مبدأ عدم تجريم الذات و حقيقة التواجد في التشريع الجنائي المغربي


مبدأ عدم تجريم الذات و حقيقة التواجد في التشريع الجنائي المغربي

يعتبر مبدأ عدم تجريم الذات – المعبر عنه باللغة الفرنسية le principe / le privilège contre l’auto-incrimination- من المبادئ المتأصلة في الأنظمة القانونية الأنجلوساكسونية حيث ظهر هذا المبدأ في بريطانيا بعد أفول نجم المحاكم السرية و اللجان العليا قبل أن يستقر في صميم الفقه الأنجلوساكسوني فيما بعد ، فعلى الرغم من عدم المعرفة التاريخية لأصول هذا المبدأ أو المصادر التي انبثق منها و الإختلاف الذي صاحب معرفة جذوره التاريخية ، حيث أن هناك من يرجعه إلى القرن الثالث عشر أثناء محاكمة البروتستانت في إنجلترا ، و هناك من يرجعه إلى القرن السابع عشر ، في حين البعض الأخر يرجع الأصل التاريخي لهذا المبدأ إلى الكتاب المقدس ” الإنجيل” و الذي ينص على عدم اعتبار الشخص مذنبا بناء على إقراره الذاتي أو الشخصي ، لكن الأكيد أن التطور التاريخي لهذا المبدأ مرتبط بالجهود التي بذلت على صعيد حماية الأفراد من أي تعسف في استعمال السلطة أثناء مختلف الإجراءات الجنائية من بحث و تحقيق و محاكمة .

كما أن مبدأ عدم تجريم الذات كان حاضرا بقوة في الأنظمة الأنجلوساكسونية منذ ظهور إرهاصاته الأولى ، و نذكر هنا الوثيقة الدستورية الإسكتلندية للمطالبة بالحقوق لعام 1689 ، و كذا في الإعلان الأمريكي لولاية فرانك لاند للحقوق لعام 1783 ، قبل أن يتم تضمينه كأحد الحقوق الدستورية في التعديل الخامس لدستور الولايات المتحدة الأمريكية ، كما تعتبر كندا من بين أكثر الدول تنصيصا على هذا المبدأ سواء من خلال القسم الأول المعنون بالميثاق الكندي للحقوق و الحريات من دستور 1982 الكندي من خلال ما نصت عليه المواد 11c و 13 منه و أيضا من خلال القانون المتعلق بالإثبات لسنة 1985 و ما نصت عليه المادة الخامسة منه.

فمبدأ عدم تجريم الذات يقوم على أساس عدم قانونية إجبار الشخص على أن يكون شاهدا ضد نفسه أو إجباره على تجريم نفسه ، فالمشتبه فيه أو المتهم يكون غير ملزم بالإدلاء بأية إفادة قد تستخدم ضده لاحقا في الإدانة ، سواء أثناء مرحلة البحث التمهيدي أو مرحلة التحقيق الإعدادي أو أثناء المحاكمة ، فهذا المبدأ يعتبر من أهم القواعد التي تضمن للفرد كرامته في أن لا يجبر على تجريم ذاته ، على اعتبار أن المشتبه فيه أو المتهم يكون دائما الحلقة الأضعف في نظام العدالة الجنائية ، فهو يهدف إلى حماية المشتبه فيهم أو المتهمين من إجبارهم على كشف حقائق تؤدي إلى إدانتهم ، ويمنع كذلك استخدام الأساليب غير القانونية كالتعذيب و غيره من وسائل الإكراه لإنتزاع الإعترافات منهم ، فعلى الرغم من أن هذا المبدأ واجه جدلا قانونيا كبيرا في بداية تطبيقه ، إلا أنه أصبح من بين أهم المبادئ التي أقرتها مجموعة من المعايير الدولية وتبنته مجموعة من الدول في تشريعاتها الداخلية- كما رأينا التجربة الكندية من خلال دستورها لسنة 1982 ، و أيضا التعديل الخامس لدستور الولايات المتحدة الأمريكية- ، فقد نص عليه العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية و السياسية لسنة 1966 من خلال البند 3ز من المادة 14 و الذي جاء فيه” لكل متهم بجريمة أن يتمتع أثناء النظر في قضيته، وعلى قدم المساواة التامة، بالضمانات الدنيا التالية…… ألا يكره على الشهادة ضد نفسه أو على الاعتراف بذنب.” ، و أيضا ما تضمنه البند الأول من المبدأ21 من مجموعة المبادئ المتعلقة بحماية جميع الأشخاص الذين يتعرضون لأي شكل من أشكال الاحتجاز أو السجن لسنة 1988 الصادرة عن الجمعية العامة للأمم المتحدة ، و الذي نص على أنه “يحظر استغلال حالة الشخص المحتجز أو المسجون استغلال غير لائق بغرض انتزاع اعتراف منه أو إرغامه على تجريم نفسه بأية طريقة أخرى ….”

كما تجدر الإشارة إلى أن المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان قد أصدرت مجموعة من القرارات اعتبرت فيها على أنه رغم عدم التنصيص الصريح على مبدأ عدم تجريم الذات من خلال المادة السادسة من الإتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان ، إلا أن هذا المبدأ يبقى ضمن المعايير الدولية المعترف بها بشكل عام و يدخل ضمن مفهوم الحق في المحاكمة العادلة المضمن في المادة السادسة من الإتفاقية .

فالثابت أن المشرع المغربي لم يأخذ بمبدأ عدم تجريم الذات بشكل صريح ، حيث لا يوجد نص دستوري أو تشريعي في قانون المسطرة الجنائية يشير بشكل صريح إلى هذا المبدأ ، لكن هذا لا ينفي أن المشرع المغربي أقر مجموعة من المبادئ و الحقوق و الضمانات القريبة من هذا المبدأ ، لذلك فإن الإشكال الذي يطرح في هذا الصدد هو مدى إمكانية القول بأن التشريع الجنائي المغربي من خلال مختلف المبادئ و الحقوق و الضمانات القانونية التي أقرها يؤسس لمبدأ عدم تجريم الذات ؟

يتفرع عن هذا الإشكال المركزي ، الإشكاليين الفرعيين التاليين :

ما مدى ارتباط مبدأ عدم تجريم الذات بقرينة البراءة؟

وما حدود العلاقة التي تجمع مبدأ عدم تجريم الذات بباقي الحقوق و الضمانات القانونية الآخرى ؟

لمعالجة كل هذا ، سيتم الإنطلاق من فرضية مفادها أن التشريع الجنائي المغربي من خلال مختلف المقتضيات القانونية التي أقرها في قانون المسطرة الجنائية سواء أكانت مبادئ أو حقوق أو ضمانات فإنها توحي ضمنيا بالتأسيس لمبدأ عدم تجريم الذات .

لذلك ارتأينا مقاربة موضوعنا وفق التصميم التالي :

أولا : مدى ارتباط مبدأ عدم تجريم الذات بقرينة البراءة

ثانيا: حدود علاقة مبدأ عدم تجريم الذات بباقي الحقوق و الضمانات القانونية الآخرى

أولا : مدى ارتباط مبدأ عدم تجريم الذات بقرينة البراءة

من المعلوم أن حق الإنسان في عدم تجريم ذاته يستند في تطبيقه القانوني إلى مبدأ قرينة البراءة ، لذلك فقد احتل مبدأ قرينة البراءة مكانة مهمة في دساتير العديد من الدول و قوانينها الإجرائية سعيا لضمان حرية الأفراد وصون كرامتهم ، كون أن البراءة هي الأصل إلى أن يثبت العكس بمحاكمة جنائية عادلة تحترم فيها كل ضمانات المحاكمة العادلة.

و يعتبر مبدأ قرينة البراءة من المستجدات التي جاء بها القانون رقم 01 – 22 المتعلق بالمسطرة الجنائية انسجاما مع ما أقرته المواثيق الدولية و نخص بالذكر الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لسنة 1948 و العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية و السياسية لسنة 1966، فقد نصت المادة الأولى من قانون المسطرة الجنائية على اعتبار البراءة هي الأصل إلى أن تثبت إدانة الشخص بمقرر مكتسب لقوة الشيء المقضي به بناء على محاكمة عادلة تتوفر فيها كل الضمانات القانونية ، و هو أيضا ما تجسد من خلال دستور يوليوز 2011 حيث جعل المشرع المغربي من مبدأ قرينة البراءة مبدأ دستوريا و ذلك من خلال الفصول 23و 119منه.

فالمشرع الجنائي أعفى من يتمتع بقرينة البراءة من إقامة الدليل على براءته، وهو ما أدى إلى قلب عبء الإثبات الذي أصبح على عاتق النيابة العامة والطرف المتضرر ، لذلك فإن مبدأ قرينة البراءة يعتبر اختبارا حقيقيا لمدى احترام أجهزة العدالة للمشتبه فيه أو المتهم حيث يجب أن تستحضر دائما فرضية براءته إلى أن يتم إدانته بمقرر يصدر عن المحكمة المختصة بصورة عادلة و نزيهة ، فمتى توافر الشك فإنه يفسر لفائدة المتهم و بالتالي تبرئته من التهم المنسوبة إليه ، لذلك فإن قرينة البراءة تعتبر الضمانة الأساسية التي يتشبت بها الشخص طوال سير الإجراءات الجنائية و هي مرتبطة بشكل رئيسي بمبدأ عدم تجريم الذات لذلك فكل مساس ببراءته المفترضة محرم ومعاقب عليه بمقتضى القانون و أي إجبار للشخص على تجريم نفسه يشكل خرقا لمبدأ قرينة البراءة.

ثانيا: حدود علاقة مبدأ عدم تجريم الذات بباقي الحقوق و الضمانات القانونية الآخرى

سنحاول مقاربة علاقة مبدأ عدم تجريم الذات بباقي الحقوق و الضمانات التي أقرها المشرع المغربي من زاويتين ، الأولى متعلقة بالحق في الصمت و الثانية بمختلف الضمانات التي أحاط بها المشرع الإعتراف الصادر عن الشخص.

على مستوى الحق في إلتزام الصمت
حق الصمت في عدم البوح بأي اعتراف أو إنكار للمشتبه فيه أمام أجهزة العدالة ، أو حق التمسك بالتزام الصمت هو حق مقرر كحق شخصي لمن اختاره ، ولا يمكن إجباره عن التراجع عن هذا الموقف و قد أورده المشرع في المادة 66 من قانون المسطرة الجنائية حيث جاء في المادة المذكورة على أنه: “يتعين على ضابط الشرطة القضائية إخبار كل شخص تم القبض عليه، أو وضع تحت الحراسة النظرية فورا ، أو بكيفية يفهمها بدواعي اعتقاله وبحقوقه، ومن بينها حقه في التزام الصمت”.

كما أن التنصيص على الحق في الصمت في دستور يوليوز 2011 من خلال الفصل23 جعل المشرع المغربي من هذا المقتضى قاعدة دستورية ، حيت أصبح لزاما على ضباط الشرطة القضائية مراعاته، ليس فقط ضمانا للمحاكمة العادلة بل من أجل تنزيل حقيقي لمضامين الدستور الجديد.

وما تجدر الإشارة إليه، هو أن كل التشريعات التي نصت على حالة التمسك بالصمت، أكدت على وجوب تسجيلها بالمحضر، سواء أمام الشرطة القضائية أو في مرحلة التحقيق أو عند إجراء المحاكمة.

فالمشرع من خلال تنصيصه على هذا الحق من خلال مقتضيات المادة 66 يمنع على أية سلطة_ سواء شرطية أو قضائية_ من إجبار الشخص المستجوب على الكلام، لأنه قد يرى أن في الصمت خير وسيلة للدفاع أو الاحتجاج حتى، فقد يتكلم ويكون كلامه وبالا عليه أو على غيره.

و لتفعيل الحق في الصمت لا يجوز الإستناد في إدانة المشتبه فيه بشكل أساسي على صمته أو رفضه للإجابة على الأسئلة الموجهة إليه ، لذا لا يجوز تجريد المشتبه فيه أو المتهم من ممارسة حقه في إلتزامه الصمت خصوصا إذا كانت الأسئلة الموجهة له إيحائية و تنطوي على طبيعة تجريمية.

على مستوى الضمانات القانونية التي أحاطها المشرع بالإعتراف
لما كان الإعتراف هو شهادة المتهم على نفسه ، يعترف بواسطته بالأفعال المنسوبة إليه إما بصفته فاعلا أصليا أو مساهما أو مشاركا فيها ، فهو يتخذ شكل تصريح يدلي به المتهم أمام الجهات المختصة ، فلكي يعتد بالإعتراف كدليل من أدلة الإثبات يجب أن تتوفر فيه مجموعة من الشروط لصحته ، فإذا توافرت اعتبر الإعتراف وسيلة تخضع لتقدير السلطة التقديرية للقاضي ، لذلك يجب أن يكون الإعتراف الصادر عن المتهم -سواء كان قضائيا أو غير قضائي – دالا على الحقيقة و صادرا عن المتهم شخصيا.

فبالرجوع إلى المقتضيات الجنائية يتضح أن المشرع حرص في مواد متعددة ، وفي كل مراحل الإجراءات الجنائية على ضرورة تمكين الشخص المستوجب من كل الضمانات القانونية ودون إكراه – معنوي كان أو مادي – تحت طائلة مساءلة من قام ضده الإكراه، مع بطلان الإجراء الناتج عنه ، حيث نص من خلال المادة 293 من قانون المسطرة الجنائية على عدم الإعتداد بكل اعتراف ثبت إنتزاعه بالعنف أو الإكراه ، وعلاوة على ذلك ، يتعرض مرتكب العنف أو الإكراه للعقوبات المنصوص عليها في القانون الجنائي ، و هي العقوبات التي حددتها الفصول231 و 225 من القانون الجنائي .

فكل هذه الحقوق و الضمانات القانونية التي أقرها المشرع الجنائي يتبين و بوضوح أنه جرم كل الممارسات و أبطل كل الإجراءات التي ترمي إلى حرمان أي شخص من حق يكفله له القانون أو إكراهه على الإعتراف على نفسه بطرق غير مشروعة من أجل أفعال معينة و هي من هذا المنظور تنسجم و مفهوم مبدأ عدم تجريم الذات.

إعداد:ذ/يوسف قجاج


اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

x

‎قد يُعجبك أيضاً

 أمين البقالي: ماهية الحريات العامة 

ماهية الحريات العامة   أمين البقالي طالب باحث في العلوم القانونية بكلية الحقوق اكدال مقدمـــــة: موضوع ...