دور القضاء في تفسير وتكييف عقود العمل في التشريع المغربي
يقال أن السلطة القضائية هي الطرف الثالث والمحايد بامتياز في مختلف العلاقات القانونية[1]، فإنه من الواجب أو الأكيد، أن أي دراسة للقانون يجب أن تكون مرتبطة ارتباطا وثيقا مع العمل القضائي، الذي يستوجب استعراض مختلف التوجهات القضائية في القواعد القانونية، ويرجع ذلك لثلاثة أسباب:
– السبب الأول: فإن الاجتهادات القضائية تعتبر مصدرا من مصادر القانون، ويمكن تعريف الإجتهاد القضائي، بأنه هو مجموع الحلول القانونية التي تستنبطها المحاكم بمناسبة فصلها في المنازعات المعروضة عليها، فهي تفسر القانون متى كان غامضا وتكمله متى كان ﻧﺎﻗﺻﺎ.[2]
– السبب الثاني: سلطة تفسير القاعدة القانونية، من خلال التطبيق المستمر على القضايا والمنازعات.
– السبب الثالث: كما أن القضاء عند تطبيقه للقانون يظهر عيوبه وتناقضاته، التي يمكن تجاوزها من خلال تنبيه المشرع على تعديل النصوص القانونية المعيبة، في إطار تعاون السلط.
وإن التفسير القضائي أحد أنواع التفسير القانوني، الذي لها أهمية كبيرة، على مستوى تفسير القاعدة القانونية وتباين معانيها الغامضة التي تحتاج الإيضاح، ولا أحد غير القضاء الذي له الأهلية بامتياز لتفسيرها.
إلى جانب التفسيرات الأخرى التشريعية، والفقهية[3]، والقاضي عند عرض النازلة عليه، يصطدم في تطبيقه، للقاعدة القانونية بالغموض أو عيب في الشكل أو في المضمون، فيستعمل آنذاك سلطته في التفسير إما الضيق، أو الواسع، أو الحرفي.
وسنتناول هذا الدور القضائي وفق ما يلي:
أ) التفسير والتكييف القضائي لطبيعة العقد من خلال خصوصيات أحكامه:
وعلى غرار تفسير القضاء للنص القانوني، يفسر كذلك العقد كمصدر إرادي للالتزام، وهكذا فعقد الشغل يعتبر من العقود التي تجمع علاقة بين الأجير والمشغل، والتي يجب على القضاء أن يستخلص بنوده – أي عقد الشغل- عن طريق التفسير والتكييف.
كما جاء في أحد قرارات محكمة النقض:
” إن الطبيعة القانونية للعقود رهينة، ليس بالتحديد الصادر عن الأطراف، وإنما بالطبيعة المستخلصة من بنودها، لذلك فإن على قاضي الموضوع أن يحدد هذه الطبيعة وأن يستخلص من هذا التحديد الآثار القانونية أو الاتفاقية التي تولدها العقود “[4]
وعموما لم يعرف المشرع المغربي عقد الشغل بوجه عام، سواء كان عقدا محدد المدة أو عقدا غير محدد المدة، وهو بذلك قد ساير غالبية التشريعات الحديثة واكتفى بوضع القواعد القانونية والتنظيمية التي تنظم علاقة الشغل بوضوح.
وكذلك لم يعرف المشرع الفرنسي عقد العمل تاركا بذلك المجال للفقه والذي عرّفه بأنه إتفاق يتعهد بمقتضاه أحد الأطرف، بإنجاز أعمال مادية ذات طبيعة حرفية على العموم لصالح الطرف الآخر وتحت إشرافه ومقابل عوض[5].
أما القضاء والذي يهمنا فقد دأب على تفسير وتكييف العقود من خلال إظهار خاصيته المهمة وهي التبعية بين المشغل والأجير، وكما جاء في قرار لمحكمة النقض بأن عقد الشغل يتصف بالتبعية بقولها:
” وحيث إن الذي يميز عقد العمل هو عنصر التبعية من إشراف و توجيه ورقابة المشغل تجاه أجيره، ذلك العنصر غير موجود في عقد المقاولة “[6]
وفي قرار أخر لمحكمة النقض:
” وحيث إن القرار المطعون فيه إعتبر أن العلاقة بين الطرفين، هي علاقة شغل إعتمادا على أن الأجير فقط دون أن يبرز بقية العناصر من إشراف وتوجيه يكون القرار ناقص التعليل، لإنعدامه، مما يتعرض معه للنقض “[7]
وفي قرار آخر:
“… وحيث أن المحكمة المطعون في حكمها أو ثبت لها ما ذكر كان يجب أتن تعتبره تابعا للمراكشي فقط فيها، وقع في معمل الصباغة وان تحصر مسؤولية إحراق السيارة بين العامل الذي قام بإحراقها والمراكشي الذي يعتبر هذا العامل تابعا له في الأشياء التي وضعها تحت حراسته وإنها بحكمها مسؤولية بوعويد الذي لا يعتبر بنخيدة تابعا له وقت حراسته معمل الصباغة لصاحبه المراكشي تكون خرقت الفصل 85 من فلع…”[8]
فمن خلال هذا القرار يتبين إلى انه عندما يكون العامل تابعا لشخصين مختلفين لكل منهما عمله الخاص به، فإن الضرر الذي يتسبب فيه العامل للغير أثناء عمله لا سؤال عنه إلا لرب العمل الذي وقع الضرر أثناء أو بمناسبة العمل عنده، ولا تمتد هذه المسؤولية إلى رب العمل الأخر، من خلال تطبيق التبعية، فلا يسأل إلا على ما وقع منه من خطأ تجاه المشغل الذي يجمع معه عقد شغل تبعي.
وأخيرا نورد قرارا يعمل على التكييف والتفسير، من خلال تمييز عقد الشغل، وهو اجتهاد مهم جدا على مستوى الجهة المصدرة له، وهي محكمة النقض بجميع غرفها، جاء فيه:
” يكون القرار المطعون فيه بإعادة النظر منعدم التعليل عندما غير وصف العقد المبرم بين الطاعن وصندوق الضمان وكذا طبيعته القانونية من عقد مدني خاضع للفصل 211 ق.ل.ع كما قضت بذلك محكمة الاستئناف إلى عقد إجارة خدمة يخضع للفصل 911 من نفس القانون ورتب الآثار القانونية عن ذلك دون أن يبرر الأسباب الداعية لذلك ومنها على الخصوص توضيح العناصر الأساسية التي تميز عقد إجارة الخدمة عن غيره من العقود المتمثلة على الخصوص في عنصر التبعية القانونية من إشراف المشغل وتوجيهه ورقابته للأجير” .[9]
ب) الطبيعة الزمنية لعقد الشغل من خلال مواقف الاجتهاد القضائي المغربي:
واستنتاجا لما وقفنا عليه من كلام سابق، نستشف أن عقد الشغل إما أن يكون محددة المدة وغير محددة المدة، وقد تدخل القضاء الاجتماعي المغربي في تفسير هاته العقود، والعمل على تحديد طبيعتها الزمنية، من خلال عمليتي التفسير والتكييف القضائي.
ولقد كرس المشرع المغربي، في مدونة الشغل أن العقد المحددة المدة هو الأصل في أنواع العقود العمل، فقد جاءت المادة 16 واضحة في دلالتها على اعتبار عقد الشغل غير المحدد المدة هو الأصل ، إذ نصت على أنه ” يبرم عقد الشغل لمدة غير محددة أو لمدة محددة أو لإنجاز شغل معين “. ثم أضافت في فقرتها الثانية ” يمكن إبرام عقد الشغل محدد المدة في الحالات التي لا يمكن أن تكون فيها علاقة الشغل غير محددة المدة ” ومن خلال هذه المادة فإنه يظهر أن المشرع وضع العقد المحدد المدة كأصل يقبل الاستثناء، مكرسة بذلك ما استقر عليه الاجتهاد القضائي وهذا ما يمكن استنتاجه في عدة قرارات لمحكمة النقض ذات الدلالة على ذلك ففي قرار جاء فيه:
” إن عجز رب العمل على إثبات نوعية العمل والكيفية التي على أساسها تم تشغيل الأجراء كان للمحكمة أن تستخلص من ذلك أن العمل كان مستمرا “[10]
ونشير إلى قرار هام جاء فيه:
” عقد العمل الذي يبرم لمدة محددة سنة واحدة ثم يجدد كتابة كل سنة لنفس المدة ولعدة سنين يعتبر عقدا غير محدد المدة لأن تحديده وتجديده إنما هو وسيلة يهدف من ورائها المشغل إلى إضفاء وجود عقد شغل محدد المدة للتهرب من الآثار القانونية للعقد المذكور”.[11]
في حين حصر المشرع المغربي عقد الشغل الغير محدد المدة في حالتين:
· حالات عامة حددها الفصل 16 من مدونة الشغل: ويتعلق الأمر بإحلال أجير محل أجير آخر متوقف لسبب غير الإضراب وازدياد نشاط المقاولة بكيفية مؤقتة وحالة الشغل الموسمي، وحالات أخرى سيحددها نص تنظيمي.
· حالات خاصة محددة في الفصل 17 من مدونة الشغل: ويتعلق الأمر بافتتاح المقاولة أو المؤسسة لأول مرة أو إطلاق منتوج جديد وذلك في المقاولات غير الفلاحية .
أما على مستوى موقف القضاء المغربي من العقود الغير المحددة المدة:
جاء في قرار للمحكمة النقض، بتاريخ 6\6\2007 في الملف الاجتماعي عدد 364\07 اعتبر بأنه:
” ما دام الأصل في عقود الشغل أنها غير محددة المدة والاستثناء هو أن يبرم لمدة محددة فإن الحالات المذكورة أعلاه في المادتين 16 و 17 والتي جاءت على سبيل الحصر لا تتوفر في النازلة خاصة وأن المشغلة لم تعمل على إثبات توفر إحداها حتى يمكن القول بأن الأمر يتعلق بعقد محدد المدة “[12]
وفي حكم لابتدائية القنيطرة في 23 ماي 2005 ملف اجتماعي 203\05 اعتبرت المحكمة بأن الأصل في عقد الشغل أن يكون غير محدد المدة:
” لا سيما إذا أخذنا في الاعتبار كون المادة 91 من م .ش قد جعلت القارية والاستمرارية هي الأصل في العلاقة الرابطة بين كل أجير ومؤاجر”
ختام القول، نورد قرارا لمحكمة النقض يحاول أن يستنج هذا الموقف، من خلال الوقائع المقدمة من الطالب في أن المطلوب ليس عمله مستمر أي أنه عقد محدد المدة:
” إن المطلوب في النقض كان يعمل لمدة محددة وبصفة موسمية خاصة أن طبيعة عمله تتجلى في العمل بالأوراش وفي تركيب أجهزة الكهرباء وبناء محطات الضخ لفائدة الغير
إن الوثائق المدلى بها وهي التصريح بالأجور لدى الضمان الاجتماعي لا تتضمن ما يفيد الاستمرارية في العمل حسب المدد المشار إليها بالتصريح إضافة إلى الأجراء أنفسهم التي تحتاج إلى الإثبات مما يجعل تعليل المحكمة خلافا للواقع أن محضر البحث نفسه لا يتضمن ما يفيد الاستمرارية ما عدا تصريحات ويتعين بالتالي نقض القرار “[14]
————
[1] – أحمد ادريوش، القضاء وثقافة حقوق الإنسان، منشورات سلسة المعرفة القانونية، 2014، ص: 3 ومايلي.
[2] – محمد بلهاشمي التسولي، اﻻجتهاد القضائي في المادة اﻻجتماعية، منشور بمنتدى startimses
[3] – محمد لشقار، مفهوم التفسير وأنواعه، مقال منشور بالمجلة العلوم القانونية marocdroit بتاريخ: 23 يناير 2012.
[4] – قرار محكمة النقض بتاريخ 7 يناير 1976، أورده محمد الكشبور، رقابة المجلس الأعلى على محاكم الموضوع في المواد المدنية، محاولة للتمييز بين الواقع والقانون، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، الطبعة الأولى 2001، ص: 322.
[5] – بوضياف عمار، رسالة ماجستير بعنوان عنصر التبعية في عقد العمل، جامعة الجزائر، 1988، ص 47.
[6] – قرار محكمة النقض عدد 705 الصادر بتاريخ 29-06-2005، في الملف الاجتماعي عدد 297\5\1\05، أورده لأول مرة:
– محمد السعيد، أثر العمل القضائي على تكييف عقود الشغل، تحت إشراف الأستاذة الدكتورة دنيا مباركة، رسالة لنيل دبلوم الدراسات العليا المعمقة في القانون الخاص، وحدة التكوين والبحث في قانون العقود والعقار، بكلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية، جامعة محمد الأول وجدة، سنة 2005-2006، ص: 22.
[7] – قرار محكمة النقض، عدد 442، 15 أبريل 1997، ملف إجتماعي، عدد 298\4\1\95، منشور بمجلة المجلس الأعلى العددان، 53\54، 1999، ص: 345.
[8] – قرار محكمة النقض رقم 758، صادر في 15 دجنبر 1976 ملف اجتماعي عدد 41799/73.
[9] – قرار صادر من محكمة النقض، 888 الصادر بجميع الغرف 30\2\2006، ملف مدني، 968/1/2/05، منشور في مجلة قرارات المجلس الأعلى بغرفتين أو بجميع الغرف، ج 5 ص: 44 إلى 51.
[10] – قرار محكمة النقض، عدد 925، صادر بتاريخ 22\11\1982، منشور بمجلة قضاء المجلس الأعلى عدد 19 مارس 9191 ص 999 وما بعدها.
[11] – قرار محكمة النقض، صادر بتاريخ 26\12\1988، منشور بمجلة الإشعاع العدد الأول يونيو 1989، ص: 57 و58.
[12]- أشار إليه: عبد العزيز العتيقي، مدونة الشغل: إشكالات التطبيق ومواقف الفرقاء الاجتماعيين، دليل ثم إنجازه من طرف جمعية عدالة بالشراكة مع الإتحاد الأوروبي، أبريل 2011، ص. 46.
[13] – أشارت إليه: مليكة بنزاهير، تكريس مدونة الشغل للاجتهاد القضائي، عقود العمل والمنازعات الاجتماعية المائدة المستديرة الرابعة حول (مدونة الشغل وتطبيقاتها العملية)، العدد الرابع، مطبعة الأمنية الرباط، طبعة 2011. ص: 19
[14] – قرار محكمة نقض، عدد 969 في 5/10/2005، ملف إجتماعي، ملف عدد 683/5/1/2005، غير منشور.
إعداد: ذ/ أحمد السكسيوي _باحث في العلوم القانونية والقضائية ومهتم بالبحث في القانون الإداري والعلوم الإدارية طالب بماستر قانون المنازعات العمومية كلية الحقوق سلا، بجامعة محمد الخامس الرباط.