرة الصلح في قضايا الطلاق نجد انه قد تم التنصيص عليها بشكل مفصل في مدونة الأسرة الحالية، فطبقا للمادة 79 من المدونة يجب على طالب الطلاق، أن يطلب الإذن من المحكمة للإشهاد به لدى عدلين منتصبين لذلك ، فمن خلال كل هذا يتضح أن مدونة الأسرة على خلاف مدونة الأحوال الشخصية الملغاة، جعلت الطلاق تحت رقابة المحكمة، بعدما كان يتم من طرف الزوج لدى العدلين ويبقى دور القاضي التأشير على وثيقة الطلاق، فبسط الرقابة القضائية عند إنهاء العلاقة الزوجية واستبعاد كل طلاق خارج المحكمة يعبر عن فلسفة المشرع في تفعيل مسطرة الصلح وذلك ما نصت عليه المدونة في المادة 81 حيث تحرص المحكمة على ضمان الحضور الشخصي للطرفين للإصلاح بينهما، وعند حضور الطرفين تجري المناقشات داخل غرفة المشورة بما في ذلك الاستماع إلى الشهود ولمن ترى المحكمة فائدة في الاستماع إليه، وللمحكمة أن تقوم بكل الإجراءات بما فيها انتداب الحكمين أو مجلس العائلة أو من تراه مؤهلا لإصلاح ذات البين وفي حالة وجود أطفال تقوم المحكمة بمحاولتين للصلح تفصل بينهما مدة لا تقل عن ثلاثين يوما.
وإذا ما قررت هذه الأخيرة القيام بالإجراءات أعلاه فلها أن تختار منها ما تراه ملائما لكل حالة على حدة، بل ويمكن أن تلجأ إلى إجراءات أخرى لان ما تم التنصيص عليه ضمن المادة 82 من مدونة الأسرة إنما ورد على سبيل المثال لا الحصر، وإذا نتج عن الإجراءات التي باشرتها المحكمة صلح بين الزوجين، حرر به محضر وتم الإشهاد به من جانب المحكمة ، ومن تم تعود المياه إلى مجاريها بين الزوجين ، أما إذا تعذر الإصلاح بين الزوجين حددت المحكمة مبلغا يودعه الزوج بكتابة الضبط بالمحكمة داخل اجل أقصاه ثلاثون يوما لأداء مستحقات الزوجة والأطفال . فبخصوص الطلاق المملك نجد الفقرة الثانية من المادة 89 من مدونة الأسرة تنص على انه: << تتأكد المحكمة من توفر شروط التمليك المتفق عليها بين الزوجين وتحاول الإصلاح بينهما طبقا لأحكام المادتين 81 و 82 أعلاه >> وكذلك الأمر بالنسبة لكل من الطلاق الاتفاقي والطلاق الخلعي، فبخصوص الأول عند حصول الاتفاق بين الزوجين على الافتراق، يبلغان محتواه للمحكمة التي تعمل للإصلاح بينهما أما الثاني فقد يتراضى فيه الزوجان على الخلع، وقد يختلفان في بدل الخلع في هذه الحالة يجب رفع الأمر إلى القضاء قصد النظر فيه ومهمة القاضي تنطلق من محاولة الصلح بين الزوجين أي العمل الجاد على الصلح . وهو ما كرسته المادة 120 من مدونة الأسرة.
الصلح في قضايا التطليق
الصلح في قضايا التطليق أقر لها المشرع المواد من 94 إلى 113 من مدونة الأسرة والظاهر من نصوص المدونة أن إجراءات الصلح في دعاوى الطلاق لا تختلف عن مثيلاتها في دعاوى التطليق وتتمثل أسباب التطليق في التطليق للشقاق، الإخلال بشرط في عقد الزواج، عدم الإنفاق الضرر، الغيبة، العيب، الإيلاء والهجر وأهمها التطليق للشقاق والذي يعتبر من مستجدات مدونة الأسرة حيث يجد سنده الشرعي في قوله عز وجل: << وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما إن الله كان عليما خبيرا >> ويجد سنده القانوني في المادة 94 من مدونة الأسرة التي تنص على انه: ” إذا طلب الزوجان أو أحدهما من المحكمة حل نزاع بينهما يخاف منه الشقاق، وجب عليها أن تقوم بكل المحاولات لإصلاح ذات البين طبقا لأحكام المادة 82 أعلاه ” ويتبن من هذه المادة أن المشرع ألزم المحكمة بأن تقوم بكل المحاولات لإصلاح ذات البين، وفي هذا الصدد صدر عن المحكمة الابتدائية – قسم قضاء الأسرة – بوجدة حكم حيث جاء فيه ” حيث أن دعوى المدعية تهدف إلى الحكم بتطليقها من المدعى عليه للشقاق وحيث أن المحكمة حاولت إصلاح ذات البين بين الطرفين فاستمعت بغرفة المشورة للمدعية التي أصرت على التطليق وتخلف المدعى عليه رغم سبق توصله بالاستدعاء وبذلك سجلت المحكمة تعذر محاولة الصلح…” ، ومن المحاولات التي تقوم بها المحكمة لتفعيل مسطرة الصلح ، انتداب الحكمين أو من في حكمهما لاستقصاء أسباب الخلاف بين الزوجين وبذل جهدهما لإصلاح ذات البين ، وفي حالة ما إذا توصل الحكمين المنتدبين إلى الصلح حرر مضمونه في تقرير من ثلاث نسخ يوقعه الحكمان والزوجان ويرفعانه إلى المحكمة التي تسلم لكل واحد من الزوجين نسخة منه وتحفظ النسخة الثالثة بالملف ويتم الإشهاد المدلى به من طرف المحكمة. أما إذا اختلف الحكمان في محتوى التقرير لتحيز كل منهما للطرف الذي هو قريب له أو في تحديد الطرف المسؤول عن الشقاق فإننا نجد المادة 96 من مدونة الأسرة تنص على انه ” إذا اختلف الحكمان في مضمون التقرير أو تحديد المسؤولية أو لم يقدماه خلال الأجل المحدد لهما أمكن للمحكمة أن تجري بحثا إضافيا بالوسيلة التي تراها ملائمة “
بالإضافة إلى التطليق للشقاق نصت مدونة الأسرة على حالات أخرى لطلب التطليق ، تكون بدورها خاضعة لمسطرة الصلح باستثناء حالة واحدة وهي التطليق للغيبة وهو ما أكدته المادة 113 من مدونة الأسرة.
ب- المؤسسات المرصدة للصلح
يمكن رصد مؤسستين مساعدتين للقاضي في مهامه الصلحية، ويتعلق الأمر بمؤسسة الحكمين ومجلس العائلة.
مؤسسة الحكمين
نص المشرع المغربي في مدونة الأسرة على وجوب بعث الحكمين من طرف المحكمة في حالة استمرار النزاع بين الزوجين للتوفيق بينهما. وهذه المسطرة ليست دخيلة على القانون المغربي، بل هي في جوهرها مستمدة من قواعد الشرع الإسلامي، ورغم أن هذه المسطرة أصيلة في قواعد الفقه الإسلامي، فإن مدونة الأسرة لم تحدد الشروط الواجب توافرها في الحكمين.
ومن تم يتعين الرجوع إلى قواعد الفقه المالكي اعتبارا للحالة المنصوص عليها في المادة 400 من مدونة الأسرة.
وباعتماد قواعد الفقه المالكي، فإنه يشترط في الحكمين أربعة شروط وهي:
الذكورة – العدالة – الرشد – العلم بمهمتهما وكيفية أدائها، ويجب أن يكونا من أهل الزوجين لأنهما أكثر إطلاعا على أسرار الأسرة وأقدر على حل النزاع. أما الحنفية فإنهم خالفوا المالكية في شرط الذكورة حيث أنهم لا يعتبرونه شرطا جوهريا في الحكمين . وبخصوص مهمة الحكمين نجد أن فقهاء الدين الإسلامي اختلفوا حولها بين من يقول بان الحكمين بمجرد قيامهما بالمهمة المنوطة بهما فإنهما يصدران حكما بالطلاق أو بالتطليق على اعتبار أنهما حاكمان فيما حكما فيه، غير انه وفي نقيض هذا الرأي ذهب بعض الفقه إلى أنه لا يبدو مقبولا التفويض للحكمين للبث في وضعية الزوجين المتنازعين خصوصا في حالة معارضتهما لتوجيه أو لقرار الحكمين، وإنما يمكن أن يشاركا في هيئة الحكم بعد استقصائهما لحقيقة الوضع في البحث الذي قاما به، وبالرجوع إلى مدونة الأسرة نجد المادة 95 من مدونة الأسرة قد حددت مهمة الحكمين في محاولة التعرف على الأسباب الجوهرية التي أدت إلى الخلاف بين الزوجين، للانتقال إلى تذويب هذه المشاكل وتقريب وجهات نظر الطرفين للوصول إلى صلح يرضيهما ويرجع الطمأنينة والسكينة للعلاقة الزوجية.
مجلس العائلة
نصت المادة 251 من مدونة الأسرة في فقرتها الثانية على انه: ” يحدث مجلس العائلة تناط به مهمة مساعدة القضاء في اختصاصاته المتعلقة بشؤون الأسرة ويحدد تكوينه ومهامه بمقتضى نص تنظيمي. “
من خلال المادة الأولى من مرسوم رقم 02.04.88 يتبين أن مجلس العائلة يتكون من القاضي رئيسا، والأب والأم أو الوصي أو المقدم، أربعة أعضاء يعينهم الرئيس من بين الأقارب أو الأصهار بالتساوي من جهة الزوجين وإذا تعذر تشكيلهم أمكن تكوين مجلس العائلة من جهة واحدة .
ويملك الرئيس سلطة في اختيار الأعضاء اللذين سيكونون مجلس العائلة الذي يشترط فيهم لزوما أن يكونوا كاملي الأهلية أما توفر باقي الشروط فهو أمر موكول للسلطة التقديرية للقاضي الذي يعينهم مراعيا في ذلك درجة قرابتهم ومكان إقامتهم وسنهم وعلاقتهم بالأسرة.
كما أن للرئيس الصلاحية في تغيير أي عضو من أعضاء مجلس العائلة عند الاقتضاء حسب المادة الثالثة من المرسوم، وهو نفس ما كان مسطرا في المرسوم السابق لسنة 1994.
وعند اجتماع مجلس العائلة فإن كل ما يتمخض عنه من نتائج يحرر في محضر رسمي في سجل خاص من قبل كاتب الضبط الذي يحضر الاجتماع، ويوقع مباشرة عند انعقاد الاجتماع من طرف الرئيس والأعضاء، ويشار إلى امتناع هؤلاء عند الاقتضاء أو إلى وجود مانع من التوقيع.
وتجد الإشارة إلى أن مهام مجلس العائلة لا تعدو أن تكون مجرد مهام استشارية تصب في خانة خدمة مصلحة الأسرة وهو ما تنص عليه المادة السابعة من المرسوم الجديد، إضافة إلى إبداء الرأي في كل ماله علاقة بشؤون الأسرة، وهو مقتضى جديد تضمنته هذه المادة، ومن نافلة القول أن مجلس العائلة يعد آلية مهمة في إطار مسطرة الصلح ويلعب دورا مهما لمساعدة القضاء في إيجاد الحلول وإبداء الرأي قصد إنقاذ الأسرة ولم شملها.
المحور الثاني : الصعوبات التي تعترض مسطرة الصلح.
مما لاشك فيه وان مسطرة الصلح في قضايا الأسرة تعترضها عدة معوقات تحول دون تحقيق الغاية المبتغاة منها، حيث ثبت من خلال الواقع المعاش أن أغلبية محاولات الصلح تتكلل بالفشل، وذلك راجع إما لفشل العناصر الأساسية التي تكونها، وإما لكون المؤسسات المرتبطة بالصلح لا تفعل كما يجب أن يكون.
أ- عدم نجاح مساطر الصلح
ترجع تجليات فشل مساطر الصلح في المنظومة القانونية بالدرجة الأولى إلى أسباب قانونية وقضائية وأخرى تتعلق بالدفاع والمتخاصمين.
الأسباب القانونية والقضائية
تكمن أولى هذه الصعوبات في إسناد مهمة القيام بالصلح لقاضي الحكم، حيث يقوم نفس القاضي بعملية التصالح ومتابعة القضية لإصدار حكم فيها، ونجد أن مدونة الأسرة كرست نفس المبدأ وأسندت في كل موادها التي أوجبت فيها سلوك مسطرة الصلح ممارسة المساعي الصلحية لقاضي الأسرة الذي هو قاضي الحكم، وهذا من شأنه أن يعطل هذه العملية وينقص من فعاليتها. فإسناد الصلح لقاضي ذو اختصاص مزدوج يؤدي إلى نتائج تنبئ بفشله وبالتالي عدم نجاحه، كما قد يتخلى عن دوره الرائد في دفع الطرفين للتصالح وتقريب وجهة نظرهما، الشيء الذي يجعله يكتفي بالإشارة إلى مقتضيات الصلح بمجرد الإشارة العابرة كإجراء مسطري روتيني، ويتعامل معه كشكلية ضرورية يقتضيها النص القانوني أو الرقابة القضائية للمحكمة ويعد من أسباب عدم نجاح الصلح، اتخاذ القاضي- وهو يقوم بعملية الصلح- الحيطة والحذر من الغموض في النزاعات الحقيقية القائمة بين الطرفين خوفا من اتهامه بالانحياز لأحدهما، ويجنبه طرح حلول واقتراحات معينة للدفع بالمتخاصمين للوصول إلى الحل الاتفاقي الذي يستوجب تنازل كل طرف عن جانب من ادعاءاته.
قبل الإقدام عليها، وهذا راجع إلى عدة عوامل أهمها
غياب نشر ثقافة الحلول البديلة للنزاعات.
الاعتقاد السائد لدى البعض بأن من شأن نشر هذه الثقافة هيمنة تلك الحلول على النزاعات وإقٌصاء الأحكام وتهميش القضاء .
عدم وجود الوقت الكافي لإبرام الصلح وكثرة المنازعات الأسرية وقلة الموارد البشرية، وعدم اقتناع الأطراف المتنازعة بثقافة الصلح وحل النزاعات بالطرق السلمية وتدخل الأطراف الأجنبية في النزاع بشكل سلمي.
كما جرى العمل عند فشل محاولة الصلح في أول جلسة بعد حضور الزوجين، إعلان القاضي عن فشل الصلح دون أن يبدل جهدا إضافيا
عبر عقد جلسات صلحية أخرى، رغم أن المشرع لا يمنعه من ذلك.
الأسباب المتعلقة بالدفاع والمتخاصمين
لما كان المحامي هو الجهة الأولى التي يتصل بها المتقاضي قبل عرض نزاعه على القضاء، فإن الدفاع من هذا المنطلق يلعب دورا مهما وأساسيا في توجيه موكله إلى سلوك طريق الصلح، فبدون اقتناعه بأهمية وفائدة الصلح يتم حث ومساعدة المتقاضي على الجنوح عنه، تبقى محاولة القاضي أو أي طرف آخر أمام مناورات المحامي بدون آثر يذكر.
ومما يقوي المحامي الذي يحاول إبعاد موكله عن الصلح لأغراض مادية، كون المتقاضي جاهلا بمسطرة التقاضي وأهمية الصلح.
كما نسجل ضمن معيقات الصلح، إصرار الزوجين على مواقفهما وتصلبهما، غير مدركين مزايا الصلح وخصوصياته وما يرنو إليه من جنوح إلى السلم وحل للنزاعات وديا وبعيدا عن نشر الحقد والكراهية بين الأطراف، فتمسك الخصوم بالمواقف يبقى الخلاف قائما والحل الاتفاقي مستعصيا.
ب : عدم تفعيل المؤسسات المرصدة للصلح
إذا كانت المؤسسات المرصدة للصلح لها دورها في إنجاح الصلح بين أفراد الأسرة، فإن عدم تفعيل مؤسسة الحكمين من جهة، ومجلس العائلة من جهة من شأنه أن يحد من فعاليته في الحد من النزاعات الأسرية
معيقات تفعيل مؤسسة الحكمين على المستوى العملي
إن التحكيم بين أفراد الأسرة في حالة الشقاق تعرض ولازال يتعرض إلى نوع من التعطيل والهجر، وفي تعطيله وهجره تعطيل لكتاب الله الآمر ببعث الحكمين، مصداقا لقوله تعالى: << وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما إن الله كان عليما خبيرا >> أو سبب لنتائج خطيرة على مؤسسة الأسرة التي هي الخلية الأولى للمجتمع، وذلك بسبب التطبيق السيئ لمقتضيات هذه المؤسسة الدينية، أن على المستوى القانوني بوجود عدة ثغرات في النصوص التي نصت عليها أو على المستوى العملي من حيث صعوبات التطبيق التي تعترضها والتي نذكر من بينها:
إذا كانت مدونة الأحوال الشخصية السابقة قد نصت على بعث حكمين للسداد بين الزوجين، فإن ذلك المقتضى بقي بدون جدوى ودون أثر يذكر بعدما قيدت المادة 56 منها سلوك مسطرة التحكيم بقيود تتعلق برفض الطلب، وتكرر الشكوى.
وبمجيء مدونة الأسرة نجدها قد فتحت بابا جديدا للتحكيم عن طريق بعث حكمين للسداد أسمته مسطرة الشقاق من خلال المواد 94 إلى 97، غير انه ما يمكن ملاحظته على هذه المقتضيات الجديدة أنها جعلت من بعث الحكمين وسيلة جوازية من وسائل الصلح بين أفراد الأسرة شأنها في ذلك شأن باقي الوسائل التي خول القانون للمحكمة اللجوء إليها في سبيل إصلاح ذات البين بين الأزواج، فالمحكمة ليست ملزمة بانتداب حكمين، وبالتالي يمكن الاستغناء عن هذه المسطرة، الشيء الذي من شانه أن يفوت على المحكمة والأطراف إمكانية الصلح عن طريقها.
إلا أن الإشكال يبقى مطروحا حول عدم تنصيص المشرع المغربي على كيفية اختيار الحكمين ولا كيفية تعيينهما ولا مدة عملهما وعلى جزاء الإخلال والتهاون في تأدية مهمتهما إلى غيرها من الأمور الأخرى التي تشكل بحق خرقا تشريعيا كبرا وخطيرا يجعل مهمة الحكمين مهمة معرضة للارتجال والتقاضي في المجال القضائي.
ومما سيساهم في تعطيل مؤسسة الحكمين من الناحية العملية والواقعية، نجد غياب الواقع المغربي عن نصوص المدونة، حيث أن النصوص القانونية وهي تشير إلى بعث الحكمين لم تأخذ بعين الاعتبار التحولات الجذرية التي تعرفها الأسرة بشكل خاص والمجتمع بشكل عام. الشيء الذي يصعب معه سلوك هذه المسطرة، بالإضافة إلى قلة الأطر التي يمكنها تتبع عملية الصلح وتحضير القضية في آن واحد أمام كثرة الملفات.
غياب دور مجلس العائلة في فض النزاعات الأسرية
تثور من الناحية العملية عدة إشكالات تجعل مجلس العائلة غائبا في فض النزاعات الأسرية، وذلك راجع إلى صعوبات مادية واجتماعية بالدرجة الأولى بالإضافة إلى صعوبات تتعلق بالجانب الإجرائي والمسطري، فبخصوص الصعوبات المادية، تكمن في مصاريف التنقل التي تشكل عائقا حقيقيا وواقعيا يحول دون اجتماع مجلس العائلة إذ تقتضي بعض الحالات استدعاء أطراف يقطنون في أماكن بعيدة عن مقر المحكمة، فيتطلب التنقل مصاريف قد لا تتحملها طاقة الطرف المستدعي، فيؤثر التغيب عن الحضور، فضلا عن وجود طبقات معوزة لا تقدر على تلبية استدعاء القاضي لهم لأن في تنقلهم إرهاقا ماديا، كما أن بعض الأطراف قد توجد خارج الدائرة الترابية لقاضي الصلح، فيضطر إلى الاستدعاء بواسطة الإنابة القضائية مع ما يصاحب هذه الطريقة من ثغرات وعراقيل قد تفوت إصلاح ذات البين.
إلى جانب الصعوبات المادية توجد صعوبات نفسية سيكولوجية واجتماعية تتمثل في كون الزوجين لا يتقبلان طرح مشاكلهما أمام جمع كبير يسمى مجلس العائلة يصل عدده إلى سبعة أعضاء، مما يجعل الغاية المتوخاة من المجلس شبه منعدمة إن لم تكن منعدمة أصلا، كما أن الزوجين إذا كانا يتوفران على تكوين علمي وثقافي غالبا ما تدفع بهم هذه المؤهلات إلى عدم الرغبة في إشراك الأقارب في نزاعاتهم، خصوصا إذا كان هؤلاء أميين أو أقل من مستواهم الثقافي والعلمي ظنا منهما أن بسط نزاعاتهما أمام المجلس العائلي لن يفضي إلى نتيجة تذكر.
بالإضافة إلى هذه الصعوبات هناك معيقات مسطرية وتتمثل أساسا في بدأ المسطرة وتأخرها عن الوقت المناسب، لم ينص المشرع المغربي في المرسوم المحدد لتكوين أعضاء ومهام مجلس العائلة عن المرحلة التي يتدخل فيها المجلس العائلي، هل بعد أن يفشل قاضي الصلح في مساعيه الصلحية أو بمجرد تقييد المقالات ما يمكن أن نستشفه من هذا كله أن مهمة المجلس تبقى استشارية يستأنس بها القاضي ويستعين بها من غير أن يكون ملزما بما قدمه واقترحه أعضاؤه، وهذا التوجه الذي خلصنا إليه من خلال الحوار الذي أجريناه مع قاضي الأسرة- بالناظور- الذي أكد على أن مجلس العائلة لا وجود له على أرض الواقع، حيث يتم الاكتفاء باستدعاء أولياء أمور الزوجين إن وجدوا، بالإضافة إلى قلة الأطر والتجهيزات من مكاتب وغيرها.
خا تمـــــــــة
إن نجاح الصلح كنظام بديل لتسوية المنازعات الأسرية رهين بمدى الاستعداد الذي يمكن أن تبديه الأطراف المتنازعة في التفاوض والتصالح، وتسوية النزاع واستيعابهم لجدوى هذه العدالة اللينة، السريعة والفعالة والتي لا تتطلب أية شكلية للحصول على رضى الطرفين.
وإنما المهم أن يكون هناك اتفاق على اللجوء لهذه الوسيلة من طرف المتنازعين. فرهان تطبيقها مقبول ونجاح التجربة رهين بتوعية الفاعلين في الحقل القضائي والقانوني، والمجتمع المدني والمشاركة الإيجابية لوسائل الإعلام، وتوافقها مع التقاليد المحلية الخاصة، وتفهم الجهة التشريعية لهذه الثورة القضائية الإيجابية والفعالة، التي تهدف البحث عن مصالح الأطراف من أجل صياغة الاتفاق في جو من التراضي والإقناع ودون أن يخلف النزاع رواسب.
وبذلك أرى أن ركوب قاطرة الحلول البديلة أصبح مطلبا ملحا وممكنا لتلافي تراكم القضايا بمحاكمنا إذا توفرت النوايا الحسنة وتكاثفت الجهود على مختلف الواجهات.