دور المجتمع المدني في منظومة الحكامة
أمام عدم كفاية التضامنات المؤسساتية مقارنة باتساع أشكال الحاجة الاجتماعية، بدأنا نشهد أصنافا جديدة من التضامن بقيادة فاعلين جدد من المجتمع المدني]1[ ، يعملون على تقديم خدمات و المساهمة في التنمية البشرية، فهذه الأخيرة لم تعد مقتصرة على القطاع العام و الخاص بل هي في حاجة إلى قطاع ثالث يعزز أداءها ليدفع وتيرة التنمية المحلية و الوطنية.
ومع اتساع دور المجتمع المدني في المجتمعات الديمقراطية، أصبح يحظى باهتمام كبير عند كثير من الباحثين، حيث أخد عدة تعاريف إلا أن التعريف الذي تتفق عليه مجموعة من الدراسات الأكاديمية هو أن المجتمع المدني هو المجال الذي يتفاعل فيه المواطنون و يؤسسون بإرادتهم الحرة تنظيمات مستقلة عن السلطة، للتعبير عن المشاعر أو تحقيق المصالح أو خدمة القضايا المشتركة]2[.
فمفهوم المجتمع المدني هو مفهوم متحرك و غير مستقر، مرتبط بتاريخ نشأته، و ترجع نشأته إلى التطور الذي شهدته المجتمعات الأوروبية في القرنين 18 و 19 الذي شمل ميادين الصناعة و التجارة و السياسة.
أما بالنسبة للمغرب فإن بروز الاهتمام بالمجتمع المدني جاء كرد فعل لتأثير التنظيمات الدولية التي تسعى للدفع بمنظمات المجتمع المدني نحو الاضطلاع بدور أساسي في الحياة العامة ومن بينها حركة حقوق الإنسان.
فإلى حدود مرحلة حديثة، كانت علاقات الحركات الجمعوية بالدولة مطبوعة بحذر متبادل، لم يتم تجاوزه إلا بانفتاح الدولة على الديمقراطية، و بفضل الأوراش الكبرى التي تعرفها المملكة أتاحت لهيئات المجتمع المدني المساهمة في تدبير الشأن العام، وذلك في توافق مع الرهانات الإستراتيجية المطروحة على المملكة و استكمالا للبناء الديمقراطي.
إن الدستور الحالي جعل من المجتمع المدني فاعلا أساسيا في تدبير الشأن العام، من خلال تخويله مجموعة من الصلاحيات المهمة، وذلك للمساهمة في صنع السياسات العمومية، و تجلى ذلك في كل من ديباجة الدستور و كذا في باب الأحكام العامة و الحريات و الحقوق السياسية.
إذا ماهي الأدوار المسندة للمجتمع المدني في تدبير الشأن العام؟
و ماهي المعيقات و الإكراهات التي تواجهها في ذلك؟
المبحث الأول: مساهمة المجتمع المدني في السياسات العمومية
إن الهدف الذي يؤسس له الدستور الجديد يتجاوز منطق الإنصات و الحوار إلى المشاركة الفعلية في عملية إعداد و اتخاذ القرار العمومي، و هذا الإشراك يتم من خلال التدخل في اتخاذ القرار العمومي ( المطلب الأول ) ثم المشاركة في تنفيذ هذه القرارات ( المطلب الثاني ).
المطلب الأول: دور المجتمع المدني في اتخاذ القرارات العمومية
أكد دستور 2011 في ديباجته على مواصلة المملكة مسيرة إقامة مؤسسات دولة حديثة مرتكزاتها المشاركة و التعددية و الحكامة الجيدة و إرساء دعائم مجتمع متضامن، لتفسير هذه المبادئ، نجد الفصل 6 من الدستور ينص على مشاركة المجتمع المدني في الحياة الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية، هذه المشاركة قد تؤطرها الأحزاب كما قد تسهر عليها الهيئات المدنية، أما الفصل 8 فقد أعطى الشرعية الدستورية للمفاوضات الجماعية، حيث أناط بالهيئات النقابية للأجراء و المهنيين و المشغلين مهمة الدفاع عن الحقوق و المصالح الاقتصادية و الاجتماعية للفئات التي تمثلها]3[، مما يوحي بشكل واضح إشراك هذه الهيئات في عملية اتخاذ القرارات السياسية في مجال الشغل، بل إن هذه الهيئات لها تمثيلية مباشرة في مجلس المستشارين مما يمكنها من المشاركة في التشريع.
كما نص فالفصل 12 على أن تساهم الجمعيات المهتمة بقضايا الشأن العام، و المنظمات غير الحكومية ، في طار الديمقراطية التشاركية في إعداد القرارات و مشاريع لدى المؤسسات المنتخبة و السلطات العمومية، إضافة إلى إحداث هيئات للتشاور، قصد إشراك مختلف الفاعلين الاجتماعيين في إعداد السياسات العمومية ( الفصل 13).
كما نص الدستور على أحقية المواطنات و المواطنين في تقديم الملتمسات في مجال التشريع، و يعد ذلك من أهم المرتكزات الديمقراطية التشاركية و إحدى ضمانات المشاركة العمومية في الحياة العامة ( الفصل 14)، بالإضافة إلى حق المواطنين في تقديم العرائض و هو ما نص عليه ( الفصل 15).
كل هذه الآليات ستمكن المجتمع المدني من المساهمة في عملية صناعة القرار.
إن إشراك المجتمع المدني في عملية اتخاذ القرار العمومي ليس فقط هو رفض للاختيارات و البدائل السلطوية، و لكن هو بصفة أولى تحدي حقيقي للاختيارات و بحث صائب و متوازن للتوجهات، و نكون بهذا قد انتقلنا من المواطن المستفيد إلي المواطن الفاعل]4[.
المطلب الثاني: مشاركة المجتمع المدني في تنفيذ القرارات العمومية
إن الدستور الجديد لم يكتفي فقط بالتأكيد على ضرورة إشراك المجتمع المدني في عملية اتخاذ القرار العمومي، ولكن أيضا إشراكه في تنفيذه.
و تعتبر هذه المرحلة في عملية صناعة القرار العمومي أبرز المراحل و أقواها الذي أثبت ويثبت فيها المجتمع المدني حضوره و قوته، فإدخال المجتمع المدني في عملية تنفيذ القرارات العمومية يلزم الجميع بعملية التنمية في مختلف مجالاتها]5[.
هنا يمكن الاستئناس بطريقة عمل اللجان المركزية و الإقليمية و المحلية للمبادرة الوطنية للتنمية البشرية، حيث يمثل المجتمع المدني داخل هذه اللجان، كما يعتبر هو المسؤول الأول عن تنفيذ المشاريع المتفق عليها باعتباره هو صاحب المشروع.
فإشراك هيئات المجتمع المدني في تنفيذ القرارات العمومية قد تكون مباشرة في الميادين التي يمتلك فيها هذا الأخير الخبرة و التجربة و القدرة على التنفيذ ” محاربة الأمية، التنمية الاقتصادية …” وقد تكون المشاركة مواكبة و موازنة للبرامج القطاعية التي يصعب على المجتمع المدني أن ينفذها مثل الدبلوماسية، حفظ الأمن، القطاع العسكري…
كما أن مشاركة المجتمع المدني في التنفيذ قد يتم عن طريق الإسناد، حيث تسند الحكومة أو أحد مؤسساتها جزء من أنشطتها لهيئات المجتمع المدني لتنفيذها و تسييرها أو عن طريق عملية التحويل، وذلك بتحويل مؤسسات الدولة لبعض أنشطتها لتنفيذها للجمعيات وفقا لاختصاصها]6[، أو عن طريق شراكة بين القطاع العام و الخاص، و هذا كله من شأنه أن يخفف عبئ المسؤولية و الانتقادات لأجهزة الدولة.
إن الدستور الجديد يتوخى بشكل أو بآخر من خلال إشراك المجتمع المدني في تنفيذ القرارت العمومية إلى تغيير بنية و ثقافة هذا الأخير، و دفعه إلى إحداث حركية جديدة بداخله و بالتالي يصبح قادرا على الإنتاج و الاستقرار على الفعل التنموي، و هنا نؤكد أنه ليست من الضرورة أن يحتفظ المجتمع المدني بالمشاريع التنموية في مختلف المجالات لوقت غير محدود، بل يسهر على تنفيذها و تسييرها ثم إيصالها إلى مرحلة نجاح واضحة و بعد ذلك تسليمها للفئات المستهدفة]7[.
المبحث الثاني: تقييم دور المجتمع المدني
إن المجتمع المدني يلعب دورا ملموسا و فاعلا في تحقيق التنمية الشاملة و خاصة التنمية البشرية، وإحداث التحول الديمقراطي من خلال غرس القيم و تعزيز الممارسات الديمقراطية في المجتمع، ولكن رغم المجهودات التي يقوم بها في مجال التنمية، يواجه مجموعة من المعيقات التي تحول دون تحقيق ذلك.
المطلب الأول: دور المجتمع المدني في التنمية البشرية
إن المجتمع المدني يؤثر اليوم على سير المجتمع برمته، حيث يفرض نفسه باعتباره فاعلا مركزيا و حاسما للتنمية البشرية، و نفس الشيء يسري بصفة خاصة على الفاعلين الجدد الآخرين و المجموعات الاجتماعية الأخرى، التي تفرض نفسها بوصفها فاعلا مركزيا للتنمية البشرية، مثل الفاعلين المحليين و الحركات النسائية و الشباب و غيرهم.
إن التنمية لم تعد مرتبطة بالدولة وحدها بل أصبحت مسألة تشاركية، تتقاسم الدولة فيها المسؤولية مع كل الفاعلين المحليين من جماعات ترابية و قطاع خاص و مجتمع مدني.
تتعدد المجالات الجمعوية بتعدد اهتمامات و توجهات المجتمع المدني، حيث تتوزع المشاريع و الأنشطة الجمعوية بشكل عام لتشمل المجالات الحيوية في كل مجتمع و هي المجال الاقتصادي و الاجتماعي و الثقافي و السياسي التي تتطابق إلى حد بعيد مع مختلف مجالات التنمية البشرية في مفهومها العام، حيث تهدف إلى تحقيق تقدم السكان في حياتهم و تضمن رفاهيتهم و ازدهار المجتمع عموما، ومن الأدوار الهامة و الأساسية التي يضطلع بها الفاعل الجمعوي تأطير الأفراد و تأهيلهم للمساهمة بشكل نشيط و فعال في التنمية البشرية، ليصبح الإنسان مساهما و منتجا ايجابيا عوض مستهلك سلبي و بالتالي تحقيق التنمية.
المطلب الثاني: معيقات المجتمع المدني
إن واقع حال المجتمع المدني يحيلنا على مجموعة من المعيقات التي تضعف دوره الحقيقي في التخليق و المراقبة]8[ و أهمها:
§ غياب العنصر البشري مكون و مثقف لدى الجمعيات و هذا يضعف قيمة الجمعية و بالتالي يقلل من الجرأة المتطلبة في القيا بالمهام الرقابية على الوجه الأكمل
§ عزوف كبير من المواطنين عن الدخول للفعل الجمعوي
§ عدم الوعي بدور هيئات المجتمع المدني و ذلك لاعتبار أن المسؤولية تقع على هيئات حكومية و منتخبة فقط.
§ تهافت الجمعيات نحو الدعم المالي الذي أصبح سيف ذو حدين و ذلك بخلق جمعيات أشباح تستفيذ من الدعم في حين أن الجمعيات التي تقوم بدورها لا تتلقى أي دعم.
§ تكريس المحسوبية و الزبونية و الرشوة و عدم الاستقلال السياسي للجمعيات بخصوص الدعم المالي.
خاتمة:
إذا كان دستور 2011 في ديباجته ينص على أن بناء دولة ديمقراطية يسودها الحق و القانون مرتكزها الديمقراطية التشاركية، فإن تحقيق مضمونها رهين بتحقيق مجموعة من الشروط وهي:
§ تفعيل المبدأ الدستوري الداعي لحق المواطن في الوصول إلى المعلومة.
§ إسراع بإخراج قانون الجمعيات الجديد
§ اعتماد مبدأ الشفافية و المساواة في تمويل الجمعيات
§ خلق مؤسسات لتأهيل الفاعل الجمعوي و الرفع من قدراته القانونية
كل هذا يتطلب إرادة قوية من طرف كل الفاعلين في الشأن العام من أجل تحقيق مقاربة تشاركية مبنية على المساواة و تكافؤ الفرص.
الهوامش:
]1[:تقرير الخمسينية، المغرب الممكن، مطبعة دار النشر المغربية، الدار البيضاء، 2006، ص 47.
]2[: عبد الواحد القريشي، سلسلة اضاءات في الدراسات القانونية، المواطنة و سؤال تخليق الحياة العامة، العدد 1، الطبعة الأولى، 2014، ص 69.
]3[: ندير المومني، مشاركة المجتمع المدني في السياسات العمومية، مجلة الأبحاث، عدد 52، فبراير مارس 2010، ص 147.
]4[: هويدا عدلي، إحياء العقد الاجتماعي، مجلة السياسة الدولية، عدد 174 أكتوبر 2008، ص 69.
]5[: الإستراتيجية الإنمائية الوطنية، مذكرات توجيهية في السياسات العمومية، إدارة الشؤون الاقتصادية و الاجتماعية، الأمم المتحدة، منشورة منذ 2007.
]6[: إبراهيم محمد آدام، دور المجتمع المدني في تحقيق الديمقراطية، مجلة الشؤون العربية، العدد 152، سنة 2012، ص 216.
]7[: زهير الخيار، المجتمع المدني و الحكامة، مجلة مسالك في الفكر و السياسة و الاقتصاد، عدد 8، سنة 2007، ص 25 و 26.
]8[: عبد الواحد القريشي، مرجع سابق، ص 79.
إعداد: ذ /نعيمة السامري_حاصلة على شهادة الماستر في قانون المنازعات العمومية بكلية العلوم القانونية و الاقتصادية و الاجتماعية بفاس