قضاء القرب بالمغرب وتعزيزالحكامة القضائية
لقد شملت سياسة القرب مختلف مناحي التدبير العمومي، وهي بمثابة أجرأة حقيقية للمفهوم الجديد للسلطة المنبثق ببلادنا مع إشراقات العهد الجديد، و الذي تطلب تكريسه وتفعيله إدخال جملة من الإصلاحات على نظام العمل الإداري، و بالتالي توفير مجموعة من الشروط الضرورية لتجديد أسلوب تدبير الشأن العام،كل ذلك كان لزوما أن يتم وفق منظور تحولي ومندمج؛ نظرا لتعقد العمل الإداري و ارتباطه بمجموعة من المعطيات العامة السياسية، والإدارية و الثقافية…
إنه إذا كان تدبير الشأن العام اتسم أثناء المرحلة الماضية بالعشوائية؛ فالأمل ظل معقودا على المفهوم الجديد للسلطة، الذي تزامن الإعلان عنه مع انطلاقة إرادة قوية عازمة على تغيير جل المفاهيم التي كانت سائدة و حان الوقت لمراجعتها و التخلي عنها بصفة نهائية”
.هكذا جاء المفهوم الجديد للسلطة كقطيعة مع ممارسات سلطوية غير لائقة لما أصبح يعرفه المغرب من تحولات ديمقراطية وسياسية و اجتماعية …قائمة على أسس الحوار والتوافق و المواطنة و تخليق الحياة العامة وتسييد ثقافة حقوق الإنسان…و هي التحولات التي فرضت تبني مقاربات جديدة في التعامل مع المواطن المغربي على شتى الأصعدة، وهي المقاربات التي يظل قوامها الأساسي الانطلاق من مرجعيات المفهوم الجديد للسلطة كمفهوم مرجعي مؤسس لسياسة القرب التي حاولت أن تشمل مختلف مناحي التدبير العمومي؛ ومنها أساسا الإداري والاجتماعي والأمني و القضائي. فقضائيا وبالنظر إلى أن التصورالملكي يرى أن “الحكامة الجيدة لن تستقيم إلا بالإصلاح العميق للقضاء”
؛حيث “الأهداف المنشودة هي توطيد الثقة والمصداقية في قضاء فعال ومنصف، باعتباره حصنا مانعا لدولة الحق، وعماد الأمن القضائي، والحكامة الجيدة، ومحفزا للتنمية، وكذا تأهيله ليواكب التحولات الوطنية والدولية ، ويستجيب لمتطلبات عدالة القرن الحادي والعشرين؛”
فإن تبني سياسة للقرب القضائي أضحت مطلبا ملحا في ظل هذا الإصلاح وفي ظل المفهوم الجديد للعدالة والذي أسست له المرجعية الملكية سنة 2010، وفي هذا الصدد يشير الملك محمد السادس في خطابه بمناسبة افتتاح الدورة التشريعية لشهر أكتوبر2010 إلى أنه “على غرار مبادرتنا للمفهوم الجديد للسلطة، الهادف لحسن تدبير الشأن العام؛ فقد قررنا أن نؤسس لمفهوم جديد لإصلاح العدالة، ألا وهو “القضاء في خدمة المواطن” وإننا نتوخى من جعل “القضاء في خدمة المواطن” قيام عدالة متميزة بقربها من المتقاضين، وببساطة مساطرها وسرعتها ونزاهة أحكامها وحداثة هياكلها وكفاءة وتجرد قضاتها وتحفيزها للتنمية والتزامها بسيادة القانون في إحقاق الحقوق ورفع المظالم”.
إن الالتزام وعلى أعلى مستوى في الدولة بإصلاح المنظومة القضائية، عبر ترسيخ “المفهوم الجديد للعدالة،” بجعلها أكثر قربا وخدمة للمواطن، أي أن القيام “بالإصلاح الجوهري للقضاء” يدخل في إطار المحافظة على المكاسب الهامة في الحكامة المؤسساتية التي ما فتئت المؤسسة الملكية تحرص على الارتقاء بها والرفع من أجرأتها كإحدى “المقومات الأساسية للإصلاح المؤسسي العميق المنشود” كالجهوية المتقدمة واللاتمركز الواسع. كل ذلك في سبيل “توطيد الدولة القوية بسيادة القانون والديمقراطية التشاركية وترسيخ حقوق الإنسان في أبعادها الشمولية، وجعل الإنسان في صلب التنمية”
إن الفلسفة الملكية في هذا السياق تعتبر “الإصلاح الجوهري للقضاء حجر الزاوية في ترسيخ الديمقراطية والمواطنة لدى شبابنا وأجيالنا الحاضرة والصاعدة”،أي خلق عدالة أو “تنمية قضائية مستدامة” وذلك عبر الرفع من “النجاعة القضائية للتصدي لما يعانيه المتقاضون من هشاشة وتعقيد وبطء العدالة، وهذا ما يقتضي تبسيط وشفافية المساطر والرفع من جودة الأحكام والخدمات القضائية، وتسهيل ولوج المتقاضين إلى المحاكم، وتسريع وتيرة معالجة الملفات وتنفيذ الأحكام”، وكذامن خلال “تخليق القضاء لتحصينه من الارتشاء واستغلال النفوذ ليساهم بدوره في تخليق الحياة العامة بالطرق القانونية”.
إن كل ذلك كفيل بإضفاء فعالية أكثر على حول إصلاح منظومة العدالة ببلادنا، والمنبثقة فعالياته منذ ماي2012،ملامسة شتى جوانبه والجواب على سائر إشكالياته؛ مما سيجعل المواطن في نهاية المطاف يستشعر عن قرب وفي الأمد المنظور الأثر الإيجابي المباشر لهذا الإصلاح على أمنه القضائي المنشود.وتكريسا لمفهوم الاصلاح القضائي برمته دعا الملك في خطاب له لـ20 غشت2009 الحكومة وخاصة وزارة العدل إلى القيام بـ” تطوير الطرق القضائية البديلة كالوساطة والتحكيم والصلح، والأخذ بالعقوبات البديلة، وإعادة النظر في قضاء القرب،هذا الأخير الذي جاء ليكرس دور القضاء في بلورة المفهوم الجديد للسلطة، بالإضافة إلى تدعيم استقلال القضاء واعتباره سلطة حقيقية، “والتي توطدت بشكل صريح مع دستور2011 عبر تنصيصه في الفصل107 على استقلالية السلطة القضائية.
هذه الاستقلالية ستجعل القضاء كسلطة للفعالية والنجاعة والقرب والمواطنة. إن الإرادة الملكية في إعادة النظر في قضاء القرب كجزء من منظومة إصلاح العدالة؛ ستجد طريقها للتبلور مع دخول قانون 42.10 حيز التنفيذ في 5 مارس 2011 ، والمنظم لقضاء القرب والمحدد لاختصاصاته والمعلن عن الانطلاق الفعلي لهذا القضاء ليتمكن من أداء دوره في خدمة مصالح المواطنين وتقريب القضاء للمتقاضين، مما قد يساهم في الرفع من مردودية الجهاز القضائي وفعاليته.
وينص قانون 42.10 المتعلق بتنظيم قضاء القرب في مادته الأولى إلى أنه يحدث قضاء القرب بالمحاكم الابتدائية وأقسام قضاء القرب بمراكز القضاة المقيمين، ويشمل اختصاصها الترابي الجماعات المحلية الواقعة بالدائرة الترابية لمركز القاضي المقيم، وتتألف أقسام قضاء القرب حسب المادة الثانية من القانون من قاض أو أكثر وأعوان كتابة الضبط أو الكتابة، وتعقد الجلسات بقاض منفرد بمساعدة كاتب للضبط وبدون حضور النيابة العامة، ويمكن عقد جلسات تنقلية بإحدى الجماعات الواقعة بدائرة النفوذ الترابي لقسم قضاء القرب للنظر في القضايا التي تدخل ضمن اختصاص قضاء القرب؛ إذ تسند الجمعية العمومية البت في القضايا التي تندرج ضمن قضاء القرب للقضاة العاملين بالمحاكم الابتدائية ومراكز القضاة المقيمين.
وتكون المسطرة أمام قضاء القرب شفوية ومجانية ومعفاة من الرسوم القضائية، كما تكون الجلسات علنية وتصدر الأحكام باسم جلالة الملك، ويتعين النطق بها وهي محررة، وتسلم نسخة منها إلى المعنيين بها داخل أجل عشرة أيام الموالية من تاريخ تبليغه به. ويختص قاضي القرب بالنظر في الدعاوى الشخصية التي لا تتجاوز قيمتها خمسة آلاف درهم، ولا يختص في النزاعات المتعلقة بمدونة الأسرة والعقار والقضايا الاجتماعية والإفراغات، وترفع قضايا الدعوى إلى قاضي القرب إما بمقال مكتوب أو بتصريح شفوي يتلقاه كاتب الضبط ويدونه في محضر يتضمن الموضوع والأسباب المثارة، وقبل أن يقوم قاضي القرب بمناقشة الدعوى يقوم بمحاولة الصلح بين طرفيها، وإذا تعذر الصلح بت في موضوعها داخل أجل ثلاثين يوما بحكم قابل لأي طعن عادي أو استثنائي.
وعموما؛ فورش قضاء القرب وضع نصب عينه تسهيل ولوج المتقاضين إلى القضاء انسجاما مع تطلعات وانتظارات المواطنين وكل الفاعلين الذين لهم صلة بجهاز العدالة، وكذا تيسير تداول المعلومة القضائية والسرعة في فض المنازعات والبت فيها وإصدار الأحكام بشأنها في أجل معقول ومقبول وفق انتظارات المتقاضين.
ويمكن القول إن من ضمن مستجدات قانون 42.10 هي إرساء هذا النوع من القضاء محل محاكم الجماعات والمقاطعات، والتي كان يتكلف بها قضاة تنقصهم التجربة في ما تتطلبه هذه الأنوية في المنظومة القضائية، مما انعكس سلبا على هذه المحاكم و حد من نجاعتها. حيث إن إحداث قضاء القرب جاء بديلا عن قضاء الجماعات والمقاطعات الذي أثيرت حوله انتقادات كبيرة،ومنها غياب المهنية والاحترافية والنجاعة والفعالية والمقومات الضرورية؛ لتمكين الحكامة الإدارية الداعمة لسياسة القرب من تقديم الاقتراحات المناسبة وابتكار الأفكار والوسائل والابتعاد عن عادات التدبير اليومي الروتيني لمصالح المواطنين بما فيها مصالحهم القضائية.
ومن شأن توسيع اختصاصات قضاء القرب -كما ارتأت الهيأة العليا لإصلاح منظومة العدالة في إحدى أهدافها الاستراتيجية عبر الرفع من اختصاصه القيمي و تمكنيه من البت في بعض الجنح -من دعم فعالية الأداء القضائي بشكل شمولي متطور،كما أن من شأن عقلنة الخريطة القضائية و إيمانها العميق بضرورة التجسيد الفعلي و الفعال لمبدأ تقريب القضاء من المتقاضين التأسيس لنمط حكامة صاعدة في هذا المجال.إجمالا؛ إن السياق الذي تبلور فيه قضاء القرب في بلادنا هو سياق مفعم بالتفاؤل في ترسيخ اللبنات الوطيدة لصرح حكامة قضائية تتسم بالكفاية والريادة وتعزيز أسس عدالة في خدمة المواطن. ولن يتأتى كل ذلك إلا عبر إضفاء المزيد من الإشراقات على القانون المنظم لقضاء القرب، عبر التأكيد على تنقيحه المتواصل و تحيينه المستمر وجعله جزءا محوريا من الإصلاح الجوهري لروح القضاء ككل.
إعداد:ذ/محمد البكوري